Sunday, March 18, 2018

فيلم "الأمير الصغير".... الرحلة الدائمة للبحث عن الطفولة


لعلك سوف تسأل نفسك بعد أن تشاهد فيلم التحريك "الأمير الصغير" The Little Prince، هل هو فيلم موجه للأطفال حقا؟ فالفيلم يكاد أن يخلو من الألاعيب السينمائية التي تشد انتباه الأطفال في هذه النوعية من الأفلام، مثل مشاهد المطاردات التي تشبه ركوب أرجوحة مدينة الملاهي، أو النكات السطحية التي لا تتطلب التفكير كثيرا، بل هو على العكس من ذلك كله، فيلم متأمل ذو إيقاع متمهل، يحتشد بالكثير من الفلسفة الصافية، لذلك كله أنصحك أن تصحب طفلك وهو يشاهد الفيلم، لتشرح له تلك الأبعاد التي هي من المؤكد أبعد من إدراكه.
ليس هذا عيبا في الفيلم، لكن سببه الوحيد أنه فيلم تحريك فرنسي، يختلف تماما عما اعتدناه مع أفلام الأسلوب الأمريكي. كما أنه يعتمد على قصتين في وقت واحد، يغزلهما معا طوال الوقت، مما قد يثير بعض الغموض لدى المتفرج. ولعل من المهم في البداية أن نشير إلى أن "الأمير الصغير" رواية قصيرة كتبها الأديب والطيار الفرنسي المغامر أنطوان دي سانكسبيري، ويعتبرها الفرنسيون أفضل عمل أدبي لديهم طوال القرن العشرين، وترجمت إلى لغات عديدة، وحققت أرقام مبيعات قياسية، ومع ذلك كله فليس الفيلم نسخة سينمائية من الرواية، بل هو عمل يستخدم الرواية كرواية باعتبارها أحد خيطين سرديين، يكون فيهما الخط الرئيسي هو قصة يفترض أنها الواقع، لذلك استخدم الفيلم أسلوبين مختلفين في التحريك: محاكاة الواقع في القصة الأشمل، والتحريك كادرا وراء كادر للقصة الداخلية لما يبدو أنها عرائس مصنوعة من الورق.
في تجربة واقعية خلال الثلاثينيات كان الطيار دي سانكسبيري – في محاولة منه لتحقيق رقم قياسي في سرعة الطيران - قد تعرض للسقوط بطائرته في الصحراء الكبرى فى أفريقيا، ليضل فيها الطريق أياما حتى أنقذه أحد البدو من الموت، لكن التجربة المريرة جعلته يعيد النظر في الكثير من أساسيات الحياة. وبعدها بسنوات، خلال بداية الأربعينيات، ومع سقوط فرنسا في أيدي النازيين، اختار دي ساكسبيري منفى اختياريا في أمريكا الشمالية، حيث كتب هذه الرواية القصيرة، وزودها برسوم ملونة بسيطة، لكن الرواية كانت في الحقيقة تأملا منه للحياة، والكون. ويمكنك أن تلخص الرواية في كلمات بسيطة: طيار هائم على وجهه، يقابل فتى صغيرا في الصحراء يقول أنه أتى من كوكب آخر، ليتعلم الرجل على يد الطفل الكثير من دروس الحياة.
كان من الصعب تماما تحويل هذه الرواية إلى فيلم، لذلك فليس لها – رغم شهرتها الفائقة – إلا نسخة سينمائية واحدة بالتمثيل الحي وليس بالتحريك، تعود إلى عام 1974، لم تترك أثرا كبيرا في تاريخ السينما، ذلك لأن الرواية خالية من الأحداث، مليئة بالأفكار المجردة. ومن هنا بدأ كاتبا السيناريو إيرينا برينيول وبوب بيريشيتي، والمخرج مارك أوزبورن، فكرة أن يدور فيلم التحريك ليس عن الرواية ذاتها، بل عن الأثر الذي يمكن أن تتركه في الأطفال.
لذلك يتشابك الواقع مع الخيال في الفيلم، فقصته الرئيسية عن طفلة، هي مثل كل الشخصيات هنا بلا اسم محدد (تقوم بصوت الشخصية ماكيني فوي، في النسخة الناطقة بالإنجليزية المعروضة لدينا)، تتعرض لسيطرة كاملة من أمها (صوت راشيل ماكادامز)، التي تخطط لمستقبل الابنة بالمسطرة والقلم، وتضع لكل خطة بدائل، ولكل منها توقيتها الدقيق، وحلمها أن تلتحق الابنة بمدرسة ذات سمعة وشهرة، مما يشكل ضغطا عصبيا شديدا على الطفلة، التي تكاد ألا تعيش طفولتها.
ولأن الأم تفشل في العثور على منحة دراسية مجانية للطفلة، فإنها تضطر لبيع المنزل، والحياة في منزل يبدو متقشفا تماما، بل قل إنه يخلو من الحياة. وذات يوم تعرف الطفلة بوجود جار عجوز (صوت جيف بريدجز)، لديه طائرة قديمة في فنائه الخلفي، ويحاول أن يطير بها، لكنه يخفق مسببا بعض الأضرار، التي لا تثنيه أبدا عن تكرار المحاولة. إن الرجل العجوز يبدو وحيدا، يبتعد عنه الجيران، وهو يبحث عن صديق، يحكي له بعض حكاياته، فيلقي بورقة من رواية "الأمير الصغير" لتسقط أمام الطفلة، التي تخاف في البداية، ثم تطمئن عندما يعطيها العجوز كمية كبيرة من العملات المعدنية، تعويضا عن الزجاج الذي كسره بمروحة طائرته، لتجد الطفلة بين العملات تمثالا صغيرا للأمير الصغير، المرسوم في الورقة التي ألقى بها العجوز إليها.
يدفع الفضول الفتاة الصغيرة إلى أن تتسلل إلى منزل الرجل العجوز، فإذا به على النقيض تماما من منزلها، ربما قد تبدو الفوضى سائدة، لكن المكان يتنفس بالحياة. ومن هنا يبدأ تداخل القصة شبه الواقعية للطفلة، مع القصة الخيالية للأمير الصغير، وكل منهما يستخدم أسلوبا مختلفا في التحريك. يحكي لها الطيار العجوز أن الأمير الصغير (صوت بول رود) قد جاء من كوكب بعيد، حيث ترك وردة يانعة كانت صديقته ليطوف في الدنيا الواسعة، ويمر بعوالم مختلفة، لا يأتي اختلافها من أشكال الكائنات الفضائية التي عهدناها في الأفلام، وإنما من "الأخلاقيات"، فهذا هو كوكب الرجل المغرور المتباهي بنفسه، كأن الكون قد خلق من أجله وحده، وذاك كوكب رجل الأعمال، الذي لا تعني له الحياة شيئا إلا تراكم الثروة، وأخيرا يصل إلى الأرض، إلى الصحراء الكبرى، حيث الطيار في شبابه قد انقطعت به السبل، وبدا أنه على حافة الفناء.
يقضي الطيار الشاب والأمير أياما في الصحراء، تبدو خلالها براءة الأمير الطفل كأنها بوابة سحرية لإثارة الكثير من الأسئلة، فعندما يطلب من الطيار أن يرسم له خروفا لا يقتنع بأي رسم منها، ويقنع برسم لصندوق مغلق يتخيل أن الخروف بداخله، قائلا: "إن ما هو جوهري غير مرئي للعين، بالقلب فقط يمكنك أن ترى الأشياء على حقيقتها"، فكأنها إشارة لخيال الطفولة، الأكثر ثراء من جفاف الواقع. ولأن الأمير لابد أن يرحل يوما، عائدا إلى كوكبه ووردته، فإن الطفلة تصاب بالصدمة، وتعلن رفضها لقصة الأمير الصغير، وتعود إلى حياتها المعتادة، كما رسمتها أمها تماما، خالية من الخيال.
لكن عندما يسقط الرجل العجوز مريضا، ويُحمل إلى المستشفى وحيدا، تدرك الطفلة أنه بحاجة حقيقية إلى صديق، فتقرر أن تبحث بنفسها عن الأمير الصغير. وهنا يتضح المعنى الأهم في الفيلم كله، إنه يتحدث عن التحول من الطفولة إلى النضج، وما نفقده خلال هذا التحول، الذي يأتي على شكل رحلة بحث، تقوم بها الطفلة، تنتهي بها إلى كوكب رمادي تماما، كل ما فيه ينضح بالكآبة، يمتلكه رجل الأعمال الذي قرر أن يشتري كل النجوم، وشرطي الكوكب هو الرجل المغرور الذي يشعر بالسعادة المريضة وهو يسجل المخالفات للناس ويقبض عليهم، أما الأمير الصغير فقد أصبح فتى، يعمل عامل نظافة!!
لا يقتصر الأمر فقط على العمل المتواضع الذي انتهى إليه الأمير، لكنه نسي أيضا ماضيه، وكوكبه الذي جاء منه، ووردته التي تركها فيه. وفي مشهد التشويق الوحيد القصير في الفيلم، ينجح الأمير والطفلة في الهرب من الكوكب الرمادي، والعودة إلى كوكب الأمير، الذي تحول بدون وجوده إلى أعشاب جافة، وذبلت وردته، ما كاد أن يمسك بها حتى تفتت بين أصابعه. لكنه مع شروق الشمس على الكوكب يعود طفلا مرة أخرى، ليبقى السؤال حول إذا ما كان قد غادر الكوكب، وغادر الطفولة معا، وهل لابد أن يعود إليهما؟
لكل منا كوكب طفولته، الذي كان فيه خياله يُكمل صورة الواقع، هذا الخيال الضروري للحياة، حتى لو فرضت علينا هذه الحياة رحلة في أرض قاحلة. ولا يخلو الفيلم والرواية من روح صافية، حين يبدو كأنه يشير بطرف خفي إلى أن النضح يحتم علينا أحيانا أن نقبل صاغرين برحيل الآخرين، كل أنواع الرحيل، لكنه يذكرك أن ذلك يشبه أن تترك صَدَفة، أو قشرة قوقعة، لتبدأ رحلة جديدة، فالحياة والموت لا يتوقفان أبدا عن إثارة الخيال، حول الترحال والسؤال.                                                     


Saturday, February 10, 2018

فيلم "كوكو".. الذكرى الجميلة تقهر كل أشكال الموت



ربما هي من بين المرات النادرة التي تقوم فيها شركة "بيكسار" للتحريك، بصنع فيلم عن بشر عاديين، وهي التي اشتهرت بأفلام الدمى والحشرات والوحوش والأبطال الخارقين، في سلسلة "قصة لعبة" و"شركة الوحوش" و"حياة حشرة"، لكنها في فيلمها الأخير "كوكو" ما تزال تحافظ على السباحة في عوالم أسطورية، وما تزال أيضا تقدم وجبة سينمائية رائعة ليست للصغار وحدهم، وإنما الكبار أيضا، وجبة تحتوي على أرقى ما في الحضارة الإنسانية من قيم أخلاقية، بل سياسية أيضا.
يأخذك فيلم "كوكو" إلى عالم الشعب المكسيكي، العاشق للموسيقى من جهة، الدءوب في عمله من جهة أخرى، لكن الفيلم يدور حول طقس ديني شعبي يقام كل عام، محوره أن من رحلوا عن حياتنا الأرضية لم يموتوا حقا، وأنهم يخرجون من قبورهم يوم "عيد الموتى" كل عام، ما دام أهلوهم ما يزالون يتذكرونهم، ويضعون صورهم وسط القرابين والشموع، أما الموت الحقيقي، الفناء، فيحدث عندما يصبح المرء نسيا منسيا، لا يتذكره أحد ولا يصنع له قربانا ويضع صورة.
تأمل في البداية كيف أن فيلما للأطفال يدور حول "الموت"، لكن فيلم "كوكو" يصنع من هذه الفكرة قيمة إنسانية رفيعة، حين يحث المتفرج على قبول رحيل الأعزاء، بشرط عدم نسيانهم، وبذلك فإنهم يظلون معنا بأرواحهم. إنها فكرة قد تكون عصية على الفهم، شديدة التعقيد إذا ما نظرنا إليها من الجانب الفلسفي، لكن فيلم "كوكو" يصوغها على نحو رائق راقٍ، شديد السلاسة والعذوبة والبساطة. بل إن اختيار شخصية "كوكو" – رغم قصر دورها – بطلة للفيلم هو بالتحديد مضمونه، لقد كانت كوكو – في الزمن الماضي للأحداث - ابنة صغيرة لعازف موسيقي، يغني لها أغنيته "تذكريني" وهي ترددها معه، لكن الأب اختفى فجأة وتركها مع أمها وحيدة، وهي الآن – في الزمن المعاصر للأحداث – أصبحت عجوزا طاعنة في السن، فقدت ذاكرتها وإن كانت الأسرة ما تزال ترعاها، لكن هذه الذاكرة تعود عندما تسمع لحن أغنية "تذكريني"، وفي المشهد التالي، ونهاية الفيلم، تكون قد رحلت عن الدنيا، لكن الأسرة تظل تتذكرها وتنتظر قدومها في "عيد الموتى".
كوكو إذن تمثل تلك الخطوة التي تفصل ما بين عالم الدنيا وما بعدها، هي الذاكرة التي نستعيدها في الحياة فيصحو الأجداد من رقادهم، وهي أيضا تذكر الآخرين الدائم لها لكي تكتسب وجودا خالدا حتى بعد الرحيل، لكن تعال بنا نبدأ الحكاية من البداية. ميجيل ريفيرا (صوت أنطوني جونزاليز) صبي في العاشرة من العمر، يحلم أن يكون عازفا موسيقيا، لكن ربة العائلة نينة إيلينا (صوت رينيه فيكتور) تفرض حظرا تاما على عمل أي فرد من أفراد الأسرة بالموسيقى، وهم يعملون جميعا صانعي أحذية، أما السبب فهو أن الجد الأكبر هكتور، الذي كان عازفا، رحل ذات يوم على نحو غامض تاركا أسرته للمجهول، خاصة ابنته الطفلة كوكو، التي أصبحت اليوم عجوزا فاقدة للذاكرة (صوت أنّا أوفيليا مورجيريا).
إن ميجيل مهووس بالموسيقى، ويحاول أن يشترك كعازف في مهرجان عيد الموتى، ويلتقي بعازف متجول يكاد أن يعطيه جيتاره، لولا أن نينة إيلينا تلاحقه وتنهاه وتحطم الجيتار. كما أن ميجيل يحلم أن يكون عازفا شهيرا مثل النجم السينمائي الراحل إرنستو معبود الجماهير. وفي الوقت ذاته فإن هناك سرا خفيا يثير فضول ميجيل، عندما يكتشف أن الأسرة تخفي صورة أحد موتاها، الذي كان يحمل جيتارا يشبه جيتار إرنستو.
يذهب ميجيل في الليل، وسط مهرجان عيد الموتى، ليتسلل إلى مقبرة إرنستو ليأخذ جيتاره، لكنه ما يكاد يلمس الجيتار حتى يصبح خفيا، لا يراه إلا كلبه دانتي، لقد انزلق ميجيل رغما عنه إلى عالم الموتى، ليبدأ رحلة استكشاف مثيرة، يعرف منها الكثير عن أسرار عائلته. إنه يتصور للوهلة الأولى أن إرنستو (صوت بنجامين برات) هو جده الأكبر، كأنه يتمسح بأحد الموهوبين ليؤكد لنفسه موهبته، لكنه يقابل هكتور (صوت جايل جارسيا بيرنال)، الذي يبدو صعلوكا من صعاليك الشوارع، لكن تربطه علاقة ما مع موتى أسرة ميجيل، الذين يرفضون جميعا التعامل معه، خاصة الجدة إيملدا (صوت ألانا أوباك)، التي سوف يتضح أنها ليست سوى زوجة هكتور.  
لكي يعود ميجيل إلى عالم الأحياء لابد له من أن ينال بركة العائلة، والعائلة لا تستطيع أن تمنحه بركتها لأنها لا تستطيع أن تصعد لتأخذ القربان الخاص بها، لأن صورتها في حوزة ميجيل دون أن يعرف العلاقة بين الأمرين، بل إن هكتور بالذات أصبح مهددا بالهلاك الأبدي لأنه ليست له صورة مع أحد أقاربه (إنها الصورة المطوية التي عثر عليها ميجيل في السابق). وهكذا بات ميجيل محاصرا، ليكتشف الحقيقة المرة: إن الصعلوك هكتور، الذي ترفضه العائله، هو جده الأعلى، والد كوكو، الذي كان صديقا لإرنستو، وعندما قرر هكتور التوقف عن الموسيقى والتفرغ لعائلته، وضع إرنستو له السم في الشراب ليموت وحيدا ضائعا وقد تصورت  عائلته أنه قد تخلى عنها، بينما سرق إرنستو ألحان هكتور ونسبها لنفسه، ليصبح من المشاهير.
ينجح ميجيل في النهاية – ببركة العائلة – في العودة إلى عالم الأحياء، وقد عرف من جده الأكبر هكتور حكاية أغنية "تذكريني"، ليغنيها للجدة كوكو، التي تستعيد بها ذاكرتها، وخطابات أبيها لها في طفولتها، كما عاد هكتور ذاته إلى ذاكرة العائلة التي لن تنساه أبدا، مما سوف ينقذه من الهلاك الأبدي. وفي مشهد النهاية نرى ميجيل وهو يحكي لأخته الوليدة حكاية الجدة كوكو، التي سوف تظل بدورها في ذاكرة عائلتها إلى الأبد.
أرجو أن تجلس بعد نهاية الفيلم لتتامل من العناوين الأخيرة كيف أن المئات – بالمعنى الحرفي للكلمة – اشتركوا في صناعة الفيلم، بينما نحن نتصور أن أفلام الأطفال لا تتطلب جهدا مثل ذلك الذي تتطلبه الأفلام الروائية الطويلة، كما أن ذلك يعكس مفهوم "صناعة السينما" بشكل مجسد، فهي صناعة أصبحت تقوم على عشرات التخصصات الكبيرة والصغيرة، وليس فقط مجرد وجود نجم أو نجمة كما هو الحال عندنا. إن ذلك يتبدى – على سبيل المثال – في أن الصور المتحركة، المخلقة على الكومبيوتر، تحتشد بالحركة في كل بوصة منها، وفي كل رمشة جفن وارتعاشة إصبع، حتى أنك تنسى تماما أنك أمام فيلم بالتحريك.
لكن المثير للاهتمام بحق هو أن تقوم شركة أمريكية بصنع فيلم عن الثقافة اللاتينية، بأصوات ممثلين كلهم من اللاتين، لكن الأمر ليس غريبا على أية حال على شركة بيكسار، المعروفة برؤاها التقدمية، التي تقوم في كل أفلامها على الدعوة لعدم العنصرية، ولتفاعل الثقافات المختلفة، فكأنها تساهم في خلق مواطن أمريكي يرى العالم بمنظور أكثر رحابة وسعة أفق. كما أن المشاعر التي تسري في أفلامها تدعو دائما لضرورة النزعة الجماعية، والتخلي عن النزعة الفردية الاستهلاكية، والنظر إلى المجتمعات الأخرى بعين الاعتبار والاحترام.
تأمل على سبيل المثال عالم الدمى في "قصة لعبة"، أو عالم الوحوش في "شركة الوحوش المحدودة"، وهنا حتى عالم الموتى مليء بالمباهج، والنظام، فبينما يقيم الأحياء لهم عيدا وكرنفالا، يقيم الموتى لأنفسهم هذا العيد بكل تجلياته. من جانب آخر فالفيلم لا يخلو من قيمة تساعد المتفرج الطفل على النضوج: إن ميجيل يصر على حلمه أن يكون عازفا موسيقيا رغم كل العقبات، كما تبدو السينما ذاتها في بعض المشاهد هي حاملة الذاكرة، في الأفلام التي اشترك فيها في الماضي معبود الجماهير إرنستو، قبل أن تتكشف حقيقته الزائفة، التي سجلتها السينما أيضا. وفيلم مثل "كوكو" الذي أخرجه لي أونكريتش، عن معالجة اشترك فيها ستة من الكتاب، يمثل أيضا ذاكرة لأطفال اليوم، يتذكرونها بعد أعوام، فكأنه الجسر الذي لا يربط فقط بين عالمي الأحياء والموتى، بل بين الواقع المجسد والخيال المجنح.                                                


Wednesday, December 06, 2017

فيلم "الجميلة والوحش"... سحر الحواديت عندما تجسده السينما



من أجمل حكايات عالم "الحواديت" الخيالية يأتي فيلم "الجميلة والوحش" Beauty and the Beast، مرة أخرى من شركة ديزني التي سبق لها أن قدمت نفس الحدوتة في فيلم من أفلام التحريك، لكنها هذه المرة تصنعه بالتمثيل الحي، الممتزج بصور كومبيوترية تليق بتقدم التقنيات في هذا المجال، تصور "الأشياء" المنزلية وهي تنطق وتتحرك، لتزيد الإحساس بجمال الخيال. لكن هذا في الحقيقة ليس أهم ما في فيلم "الجميلة والوحش"، وإنما استخراجه للقيم الإنسانية الرائعة والنبيلة، من أجل تقديمها إلى جمهور السينما من المراهقين بشكل خاص، وإن لم تقتصر متعة المشاهدة عليهم أبدا.
تعود قصة "الجميلة والوحش" إلى الكاتبة الفرنسية من القرن التاسع عشر جان ماريه لوبرينس دوبومون، وربما كانت الرواية في شكلها الأدبي تفتقر إلى بعض المواضعات الروائية التي تطورت في القرن التالي، لكنها تحتوي وبشكل فطري وممتع على الكثير من تيمات وموتيفات الحواديت. والأهم هو مضمونها الراقي، الذي يتحدث على نحو ناعم رقيق عن أن الإنسان لا يجب أن ينخدع بالمظهر، فربما وجدت في أعماق شخص يبدو لك قبيحا شخصية تتمتع بالنبل، وأنت وحدك قادر على أن تُطلق هذه الروح الخيرة الخفية من عقالها، من خلال القوة السحرية للحب.
فلنتأمل معا الخطوط الرئيسية للحدوتة كما رواها الفيلم، الذي أخرجه بيل كوندون، عن سيناريو لكل من ستيفن شوبسكي وإيفان سيبيليوتوبولوس، ويبدأ بمشاهد شديدة البلاغة والاختصار، كما لو كانت ضربات فرشاة سريعة يرسم بها الشخصيات الأساسية، دون أن يفقد القدرة على النفاذ إلى أعماق هذه الشخصيات. نحن في البداية مع أمير شاب (دان ستيفنس)، من الواضح أنه مدلل إلى حد عدم إحساسه بآلام الآخرين، إنه يقيم في قصره الذي يشبه القلعة احتفالا باذخا، لكن فجأة ينفتح باب القصر، وتبدو في الخارج عاصفة هوجاء، تدفع امرأة عجوزا للدخول طالبة أن تجد ملجأ لدى الأمير من تلك العاصفة، فيطردها هازئا، لتتكشف الحقيقة: إنها ساحرة كشفت عن أن الأمير لا يتمتع بروح إنسانية عطوف، فتلقي عليه تعويذة تحيله وحشا دميما، كما تحول خدمه في القصر إلى أشياء: ساعة أو دولابا للملابس أو آلة موسيقية، وتجعل القصر مهجورا ومغطى بالثلوج طوال العام، كما تمحو ذاكرة أهل القرية القريبة عن أميرهم، وتضع لزوال هذه التعويذة شرطا واحدا: سوف تترك وردة تسقط وريقاتها الواحدة بعد الأخرى، ولن يعود الأمير إلى هيئته الأولى إلا إذا وجد من يحبه قبل أن تسقط الوريقة الأخيرة، وإلا فإنه سوف يظل وحشا إلى الأبد.
هذا مشهد تأسيسي واحد، يرسم ملامح أمير لا يبالي بالضعفاء، فنال عقابه بأن تجسدت وحشيته في هيئته، والحب وحده هو الذي سوف ينقذه، ولكي يجد من يخلصه من التعويذة عليه أن يحب لكي يصبح محبوبا. ثم يأتي المشهد التأسيسي الثاني، مع الفتاة الجميلة بيل (إيما واطسون)، والذي يعني اسمها "الجميلة"، إنها تعيش في قرية صغيرة لكنها تبدو غير مقتنعة بأن تقضي حياتها كالقرويات الأخريات ذوات الطموح المحدود، وهي تعشق القراءة، وتعيش في سعادة مع أبيها العجوز موريس (كيفن كلاين)، الذي يتقن صنع وإصلاح الآلات الصغيرة، وسوف نعرف لاحقا أنه أتى بابنته بيل وهي طفلة إلى هذه القرية الصغيرة، هربا من باريس التي اجتاحها الطاعون، ذلك الوباء الذي لفظت بسببه أمها أنفاسها الأخيرة.
وبقدر براءة بيل وجمال روحها، يظهر لها خطيب شاب كان ضابطا سابقا هو جاستون (لوك إيفانز)، الذي يبدو على النقيض منها تماما، متغطرسا نرجسيا، متجردا من التواضع والتعاطف مع الآخرين، وهو ما يدفعها بالطبع إلى رفضه، ليظل يلاحقها بغلظته بل مؤامراته ضدها وأبيها أيضا، يساعده في ذلك تابع ذليل يدعى لوفو (جوش جاد)، الذي يعنى اسمه "العبيط". وهكذا اكتمل رسم الشخصيات الرئيسية في أقل من عشر دقائق، لتبدأ الحبكة تغزل خيوطها المشوقة، التي نعرف مسبقا – وبمنطق الحواديت – أن الجميلة هي التي سوف تنقذ الوحش في النهاية، ولكن بعد أحداث ممتعة، خاصة مع تجسيد الفيلم للعديد منها على نحو بصري مبهر.
في البداية، سوف يمضي الأب موريس في الغابة أثناء عاصفة يطارده فيها الذئاب، فتنتهي به قدماه إلى القصر (القلعة) الذي كان أهل القرية قد نسوا وجوده، بسبب تعويذة الساحرة. ولأن الوحش يغضب من هذا العجوز الذي اقتحم القصر فإنه يقوم بسجنه، بينما تعرف الجميلة بالأمر بعد أن يعود الجواد الذي كان يركبه الأب وحيدا، فتمتطي الجواد وتنطلق إلى القصر، حيث تعرض على الوحش أن يسجنها هي مقابل إطلاق سراح أبيها، الذي يعود إلى القرية على أمل أن يجمع أهلها لإنقاذها.
إن فتاة تتمتع بروح شفافة مثل بيل سوف تصبح صديقة للأشياء التي تمثل خدما وقعوا تحت تأثير التعويذة، وهي تشاركهم الرقص والطعام في مشاهد ساحرة، حتى تأتي "موتيفة" تشترك فيها معظم الحواديت، فهناك غرفة محظور على أحد الدخول إليها، لكن الفضول يدفعها إلى هناك، حيث تجد الوردة التي تركتها الساحرة وقد بدأت وريقاتها في الذبول. لكن اقتحامها الغرفة يثير غضب الوحش، مما يدفعها للهروب من القصر وسط الثلوج، حيث تجد نفسها محاصرة بالذئاب، لكن الوحش يظهر إذ كان يتعقبها خوفا عليها، وينقذها من وحوش الغابة، ولكنه يصاب بجروح بالغة.
إذن لقد بدأ الوحش يهتم بالآخرين، ويلقى الألم نتيجة ذلك، غير أن هذا الأمر سوف يدفع الجميلة بالطبع إلى العودة به إلى القصر، والاعتناء به وبجروحه حتى يشفى، مما يخلق بداخله مشاعر الحب تجاهها، لكن سوف يبقى السؤال: هل سوف تبادله هي أيضا الحب لكي يزول عنه أثر التعويذة السحرية؟ إنها تكتشف أنه أمير مثقف، يفتح أمام أعينها أبواب مكتبته العامرة، التي تشمل كتبا أكثر نضجا مما كان متاحا لها من قبل. كما يعرض لها كتابا سحريا ينقلها إلى حيث تفكر، فإذا بها تعود معه إلى لحظة فراق أمها المريضة، لتدرك السبب في أن أباها حملها إلى هذه القرية المنعزلة خوفا عليها.
وفي الوقت الذي تنعم فيه الجميلة بتلك الأوقات مع الوحش، يقود الخطيب جاستون أهل القرية إلى رفض مساعدة الأب موريس على استعادة الجميلة إلا إذا وافق على زواجه بها، ولأن الأب يرفض فإنه يدبر المؤامرات ضده، إذ يلقي به مرة مقيدا في الغابة لتأكله الذئاب، لكن الناسكة أجاثا (هاتي موراهان)، التي سوف يتضح لاحقا أنها الساحرة، سوف تنقذه، فيتهمه بالجنون، وعندما ترى الجميلة ذلك من خلال مرآة سحرية تعود لمساعدة الأب، لكي يلقي بها جاستون مع أبيها حبيسة في "عربة المجانين"، بينما يقود أهل القرية لقتل الوحش في قلعته.
كالعادة في حكايات الحواديت، تأتي المعركة الأخيرة بين الخير والشر، والمفارقة هنا هي أن الوحش يمثل الخير، بينما جاستون يمثل الشر، تأكيدا على أهمية الجوهر على المظهر. وإذ يلقى جاستون حتفه في المعركة، يكاد الوحش أيضا أن يلفظ أنفاسه الأخيرة بين ذراعي الجميلة، التي تصارحه بحبها له قبل ثوانٍ من سقوط آخر وريقة من الوردة، وتظهر الناسكة الساحرة، لتعيد الأمير إلى هيئته، وقد عادت إليه مشاعره الإنسانية المتعاطفة تجاه الآخرين، وصار محبا محبوبا!
لا يكمن جمال الفيلم فقط في إبهاره البصري، وأغنياته المبهجة، وشخصياته المرسومة برقة ودقة، وبلاغة سرده بعيدا عن أي استطرادات تثير الملل، وإنما الجمال أيضا في الإشارة الضمنية – دون نصائح مباشرة على الإطلاق – إلى القيم الرفيعة. إن "التضحية" هي التي قادت الجميلة في الحبكة إلى لقاء الوحش إنقاذا لأبيها، وهي لا تستطيع أن تتأكد من مشاعرها تجاه الوحش وهي أسيرة لديه، لأن الحب وليد الحرية، كما أن من الممكن تماما للحب أن يستخلص من النفس البشرية أنقى وأنبل ما فيها من مشاعر وعواطف.
وأرجو أن تتأمل تلك القيم التي تتوجه إلى جمهور المرهقين، فالحدوتة في مجملها تكاد أن تكون تلخيصا لما يسمى في علم النفس "طقوس العبور"، أي آلام الانتقال من الطفولة إلى النضج، قد يفقد فيها المرء البراءة، لكنه يكتسب الحكمة والقدرة على التعامل مع الحياة. كما تعطي الحدوتة أملا في "التغيير"، فلابد أن يأتي الربيع بعد الشتاء، وعلى المراهق ألا يساوره القلق أبدا حين يبدو مختلفا عن الآخرين، مثلما بدت الجميلة مختلفة عن فتيات القرية في أحلامها واهتماماتها. إنها القيم النبيلة التي نسعى إليها في الحياة، ونبحث عنها في الفن، وذلك بلا شك هو أحد أسرار فن السينما، الذي يجعل من الخيال واقعا، ومن الواقع خيالا.

Monday, December 04, 2017

فيلم "باريس يمكنها الانتظار".... اكتشاف مذاق ورائحة الحياة



فيلم "باريس يمكنها الانتظار" Paris Can Wait تجربة متفردة بحق في عالم صناعة الأفلام، ربما لسنا معتادين عليه في مشاهداتنا للسينما، والتي تكاد أن تنحصر في عالمنا العربي في الأفلام الأمريكية ذات الطابع المثير، المليء بالحركة وربما العنف أيضا، لكن هذا الفيلم يكاد أن يتسم بطابع أوربي، متأمل متمهل، تبدو فيه تجارب الحياة اليومية، العادية جدا، هي مادة الأحداث، بلا تشويق ولكن بلا ملل أيضا، فليس ما يثير اللفضول فقط هو ما يحدث "خارج" النفس البشرية، لكن ما يحدث "داخلها" لا يقل إثارة للاهتمام.
لكنك لن تستطيع أيضا أن تفهم مغزى فيلم "باريس يمكنها الانتظار" إلا إذا قارنته بتجارب قليلة مماثلة في السينما الأمريكية ذاتها، في الأفلام قليلة التكاليف التي تعتمد على عدد قليل جدا من الممثلين والشخصيات، هم في أغلب الأحوال رجل وامرأة، جاء كل منهما من عالم مختلف، لكن اللقاء العابر بينهما، ودون أي خطة مسبقة، سوف يحمل لإحدى الشخصيتين أو كلتيهما تغييرا جوهريا في حياتها، خاصة أن تلك التجربة من المعايشة لن تستغرق إلا ساعات محدودة، لكنها تساوي عمرا من الزمن.
فلنتعرف أولا على كاتبة الفيلم ومخرجته ومنتجته، إنها إليانور كوبولا، زوجة المخرج الأمريكي الأشهر فرانسيس فورد كوبولا، وأم صوفيا كوبولا الابنة التي تقدم نوعية مختلفة من الأفلام، سوف نتوقف عند أحدها بعد لحظات، وهي أيضا من أقارب الممثل النجم نيكولاس كيدج، الذي فضل لنفسه اسما غير اسم عائلته الشهير، فهي إذن سينمائية حتى أطراف أصابعها، قامت بأدوار إنتاجية عديدة في أفلام زوجها فرانسيس، وصنعت فيلما تسجيليا بالغ الأهمية يحمل اسم "قلوب الظلام: يوم قيامة مخرج"، سجلت فيه تلك الرحلة الإبداعية التي قام بها كوبولا في فيلم "يوم القيامة الآن"، وكاد أن يقف فيها على حافة الجنون، بسبب الصعوبات الهائلة التي واجهها.
لكن فيلم "باريس يمكنها الانتظار" هو فيلم إليانور كوبولا الروائي الأول، وقد أشرفت على الثمانين من عمرها، لذلك يبدو الفيلم في جانب منه كأنه استكشاف سينمائي لحياتها، ففيه ملامح عديدة من واقعها، وربما هي أيضا تسجل فيه كيف مرت بتجربة عابرة في حياتها، أعطتها معنى جديدا للحياة. والحبكة بالغة البساطة: الزوج الأمريكي مايكل (أليك بولدوين) منتج سينمائي يحضر مع زوجته الأمريكية آن (ديان لين) إلى مدينة كان الفرنسية، وبعد انتهاء زيارتهما يكون عليهما السفر إلى باريس بالطائرة، لكن ألما يصيب آن في أذنيها، فيسدي الطيار لهما نصيحة بأن تذهب هي إلى باريس بالسيارة، حتى لا يزيد الألم بسبب الطيران، وهكذا يطلب الزوج مايكل من صديقه الفرنسي جاك (آمو فيار) أن يصحب الزوجة بالسيارة إلى باريس.
في الأوقات العادية لن تستغرق هذه الرحلة إلا ساعات، لكن جاك يريد أن تستمع آن بكل لحظة من السفر، فيتوقف بها في محطات كثيرة، يتحدثان ويتناولان الطعام والنبيذ الفرنسيين، ويريان بعضا من معالم المدن الصغيرة على الطريق، حتى أن الرحلة سوف تستغرق يوما وليلة، تكون آن قد تعرفت فيها على الحياة على الطريقة الفرنسية، وتستيقظ في الصباح في باريس وهي تشعر أنها أصبحت مخلوقا جديدا. ولعلك لن تخطئ ما في الفيلم من دعاية سياحية، أظنها ساعدت كثيرا في الإنتاج وقللت من تكاليفه، لكن الفيلم في جوهره – رغم استغراقه أحيانا في هذه التفاصيل السياحية – يقصد هدفا مختلفا تماما.
وهنا لابد من الإشارة إلى أفلام أخرى، تبدو كأنها تنويعات على "التيمة" ذاتها، ولنبدأ بفيلم الابنة صوفيا كوبولا "ضائع في الترجمة"، ففي إحدى مدينة طوكيو شديدة الازدحام، أمريكيان غريبان: ممثل سينمائي كهل (بيل موراي) جاء إلى اليابان لتصوير إعلان تليفزيوني، والشابة (سكارليت جوهانسون) زوجة أحد مصوري الأفلام، والذي يكون عليه تركها وحيدة في الفندق لساعات وربما أيام لانشغاله بالعمل. إن الرجل والمرأة وحيدان، لا يعرفان اللغة اليابانية مما يزيد اغترابهما، لكن ذلك سوف يكون هو السبب نفسه في اقترابهما ليوم واحد، يطوفان خلاله في المدينة، وإن كان الأهم هو استرداد كل منهما للشعور بدفء الحياة.
في نهاية فيلم "ضائع في الترجمة" لقطة من بعيد للكهل والشابة، يهمس لها بشيء ما ثم يفترقان، وعندما سأل الصحفيون صوفيا كوبولا عما قاله الرجل للمرأة، أجابت: لا أدري، لقد كنت بعيدة عنهما! ليست هذه إجابة طريفة فقط، بل إشارة إلى النهاية المفتوحة، إن اللقاء العابر لم يتحول إلى قصة حب مبتذلة، لكنه أصبح تعبيرا عن الحاجة الملحة للدفء الإنساني. ترى، هل التقى الكهل والشابة مرة أخرى؟ ربما صنعت صوفيا كوبولا بعد فترة فيلما تحكي فيه عن مصيرهما، وهذا بالضبط هو ما فعله مخرج أمريكي يبدو التجريب الدائم في كل الأنماط السينمائية شغله الشاغل، وهو ريتشارد لينكليتر.
منذ أكثر من ثمانية عشر عاما صنع لينكليتر فيلما بالغ البساطة، عن طالب أمريكي (إيثان هوك) في رحلة سياحية وحده إلى أوربا، يلتقي بالصدفة بشابة فرنسية (جولي دلبي) في قطار، ويقضيان ليلة واحدة يطوفان فيها بمعالم مدينة فيينا، ويفترقان عند الفجر، على وعد باللقاء بعد تسعة أعوام في نفس المكان على محطة القطار. كان اسم الفيلم "قبل الشروق"، ليصنع لينكليتر بعد تسعة أعوام أخرى فيلما باسم "قبل الغروب"، يسجل فيه لقاءهما ليوم واحد آخر بعد أن مضت كل تلك الأعوام وتفرقت بهما السبل، وبعد تسعة أعوام ثانية صنع فيلمه الثالث "قبل منتصف الليل" يحكي فيه عن علاقتهما الآن. في كل هذه الأفلام اشترك البطل والبطلة في كتابة السيناريو والحوار، وكأنهما الشخصيتان اللتان يقومان بتجسيدها بالفعل، لذلك كانت تلقائية الحوار وعفوية المصائر دون حبكة مصنوعة مسبقا هما السمة الرئيسية للأفلام.
لقد كان ذلك هو طابع الحوار والأحداث في فيلم إليانور كوبولا "باريس يمكنها الانتظار"، لكن التغير في شخصية المرأة يبدو واضحا كلما مضت في طريق السفر، وتعرفها على الحياة الفرنسية. إن حياتها كزوجة أمريكية لرجل أعمال ثري مشغول عنها تتسم بالرتابة، لكن الرحلة بسيارة عتيقة إلى باريس سوف تحمل لها مفاجآت صغيرة تجعلها سعيدة، وهي تبدأ كمعظم الأمريكيين مغرمين بالتقاط الصور للأشياء، لكنها تنتهي وهي تتذوق هذه الأشياء وتشم عبيرها. وسوف تعرف في الرحلة أن لكل شيء مذاقا ونكهة خاصين به، ويبدو تناول الطعام كأنه طقوس تستمد قيمتها من احترامها، فإذا كان من الطريف وجود مئات الأصناف من الجبن، فإن من الأطرف طريقة تقديم قطعة جبن صغيرة، وكأنك تتعامل مع شيء مقدس!
قد يعاني الفيلم من بعض التكرار في مناطق هنا أو هناك، لكنه لا يفقد إثارته بفضل أداء الممثلة ديان لين، فعلى وجهها تطفو دائما مشاعر الانبهار والاكتشاف. لكن الأهم هو أن الفيلم يعكس إحساسا دفينا في اللاوعي الأمريكي، إن الأمريكيين قد يشعرون بالبارانويا المتمثلة في مشاعر التفوق المادي على العالم، وحسد العالم لهم، لكنهم يقفون مبهورين أمام جدار صخري روماني عمره أكثر من ألفي عام! بل ربما استدعى الفيلم إلى الذاكرة مشهدا طريفا من الحلقات التليفزيونية للأطفال "شارع سمسم"، وفيه تجلس "مس بيجي" مبهورة بحديث المغني والممثل الفرنسي شارل أزنافور لها، إذ تبدو الكلمات الفرنسية وهي تخرج من بين شفتيه وكأنها موسيقى، بينما يكون في الحقيقة يتحدث عن... المجاري!!
يشعر الأمريكيون إذن في قرارة أنفسهم بنوع من الضآلة أمام الأمم ذات التاريخ العريق والثقافة العميقة، لكن هذا ليس هدف الفيلم الرئيسي. في العنوان الفرنسي للفيلم، "صباح الخير يا آن" دلالة أكثر عمقا، فكأن آن استيقظت مع استيقاظ حواسها، المذاق والشم واللمس، والأهم هي المشاعر، ليبقى السؤال معلقا دون إجابة: ترى سوف تجعل هذه التجربة آن أكثر استمتاعا بحياتها المعتادة، أو أنها سوف تدرك فتور هذه الحياة؟