Sunday, September 23, 2007

فيلم "قصة الضفة الغربية"


كانت قوات الاحتلال الإسرائيلى – وحتى كتابة هذه السطور - تشن إحدى غاراتها الوحشية فى الضفة الغربية، وعلى مدينة نابلس بوجه خاص، بينما كانت هوليوود تقيم الأفراح والليالى الملاح فيما يسمى "حفل الأوسكار" لتوزع فيه الجوائز على نفسها، وكانت المفارقة أن يحصل على جائزة أفضل فيلم روائى قصير فيلم يحمل اسم "قصة الضفة الغربية"، وكما يمكن للقارىء أن يخمن من اسمه فالفيلم بالفعل يحاول أن يحاكى التيمة الرئيسية لفيلم "قصة الحى الغربى"، المأخوذ بدوره عن حدوتة "روميو وجولييت" الشهيرة، التى يعرف القاصى والدانى أنها تدور عن الحب الذى نجح بعد تضحيات دموية فادحة فى أن يزيل تاريخاً من العداوة بين عائلتين.
فى "روميووجولييت" قفز شكسبير على أسباب هذه العداوه ليجعلها أقرب إلى العواطف الإنسانية فى شكلها المجرد الأنقى، وفى "قصة الحى الغربى" كان الصراع بين الأعراق المختلفة فى أمريكا، أما فى "قصه الضفة الغربية" فلا يحتاج الأمر لكثير من الجهد لكى يعرف المتفرج والقارئ أن صانعى الفيلم يلفون ويدورون حول الصراع العربى الإسرائيلى، وقبل أن أشاهد الفيلم أدركت ذلك القدر الهائل من الاستخفاف بالقضية حتى تتحول إلى قصة حب بين فلسطينى وإسرائيلية أو العكس (وإن كان هناك فرق بين الأمرين كما سوف نتطرق إليه لاحقاً)، غير أن المرارة فى أعماقى بلغت أقصى مداها عندما قرأت حواراً مع المخرج أرى صندل – المنحدرمن أب اسرائيلى وأم أمريكية - وهو يحكى بفخر عن اشتراكه فى مهرجان دبى، والنجاح "الشعبى" الذى ناله عند عرض الفيلم، وبعد أن نجح الفيلم ومخرجه فى إزالة الحاجز النفسى عند المتفرجين العرب، ولا أدرى كيف تسلل الفيلم إلى مهرجان عربى، وإذا كانت الذريعة أنه أمريكى الإنتاج فكيف –والأهم هو لماذا- فات على النقاد العرب الذين حضروا "ليالى" المهرجان آنذاك رسالة الفيلم التى يمكن وصفها – بافتراض أحسن النوايا - بتسطيح القضية، فذلك دليل يبعث على التشاؤم على أن وعينا ووجداننا القومى – وأكاد أقول الإنسانى –يعانى من التدهور والتآكل على نحو لم يسبق له مثيل.
كنت أتصور أن مثل هذه المعالجة تقف عند حدود السطحية حتى شاهدت الفيلم، المتوافر على شبكة الإنترنيت لمن يريد أن يرى ويعرف، فإذا بمشاعر الصدمة تجتاحنى، فهذه ليست مجرد سطحية أو سذاجة، لكنها تشويه متعمد للوعى فى مرحلة كادت فيها الألفاظ أن تفقد معناها، ليس فى محيطنا فقط وإنما فى العالم كله، وهكذا يتاح للسيد صندل – وعائلته التى اشتركت فى جميع عناصر فيلم تخرجه – أن يعيد من جديد إنتاج المفاهيم المغلوطة حول الصراع العربى الإسرائيلى بأنه صراع الجيران وأولاد العم، وأرجو أن تتأمل ما صرح به فى حوار له حول جذور فكرة الفيلم، إذ يقول أنه سأل نفسه ذات يوم: "ماذا يجمع بين اليهود والعرب ويمكن أن يجعلهم يقفون على أرض واحدة؟ إنها شراهتهم وحبهم للطعام"!! هكذا!! لكن السيد صندل لم يسأل نفسه أبداً: "وما الذى يفرق بينهم إذن؟!، أو ما معنى ألا نسمى الأشياء بأسمائها فتقول أنه صراع ليس بين اليهود والعرب، بل بين الصهاينة والعرب، فصراعنا ليس مع ديانة أو ضد أصحاب هذه الديانة، وأرجو – أعيدها مرة عاشرة على هذه الصفحات - أن يترجم أحد المتخصصين بحثاً للكاتبة إيللا شوهات، التى تقول أنها تنحدر من أصول يهودية يمنية، لكنها عندما ذهبت وعائلتها إلى إٍسرائيل اكتشف أن الكيان الصهيونى قد سرق منها هويتها وأصلها العربى.
كتبت إيللا شوهات أيضاً كتاباً عن السينما الإسرائيلية، ظهرت له ترجمتان الأولى حرفية للناقد الجاد محمود على، والأخرى ملخصة لكاتب هذه السطور، تؤكد فيه شوهات أن السينما الإسرائلية – مثلها مثل الكيان الصهيونى نفسه - تسرق هوية الشخصية العربية عندما تعطى لليهود الشرقيين دور العرب فى الأفلام، هذا ما حدث مرة أخرى مع الفيلم "الأمريكى" مجازاً "قصة الضفة الغربية"، فليس هناك من بين صناعه أى فنانين عرب للأدوار العربية، وكلهم يحملون أسماء إسرائيلية حتى لو كانت الشخصية تدعى فاطمة أو أحمد. كعمل فنى يبدو الفيلم – الذى لا يزيد إلا قليلاً عن عشرين دقيقة - نمرة غنائية راقصه متصلة بلا توقف فيها ملامح عديدة من كوريوجرافى "قصة الحى الغربى"، تحكى عن صراع بين مطعم عربى للحمص يديره أحمد (جوى نابير) ومطعم إسرائيلى للفلافل يديره آرييل (إيه جية تانين) (لقد سرقوا الفلافل منا أيضاً، كما سرقوا موسيقانا والفلكولور الخاص بنا ونسبوه لأنفسهم!!)، ويظل الصراع بين المطعمين المتواجهين يتصاعد فى "سيمترية" ساذجة، حتى أن الشاشة تنقسم بين الجانبين ليمضى الفيلم إلى "إيفية" صراع كل جانب حول مكان كل منهما فى الكادر (ظريف؟! أليس كذلك؟!)، ناهيك عن الخلط بين كلمة "حمص"و "حماس"، وإذ يهدد الصراع فى النهاية بدمار الجانبين، حتى بعد بناء "جدار" يفصل بينهما، فإن قصة حب تندلع فجأة بالنظرات و" النحنحة" بين الجندى الإٍسرائيلى الشاب ديفيد (بين نيومارك) وفاطمة شقيقة أحمد (نورين ديولف)، وكما يقول أحد النقاد الأمركيين فإنه حب غير مبرر يندلع فيما يبدو من النصف الأسفل من الجسم، لكن لا مانع من مشهد الشرفة الشهير يعبر فيه ديفيد عن حبه، لكنها تطلب منه أولاً تحقيق السلام!! ياسلام!!
أرجو أن يلاحظ القارىء والمتفرج أن العلاقة هنا هى بين الرجل/الجندى الإسرائيلى والمرأة/العاملة اليدوية العربية، وأترك لأهل الاختصاص فى علم الدلالة استنباط ما وراء هذا الاختيار الدرامى لتجسيد الشخصيات، لكن النهاية سوف تأتى عندما نرى الجندى – الذى يحب على روحه لدرجة أنه لا يلتفت إلى "انتحارى" يمر إلى جواره ويرحب بمروره!- وهو يزيل بيده الجدار، الذى تقف وراءه فاطمة، ويقرر صاحبا المطمعين المشاركة فى خدمة الزبائن الإسرائليين والفلسطنيين الذين يقفون فى طابور واحد، بينما تتساءل فاطمة إن كانت قصة حبها لديفيد سوف تنتهى نهاية سعيدة، فيجيبها أنه سوف يأخذها إلى مكان يتعايش فيه اليهود والمسلمون فى هارمونية، فى بيفرلى هيلز (فى هوليوود: السينما والمكان؟!). ياسيد ديفيد: فلتعد من حيث أتيت، أما نحن فباقون على أرضننا ، لا نفرق مثلكم بين البشر على الهوية الدينية أو العنصرية، والمعركة بيننا وبين الصهونية ليست معركة سخيفة بين الحمص والفلافل فكلاهما لنا إن لم تكن تعرف، والأرض لنا، والحضارة العربية لنا ومن بين علاماتها إسهامات يهود عرب، ولتقرأ للكاتبة المرموقة إيللا شوهات الأستاذة فى جامعة نيويورك، أو للكاتب اليهودى عراقى الأصل نعيم جيلادى، أو الكاتب اليهودى اليمنى يوسف زوريل، لكى تعرف أن ما يجمعنا مع "اليهود العرب" (فالعربية ليست نقيض اليهودية) ليس حب الطعام بل حب الحياة، لكن ما يفصلنا عن "الصهاينة" هو أننا نؤمن بحضارة إنسانية شديدة الرحابة، بينما تعتبر الصهيونيه أسوأ وصمة فى تاريخ الإنسانية، لأنها ببساطة تفصل بين بنى آدم على أساس دياناتهم، ولأنها تقوم على كراهية واحتقار البشر، ونحن سوف نرتكب أسوأ الجرائم ليس فى حقنا فقط بل فى حق الإنسانية إن قبلنا - بأى شكل كان - التعايش مع إسرائيل والصهيونية.

فيلم "جنين جنين" لمحمد بكرى


لعل القارىء سوف يسأل عندما يرى العنوان يشير إلى فيلم تم إنتاجه منذ خمس سنوات: "وما هى المناسبة؟!"، وللقارىْ كل الحق فى سؤاله لأن صحافتنا اعتادت فى أغلب الأحوال على أن تجعله يجتر الموضوعات "الساخنة"، تلك التى تشتعل فجأة كالنار فى الهشيم، ثم تخمد أيضاً كأنها لم تكن، ليصبح وعى القارىء أشبه بقصاصات متناثرة لا علاقة بين بعضها البعض، يحتوى معظمها على معلومات مغلوطة أو مبتورة، وهذا هو المستهدف تماماً من إعلامنا الرسمى خلال العقود الثلاثة الأخيرة، ناهيك عن هامش لا بأس به من إعلام "مستقل" أكثر تدنياً، يسعى إلى تدمير البقية لنا من أى "يقين" حول قضايانا المصيرية، وهذا هو حال القضية الفلسطينة التى نجح الإعلام والسلطات السائدة وراءه فى أن تجعلها تتراجع يوماً وراء يوم، بل أن تجعل أغلب الشباب فى المنطقة العربية ينظرون إلى وجود إسرئيل باعتباره قدراً لافكاك منه، بل ربما يذهبون إلى الشعور بأنهم غير مجبرين على التفكير فى هذه القضية على أساس: "واحنا مالنا ومال فلسطين؟"!!
أصبح وعينا جزراً منعزلة كالواقع الجغرافى والسياسى الذى تريد أمريكا وإسرائيل فرضه علينا، وهاهم "سادتنا" العرب على كراسى الحكم يقدمون لإسرائيل يداً، عارضين ما يسمى "مبادرة عربية" ويفوضون مصر والأردن باعتبارهما "الوسيط" فى إقناع إسرائيل بهذه المبادرة المزعومة، لكن أرجو أن تتأمل كيف أن إسرئيل رفضت الحديث عن أى خطوات إلا بعد "التطبيع" الكامل، كما رفضت بشكل قاطع ما احتوت عليه المبادرة من "حق العودة للفلسطنين"، ولعل "سادتنا" لم يقرأوا التاريخ ولم يعرفوا الساسة أبداً، أو كأنهم يعرفون ويصطنعون عدم المعرفة، بالحقيقة البسيطة التى لخصها الكاتب عربى الأصل عادل الصفتى فى مقال له منذ أيام على موقع "زى ماج": "إن المشروع الصهيونى يقوم على انتزاع الأرض من الفلسطنيين لإقامة دولة يهودية، لذلك فإن الصراع الفلسطينى صراع على الوجود، وليس هناك مكان فى المشروع الصهيونى للشعب الفلسطينى لأن يعيش فى دولة يهودية" ، فهل ترى إسرائيل تخلت عن عقيدتها الصهيونية؟ والصهيونية كما كتب الكاتب اليهودى جوستين بودور على الموقع نفسه ليست أيديولوجية لتحرير الشعب اليهودى كما تزعم، بل هى أيديولوجية للاستعمار، أيديولوجية عنصرية تعبر عن تفوق العرق الأبيض، وهى ليست إلا الوجه الآخر لما يبدو أنه نقيضها: "العداء للسامية".
أسأل نفسى أحياناً: من ذلك الذى اخترع العبارة الفاضحة- بالمعنى البورنوجرافى- التى تقول أن "السلام هو خيارنا الاستراتيجى"، فإذا كان هو الاستراتيجى ما فائدة أن نجلس مع إسرائيل لنتفاوض؟ وماذا يبقى لنا لنتفاوض عليه إذ كان ذلك هو خيارنا الوحيد؟ بل ما الذى يدفع إسرائيل للتفاوض إسرائيل معنا أصلاً؟! ألم أقل لك من قبل ياقارئى العزيز أن التاريخ سوف ينظر إلى هذه الفترة من تاريخنا بالكثير من الازدراء والاحتقار؟!! ومع ذلك سوف تبقى هناك نقاط لامعة ربما تكون نقطة البداية لأجيال قادمة، عندما يتذكرون عبد الوهاب المسيرى وطارق البشرى وعشرات غيرهم، وعندما يرون أفلاماً مثل فيلم "جنين جنين" لمحمد بكرى، فبرغم أنه ممثل موهوب مشهور يمكنه أن يكسب ذهباً من المسلسلات التليفزيونية التى يلحسون بها عقولنا فإنه يقرر أن يصنع أفلاماً تسجيلية عن معاناة شعبه الفلسطينى والعربى، مثل فيلم "جنين جنين" الذى صنعه من شهادات سكان مخيم ومدينة جنين التى اجتاحتها القوات الإسرائيلية (التى يطلقون عليها جيش" الدفاع"؟!!) وقتلت المئات ودفنتهم تحت الأنقاض، ولم تترك حجراً أو شجراً فى مكانه عندما اقتلعت الجرافات الإسرائيلية الجمادات والأحياء من جذورها، لكن الفيلم يقول لك ببساطة ودون أى تصنع أن من المستحيل أن تقتلع شعباً من جذوره.
ربما تفاجئك التعليقات التى ظهرت فى بعض المقالات عن الفيلم، ولم يخل منها موقع "أى إم دى بى"- أشهر قاعدة معلومات سينمائية عالمية- حين اتهم العديد من مستخدمى الموقع فيلم "جنين جنين" بأنه "بروباجندا"، وبالمناسبة فإننى أؤكد لك أن بعض النقاد عندنا سوف يميلون إلى هذا الرأى، غير أننى لا أدرى لماذا نتقبل بالترحاب بروباجندا الأفلام الهوليوودية الخبيثة بينما لا نقبل شهادات حية من موقع مذبحة عنصرية كتلك التى شهدتها "جنين"، ولو أنى لن أخفى عليك أن هناك أقلاماً ذهب بها الفجور إلى الإدعاء بأنه لم تكن هناك أية مذبحة، وأن الجنود الإسرائليين أحضروا الدواء والدماء من الأردن لمعالجة الجرحى الفليسطنين!! ومرة أخرى أؤكد لك أن بعض الأقلام فى صحافتنا – التى تريد أن تنزع عن ذهنك أى يقين حتى بالبديهيات – سوف تشكك فى حدوث المذبحة، وربما أشارت إلى أن إسرائيل تدافع عن نفسها ضد "الإرهاب"، وذلك هو التشوش بعينه بين مقاومة من يرزح تحت الاحتلال، وإرهاب مؤسسة عسكرية عنصرية يقوم عليها الكيان الصهيونى.
إن كنت تريد أن تتحدث عن "حقائق" فهى ببساطة أن إسرائيل منعت الأمم المتحدة من إرسال لجنة تقصى الحقائق إلى جنين، فكانت محاولة محمد بكرى للقيام بهذا الدور بنفسه، مما عرضه للهجوم بالقبض على شقيقين له بتهمة المساعدة فى أعمال الإرهاب، بل إن القوات الإسرائيلية اغتالت –بالمعنى الحرفى للكلمة- منتج الفيلم إياد صمودى فى 23 يونيو 2002 بعد الانتهاء من تصويره، وإليه يهدى محمد بكرى الفيلم، الذى يحتوى على شهادات من عاشوا المذبحة واستطاعوا البقاء على قيد الحياة، يختارهم محمد بكرى ليمثلوا قطاعات مختلفة من الشعب الفلسطينى: عجائز وأطفال، نساء ورجال، أصحاء ومعوقين، جادين وساخرين... وفى دوائر متلاحقة تعود الشهادات لتستكمل الروايات، يحكى بعضها عن الفظائع التى تراها بأم عينيك على الشاشة، ويستطرد بعضها الآخر إلى التأكيد على ضرورة الصمود، ولكن على نحو يغلبه الأسى لترى طفلة أو رجلاً يحكيان عن الاستمرار فى المقاومة، لكن الدموع تغالبهما فينفجران فى البكاء المرير، بسبب الشعور بالعجز وأن الجميع – دون استثناء – قد تخلوا عنهم.