Thursday, December 30, 2010

"ويندى ولوسى": أمريكا فى زمن الضياع


الأفلام مثل الموسيقى، هناك أفلام تشبه الأغنيات الرخيصة التى قد تجذب قطاعا كبيرا من الجمهور، ثم سرعان ما تنتهى إلى الزوال، مثلما كان الحال مع "لولاكى" إن كنتَ تتذكرها، وهناك أيضا أفلام جادة مبهرة تذكرك بالسيمفونيات التى قد تبدو عصية على التذوق الكامل، لكن التلاعب بالتوزيع الأوركسترالى الضخم والفخم، على طريقة تشايكوفسكى مثلا، يشد المتلقى لسماعها، وهناك أخيرا أفلام شديدة الاقتصاد فى أسلوبها وتقنياتها، ليس لديها الكثير من عوامل الجذب الجماهيرى، سوى تلك الألحان التى تبدو قادمة من أعماق الروح، وبناء فنى لا يفصح عن نفسه بسهولة، مثل رباعيات بيتهوفن الوترية، التى تحتاج منك أن تعطى لها نفسك، وعندئذ فقط تكشف لك هذه الرباعيات عن أسرارها.
عندما شاهدت فيلم "ويندى ولوسى"، بناء على نصيحة ابنى السينمائى الشاب خالد، تذكرت على الفور تلك الرباعيات الوترية، وفهمت لماذا أعطى النقاد الأمريكيون للفيلم درجات كبيرة على موقع "ميتاكريتيك"، بينما لم يمنحه الجمهور إلا درجات قليلة، وهذا التناقض يعود فى رأيى إلى أن النقد السينمائى لم يعد فى الفترة الأخيرة يبذل جهدا كبيرا فى التواصل مع المتفرج والقارئ، حين كاد الخط الفاصل بين النقد الجاد والتحقيق الصحفى أن يتلاشى، فكانت النتيجة أننا تركنا الجمهور لسينما تتسابق فى إبهار المتفرج وغسيل مخه، بل إحيانا – مثلما يحدث فى أفلامنا – فى تشويه أحاسيس المتفرج وتحويله إلى كائن متبلد.
لم يعرض فيلم "ويندى ولوسى" فى الأسواق العربية عرضا جماهيريا، لأن الموزعين وأصحاب دور العرض، مثل معظم المنتجين وصناع الأفلام، يخفون شراهتهم للمال وراء شعار "الجمهور عايز كده"، بما يعنى أن الجمهور "مش عايز" الأفلام من نوعية "ويندى ولوسى". وإذا كان هذا الموقف يمثل مصادرة مسبقة على حق المتفرج فى أن يرى ويحكم بنفسه، فهذا الموقف لن يزيد إلا من موقف الجمهور الرافض لهذه الأفلام لأنه لا يعرفها أصلا، عملا بالمقولة المصرية الشائعة والتى توردنا أحيانا موارد التهلكة: "اللى تعرفه أحسن من اللى ماتعرفوش"!
سوف نحاول هنا أن نجعل من فيلم "ويندى ولوسى" من نوعية "اللى تعرفه"، لعل ذلك يصنع يوما تيارا يطلب السينما بمعناها الرفيع، أو على الأقل يطالب بحقه فى أن يرى كل نوعيات الأفلام. ولأن الفيلم غير متاح فى دور العرض، برغم سهولة الحصول عليه من الإنترنيت، فإننا لن نخشى هنا أن نحكى للقارئ حكايته، فربما كان ذلك دافعا لأن يبحث عنه ويستمتع بمشاهدته. ولعلى لا أذهب بعيدا عن الحقيقة حين أقول أن معرفة القارئ بتفاصيل حكاية الفيلم سوف تزيد من متعة مشاهدته، فالحكاية ذاتها شديدة البساطة، لكن جمالها فى طريقة حكايتها، أو كما يقولون فى علم الجمال أنه ليس من المهم فقط "ماذا" تقول، لكن "كيف" تقوله أيضا.
نحن فى البداية بالقرب من مخزن لقطارات البضائع على أطراف مدينة صغيرة فى شمال الغرب الأمريكى، نرى حركة القطارات البطيئة ونسمع أصواتها الرتيبة المنتظمة، ثم ننتقل إلى أحد المروج القريبة حيث نشاهد الفتاة ويندى (ميشيل ويليامز) تلاعب كلبتها لوسى شديدة الذكاء. الفتاة ترتدى قميصا وسروالا قصيرا حتى أنها تشبه الصبيان، خاصة فى قَصَّة شعرها القصير، ووجهها الخالى من آثار مساحيق التجميل، والكاميرا تتحرك حركة بانورامية بطيئة لتوحى لك بإحساس مطمئن تتمنى فيه كمتفرج لو امتدت وطالت تلك اللحظة من الوداعة والسلام. تختفى الكلبة لوسى عن أنظار ويندى فيتسلل بداخلها إحساس بالخوف، حتى تجد كلبتها عند مجموعة من الشباب والشابات، هم أقرب إلى الصعاليك المشردين، ويدور حوار قصير نعرف منه أن ويندى مسافرة على الطريق، لقد أتت من ولاية بعيدة وتنوى إكمال رحلتها إلى ألاسكا، حيث تقول أن هناك فرصة للعمل فى مصنع لتعليب الأسماك، فى نفس الوقت الذى يحكى فيه الصعاليك عن أنهم عائدون من نفس المكان الذى تنوى ويندى أن تذهب إليه.
وهكذا وبلمسات شديدة الرهافة، يضع الفيلم أمامك فكرته الدرامية: فتاة وحيدة ليس لها فى العالم من صديق حميم إلا حيوانها الأليف، وحلم بالذهاب إلى آخر العالم بحثا عن عمل، وربما هربا من ظروف خانقة، لكنك تعرف أن هذا الحلم ليس ورديا بأية حال عندما ترى الصعاليك العائدين منه. وهنا سوف أتوقف بك قليلا لنتأمل ما يسمى "سياسات السينما"، التى لا علاقة مباشرة بينها وبين السياسة بمعناها الدارج، لكنها علاقة صانعى الفيلم بالشخصيات والعالم الذى يصورونه، بما يؤدى بهم إلى قرارات تقنية وجمالية محددة. إن صانعى الفيلم لن يخبروك بأية تفاصيل "معلوماتية" عن ويندى، فكأنهم لا يعلمون عنها الكثير سوى ما تعرفه أنت، لذلك فإنهم لن يتدخلوا بينك وبين ما تراه على الشاشة، وسوف يكتفون فقط "بتسجيل" العالم كما هو بأقل قدر من التقنيات. وأرجو أن تلاحظ على سبيل المثال أنه لا يوجد فى الفيلم "فلاش باك" يفسر ويشرح، وليست هناك حركة "زووم" واحدة تجعلك تقوم بالتركيز على عنصر درامى دون آخر ... قل فى النهاية أن هذا هو العالم أمامك، وعليك أن تفسره وتتفاعل معه بالطريقة التى تختارها.
لكن الفيلم لن يخلو أيضا من "سياسة" على نحو ما، ولم يخطئ النقاد الأمريكيون حين لاحظوا أن جانبا من مضمون الفيلم يصور أمريكا فى نهاية عصر بوش وفى أعقابه، أناس على الطريق، بدأوا من واقع طرَدَهم إلى حلم متواضع بالبحث عن لقمة عيش فى ظروف أفضل. ولعل القارئ يلاحظ أننى أستعين هنا بشهادة النقاد الأمريكيين فى الجانب السياسى، لأن الكثير من نقادنا يتصورون أن القراءة السياسية للأفلام هى نوع من التعسف! بل إن هذا الموقف السياسى فى الفيلم يتجسد فى شكل فنى فى أن كل الشخصيات هى بشكل أو بآخر امتداد أو انعكاس للبطلة ذاتها، وهو ما يطلق عليه "البناء المفتوح" فى الدراما.
فلنعد إلى الحكاية: ويندى لا تملك من المال لتكمل رحلتها إلا بضع مئات قليلة من الدولارات، تظل تعيد حسابها المرة بعد الأخرى فى خوف من نفادها قبل أن تصل إلى غايتها، وهى تبيت لياليها على الطريق بداخل سيارتها الصغيرة العتيقة مع كلبتها لوسى، لكن السيارة لن تدور فى الصباح، فتضطر إلى دفعها إلى طريق جانبى، بعيدا عن مكان خال يحرسه حارس عجوز (والى دالتون)، كل ما يفعله طوال يومه هو أن يقف على قدميه دون أن يعرف بالتحديد ما هو ذلك الشئ الذى يقوم بحراسته سوى هذه الأرض الخاوية. تستعين ويندى بدورات المياه فى محطات الوقود على الطريق لكى تغسل وجهها فى الصباح، وتغير بعض ملابسها، وتجمع من الغابة القريبة بعض المعلبات الفارغة وتذهب لبيعها، لكنها تجد طابورا طويلا من جامعى هذه المعلبات فتتراجع عن فكرتها. تذهب ويندى إلى متجر قريب، وتختلس علبة طعام لكلبتها، فيمسك بها أحد الفتيان العاملين فى المتجر، ويسلمها إلى رئيسه فى العمل، مؤكدا لكى يثبت كفاءته أن القانون يجب تطبيقه على الجميع.
من أجل علبة طعام الكلاب يقودون ويندى إلى الشرطة، فتترك كلبتها مقيدة إلى جوار المتجر، وبعد ساعات طويلة يفرجون عنها بعد أن تدفع غرامة، لتعود فلا تجد لوسى حيث تركتها. لا تستغرب أن تكون الكلبة الأليفة هى صديقها الوحيد فى هذا المجتمع، فهذا ما سوف يتأكد توا: إن ويندى تتصل بأختها فى الولاية البعيدة التى أتت منها، فلا تتلقى سوى عبارات فارغة من أية مشاعر أو تعاطف، فتبيت الليلة وحدها فى السيارة، وإن كانت تخرج بين الحين والآخر فى الظلام تنادى على لوسى فى لوعة، دون أن تسمع سوى صدى صوتها. فى الصباح التالى، وبنصيحة من الحارس العجوز، تذهب ويندى إلى حظيرة الكلاب الضالة فى المدينة فلا تجد لوسى، وأرجو أن تتأمل هنا كيف تستعرض الكاميرا، المتحركة ببطء وتمهل، أقفاص الكلاب الضالة التى تنظر إلى الكاميرا، إن وراء كل منها قصة ربما تكون مماثلة، مثلما أن قصة ويندى يمكن أن تتكرر فى هذا المجتمع القاسى الذى قد نصنع له صورة مثالية مغايرة للحقيقة، برغم أنه ليس فى النهاية إلا مجتمعا ينقسم إلى من يملكون ومن لا يملكون.
حتى الملاذ الأخير لدى ويندى الذى تبيت فيه، سيارتها القديمة المعطلة، سوف تفقدها عندما تذهب بها إلى ورشة تصليح السيارات، ولا تجد سوى الغابة تنام فيها، وهناك تستيقظ فى الليل على صعلوك متشرد يهذى بأنه ليس مجرما إذ يطالب بحقه كإنسان، ثم يختفى، لكن الهلع يسيطر على ويندى فتمضى هائمة فى شوارع المدينة فى الليل، وتلجأ إلى دورة المياه تختفى فيها وتبكى، لكنها تنظر فى المرآة الملطخة وتواسى نفسها وتشجعها على الاستمرار فى الرحلة. الآن عرفت ويندى أن السيارة أصبحت متهالكة تماما ولن تساوى تكاليف إصلاحها التى لا تملكها، وعندما تعثر على لوسى أخيرا تكتشف أن رجلا مقتدرا قد آواها. تتسلل ويندى إلى حديقة منزل الرجل، وهناك تلتقى ولوسى فى مشهد مؤثر بحق، لكنها بعد لحظة تدرك أن عليها أن تتخذ القرار الصعب، أن تترك لوسى هنا على أمل لا تدرى إن كان سيتحقق بالعودة لها عندما تمتلك المال، وفى لقطتين قريبتين لوجهى ويندى ولوسى يشعر المتفرج بلوعة هذا الفراق، وتمضى ويندى وحيدة لتتسلق أحد قطارات البضاعة الراحل إلى ألاسكا، من مخزن القطارات حيث بدأ الفيلم، وكأنه يرسم القوس الأخير للنهاية التى ما تزال مفتوحة.
أخرجت الفيلم كيلى ريتشارد، التى شاركت فى السيناريو مع كاتب القصة جون ريموند، كما اشتركت فى مونتاجه أيضا، وهو فيلم "مستقل" بالمعنى الحقيقى للكلمة، وذو ميزانية متواضعة تماما، حيث تم تصويره فى مواقع التصوير الحقيقية باستخدام الضوء المتاح، وشريط للصوت حافل بالمؤثرات الصوتية الطبيعية على الطريق السريع إلى جوار مدينة صغيرة، كما أنه مستقل فى فكرته ومعالجته، إنه من نمط "فيلم الرحلة" لكنه يقف عند نقطة من هذه الرحلة متأملا، نقطة اللاعودة وضرورة الاستمرار نحو المجهول، عندما تجد الشخصية الرئيسية نفسها محاصرة بأنها "لا تملك" فى مجتمع لا يعرف قيمة إلا لمن يملكون، ونحن نجد أنفسنا بدورنا محاصرين مع الشخصية، ووجود الكلبة لوسى فى هذه الحبكة هو الذى يتيح الفرصة لأكبر قدر من التوحد بيننا وبين البطلة، إذ يعطيها أبعادا لا تملك إلا التعاطف معها. ومن خلال براعة هائلة من كل الممثلين دون استثناء، تصدق أن هذه الشخصيات حقيقية، وأن الفيلم "يسجل" واقعا لم يخلقه أو يختلقه، وهو ما يجعل الفيلم درسا حقيقيا لسينمائيينا الشبان الباحثين عن سينما مستقلة بحق، إنه الدرس الذى يعلمك ألا تصنع "لولاكى" مثل آلاف غيرك، وإذا لم تكن قادرا على صنع السيمفونيات المبهرة فقد تكون قادرا على تأليف رباعية وترية شديدة الاقتصاد والبلاغة معا، وإن كان ذلك يحتاج إلى وعى سياسى وجمالى حقيقى، ليتنا نمتلكه يوما.

Tuesday, December 28, 2010

السينما المصرية فى الألفية الثالثة ... قبل الميلاد!!


هل تذكر حكاية "الألفية الثالثة" والحديث المزعوم عن دخول مصر إليها "برجلها اليمين"؟ لقد مضى العقد الأول من هذه الألفية، واتضح أن مصر، فى كل المجالات دون استثناء، كانت لا تدخل إليها، بل تخرج منها مولية الأدبار، بفضل مجموعة "الشطار" والعيارين التى تحكمنا الآن، ليس فى ذهن أحد منهم مصلحة الوطن بالمعنى الحقيقى للكلمة، بل هدفهم جميعا هو تحويل مصر إلى سوق و"سويقة"، وكل واحد وشطارته وصوته العالى وقدرته على إلباس الحق بالباطل، وإنكار وجود الشمس فى عز الظُهْر، ومن يستطيع منهم أن ينتزع "حتة" من الوطن ليأكلها لحما ويرميها عظما فهنيئا له ومريئا، وكله باسم الفكر الجديد وحماية الأمن القومى على طريقة الجدار الفولاذى ومصر فوق الجميع، والمصيبة أننا – نحن المنتمين إلى ما يفترض أنها المعارضة – نكتفى بأن نقوم بدور الموسيقى التصويرية لهذه الميلودراما، بالكثير من الكلام والقليل من الفعل، تأتى إلينا فرص اتخاذ مواقف سياسية فنأبى استثمارها، فحين يتحدث البرادعى عن الأوضاع المقلوبة نتوقف عند الدفاع عن شخصه، بينما كان الأجدر بنا أن ندافع باستماتة عن أفكاره بتعديل الدستور وإصلاح أوضاع الحياة الحزبية فى مصر، وحين فكّرنا يوما فيما أطلقنا عليه "العصيان المدنى السلمى" فات علينا أن نجمع الشعب المصرى على هذا الموقف بسبب "شبه" قانون الضريبة العقارية، الذى يصممون به على عَقْرنا فى عُقْر دورنا وديارنا.
وإذا كان الحال كذلك، حكومة ومعارضة، فقل لى بالله عليك كيف يحق لنا ولو للحظة واحدة أن نتحدث عن ألفية ثالثة، حتى لو كانت قبل الميلاد؟ وعندما نتناول أحوال السينما فى مصر فلن نجدها منفصلة أبدا عن هذه الفوضى الضاربة أطنابها فى كل شىء، الخالق الناطق هى نفس العشوائية والاضطراب، سواء فى الكثير من الأفلام التى تتم صناعتها دون أن تعرف بالضبط لماذا ولمن صُنعت، أو فى بعض الأحكام النقدية التى يحكمها الهوى أحيانا والجهل أحيانا أخرى، وأخيرا الأرقام المغلوطة وغير الدقيقة التى تطالعنا هنا وهناك، بينما لا نعير التفاتا للأرقام الموثوق بها. ليست "شطارة" أبدا من كاتب هذه السطور أن يراجع هذه الأرقام والمعلومات أو تلك، بل هو الحزن الحقيقى والأسى العميق من أنك لن تجد الكثيرين من النقاد يعانون من الأرق بسبب الحال الذى وصلت إليه صناعتنا السينمائية، فنحن ننقد الأفلام: هذا فيلم جيد وياسلام عليه، وهذا فيلم ردىء و"وِحِش"، ثم ننام ملء جفوننا. إننا نتعامل مع السينما، كما نتعامل الآن مع كل شىء فى حياتنا، بالقطعة، كجزئيات لا نخرج منها بصورة للكل، هذا الكل الذى وصل إلى حالة مزرية من التردى والتدهور والانحدار.
سوف أحاول معك فى هذا المقال أن نقف عند بعض النقاط، التى أرجو أن تفى بالغرض من إلقاء بعض الضوء على أوضاع صناعة السينما فى بلادنا. ولأبدأ معك بما نشره موقع "ميتاكريتيك" منذ أيام قليلة، عن أفضل مائة فيلم خلال العقد الأول من الألفية الثالثة، وذلك طبقا لمتوسط آراء أشهر النقاد الأمريكيين، ومع ذلك فإن المركز الأول فى القائمة احتله فيلم أسبانى مكسيكى، والثانى رومانى، وتوالت أفلام من اليابان واستراليا والصين وفرنسا وبريطانيا والبرازيل و"إسرائيل" وألمانيا وكندا وإيطاليا وكولومبيا وإكوادور وروسيا وإيران. لن أسألك أين مصر فى هذه القائمة، (لا وجود بالطبع لأفلام مثل "ابراهيم الأبيض" أو "جنينة الأسماك"، لا فرق)، لكن أرجو أن تلاحظ أن ثلاثة أرباع هذه الأفلام لم يعرض فى مصر عرضا عاما أو خاصا، وحتى الرُبع الذى أتيح له العرض لم يتناول معظمه أية مقالة نقدية جادة فى مصر، وهو مايشير فى واقع الأمر إلى غيابنا، جمهورا ونقادا، عما يحدث فى السينما فى العالم، بينما نهتم ونتجادل ونتشاجر ونمسك فى خناق بعضنا البعض حول أفلام مصرية تتلعثم – بالمعنى الحرفى للكلمة – فى أبجديات السينما وبديهيات الفن. إن هذا يحدث فى عصر الإنترنيت، حيث يمكن للنقاد المصريين الاطلاع على مايكتبه النقاد فى العالم كله، وتحميل ومشاهدة الأفلام التى لا تُعرض للجمهور المصرى، والكتابة عنها لضخ دماء جديدة متدفقة ودافئة فى الثقافة السينمائية، لأن من المفترض أن النقد لا يكتفى بالتهليل أو التنديد بتلك الأفلام المتواضعة المفروضة علينا، وتُفسد ذوقنا النقدى والجماهيرى حتى إن لم نكن نشعر بذلك بشكل واعٍ، لكن يجب على النقد أن يفتح آفاقا جديدة أمام صانع الفيلم والمتلقى معا. وعند هذه النقطة أود الإشارة إلى حقيقة مفزعة لا تحدث أبدا فى أى وسط ثقافى ينبض بالحياة (وسطنا الثقافى السينمائى ينبض بالموت إن جاز التعبير)، وهى غياب أية مطبوعة سينمائية جادة ومنتظمة الصدور، وكان الأجدر وجود العديد من المطبوعات التى تعبر كل منها عن اتجاه أو منهج نقدى بعينه، لذلك وقع النقد فى هوة الصحافة السينمائية مدفوعة الأجر، ماديا أو معنويا، والتى تتحدث عن نجومية فلان، و"البطولة المطلقة" لعلان، وترتان الذى "تفوق على نفسه"، ناهيك عن الأحكام المتعسفة والمتسرعة التى لا تساعد المتلقى بأية حال على التذوق الحقيقى للأعمال السينمائية.
أريد أن أكون منصفا فأقول أن بمصر الكثيرين من النقاد الجادين، لكنهم لا يقومون بواجبهم كما ينبغى لهم، ربما بسبب المناخ العام الذى أصابته الشيخوخة فى كل شىء، أو لأنهم لا يجدون لهم منبرا ثابتا، أو لأنهم مشغولون بالبحث عن لقمة العيش فى نشاطات تبعدهم عن ممارستهم النقد بشكل مستقر مستمر، أو لكل هذه الأسباب جميعا. من جانب آخر فسوف تجد بعض "كهنة" النقد السينمائى، وأتباعهم من أنصاف النقاد الذين يرددون العبارات خلفهم كالببغاوات، هؤلاء لهم منابرهم التى يطرحون فيها قضايا وأحكاما قاطعة مانعة ما أنزل الله بها من سلطان، وهم يُغيرون هذه الآراء على حسب المصلحة، فالرائد الأول فى الدعاية لتحويل الثقافة السينمائية إلى استثمار أصبح الآن يهاجم هذا الاتجاه، والله وحده يعلم السبب وراء "إيمانه" بالرأى ونقيضه على هذا النحو الذى يضفى الشك على ما يدعو إليه فى الحالتين. إن هذا النوع من "النقد" لا يبغى فى الحقيقة إلا المصالح الشخصية، أما القضايا الموضوعية فقل عليها السلام. أعطيك مثالا صارخا: هل قرأت لأى من النقاد ولو بضع سطور عن البيانات التى أصدرها الجهاز المركزى للتعبئة والإحصاء، حول أن عدد دور العرض السينمائى فى مصر الآن 250 دار، وعدد رواد هذه الدور فى عام 2008 لم يتجاوز 18 مليون مواطن، وهى أرقام هزيلة إلى حد مفزع، وفى ظلها لا يمكن الحديث عن أن لدينا صناعة سينما، فهى تعنى أن هناك دارا واحدة للعرض السينمائى لكل 300 ألف مواطن، وأن المتفرج المصرى يدخل السينما مرة واحدة كل أربع سنوات! هل يمكن أن نقارن ذلك بأية صناعة سينما أخرى، حيث المتوسط هو دار عرض لكل عشرة آلاف مواطن، وحيث يدخل المتفرج السينما أربع مرات كل عام؟!! وفى ظل هذه الأرقام يجب أن نسأل أنفسنا: لمن نصنع الأفلام إذن؟ ولماذا نصنعها؟ وهل السينما – باعتبارها فنا – تمارس دورها المفترض فى صناعة وصياغة وجدان الجماهير، أم أنها حتى كتجارة تتجاهل الاحتياجات الحقيقية لهذه الجماهير، وتترك عقولهم وأفكارهم نهبا لكل الأفكار والتيارات المتطرفة يمينا أو يسارا؟ وكيف يمكن لنا كنقاد أن نتناول بالنقد المتحمس أفلامنا المصرية، التى تزداد للأسف الشديد تدهورا وتحللا فى الشكل والمضمون، بينما نحن نعلم أن الأفلام لم تعد إلا سلعة لجمهور عابر يعتبرها وسيلة للتسلية من الدرجة العاشرة؟! ألسنا بذلك نساهم فى تدنى السينما المصرية ونظرة الجمهور لها؟!
إن ذلك يقودنا إلى من يقومون بالإنتاج والتوزيع السينمائى، الذين لا ينظرون إلى السينما إلا كمجرد "سبوبة" يستكملون بها أرباحهم المادية والمعنوية، إنها وسيلة للكسب السريع السهل، الذى يتماشى تماما مع كل السياسات الاقتصادية المتبعة فى مصر الآن، والقائمة على النهب والخطف، "إخطف وإجرِ"، وأضف إلى ذلك الوجاهة الاجتماعية بالاقتراب من عالم الأضواء، ومع ذلك فهؤلاء المنتجون الموزعون، بهذا الفكر القاصر، هم الذين يصوغون القيم الأخلاقية والسياسية لمن يتفرج على أفلامهم. لم يقف فى طريق هؤلاء أحد عندما يرتكبون الخطيئة الجوهرية فى أية صناعة سينما، فى جمعهم للإنتاج والتوزيع والعرض، فهذا الاحتكار لن يؤدى بعد سنوات قليلة إلا للانهيار، هذا الانهيار الذى يمكن أن تلحظ بوادره فى تراجع متزايد فى عدد الأفلام وتدنى مستواها. إلى جانب ذلك، أرجو أن تتأمل فقط أفلام إحدى هذه الشركات، التى جاءت بأموالها من عالم القرى السياحية، لتصنع أفلاما تسخر فى وقاحة من شهداء حرب أكتوبر، وتهزأ بـ"كل" التاريخ النضالى فى مصر، وبعد ذلك يتصور (أو الحقيقة: يزعم) البعض أنه يمكن أن يصنع من خلالها أفلاما "ناصرية" أو تنادى بالحرية الفكرية، أو تدعى أنها كذلك!! (لعلك تفهم لماذا يعمل الناقد الكبير إياه كبوق دعاية لأفلام هذه الشركة، لكن هل تستطيع أن تفهم لماذا يسير بعض الحواريين "الغلابة" خلفه؟).
أعرف الآن ياعزيزى القارئ أنك تنتظر منى قائمة تمثل – من وجهة نظرى – أفضل عشرة أفلام مصرية فى العقد الأول من القرن العشرين، وأعترف لك أننى بذلت جهدا كبيرا لكى أحدد هذه الأفلام العشرة (عشرة فقط فى عشر سنوات!!)، بل إننى أعترف لك أيضا أننى لا أرضى كل الرضا عن بعض مما جاء فى هذه القائمة، لكنها على أية حال، وكما أعتقد، تعطيك لمحة عن الأسماء التى تتعامل بجدية مع الفن السينمائى، وإن لم يكن بعضها يلتزم بذلك دائما! هذه الأفلام بترتيب عرضها: "أرض الخوف" (2000) لداود عبد السيد، "فيلم ثقافى" (2000) لمحمد أمين، "الأبواب المغلقة" (2001) لعاطف حتاتة، "مواطن ومخبر وحرامى" (2001) لداود عبد السيد، "سهر الليالى" (2003) لهانى خليفة، "باأحب السيما" (2004) لهانى فوزى، "بنات مصر الجديدة" (2005) لمحمد خان، "ملك وكتابة" (2006) لكاملة أبو ذكرى، "فى شقة مصر الجديدة" (2007) لمحمد خان، و"واحد صفر" (2009) لكاملة أبو ذكرى. ويمكن بالطبع وبدون أدنى شك للقارئ أو أى ناقد زميل أن يختلف مع هذه القائمة، لكن تلك هى رؤيتى الشخصية للإنجاز الإبداعى للسينما المصرية فى أعوامها الأخيرة، والذى يشير – كما أتصور – إلى أنه ما يزال للتيار الجاد من جيل الثمانينات، ممثلا فى داود ومحمد خان، حلمه وإصراره على صنع سينما حقيقية كلغة ورسالة بالمعنى الأعمق للكلمتين، وإن كانت الظروف تعانده بقوة، فداود على سبيل المثال قضى عشر سنوات لكى ينجز فيلمه الذى لم يعرض بعد "رسائل البحر"، وما يزال بعض من فرسان هذه الكتيبة لا يجدون الفرصة للعودة إلى السينما مثل خيرى بشارة. من جانب آخر فإن فرسانا جددا مثل عاطف حتاتة أو هانى خليفة لم يجدوا الفرصة إلا لصنع فيلم واحد، بينما بدأ محمد أمين طموحا وانتهى إلى السينما التى ترقص على السلم بمغازلة النقاد و"زغزغة" المتفرجين بأفلام مشوهة الشكل والمضمون، فى الوقت الذى تملك فيه مخرجة شابة مثل كاملة أبو ذكرى رهافة التعبير وعمقه، دون أن تقع (كما يحدث لمخرجات أخريات) فى إغراء البهلوانيات السينمائية الفارغة، وإن كانت تلجأ بين الحين والآخر إلى "تقفيل" فيلم تجارى متواضع.
لعلك لاحظت أبها القارئ العزيز أننى لم أتوقف عند أى فيلم لأى من النجوم أو النجمات الذين يحتلون السينما المصرية الآن، فاعتقادى الذى أومن به كل الاعتقاد أنهم نجوم مصطنعون، فإن غاب أحدهم أو إحداهن عن الشاشة (كما حدث بالفعل) فلن يشعر أحد منا بافتقاد شىء ما، وهو ما يتناقض مع مفهوم "النجومية" بمعناها الحقيقى، التى لا تعنى كما يتصور البعض أنها "البضاعة الأكثر مبيعا"، لكن النجم أو النجمة هما جزء من واقعنا وجزء آخر من أحلامنا، والنجومية ليست ظاهرة فنية فقط، بل إنها فى جوهرها ظاهرة اجتماعية وسياسية، إن النجم الحقيقى يظهر على الشاشة بالنيابة عنى لكى يقول ما أريد أن أقوله لكننى أعجز عن قوله، وهو الذى يفعل فى الأفلام ما لا أستطيع أن أفعله فى الحياة وإن كنت أتمناه. ولأن السياق الذى نعيش فيه يتضمن واقعا بائسا يائسا بلا أحلام، فلا وجود لنجوم حقيقيين فى السينما والسياسة على السواء... ليس هناك قادة ثقافيون أو سياسيون بالمعنى الحقيقى للكلمة، ولم يكن ذلك إلا سببا ونتيجة فى وقت واحد لثلاثة عقود من التراجع والتدهور المادى والمعنوى، وربما لو ظهر ابن إياس فى زماننا لوجده يضاهى أكثر العصور ظلاما فى تاريخ مصر، ومصر يا من تتحدثون عنها بوصفها "فوق الجميع" ليست كتلة مصمتة أو صنما معبودا، وهى ليست النظام الحاكم فى أى من العصور، إنها الآن أنا وأنت كما نعيش هذه اللحظة من التاريخ، وبقدر ما ننجز تكون "مصر"، لأنها كائن حى تتفاعل فيه ومعه كل المؤثرات الإيجابية والسلبية، إنها تصح وتمرض، وهى الآن فى طور متأخر من المرض، ولعلها يوما تسترد صحتها وعافيتها، لكى تدخل العقد الثانى من الألفية الثالثة، وتنسى العقود الثلاثة المظلمة التى لن تستحق من التاريخ سوى نظرة الشفقة الممتزجة بالازدراء تجاهنا، لأننا لم نؤدِ واجبنا البديهى ليس فقط تجاه مصر، بل تجاه ما يعبر عن أبسط شروط الكرامة والثقافة الإنسانيين.

Thursday, December 16, 2010

فيلم "نصفى البشع"


عندما توقظ الطفولة النقية نصفنا الجميل
لم أكف عن الابتسام أو حتى الضحك بصوت عالٍ وأنا أشاهد فيلم التحريك "نصفى البشع"، وهى ترجمة بتصرف لمعنى عنوانه الذى يمكن أن تترجمه أيضا "أنا الشنيع" مثلا، فالمهم أنه يشير إلى جانب شرير من النفس البشرية، وبرغم أن الفيلم موجه أساسا إلى الأطفال، وأن النكات التى يمكن للكبار وحدهم فهمها نكات قليلة متناثرة، على عكس معظم أفلام التحريك الحديثة التى تراعى – لأغراض تسويقية وفنية وأحيانا سياسية – أن يحتوى فيلم الأطفال على مستوى ثانٍ موجه للكبار، أقول أنه برغم ذلك فقد استمتعت بالفيلم تماما، ليس فقط لبساطة حدوتته والمغزى الأخلاقى فيها، وإنما لأن هذه البساطة تخفى براعة درامية حقيقية من صناعه، الذين لا يفهمون – كما قد نتصور – أن فيلم الأطفال سهل، بل على العكس فإنه ربما يزيد صعوبة فى صنعه، فأنت ما تزال تحتاج إلى الحفاظ طوال الوقت على الاستقطاب بين نقيضين، وهذا الاستقطاب هو ما يصنع أى دراما، وفى الوقت ذاته عليك أن تتعامل مع هذا الاستقطاب بقدر هائل من الرهافة التى لا تؤذى مشاعر الأطفال.
تبهرنى دائما تلك القدرة على البناء الدرامى فى مثل هذه الأفلام، حتى أنه يمكن اعتبارها دروسا أولية لمن يكتبون سيناريوهات، فى فترة من أضعف فترات السينما المصرية فى فنون الكتابة السينمائية، سواء على مستوى السيناريو أو الحوار. (بالمصادفة شاهدت مؤخرا فيلما أسبانيا بعنوان "الزنزانة 211"، من نمط أفلام السجن، ربما عولجت فكرته من قبل فى عشرات الأفلام، لكنه بدوره كان نموذجا للكتابة الدرامية، وربما حانت الفرصة لاحقا للكتابة عنه). الغريب أنك تشعر فى أحيان كثيرة بأنك فى حاجة إلى أن تعيد وتزيد فى الحديث عن مقومات أى دراما، لكن هذه الأبجديات أصبحت بالنسبة لنا – للأسف الشديد – لغة غير مفهومة وغير متداولة، حتى بالنسبة لأسماء كبيرة لم أكن أتصور أنها سوف تتخلى عما تعلمته وأنجزته فى الكتابة الدرامية من مختلف الأنواع. هل هو الاستسهال؟ ربما، فكل شىء يباع الآن ما دمت "تسلِّك أمورك"، وليس المعيار هو الجودة أبدا، وانظر مثلا إلى ساحة المسلسلات التليفزيونية المصرية لترى أين موقعنا من الدراما، ثرثرة و"رطرطة" لا ينتهيان، لا فرق فى ذلك بين أسماء كانت لامعة أو كتاب فرضوا أنفسهم بالإلحاح أو أشياء أخرى!
فى كل كتابة درامية ناضجة عناصر لابد أن تتوافر: شخصيات ذات أبعاد مختلفة تتراوح بين نقاط الضعف ونقاط القوة، أو بين الخير والشر، ثم توتر أو تقارب أو تباعد بين هذه الشخصيات يتصاعد شيئا فشيئا نحو الذروة قبل أن يأتى الحل، والأهم هو "التغيير"، فالعلاقات بين الشخصيات تؤدى إلى إحداث تغير فيها، ربما صار القوى ضعيفا وأصبح الضعيف قويا، وفى تبادل المواقع هذا يأتى فى النهاية المغزى من العمل، ليس فى شكل نصيحة بليغة أو خطبة عصماء كما يحدث فى الأغلب الأعم عندنا، ولكن عندما ترى آثار هذا التغيير على الشخصيات، فتخرج لتكتشف أن "الرسالة" قد تسللت دون وعى منك إلى وجدانك، وذلك بسبب عنصر بالغ الأهمية على الإطلاق – لكننا ننساه دائما – وهو الإجابة عن السؤال: ما الذى يجعلنى أهتم أصلا بما أراه على الشاشة؟ إنه ببساطة التعاطف أو التوحد مع الشخصية الرئيسية، إن الفيلم يجعلنى – دون تفكير – أرى العالم من خلال وجهة نظر هذه الشخصية، لذلك فإن التغير الدرامى الذى يحدث لها يحدث لى فى الوقت ذاته.
لا تستغرب أن يأتى هذا الحديث المستفيض عن الدراما فى سياق مشاهدة فيلم للأطفال مثل "نصفى البشع" أو غيره من عشرات الأفلام الأخرى، فهو فى حقيقته حديث ذو شجون يأسى لحال الدراما لدينا، حتى تلك التى يفترض أنها موجهة للجمهور من الكبار، لكنها تتعامل معهم باعتبارهم قطيعا يتلقى فى سلبية بلهاء كل ما يلقى إليه من أفلام ومسلسلات. لكن وجه الغرابة بالفعل فى فيلم "نصفى البشع" هو أن "البطل" فيه شخص شرير يفخر بأن يصف نفسه بأنه "أبشع الأشرار والأوغاد فى العالم"، فمن أين يأتى إذن عنصر التوحد أو التعاطف الذى تحدثنا عنه؟ دعنا إذن نبدأ من البداية. البداية لاذعة تماما: نحن فى صحراء الجيزة بمصر، بالقرب من الأهرام، وهناك سائحون يقتربون ومعهم طفل مشاغب، يصر على أن يتسلق الهرم الأكبر برغم منع الحراس له، إنه يجرى ويفلت منهم ليطير فى الهواء كأنه سوف يسقط فى هوة سحيقة، لكنه عندما يهبط إلى أسفل حيث يفترض أن الأحجار سوف تقطعه إربا يتلقاه سطح ناعم، لنكتشف الحقيقة المرعبة، لقد تمت سرقة الهرم ولا يوجد مكانه إلا بالون ضخم على هيئته، ومن المؤكد أن وراء الجريمة مجرم بالغ الخطورة قادر على هذا الفعل الخارق.
يحدث هذا المشهد الافتتاحى بدون كلمة حوار واحدة، وهى سمة سوف تسيطر على الفيلم كله الذى يعتمد على تجسيد الموقف الدرامى بالصورة، ولتتأمل المشهد التالى مباشرة والذى نرى فيه البطل: إنه رجل تجاوز منتصف عمره، يدعى جرو (صوت ستيف كاريل) ويمكنك أن ترى فى ملامحه وتصرفاته شخصية العجوز "النكدى" الكاره للبشر، إنه فى أول ظهور له يرى طفلا يبكى بسبب وقوع "الآيس كريم" منه، فيقترب للطفل متوددا ويخرج له بالونة صفيرة من جيبه، يصنع منها دمية حيوان بخفة يده، ويعطيها للطفل الذى يتوقف عن البكاء ويبدا فى الشعور بالسعادة، لكن جرو يخرج دبوسا يثقب به البالونة الصغيرة فتنفجر، ويترك الطفل ضاحكا لأنه جعله يشعر بمزيد من التعاسة، فهل هناك بلاغة أكثر من ذلك للتعبير عن كون هذا الرجل وغدا بشعا وشريرا؟ وفى لمسات متتالية سوف يضرب لك الفيلم أمثلة على ما يفعله الشرير فى حياتنا اليومية، إنه يستخدم مسدسا لتجميد الناس فى أماكنهم ليأخذ مكانهم فى مقدمة طابور طويل، وهو يقود سيارته الضخمة بدخانها الكثيف ويتعمد إخافة غيره من السائقين ليفسحوا له الطريق. (وهكذا يستخدم الفيلم لمحات شديدة البساطة ليجسد للمتفرج الطفل والكبير معا التصرفات "الشريرة" التى يجب ألا نقترفها حتى لا نصبح أشرارا!!).
يعيش هذا الرجل جرو سعيدا بما حققه فى مجال البشاعة، وهو قد صنع لنفسه كائنات آلية صفراء صغيرة تدعى "مينيون" تؤدى له كل ما يطلب، وكثيرا ما يقدمه الفيلم وهو يقف وسطها خطيبا مفوها يتحدث عن أنه قد حقق معهم وبهم لقب أبشع الأشرار فى العالم، وهم يحيونه بالهتاف الهستيرى بما يذكرك بالديماجوجية التى يمكن أن تراها فى أنظمة كثيرة من العالم. (أخشى أن أقول أن كل الساسة، حتى فى الدول التى تسمى نفسها ديموقراطية، يستخدمون هذه الوسائل ذاتها فى كل مكان، لتبقى "الجماهير" مجرد أقزام صغار متشابهين دورهم هو تنفيذ إرادة الزعيم!). مرة أخرى يتأكد عمق الشر فى جرو من خلال لمسات مرهفة: هناك ثلاث طفلات تطرقن باب داره فى محاولة منهن لبيع الكعك له،إنه ينكر نفسه، ويتحدث كأنه رسالة صوتية (!!) ويصرفهن فى غلظة، لكن تلك هى اللحظة التى يقدم لك فيها البناء الدرامى للفيلم شخصياته الجديدة التى سوف يعتمد عليها فى وجود الصراع، إنهن تلك الطفلات الشقيقات اللاتى تتفاوت ملامحهن النفسية تبعا لعمر كل واحدة منهن، الكبرى عند سن ما قبل المراهقة، وتدعى مارجو (صوت ميراندا كوسجروف)، وتتسم بالتعقل والحس العملى، والوسطى فى السادسة أو السابعة هى إديث (صوت دانا جاير)، مشاغبة جريئة وتتصرف بروح الصبيان، أما الصغيرة أجنيس (صوت إلزى فيشر) فهى البراءة النقية التى تكاد أن تجعل من ضعفها الرقيق قوة آسرة لأى إنسان.
كان من الممكن للفيلم أن يضع هنا طفلا واحدا أو طفلة واحدة، لكنه اختار عنصرا دراميا ناضجا آخر وهو "التنويع"، فالبنات الثلاث تنويعات متباينة على الطفولة، وفى كل منهن وجها مختلفا للبراءة، وهو الأمر الذى سوف يتأكد لك عندما سوف تعرف فورا أنهن يتيمات يقمن فى ملجأ للأطفال تديره المرأة غليظة الطباع الآنسة هاتى (صوت كريستين ويج)، التى يبدو واضحا أنها تكره الأطفال وتقوم باستغلالهم لبيع الكعك الذى تصنعه، وتضع فى مكتبها صندوقا يحمل اسم "صندوق العار" تهدد بأن تسجن فيه كل من يعصى أوامرها. لا غرابة إذن أن تصلى الفتيات الصغيرات كل ليلة قبل نومهن، ضارعات إلى الله أن يجد لهن من يتبناهن، ويخرجهن من تلك الحياة القاتمة المزرية. هنا سوف تسأل نفسك: ترى هل سوف تجدن تلك الأسرة العطوف؟ وسوف تأتيك الإجابة: إنه أكثر الأشخاص ابتعادا عن القيام بهذه الرسالة، جرو الشرير الذى يكره الأطفال، لكن ما الذى دفعه إلى ذلك؟
عاش جرو طوال حياته وأمامه هدف واحد، هو أن يصبح أكثر الناس شرا فى العالم، وسوف يقدم لك الفيلم تبريرا لذلك بما يحقق هدفا مزدوجا، لقد كان جرو فى طفولته يرى رواد الفضاء وهم يهبطون على القمر، فيحلم بأن يصنع صاروخا يذهب به إلى القمر، ويصارح بهذا الحلم أمه (صوت جولى أندروز، فى دور شديد الطرافة ويختلف عن صورتها النمطية المعروفة)، لكنها تتعامل مع أحلامه بروح اللامبالاة أحيانا والسخرية القاسية فى أكثر الأحيان. إننا نرى ذلك فى "فلاش باكات" خاطفة، يفسر بها الفيلم عدوانية جرو، لكنه يوصل أيضا رسالة للآباء مؤداها ببساطة ألا ينبغى قمع أحلام الأطفال المشروعة، وبذلك فإن الفيلم يميل إلى تفسير النزوع إلى ارتكاب الشر إلى البيئة والتربية، وينادى بأنه من الممكن علاج ذلك الجانب الشرير من خلال الوعى بتنمية قدرات أطفالنا، ومرة أخرى لا يملك المرء إلا أن يندهش من توجيه هذه الرسالة للأباء فى فيلم للأطفال! أما الجانب الآخر من هذا التفسير فهو أنه يجعلنا نتعاطف مع جرو بدلا من أن ننفر منه، ربما لأن بداخل معظم الكبار طفلا حالت الظروف بينه وبين تحقيق أحلامه.
لقد أصبح جرو إذن شريرا ولم يولد شريرا، ومن الممكن إصلاح هذا الشر فى نفسه، وذلك هو جوهر الصراع فى الفيلم. إن جوهر أزمة جرو الآن هو أنه أصبح عجوزا، وأن هناك جيلا جديدا من الأشرار يستخدم وسائل أكثر براعة، ومن هؤلاء ذلك الشرير الذى سرق الهرم الأكبر، إنه فيكتور (صوت جيسون سيجيل) الذى يقيم فى قلعة حصينة ينعم فيها بكل ما هو حديث فى مجال التكنولوحيا. يريد جرو أن يستعيد لقب "أكبر شرير فى العالم" بالتخطيط لعملية أكبر من سرقة الهرم، إنها سرقة القمر! ومن أجل ذلك يذهب إلى بنك الشر بحثا عن التمويل، وهنا أكثر سخريات الفيلم مرارة، فالبنك يقع داخل بنك عادى كبير، كأن تلك المؤسسات المالية المشروعة ظاهريا تمول أكثر الأعمال شرا، ناهيك عن أن الدخول إلى بنك الشر يتم عبر باب سرى سحرى يُفتح من قلب دورة المياه! أضف إلى ذلك أيضا أن مدير بنك الشر مستر بيركنز (صوت ويل أرنيت) ليس فى حقيقة الأمر سوى والد فيكتور سارق الهرم! سوف يشترط مدير البنك على جرو أن يحصل أولا على جهاز يصدر أشعة تقليص الأحجام، والذى يمكن به تقليص حجم القمر والعودة به إلى الأرض، وعندما يحاول جرو الحصول على الجهاز يختطفه منه فيكتور (سوف نفهم ضمنا أنها مؤامرة مشتركة مع مدير البنك ووالد فيكتور).
يقرر جرو أن يتبنى البنات الثلاثة لهدف واحد، مساعدته فى استعادة جهاز الإشعاع، بأن تذهبن لبيع الكعك إلى فيكتور، بما يتيح لهن دخول قلعته الحصينة، ويتيح لجرو أن يُدخل معهن آلاته الصغيرة التى يوجهها عن بعد لسرقة الجهاز. وبالطبع سوف يتاح للفيلم من خلال هذا المشهد ومشاهد أخرى (مثل اختطاف القمر) تحقيق التشويق والإبهار والإثارة، وبرغم ضرورة مثل هذه المشاهد فى الفيلم لجذب الأطفال، فإنها لا تصبح هدفا فى حد ذاته (مثلما يحدث عندنا فيما تسمى أفلام "الأكشن")، فالقلب الدرامى النابض للفيلم يظل هو ذلك التغير البطىء فى شخصية جرو، الذى بدأ باستغلال الأطفال لهدفه البشع ونيته على إعادتهن إلى الملجأ بعد تنفيذ المهمة، لكنه ينتهى وقد استعاد طفولته المفقودة من خلالهن، وهو الأمر الذى لا يحدث – كما قد نتصور وتعلمه لنا غلظة المعالجة فى أفلامنا – فى شكل انقلاب درامى، وإنما هو تغير بالغ الرهافة، يتأرجح بين نعم ولا، ليشق ببطء طريقا نحو العالم النفسى المغلق لجرو، الذى سوف يستيقظ فيه نصفه الطفل بدلا من نصفه الوغد، وسوف يجد فى ألعاب الأطفال المثيرة (مثل عربة التزحلق شديدة السرعة فى الملاهى) بديلا عن إثارة أفعاله الشريرة.
وإذا كنا نبحث عن بديل لأفلامنا "الشريرة" التى يبدو أن أشخاصا مثل جرو قد شاركوا فى صنعها، فربما نتعلم - حتى من أفلام الأطفال جيدة الصنع - كيف نصنع أفلاما ممتعة، مكتملة فى عناصرها الدرامية، وواعية بأنها دائما توصل رسالة ما للمتفرج، وهى رسالة سلبية بليدة وربما شريرة فى معظم أفلامنا الأخيرة، لأنها أفلام تخاطب نصفنا البشع، وتتجاهل قدرة المتفرج العربى على أن يكون فاعلا إيجابيا ومتحكما فى حياته ومصيره، لكن هل تريد السينما المصرية ومن يصنعونها ومن يقفون وراءهم أن نمتلك حقا هذه المصير؟ ولماذا تصر السينما المصرية مؤخرا على أن ترينا وجهها البشع؟

Wednesday, December 15, 2010

فيلم "المختبئ"


تجربة نادرة للبحث عن موقف سياسى فى ما بعد الحداثة
إما مجنون أو عبقرى! هذا هو الفنان السينمائى والمسرحى والتليفزيونى مايكل هانيكه، النمساوى الأصل والمقيم فى فرنسا. وبين وصف هذا الفنان بالعبقرية أواتهامه بالادعاء يحار فى أمره الكثيرون من النقاد، خاصة النقاد الأمريكيين، فأعماله تتسم فى ظاهرها بالبساطة الشديدة التى تصل إلى حد قيامه كسينمائى بكشف تقنياته للمتفرج، وفى أفلامه كثيرا ما تتحدث الشخصيات إلى الكاميرا والمتفرج مباشرة (هل تذكر وقوع بعض نقادنا فى وصف ذلك بالتغريب والتجريب فى فيلم يسرى نصر الله "جنينة الأسماك" كأن ذلك يحدث فى السينما لأول مرة؟). لكن أفلام هانيكه هى فى الوقت ذاته شديدة التعقيد تحت السطح، وإذا كان كاتب هذه السطور قد أشار فى مقال سابق إلى الجانب السلبى فى "ما بعد الحداثة" عند كوينتين تاراتينو، الذى يعجن ويخبز أفلامه من فتات أفلام سابقة، دون أن تكون له رؤية أصيلة للعالم، كما أنه يريد من المتفرج أن يكون متلقيا سلبيا يهرب من واقعه إلى عالم سينمائى منبت الصلة بأى واقع، فإننى أعترف هنا أننى رأيت – ربما للمرة الأولى – جانبا إيجابيا بحق فى "ما بعد حداثة" مايكل هانيكه، خاصة فى فيلمه "المختبئ" (2005).
فلأبدأ بالإشارة إلى أننى كنت أميل إلى أن أترجم اسم الفيلم إلى "المُخَبَّأ"، لولا قلقى من أن تختلط هذه الكلمة عند طباعتها مع "المَخْبَأ"، فالأصل فى "المُخَبَّأ" هو الشىء اللذى يقوم صاحبه بإخفائه، لا أن يختفى هذا الشىء بنفسه، والفيلم يتحدث عن كثير من الأشياء التى نخفيها كل يوم فى حياتنا، أشياء تبدو صغيرة وتافهة لكنها تصنع مصائرنا ومصائر الآخرين، كما أنها مرتبطة بسياق أكثر شمولا، فكأن الذاتى لا ينفصل عن الموضوعى، والفردى جزء لا يتجزأ من التاريخى، وثقافة شخص ما فى مجتمع هى انعكاس لثقافة عامة سائدة، حتى لو كان المثقفون يزعمون أنهم من الصفوة التى لا تنساق مع القطيع. يكشف هانيكه عن ذلك فى فيلمه "المختبئ"، بموضوع وأسلوب شديدى البساطة والغرابة، أراهما – فى جانب منهما – امتدادا لرؤية جان لوك جودار عن السينما وعلاقتها بالمتلقى، وإن كنت أرى أيضا أن أفلام هانيكه أكثر جمالا ونضجا وتعقيدا وتأثيرا.
سوف أقف معك عند اللقطة الأولى من الفيلم والتى تنزل العناوين متناهية الصغر فى بدايتها، إن اللقطة تمتد ثلاث دقائق كاملة، الكاميرا ثابتة ساكنة فى مكان ما لتصور شارعا جانبيا هادئا، وهناك منزل فى المواجهة، وعلى شريط الصوت (الذى يخلو فى الفيلم كله من أى موسيقى تصويرية) زقزقات عصافير ما بعد الظهيرة، أو صوت مرور شخص عابر، وفى خلفية الكادر تخرج امرأة من باب المنزل، ثم لا شىء يحدث ... فجأة تتوقف الحركة فى الكادر، بل تعود بالحركة السريعة إلى الخلف، وهنا تفاجأ بأنك لا تشاهد "الفيلم"، وإنما شريط فيديو داخل الفيلم! إنه شريط وجده الزوجان جورج (دانييل أوتويل) وآن (جولييت بينوش) عند عتبة منزلهما، وهما يشاهدانه الآن ونحن نشاهده معهما، وليس فى الشريط شىء ذو بال، غير أنه يقول لهما – ولنا – أنهما مراقبان بواسطة شخص ما، لكن من هو؟ ولماذا؟ لا إجابة! وهكذا يضعك الفيلم منذ اللحظة الأولى فى تشويق مزدوج، الجانب الأول فيه هو الإجابة عن هذه الأسئلة، أما الجانب الثانى والأهم فهو أنك لن تدرى طوال الفيلم إذا ما كنت تشاهد الفيلم، أم شريطا داخل الفيلم، وتظل حائرا حول إذا ما كنت ترى الواقع أم صورته.
إن ذلك هو الجانب "ما بعد الحداثى" فى فيلم "المختبئ"، فى تلك العلاقة الغامضة ذات الدلالة والأبعاد المتعددة بين العمل الفنى (الفيلم) من جانب، والمتلقى من جانب آخر. إنك تسأل نفسك وأنت تشاهد الفيلم: هل ينبغى علىّ أن أتفرج على الفيلم بوصفه واقعا، أم أنه صورة الواقع، خاصة إذا احتوى الفيلم بداخله على شرائط مصورة ليست هى الواقع الفيلمى بل صورته؟! وسوف تتوالى هذه الشرائط المجهولة على جورج وآن (بالمناسبة بطل وبطلة أفلام هانيكه يحملان دائما هذين الاسمين)، وفى كل مرة تبدأ اللقطة المصورة كأنها واقع موضوعى لتكتشف بعد لحظة أنها شريط من تلك الشرائط، لذلك فإن عين وعقل المتفرج يصبحان فى حالة يقظة دائمة طوال الفيلم، إن المتفرج يظل يفحص ما يراه بدقة لعله يرى "المُخَبَّأ" فيه، لذلك أصارحك بأنك ربما سوف تحتاج إلى مشاهدة الفيلم مرتين لكى "ترى" ما فات على عينك رؤيته.
أعرف أنك تريد الآن "حكاية" الفيلم، وكما سبق القول فإن الحكايات فى أفلام هانيكه بسيطة ومعقدة معا. جورج وآن زوجان من الشريحة المثقفة من الطبقة الوسطى الفرنسية، تُشكِّل الكتب جدران منزلهما، والزوج يعمل مقدم برنامج تليفزيونى شهير يناقش الأعمال الأدبية، والزوجة تعمل فى دار للنشر، وليس لهما سوى ابن يبلغ الثانية عشرة من عمره هو بييرو (ليستر ماكيدوفسكى)، الذى يبدو متمردا، والسبب الظاهر فى ذلك – كما يتصور والداه – هو معاناة فترة البللوغ. تمضى الحياة هادئة بالأسرة، التى تجمعها صداقة ببعض الشخصيات التى تنتمى لنفس الطبقة، وفى مشهد يذكرك بسيريالية لوى بونويل فى "سحر البرجوازية الخفى" نرى الزوجين والأصدقاء يتشاركون الطعام، وإذا كنت تتوقع أن الحديث بينهم سوف يكون جادا، فإن الحقيقة تأتى على العكس تماما، وسوف أتركك لتتورط معهم فى "نكتة" عبثية لا تشير إلا إلى الخواء الذى يسيطر على هذه الحياة، التى تبدو من الخارج براقة لامعة.
عندما يصل الشريط الأول للزوجين تثور التساؤلات، التى تزداد حيرة مع وصول شريط ثان مصحوب برسم طفولى لوجه يبصق دما، وعندما يشاهد جورج هذا الشريط تظهر على الشاشة لقطة خاطفة لطفل ينظر من خلف زجاج نافذة والدم على وجهه. إنها لقطة من لاوعى جورج، أو ذاكرته التى "أخفى" بها صورا وأحداثا تصورها قد ماتت فإذا بها حية تتبدى أمام عينيه وأعيننا. إن التوتر الذى يسرى فى نفس الزوج، الذى نعرف الآن أنه يخفى شيئا له علاقة بذلك الرسم الطفولى، هذا التوتر سوف ينفجر فى مشهد يبدو عابرا لكن له دلالته، خاصة مع المشاهدة الثانية للفيلم، فالزوج يحتك براكب دراجة زنجى، فيفجر جورج غضبه فيه كما لو كان هذا الزنجى العابر هو "الفاعل الحقيقى" وراء الشرائط والرسوم، وهو الغضب الذى يعكس أنه حتى فى أوساط المثقفين تجد ميلا للنظر إلى "الآخرين" بشكل نمطى سلبى، فلأن الشاب العابر زنجى فإن من الممكن أن يكون "المتهم"، وهكذا تنفجر البارانويا العدوانية فى أعماق جورج، الذى يتحدث عن خطر "الأغراب" فى "مدينتنا"، وأن من الممكن أن يحدث عمل إرهابى فى كل لحظة ... وأرجو أن تلاحظ أنه حين ظهر الفيلم فى عام 2005 كانت ما يزال ماثلا فى الأذهان تمرد المضطهدين من أبناء الجيلين الثانى والثالث من المهاجرين إلى فرنسا، الذين يقيمون فى أحياء عشوائية، محرومين من أبسط الاحتياجات الإنسانية.
يسيطر الخوف على جورج، الذى يبدو أمامنا حتى هذه اللحظة بريئا وضحية لإرهاب وابتزاز غامضين. لكن شريطا ثالثا يصل إليه، هذه المرة تم تصويره من داخل سيارة تمضى تحت المطر حتى تقف أمام البيت القديم الذى تربى فيه جورج صغيرا. إذن فمن يرسل الشرائط يعلم الكثير عن جورج، وهو يريد أن يشير إلى أمر ما. يعود جورج إلى منزل الطفولة، حيث يرى أمه العجوز (الممثلة الهائلة آنى جيراردو، التى كانت امرأة الأحلام لمن ينتمون إلى جيلى!)، وفى مشهد بالغ الهدوء على السطح، ندرك من الحوار مع الأم المريضة التى تلازم فراشها أن هناك أمرا يتعلق بصبى يدعى مجيد، يقول جورج أنه يحلم به، فنعرف الآن أنه ذلك الصبى ذو الفم الملوث بالدم. فى نفس الليلة، وفى منزل الطفولة الريفى، يستكمل جورج الحلم أثناء نومه: الصبى مجيد يذبح ديكا ينتفض أمامنا وهو يلفظ أنفاسه، بينما يقف صبى آخر (إنه جورج طفلا) وقد استولى عليه الفزع.
هذا الواقع المتوتر الغامض الذى يعيشه جورج، والكابوس الدموى الذى يلاحقه، يجعلاننا نتعاطف مع جورج فى المحنة التى يتعرض لها من "عدو" يتربص به، هذا العدو الذى سوف نزداد منه اقترابا عندما يصل إلى جورج شريط يسجل طريقة الوصول إلى مبنى يضم شققا صغيرة لأبناء الطبقة الفقيرة، فيقرر جورج أن يجعل هذا الشريط دليله، ويمضى إلى المبنى، ويطرق باب الشقة التى ظهر رقمها فى الشريط، فيفتح الباب رجل كهل (موريس بينيشوه) يرحب بجورج. إنه يعرف جورج، فلابد أنه "الفاعل"، لكن جورج شخصية مشهورة لأنه يظهر على شاشة التليفزيون، فلا غرابة أن يعرفه الرجل، لكن لماذا يقول أنه انتظره طويلا؟! هنا تتضح المفارقة: إنه ذاته مجيد! وهو ينكر تماما صلته بالشرائط والرسوم، لكن جورج يصر – ولديه أسبابه "المختبئة" – أن لدى مجيد أسبابه للانتقام ... ولكن الانتقام من ماذا؟!
فى مشهد اعتراف مؤلم من جورج، يفضى به إلى الزوجة آن، يحكى ما كان يخفيه، وعذره أنه أخفاه لأنه يعود إلى تصرفات الطفولة الطائشة. وهنا يتداخل التاريخى مع الشخصى: فى أكتوبر عام 1961 دعت جبهة التحرير الجزائرية كل الجزائريين المقيمين فى فرنسا للتظاهر فى باريس، وهى المظاهرة الحاشدة التى خرجت فى 17 أكتوبر، وقامت فيها قوات الأمن الفرنسية (بقيادة رجل كان من أعوان النازية) بتفريق المتظاهرين على نحو وحشى، وإغراق مائتين منهم فى نهر السين، كان من بينهم والدا مجيد اللذان كانا يعملان لدى أسرة الطفل جورج. وعندما تقرر الأسرة الفرنسية تبنى الطفل الجزائرى مجيد، تثور غيرة الطفل جورج، فيحيك الأكاذيب التى تؤدى إلى تخلى الأسرة عن مجيد وإيداعه الملجأ. هناك إذن ظلم عام تعرض له مجيد وأمثاله من الملايين، وظلم خاص انتهى به إلى الفقر، بل إن هذا الظلم يمتد من الماضى إلى الحاضر، حين يصبح الكهل مجيد متهما بتهديد جورج وأسرته.
لن أحكى لك كبف انتهت تلك الحبكة، فسوف أساهم بدورى فى "إخفاء" بعض خيوطها، لعلك تبحث عن الفيلم وتستمع بمشاهدته كاستمتاعى به، لكننى سوف أتوقف بك عند بعض التفاصيل "المختبئة" فى ثنايا الفيلم، ويريدك هانيكه أن تبحث عنها، وتدرك دلالتها بنفسك. أرجو مثلا أن تلاحظ فى الخلفية فى العديد من المشاهد، وعلى شاشة التليفزيون المفتوح دائما فى منزل الأسرة، نرى أحيانا مشاهد من نشرات الأخبار، للمذابح فى العراق وفلسطين، ولا يكاد جورج أن يلتفت إليها، فكأن الفيلم يقول لك: إن الجريمة مستمرة، والتواطؤ بالسكوت عليها ما يزال قائما، وإذا كانت هناك مأساة حدثت وما تزال تحدث لمجيد، فإنها تحدث أيضا لعشرات ومئات الألوف من الضحايا، وما تزال الشريحة "المثقفة" منغلقة على نفسها، ولا ترى إلا ذاتها. بل إن هناك أسرارا مختبئة أخرى فى الأسرة يلمح إليها الفيلم، فى وجود شك لدى الابن بييرو أن أمه تخون أباه مع صديق للعائلة. وأخيرا هناك السر فى المشهد الأخير، لن أبوح لك به أبدا: إنها لقطة تستمر ثلاث دقائق كاملة، وتنزل معها تيترات النهاية، وتصور بكاميرا ثابتة لحظات خروج الطلبة من مدرسة الابن بييرو ... لا شىء يحدث على السطح، لكن تأمل – وسط هذا الزحام – ما يحدث فى الجانب الأيسر من الكادر، فربما، أقول ربما، يحمل لك تفسيرا لما أخفاه عنك الفيلم.
اعتمد هانيكه على اللقطات الطويلة زمنيا، أغلبها من ثلاث دقائق، وإحداها تمتد إلى ست دقائق، ومعظمها من كاميرا ثابتة أو كاميرا محمولة لا تشعر بوجودها أبدا (على عكس اللقطات المهتزة الى أصبحت "موضة" فى أفلامنا حتى لو لم يكن لها أى ضرورة)، إن هذا يعنى أيضا اعتماد هانيكه على الميزانسين شديد الدقة للكاميرا والممثلين، الذين لن تدرى – بسبب التلقائية الشديدة – إن كانت براعة أدائهم تعود إلى قدرتهم على الارتجال، أم إلى البروفات المتقنة التى لم تترك شيئا للصدفة. من جانب آخر، فإن زاوية التصوير وحجم اللقطة تكررا – طبق الأصل – فى العديد من المشاهد، لتبحث أنت كمتفرج عن الفرق فى المحتوى والمضمون بين هذه اللقطة وتلك، أو تتساءل إذا ما كانت لقطة "واقعية" أم أنها "نسخة" مصورة من الواقع. وبذلك فإن هانيكه يجعلك شريكا فى الحدث، ومتواطئا فى الفعل، لأنك "تتفرج" فقط، بينما يجب عليك أن تأخذ موقفا، بأن تكتشف وتكشف ما هو "مُخَبَّأ" فى كل الأكاذيب التى نعيشها!

Friday, December 10, 2010

فيلم "الشبكة الاجتماعية"


كثير من التواصل الإلكترونى، قليل من التواصل الإنسانى


للمخرج الأمريكى ديفيد فينشر بصمة خاصة على معظم أفلامه، تنبع من رؤية يندر أن تجدها بين المخرجين الأمريكيين، فهو ينظر إلى الثقافة الأمريكية (بالمعنى الشامل لكلمة "ثقافة") نظرة التشكك والنقد وربما المرارة أيضا. إنك تلحظ هذا بقوة فى فيلمه "نادى القتال" (1999)، حيث البطل الذى يعيش حياة أمريكية نموذجية، فمنزله يخرج على الشاشة أمام أعيننا من صفحات مجلات الديكور، مزودا حتى بالمقاييس والأرقام، لكنه يشعر بحالة من الخواء الروحى والعاطفى، ربما لأنه يعيش دائما فى خطر أن يفقد كل تلك الرفاهية فى لحظة واحدة، فتلك هى إحدى "مزايا" ومخاطر الاقتصاد "الحر". يندفع هذا البطل شيئا فشيئا إلى خلق "قرين" له، فى حالة من ازدواجية الشخصية (بالمعنى الفنى وبعيدا عن المصطلح العلمى)، وهذا القرين يعوض إحساسه بعدم الأمان وكون إنسانا "عاديا" فى مجتمع غير عادى، أو قل كونه سويا فى مجتمع غير سوى، لذلك ينشئ القرين ناديا يتصارع فيه الأعضاء كأنهم وحوش، تعبيرا مجسدا عن الصراع الاجتماعى الذى يتخفى خلف بريق كلمات مثل الديموقراطية والليبرالية، بل يذهب الأمر بقرين البطل إلى أن يسرق "الدهن" الذى يتخلص منه الأثرياء فى عمليات التجميل، ليصنع منه متفجرات يدمر بها ناطحات سحابهم!!
كانت هذه الفكرة التى تقول أن المجتمع الأمريكى يدمر نفسه من داخله سببا فى حدث غامض، اختفى أثره من على الإنترنيت لاحقا، إذ استدعت المخابرات المركزية الأمريكية ديفيد فينشر بعد أحداث الحادى عشر من سبتمبر، لتسأله عن رأيه فيما إذا كانت الأحداث ناتجة عن "إرهاب داخلى" يشبه ما حدث فى ولاية أوكلاهوما منذ سنوات! وفى الجانب الفنى، فإن أفلام فينشر تؤسس – من وجهة نظر كاتب هذه السطور – نوعا جديدا من النمط الفيلمى المعروف باسم "فيلم نوار"، حيث يقيم بطل يعمل فى الغالب مخبرا خاصا، لكنه كلما مضى فى التحقيق فى إحدى الجرائم تتكشف له الحقيقة المفزعة: إن العالم والمجتمع من حوله أقسى مما كان يتصور، لذلك تغرق هذه الأفلام فى الظلال تجسيدا لهذه الظلمة الروحية. وإنك إن تأملت أفلام فينشر لوجدتها بدورها تغرق فى الظلام أيضا، لكن دون ذلك العالم الروائى المصطنع (تأمل على سبيل المثال فيلمه "زودياك"- 2007)، فالظلام يخيم على الواقع الذى يعيش فيه المجتمع الأمريكى، تماما كما أن معظم مشاهد فيلمه الأخير "الشبكة الاجتماعية" هى مشاهد داخلية فى الليل الأمريكى، الذى يحتشد بصراع تهون إلى جانبه صراعات الوحوش فى الغابة.
على السطح من فيلم "الشبكة الاجتماعية" حكاية عن إنشاء موقع الإنترنيت الشهير "فيس بوك"، الذى يتيح لـ"أعضائه" التواصل، وإن شئت الدقة قل الاتصال وليس التواصل، كما أن كلمة الأعضاء تشير الآن إلى ما يزيد عن نصف مليار من البشر، لكننا سوف نتوقف عند ذلك الأمر لاحقا. الحكاية فى سطور تدور عن مارك زوكيربيرج (جيسى آيزينبيرج)، الشاب فى جامعة هارفارد، احتل العالم الافتراضى للكومبيوتر كل ذهنه، حتى أنه يخفق فى العالم الحقيقى فى أن يقيم علاقة ناضجة. إنه ينفصل فى افتتاحية الفيلم عن صديقته إيريكا (رونى مارا) فى مشهد يحمل سخرية مريرة، فهو يبدو عاجزا تماما عن أن يجد موضوعا مشتركا للحديث بينهما، بل إنه لا يعبأ بأن يهينها بشكل غير واعٍ أو مكترث بالنتائج. وحين تتركه وحيدا يعود إلى مدونته الإلكترونية وقد قرر أن يشهر بها، وفى الوقت ذاته تواتيه فكرة إنشاء موقع خاص بطلبة هارفارد، يتيح فيه للطلبة التصويت على الطالبة الأكثر إثارة، ولأنه يحتاج إلى الصور ليضعها على الموقع بسرقتها من موقع الجامعة، فإنه يستعين بصديقه وزميل غرفته إدواردو سافيرين (أندرو جارفيلد) بخبرته فى عالم لوجاريتمات الكومبيوتر.
من هذه النقطة سوف تبدأ رحلة الفتيين إلى الهوس بإنشاء موقع يظل يتسع شيئا فشيئا، يمتد من النوادى ذات العلاقة بالجامعة، حتى يصل إلى أن يكون موقعا مفتوحا للعالم كله، ويدر ربحا هائلا من خلال الإعلانات التى تعتمد على تزايد عدد زواره. سوف تتقاطع هذه الرحلة مع محاولات شبان آخرين الدخول فى "اللعبة"، التى تجمع بين المقامرة و"البيزينس" معا، بما يذكرك على الفور بفيلم تليفزيونى يحمل عنوان "فى وادى السليكون"، ويحكى عن قصة صعود بيل جيتس، لتدرك أنها فى الحقيقة (مثل أى "بيزينيس" أمريكى) ليست أبدا ناتجة عن عبقرية مزعومة، بل هى سلسلة متصلة من الخداع والسرقة والدعاوى القانونية بين مجموعة من اللصوص!!
هذا هو الأمر مع "فيس بوك"، حيث نرى التوأمين كاميرون وتايلر فينكلفوس (قام بدورهما الممثل آرمى هامر فى لقطات كومبيوترية لا تشعر لحظة واحدة باصطناعها فى الصورة أو الصوت)، اللذين يعرضان على مارك توسيع المشروع وتمويله، وهما بدورهما من طلبة هارفارد القدامى ومن عائلة صاحبة مال ونفوذ، ثم نرى شون باركر (جوستين تيمبرليك) صاحب "نابستر"، أشهر موقع فى تحميل المواد البصرية والسمعية المقرصنة من على الإنترنيت، وهو يسحب مارك إلى أرضه، بينما يبعده عن صديقه القديم إدواردو. وهنا يدخل الفيلم إلى "شبكة" بالمعنى الحرفى للكلمة، وكأن شكله يعبر عن مضمونه، ففى الشبكة الإلكترونية (الإنترنيت) تجد روابط (لينكات) ترسل بك إحداهما إلى الأخرى فى متاهة قد لا تنتهى، أو تعيدك من حيث لا تدرى إلى نقطة البداية، وذلك هو البناء الدرامى نفسه الذى يمضى فيه الفيلم: فهناك تحقيقان مع مارك، الأول بسبب دعوى مرفوعة من الأخوين وينكلفوس، والآخر من إدواردو، وإذا كان الأول يدور حول صراع مالى، فإن الآخر لا يخلو من مرارة فقدان الصداقة بسبب السعى إلى "النجاح"، وكلا التحقيقين يمضيان فى تقاطع طوال الفيلم، كل نقطة تؤدى إلى الأخرى فى شبكة متداخلة، تجعلك تسأل أحيانا: من على حق ومن على صواب؟ وإن كان الأرجح أن كل ذلك الصراع يدور حول "نجاح" عبثى لأنه يعتمد على التقاليد الأمريكية، التى تجسد بأقوى تعبير المثل المصرى: "اللى تكسبه إلعب به"!! وبعد تحقيق ذلك النجاح خواء كامل، استغراق فى الجنس والمخدرات ومراقبة الحسابات فى البنوك، أما السعادة بمعناها الأكثر بساطة فلتذهب إلى الجحيم!!
ذلك هو الجزء المظلم من اللاوعى الجمعى الأمريكى، يقبع فى الظلال الثقافية التى تنسى أو تتناسى الفرق بين الأبيض والأسود، والخير والشر، تماما كما تتجسد على الشاشة فى تلك الظلمة، لا فرق فى ذلك بين غرف الطلبة فى الجامعة أو النوادى الليلية أو الشوارع الممطرة أو البيوت المغلقة على أصحابها. وتلك هى رؤية ديفيد فينشر للمجتمع الأمريكى، التى تطرح سؤالا صارخا حول معنى النجاح ومعاييره وشروط تحقيقه، إنه مجتمع يزعم أنه يحقق "الحرية" لأفراده، بينما هو فى الحقيقة يربطهم بأغلال قوية تجعلهم يدورون بلا نهاية فى الساقية، اكسب مالا واشتر منه سلعا كمالية أو حتى ترفيهية قصيرة العمر، وإن لم تملك الآن المال فالمصارف مفتوحة لكى تقترض، وفى الحالتين (وللأسف انتقلت هذه العدوى للكثير من بلادنا) فأنت عبد لاقتصاد يعتمد على دورة رأس المال التى لا تنتهى. ومن بين هؤلاء "العبيد" قد تواتى أحدهم الرغبة فى المقامرة، بكل ما فى المقامرة من معنى، لعله يصبح "غير عادى"، ثريا، مشهورا، وليس مهما الطريق لكى يصبح ذلك كله، فذلك ضمان آخر لأن تمضى دورة رأس المال دورتها العبثية، التى يريدون لنا أن نكون جزءا منها باسم الاقتصاد الحر تارة، أو النظام العالمى الجديد تارة أخرى، لكنها فى الحقيقة تقسم البشر إلى من يملكون ومن لا يملكون، وإن كنت فى شك من ذلك تأمل ما حدث فى المجتمع المصرى خلال السنوات الثلاثين الأخيرة، تحت عنوان "الإصلاح الاقتصادى، وأرجو أن يعود من يهمه الأمر إلى مقالات الدكتور فؤاد مرسى فى هذا الشأن منذ بداية الثمانينيات.
يدرك المخرج "الأمريكى" ديفيد فينشر هذه الرؤية عن مجتمعه ونحن الأكثر حاجة إلى إدراكها، إذ يترقى وزراؤنا فى مناصب فى صندوق النقد الدولى أو ما شئت من مؤسسات مالية "عالمية" لأنهم ينفذون هذه السياسة الأمريكية فى إفقار العالم ماديا وروحيا، بينما تثرى مجموعة من "المغامرين" (ولهم صفة أخرى من المؤكد أن القارئ يعرفها) على حساب الأغلبية من البشر، وسلِّم لى على الليبرالية وحرية الاقتصاد والسوق الحر!! إن تلك العبثية يبرزها فينشر فى أن الشخص الذى ينشئ "الشبكة الاجتماعية" فاشل تماما فى أن يخلق علاقة إنسانية واحدة سوية، إنه يحقق "النجاح" لأنه خلق عالما افتراضيا يشبه تماما الاقتصاد الافتراضى الذى تمثله البورصة وأشباهها (وأرجو بصدق أن يشرح لى أى متخصص ما هى تلك "البورصة" التى يراها شخصى المتواضع طاولة قمار كبرى لا تعكس أى اقتصاد أم إنتاج حقيقى، ومع ذلك تصبح جزءا من اقتصادنا وحياتنا). إنها العبثية التى دفعت بكلمات مخترعة إلى اللغة، إن أندرو يبتهج عندما تقول له صديقته: "فيس بوك مى" (أى راسلنى على الفيس بوك، فقد أصبح المصطلح من أفعال اللغة)، تماما كما تهجره صديقة أخرى لأنه لم يضفها بعد إلى قائمة أصدقائه على صفحته فى الفيس بوك!
قد تبدو هذه السطور معادية للتقدم التكنولوجى، بينما أنا أكتب مقالتى الآن على الكومبيوتر، لكنها فى الحقيقة محاولة للبحث عن المعنى فى أى تقدم تقنى، إنه وسيلة، وليس غاية، وهو أداة تساعدك على أن تعيش حياتك الحقيقة، لا أن تستغنى عنها لتعيش حياة افتراضية. وبقدر ما أن هذا التقدم يسمح بالإبداع، فإنه يتيح الابتذال، والنسخ، والمسخ، والتنفيس المرضى، وانقطاع الصلة الحميمة بين البشر. وإن كان هناك متسع وسط هذه القتامة لنكتة طريفة، فقد تذكرت الآن الرجل الأمريكى الذى وجد شابا فى جزر هاواى، مسترخيا على البحر، فوجه الرجل إليه اللوم لأنه لا يعمل، سأله الشاب: لماذا؟ قال الأمريكى: لتكسب المال، ويتسع ثراؤك، وتكون لديك شركات ضخمة، فيها مئات من الموظفين يعملون بدلا منك، لكى تستريح من بعد ذلك كله، فقال الشاب: ولكنى مستريح فعلا الآن!!
مرة أخرى إذا كان هناك فى أفلام فينشر من تشاؤم حول ذلك الصراع الاقتصادى والاجتماعى على الطريقة الأمريكية، فالهدف هو إعادة النظر فى المسلمات، والبحث عن المعنى من جديد، والعثور على الحياة الحقيقية. فى المشهد الأخير من الفيلم، يجلس صانع الفيس بوك أمام الكومبيوتر فى الظلام، طالبا بضغطة زر من فتاته القديمة أن تقبله صديقا على صفحتها، ويظل يضغط على الزر بين لحظة وأخرى لكى يجدد الصفحة، دون جدوى ... وربما سوف يظل ينتظر إلى أن تنهى حياته الافتراضية والحقيقية معا!!

Friday, November 26, 2010

جان لوك جودار

عن السينما المصرية، والكوابيس، والأحلام

من جديد تراجع عدد الأفلام المصرية فى هذا العام 2010 إلى أقل من ثلاثين فيلما، بينما كان قد ارتفع خلال السنوات الخمس الماضية إلى ما بين أربعين وخمسين فيلما، وبرغم أن ذلك الارتفاع ظل أدنى كثيرا مما كانت السينما المصرية تحققه فى نهاية الثمانينيات، فقد ظل أعلى مما هبطنا إليه عند نهاية التسعينيات (15 فيلما فى عام 1999!!)، لكن ما تزال هذه الأرقام تعكس الحالة المرضية التى تعيشها السينما المصرية منذ فترة طويلة، على مستوى الكم والكيف معا.
ومع ذلك فإننا ننام ملء أجفاننا، نستيقظ أحيانا ونفتح عينا ونتفوه بكلمة، ثم نتثاءب ونعود للنوم ... هذا هو حالنا ليس فقط فى السياسة ولكن فى كافة النشاطات "الإنسانية"، ومنها السينما، التى قد يتصور البعض أحيانا أنها نشاط ترفيهى يمكن الاستغناء عنه إذا كانت الظروف لا تسمح بالرفاهية، وأنا أتفق معهم تماما إذا كنا نطبق بالفعل مفهوم "الأولويات" فى حياتنا، و"على قد لحافك مد رجليك"، لكن السفه الذى نشهده مثلا فى الإنفاق المجنون على التمثيليات التليفزيونية التافهة يجعلنا نسأل: ألم تكن السينما أولى ببعض من هذه الأموال التى تضيع فى الهواء؟
أعلم أن لكل ما سوف أطرحه الآن من أسئلة ردا جاهزا، هو فى الحقيقة اقرب إلى التبرير منه إلى التفسير. خذ مثلا هذا المثال الأخير: العلاقة بين السينما والتليفزيون، فالبعض سوف يقول لك: "واحنا مالنا؟ أصحاب وكالات الإعلان هم الذين يمولون هذه المسلسلات، وهم أحرار فى فلوسهم، فهل تريدنا أن نعود للعصر "الشمولى" ونفرض عليهم ما لا يريدون؟"، وهنا يثور على الفور الموضوع الشائك بين تلك الحرية المنفلتة باسم اقتصاد السوق، وحق "الدولة" (أى دولة) فى أن تضع الضوابط التى تنظم تعارض المصالح الذى يقع فى هذا المجال بين من يصنعون الفن ومن يستهلكونه، ودعنى ياقارئى العزيز أذكرك أن الجهات المسئولة عن الإعلام في الدول المتقدمة تضع ضوابط في هذا الشأن، فهي تحدد حدا أقصى للفترة الإعلانية كل ساعة، كما تلزم القنوات التليفزيونية بفترات محددة للإعلانات سواء فى ساعات الليل أو النهار، والأهم هو التشجيع على إيجاد مصادر أخرى للتمويل تستطيع أن تقلل من اعتماد هذه المحطات على الإعلانات، بل يذهب الأمر إلى أن يكون أحد أهم مصادر تمويل القنوات التليفزيونية هو الاشتراك فى إنتاج الأفلام السينمائية، وأرجو من يهمه الأمر أن يراجع العناوين الأخيرة فى أى فيلم سينمائى أوروبى أو لاتينى (أو حتى إسرائيلى)، ويعد كم محطة تليفزيونية اشتركت فى إنتاجه.
أريد فى الحقيقة من مقالى هذا أن أشارك بجهد متواضع فى فض العديد من الاشتباكات حول مسألة السينما المصرية وما تعانيه، وأنا لا أزعم مطلقا أننى "جبت الديب من ديله"، بل على العكس أؤكد دائما أنه لا يجب علينا أن نخترع العجلة من جديد، وأن نتعلم من كل تجارب الآخرين، الأصدقاء منهم والأعداء، نتعلم منهم كيف ننجح، وكيف نحقق أهدافنا، وإن كان لزاما علىّ أن أعترف أيضا أن التفاؤل ليس كبيرا فى تحقيق أية أهداف فى المستقبل القريب، فقد وصلنا فى كل مجالات حياتنا إلى حالة من الشيخوخة الحقيقية والمعنوية، حالة من الاستسلام القدرى لما يصنعه الآخرون فينا وبنا، ولأن العزيمة تنقصنا – مع افتخارنا بفيلم مصرى قديم يدعى "العزيمة"! – فإننى أوجه كلماتى هذه إلى جيل جديد، لعل الخطوط المشتبكة، والقضايا الملتبسة، تنحل عقدتها، ليملك هذا الجيل يقينا مفقودا فلا يردد فى النهاية مقولة: "وأنا مالى؟ ياعم مفيش فايدة".
1- هل السينما ضرورة أم رفاهية؟ نتصور أحيانا أن السينما مجرد أفلام تُعرض، وجمهور يتفرج، وما دام ذلك يتحقق فى عشرات القنوات الفضائية فأين المشكلة إذن؟ أرجو هنا أن نعود لما كتبه رائد علم وسائط الاتصال مارشال ماكلوهان منذ أكثر من نصف قرن عن الفروق الجوهرية بين السينما والتتليفزيون، خاصة على مستوى التلقى، لقد أسمى التليفزيون وسيطا باردا بينما السينما وسيط ساخن، وبكلمات أخرى فإن السينما (المعروضة فى دار العرض) تخلق حالة من الكثافة الشعورية والذهنية (على مستوى الوعى واللاوعى على السواء) لا تتحقق فى التليفزيون، الذى نراه بشكل متقطع ودون تركيز كبير، وفى الأغلب ونحن فى حالة وحدة يزيدها التليفزيون شعورا بالعزلة واللامبالاة، على عكس السينما التى تخلق حالة من النشوة، سواء فى الأفلام الكوميدية أو المأساوية. إن أى فن فى الحقيقة "ظاهرة اجتماعية"، وعندما تغيب الديمموقراطية مثلا يختفى المسرح الحقيقى، وعندما يسود مبدأ "فلينجُ كل منكم بنفسه من الطوفان" يكون التليفزيون، وليس السينما، هو وسيلة الترفيه الوحيدة والسائدة.
2- هل يمكن للدولة أن تتدخل فى تنظيم علاقة السينما بالمتفرج؟ ليست الإجابة هى أن من "الممكن"، بل من "الواجب". ودعنى أتوقف معك هنا قليلا ياعزيزى القارئ وأسألك سؤالا قد يبدو ساذجا: ما هى الدولة؟ إنها ذلك الكيان الذى نصنعه أنا وأنت (إنها ليست مُنزَّلة من السماء كما قد توحى لك السلطة الديكتاتورية الدنيوية أو الدينية)، كيان نصنعه لكى يقوم بالنيابة عنا بما لا نستطيع أداؤه بمفردنا، سواء فى القضاء، أو التشريع، أو تصريف أمور الحياة الجماعية. بل أؤكد لك أن "عسكرى المرور" هو أحد مظاهر الدولة، أى دولة، فإذا قبل الرشوة كانت الدولة فاسدة، وإذا فرض نفسه بلطجيا يجمع الإتاوات كانت الدولة نظام جباية لا نظام حماية، وإذا اختفى كان هذا يعنى أنه لا وجود للدولة، وأن رجالها مشغولون باستغلال مواقعهم فى السلطة لتحقيق مصالح شخصية بدلا من القيام بتنظيم أمور حياتنا، وهكذا يختلط الحابل بالنابل فى الشارع، كما يصبح الاقتصاد "سداح مداح" كما أطلق عليه الراحل العظيم أحمد بهاء الدين. وأرجو ألا تصدق لحظة واحدة أكذوبة الاقتصاد الحر التى يروجون لها، فهى من جانب تسمح لرجال العصابات بالثراء الفاحش حتى من خلال بيع الوطن قطعة قطعة أو تأجيره مفروشا، ومن جانب آخر تجعلنا من الدول التابعة التى تأخذ أوامرها من صندوق النقد والبنك الدوليين (الذى نفتخر أن بعض مسئولينا ترقوا فيه دليلا على إذعانهم لأوامره على حسابنا)، فى الوقت الذى تنفذ فيه أعتى الدول الرأسمالية حماية على اقتصادياتها، وتنظيما للعلاقات بين المنتجين وبعضهم البعض، وبين المنتج والمستهلك.
3- كيف ينطبق ذلك على السينما؟ إنك لو ذكرت أو حتى لمَّحت إلى ضرورة تدخل الدولة فى تنظيم صناعة السينما لطاردتك على الفور فلول من يرددون أن تجربة "مؤسسة السينما" فى مصر كانت فاشلة، ولن أدخل هنا فى جدل حول هذا الأمر، وإن كنت أتمنى أن يعود هؤلاء إلى ذكريات مخرجنا الكبير توفيق صالح لعلهم يجدون فيها الإجابة. لكننى أقول أننى انتهيت لتوى من قراءة دراسة حول السينما البرازيلية، التى عانت فى النصف الأول من التسعينات من انتكاسة خطيرة حتى أنها لم تنتج فى عام 1992 إلا فيلمين فقط، وفى منتصف هذا العقد انتبهت الدولة إلى سن تشريعات (حقيقية ومدروسة ومطبقة وليست حبرا على ورق) أدت إلى نهضة سينمائية كبرى، وكان أهم هذه التشريعات ما يلى: أولا إنشاء بنك مهمته تمويل الجزء الأكبر من إنتاج السيناريوهات المتميزة، وثانيا مشاركة وزارة الثقافة بتقديم دعم مالى أو تقنى لهذه المشروعات، وثالثا تقديم كل التسهيلات للتوسع فى إنشاء دور العرض المتعددة الصغيرة (مالتيبليكس) فى كل ضواحى المدن الكبيرة والصغيرة، ورابعا إسهام وزارة التعاون الدولى فى خلق فرص للإنتاج المشترك مع دول وجهات أجنبية، وخامسا إقامة مهرجان قومى حقيقى (وليس صوريا) تُمنح فيه جوائز فى صورة دعم أكبر لإنتاج المشروعات القادمة للمخرج ذاته، ضمانا لاستمرار صانع الفيلم المتميز فى الإبداع ... وهناك إلى جانب تلك التشريعات قواعد أخرى قد لا يتسع المجال لحصرها.
4- من الذى سوف يقوم على تنفيذ تلك الخطط فى حال إقرارها؟ هنا سوف أجد نفسى مضطرا للدخول إلى منطقة ملغومة على نحو ما، فكلما تلفت حولى باحثا عن جهة ما مسئولة بالفعل عن السينما لم أجد وكأن السينما طفل لقيط بلا أب. إننى أؤكد منذ البداية أن "الحكومة" يجب أن تبتعد عن هذا الأمر تماما، فالتشريعات التى أتحدث عنها تقوم بسنها السلطة التشريعية فى الدولة (مجلس الشعب يعنى، لكن ليس من نوعية مجلسنا الموقر)، لتقوم "هيئة" مستقلة بتنفيذها، لا تأخذ أوامرها من الوزراء أو أى جهة أخرى فى السلطة التنفيذية، ولأضرب لك مثلا بأن هيئة الإذاعة البريطانية ليست تابعة لـ"الحكومة" وإنما للدولة، وبين الحكومة والدولة فرق كبير كما أتمنى أن تكون قد عرفت الآن، تماما كما أن "هيئة الأغذية والأدوية إف دى إيه" فى أمريكا ليست تابعة لوزارة الصحة. إذن من؟! غرفة صناعة السينما؟ نقابة السينمائيين؟ لجنة السينما بالمجلس الأعلى للثقافة؟ أنظر حولى فلا أجد إلا صحراء قاحلة، أناسا مشغولين إما بمصالحهم كأفراد، أو بمصالح فئوية ضيقة، أو مجموعة ممن لا يحلمون بأى غد فهم لا يعرفون إن كانت شمس الغد سوف تشرق عليهم.
منذ أسابيع قليلة سمعنا أن هناك استعدادا لإقامة مؤتمر للمثقفين، ثم لا شىء، صمت مطبق، لا المثقفين استعدوا ولا وزارة الثقافة أعادت العرض، ولأنى متأكد أن وزارة الثقافة فى وضعها الحالى لا تعبأ كثيرا بمضمون حقيقى لمثل هذا المؤتمر، فقد كنت آمل فى أن يتلقف الفكرة مثقفو السينما – ربما من خلال نقابتهم – لصياغة مشروع متكامل الرؤية حول الوضع الراهن وسبل الخروج منه، ولكن "لا حس ولا خبر"، ومرة أخرى فإن ذلك يعود فى رأيى إلى حالة الشيخوخة الجسمانية والمعنوية التى نعانى منها، ولأن الشىء بالشىء يذكر أعترف أننى لم أكن أتصور أن لجنة السينما بالمجلس الأعلى للثقافة تضم عددا هائلا من "العواجيز"، تعطيهم مقابلا هزيلا لحضور اللجان، فكيف لك أن تنتظر منهم أن يدافعوا عن المستقبل؟ (للتوضيح فقط: لست عضوا فى أى من هذه اللجان، ولن أكون، فلست أقل شيخوخة ممن أتحدث عنهم).
والحل: ربما ينتبه بعض من أبناء الأجيال الأصغر فى نقابة السينمائيين (بعد أن تصبح النقابة للسينمائيين بالفعل) إلى أن مسئولياتهم الحقيقية تفرض عليهم تكوين تيار ينادى بإصلاح السينما بحق، والتفكير بشكل جماعى، والاستعانة بنماذج من دول قريبة فى أوضاعها السياسية والاقتصادية والثقافية منا، ووضع مشروعات محددة الرؤية والهدف والوسائل، وسوف تبقى دائما فى مصر مشكلة اختيار الأشخاص القائمين على التنفيذ، وأرجو أن يبحث الشباب عمن يتولون من بينهم هذه المهمة داخل الهيئة المفترض وجودها، وأن يكون من حق أعضاء النقابة تغيير هؤلاء الأشخاص بشكل ديموقراطى إذا لم يفوا بالمأمول منهم من إصلاح.
5- ما دمنا قد تعرضنا لمسالة الديموقراطية فلابد من تنقية القوانين المتعلقة بالسينما من كل ما يعوق حرية التعبير التى تكفلها كل دساتير العالم ومواثيق حقوق الإنسان، لذلك لا ينبغى أن تكون "الرقابة" تابعة لوزارة الثقافة (الحكومة يعنى) كما سبق القول بشأن مثل هذه الهيئات، والجهة الرقابية فى أمريكا مثلا هيئة تابعة لرابطة منتجى السينما أنفسهم، وهى ليست منوطة بالمنع وإنما بالتصنيف، لكى تضمن فقط ألا تتعرض شريحة ما من الجمهور لما يُفضَّل ألا تتعرض له. إن ذلك سوف يفتح أفاقا لحرية التعبير بما يحقق حالة من التجدد فى السينما المصرية التى باتت على أبواب الخروج من التاريخ. وفى هذا السياق أذكر ذلك القانون الشاذ بمنع التصوير فى الشارع إلا بتصريح من وزارة الداخلية، بما يذكرك بتلك اللافتة الساذجة على جدار ما: "ممنوع الاقتراب والتصوير"!! يحدث ذلك بينما يستطيع أى إنسان أن يدخل على الإنترنيت ليرى صور الأقمار الاصطناعية للشارع الذى يسكن فيه، لكن ضريبة هذا القانون المتخلف والمجحف تقع على عاتق الفنان السينمائى الذى يمكن لأى عسكرى أن يصادر كاميرته أو حتى يكسرها، وهو ما يفسر لك على سبيل المثال كيف أن الفيلم التسجيلى والقصير ماتا فى مصر (أو على الأقل أصبحا كالمومياء المحنطة)، بينما هما فى حالة ازدهار فى العالم كله.
6- تقام المهرجانات السينمائية فى دول العالم الجادة (ودعك من تلك المهرجانات التهريجية فى دول لا تجد ما تفعله بأموالها، وعلى رأى المثل المصرى: "اللى معاه قرش محيره، يشترى حمام ويطيره")، أقول تقام المهرجانات من أجل تحقيق نهضة حقيقية للسينما، لكننا ما نزال نقيم المهرجانات المحلية والعالمية دون أن نجد لها أى أثر فى صناعتنا السينمائية، مرة أخرى لأن وزارة الثقافة وحدها هى التى تقيم هذه المهرجانات بروح الموظفين فى أغلب الأحوال، أو من وجدوا لأنفسهم دورا ووجاهة وسلطة بعد أن كانوا مجرد "سكرتارية" لا يعرفون عن السينما شيئا حقيقيا. لا أدرى بحق ما هى الفائدة التى تعود على السينما المصرية من مهرجان القاهرة السينمائى مثلا: فائدة فنية؟ سياحية؟ سياسية؟ أشك، فلا نحن نشاهد أفلاما يشاهدها العالم كله (أرجو من نقادنا فى نهاية كل عام أن يراجعوا قوائم النقاد العالميين لأفضل عشرة أفلام، ويسألوا أنفسهم كم شاهدوا منها)، وعلى المستوى السياحى فقد اختار مهرجان القاهرة هذا العام إقامة برنامج خاص عن "مصر فى عيون العالم" من خلال الأفلام، فجاءت معظم هذه الأفلام المختارة من نوعية إظهار المصريين فى صورة راكبى الجمال وساكنى الخيام وأعضاء عصابات التهريب، والكومبارس الذى يجب أن يموت لكى يعيش البطل الغربى! وعلى المستوى السياسى فقد حدثت فى الآونة الأخيرة نكتة سوداء سخيفة، إذ قيل أن مهرجان أبو ظبى قد دعا منتجة بريطانية يقال (تكرار المبنى للمجهول مقصود) أنها افتخرت فى مؤتمر صحفى بجنسيتها الإسرائيلية، وعلى طريقة "قالوا له" هاج البعض وماج دون أن يتأكد أحد منا من الواقعة. قارن ذلك بواقعتين حقيقيتين هذه المرة: المخرج البريطانى الشهير مايك لى قرر إلغاء ذهابه لإسرائيل اعتراضا على مشروع "قَسَم الولاء" الذى تحاول إسرائيل فرضه على كل "سكانها" باعتبارها "دولة يهودية"، مع العلم أن مايك لى يهودى. أما الواقعة الثانية فهى الحملة الشعواء التى يتعرض لها جان لوك جودار (وهو من هو فى تاريخ السينما) من جانب وسائل الإعلام الإسرائيلية، اعتراضا منها على منحه جائزة الأوسكار القادمة عن مجمل أعماله، بتهمة "عدائه للسامية"، وهى الترجمة الإسرائيلية لمناصرة القضية الفلسطينية. ومع ذلك فإن أحدا فى مهرجان القاهرة السينمائى لم يفكر فى دعوة أى من هذين السينمائيين الكبيرين. استيقظوا يرحمكم الله!!
7- أخيرا: هل من مستقبل؟ لا أجد هذا المستقبل إلا فى معهد السينما، الذى شاخ بدوره بعد أن أكل الدهر عليه وشرب، وقد تخلف كثيرا عن التطورات التقنية والجمالية للسينما فى العالم كله، وأصبح الالتحاق به مرهونا بعوامل ليس من بينها الموهبة والقدرة، مع أنهما الشرطان الأساسيان وربما الوحيدان للتقدم فى أى مجال على الإطلاق (ولعل ذلك يفسر لك التخلف الذى نعانيه الآن فى جميع المجالات). وليس هناك من حل إلا ثورة حقيقية فيه، ليس فقط على مستوى "العِدد والآلات" كما يتصور البعض، وإنما عن طريق مناهج دراسية نظرية وعملية متطورة بحق، وضرورة (أكرر: ضرورة) الاستعانة بكبار صناع السينما فى العالم، واستقدامهم كأساتذة يتولى كل منهم دفعة بأكملها منذ التحاقها وحتى تخرجها، مع إرسال بعثات جادة لمراكز صناعة وتدريس السينما فى البلدان المتقدمة فى هذا المجال.
عزيزى القارئ، هناك الكثير لنصنعه فى هذا المجال، وقد لا يملك المسئولون الحاليون الإرادة أو حتى الرغبة فى تحقيق أى شىء، لكن كما فى كل أمور الحياة لابد أن يدافع أصحاب المصلحة عن مستقبلهم، فهذا الجيل الشائخ الشائه سوف يزول قريبا، ولا يجب أن نترك أمورنا فى أيدى ورثة هذا الجيل الذين سوف يجعلون هذه الشيخوخة المشوهة علامة على مصر فى أدنى مراحل تحللها فى التاريخ المعاصر. هل نريد سينما أفضل، ووطنا أكثر جمالا وعدلا؟ المشوار طويل نعم، لكن إما هذا أو الرضا بالموت ونحن على قيد الحياة!!

Saturday, November 20, 2010

الدراما التاريخية: حقيقة مجردة، أم وجهة نظر فنية وسياسية؟

بقدر ما تمثل الدراما التاريخية، خاصة في المسلسلات التليفزيونية، إغراء كبيرا لصناع العمل، فإنها تشكل أيضا اختبارا حقيقيا لهم على مستوى الفن والتاريخ معا، كما أنها تحتاج منهم إلى فض اشتباك لا مفر منه بين الحقيقة التاريخية والإبداع الفني. ولعل المأزق الأساسي في كل هذا هو أن المتفرج سوف يأخذ العمل الفني التاريخي على أنه "التاريخ"، خاصة فيما يتعلق بشخصيات وفترات تبعد عن زماننا بفترة طويلة، ولا نملك لها وثائق مؤكدة حول كيف كانت تبدو في الحقيقة، وليس غريبا في هذا السياق أن يتصور معظم المتفرجين أن صلاح الدين الأيوبي يشبه أحمد مظهر في فيلم يوسف شاهين، كما أن من المؤكد أن المتفرج الغربي سوف يتصور أن فرعون مصر في عهد النبي موسى هو يول براينر، مثلما بدا في فيلم "الوصايا العشر" للمخرج الأمريكي سيسيل دي ميل!!
إن ذلك يشير على نحو ما إلى أن للدراما التاريخية سحرها وأهميتها بالنسسبة للمتفرج، لذلك فنحن لا نذهب بعيدا حين نقول أن الدراما التاريخية لا يتم صنعها لمجرد الإبهار الإنتاجي فقط، لكن قد تدخل عوامل أخرى قد يكون العامل السياسي أهمها، وليس ببعيد عنا أفلام هوليوود التي تصور "وقائع" الحرب العالمية الثانية، وبالطبع فإنك لن تتوقع أن أمريكا سوف تقول "الحقيقة" المجردة بشأن هذه الحرب، وأسبابها ونتائجها، لكنها بالتأكيد سوف تصور ذلك كله من خلال "وجهة النظر" السياسية الأمريكية في فترة محددة يكون مطلوبا فيها تحقيق تأثير بعينه في وجدان المتفرج، داخل أمريكا وخارجها على السواء.
وربما كانت كلمة السر هنا هي "وجهة النظر": إنك عندما تنظر إلى مكعب مثلا فإن إدراكك له سوف يعتمد تماما على الزاوية التي تنظر منها تجاهه، إنك قد تراه مجرد شكل مربع إذا نظرت له من الأمام، وهو متوازي أضلاع من زاوية مائلة قليلا، لكنك لن تدرك أن له "حجما" في الفراغ إلا إذا درت حوله لتكتشف أن له سطوحا ستة. هذا هو ما يحدث أيضا مع التاريخ (أو بالأحرى كل حقائق الحياة)، إنك تحتاج إلى منظور صحيح لكي تراه على نحو صحيح، وإن كان ذلك مرهونا أيضا بالواقف المسبقة لمن يرى، وبأهدافه السياسية، وبطريقة تعبيره عن رؤيته لهذا التاريخ، لذلك فإن حدثا تاريخيا واحدا قد يأخذ أشكالا عديدة في تجسيده، وإذا كان ذلك يحدث في دراسات المؤرخين الذين يختلفون حول حدث تاريخي واحد، فما بالك بالفنانين الذين يصنعون من هذا الحدث عملا فنيا، فهم – بوعي أو بدون وعي – سوف يلونون هذا التاريخ ليس فقط برؤيتهم، وإنما أيضا بقصور رؤيتهم في بعض الأحيان، عندما لا يبحثون في التاريخ عن "الحقيقة" وإنما يتخذونه ذريعة للإبهار، فتحدث الكارثة عندما يصبح التاريخ ضحية للفن، أو قل ضحية للضحالة الفنية والإبداعية.
دعنا نتخيل أن فنانا ما قد قرر أن يصنع عملا فنيا عن شخصية تاريخية أو حدث تاريخي: السؤال الأول هنا هو لماذا هذا الحدث أو تلك الشخصية بالتحديد؟ وبقدر جدية الفنان سوف تتفاوت الإجابات تفاوتا هائلا، ولدينا أمثلة راهنة نشاهدها الآن على شاشات فضائياتنا توضح تماما هذا التفاوت. إليك مثلا مسلسل "سقوط الخلافة"، إن الدافع – الظاهر على الأقل – وراء اختيار فترة اضمحلال الدولة العثمانية حتى سقوطها هو ما يبدو أن هناك تشابها ما بين هذه الحقبة التاريخية والفترة الراهنة: أمة تقف في مفترق الطرق، بين التمسك بالماضي والقفز إلى مستقبل ما يزال لم يتشكل بعد، في نفس الوقت الذي تتربص به قوى معادية لا تنتظر فقط أن يحدث هذا السقوط بل إنها تعمل جاهدة على أن يقع وشيكا وبشكل مؤكد. وهذا التشابه بين التاريخ والحاضر يذكرنا بعمل تليفزيوني كان رائدا حين ظهر في أواخر سبعينيات القرن الماضي، وهو "ليلة سقوط غرناطة"، الذي صنع توازيا عميق الدلالة بين اضمحلال الإمارات الأندلسية وبين الاستسلام المخزي المعاصر أمام العدو الصهيوني، وهو الاستسلام الذي ما نزال نحصد ثماره المريرة حتى اليوم.
لكن السبب وراء اختيار التاريخ ذريعة لعمل درامي قد يكون هزيلا – أو حتى هازلا – تماما، مثلما هو الحال مع مسلسل "ملكة في المنفى"، الذي تكمل به نادية الجندي "ملاحمها" عن "النساء" القويات في تاريخ مصر المعاصر، وكلهن تتبعن مواصفات واحدة تريد أن تتماهى نادية الجندي معها، بصرف النظر عن أي صدق تاريخي، أو حتى بصرف النظر عن الأهمية الحقيقية للشخصيات التي تختارها، فقد سبق لها مثلا أن قدمت الراقصة حكمت فهمي (وهي راقصة شبه مجهولة حتى على المستوى الفني!) باعتبارها حجر الزاوية في أحداث غيرت مجرى وقائع الحرب العالمية الثانية، كما جسدت من قبل أيضا سيدة تدعى ناهد رشاد لها صلات بالشرطة السرية التي أنشأها الملك فاروق، لكن نادية الجندي جعلتها عضوا مؤسسا في تنظيم الضباط الأحرار الذي قام بثورة يوليو!!
إنها تستمر في "ملكة في المنفى" في نفس الطريق، ولعلك قد لاحظت كيف تتبختر نادية الجندي – ولا نقول الملكة نازلي البطلة الدرامية للمسلسل – في أفخر الثياب وأثقل أنواع الماكياج وتنظر للجميع نظرة استعلاء (إنها النظرة التي لا تتخلى هنا نادية الجندي في كل أعمالها، وتحتاج إلى تحليل من نوع ما). وعندما تتحدث نازلي عن "الثمن الذي دفعته مقابل تاج الشوك"، وما يعتمل في النفس من الألم والعذاب والوحدة، فإنك تكاد أن تسمع الممثلة كأنها تتحدث عن نفسها في لقاء تليفزيوني، وهي بالفعل كانت قد كررت تلك التعبيرات ذاتها في أحاديثها الصحفية كثيرا. مثل هذا العمل إذن يُفصِّل التاريخ على مقاس النجمة، وهو لا يجعلها بطلة "درامية" تعيش صراعا داخليا وخارجيا، لكنه يصنع منها بطلة "ميلودرامية" تمثل الخير المطلق، فهي الضحية الجميلة النبيلة بين أنياب الوحوش، وكم كان مضحكا تصوير الملك فؤاد، في ليلة زفافهما، كأنه الشيطان مجسدا، بثيابه الحمراء والإضاءة الحادة من زاوية منخفضة، حتى أنه يغتصبها اغتصابا، وهو أمر لا ندري من أين استقى صناع المسلسل مصدره، ومن كان منهم في غرفة النوم؟!!
وقريبا من هذه المعالجة التي تقع في تحويل الشخصية الرئيسية إلى ملاك، تتصدر وحدها الدراما بينما تحول كل الآخرين إلى شياطين أو "كومبارس"، يأتي مسلسل "كليوباترا" الذي جعل من بطلته قديسة رومانسية بكل معنى الكلمة، وهو بذلك يتجاهل تماما أن دورها في التاريخ اعتمد على المؤامرات والتحالفات المشبوهة، وأن تلك الفترة شهدت صراعا دمويا على السلطة والسلطان، انتصرت فيها كليوباترا لفترة لكنها انتهت بهزيمة منكرة، وكانت مصر والشعب المصري هما آخر ما يفكر فيه المتصارعون، بل كان هما "الغنيمة" التي ينتظر من ينتصر أن يمتص دماءها.
السبب الثالث لاختيار التاريخ محورا لعمل درامي هو "الانحياز" المسبق إلى وجهة نظر، كما يبدو في مسلسل "الجماعة"، الذي يأتي في إطار صراعات سياسية تشهدها مصر في الفترة الأخيرة، خاصة أن هناك انتخابات تشريعية على الأبواب. يحكي المسلسل وقائع تاريخ قريب، وهو يبدأ من الأقرب ليعود إلى الأبعد، وبذلك يلون العمل كله بوجهة نظر جاهزة. تسود في الأوساط السياسية المصرية الآن فكرة أن الصراع الرئيسي يدور بين النظام الحاكم من جانب وجماعة الإخوان المسلمين من جانب آخر، وبرغم أن هناك شبه اتفاق بين مختلف الرؤى حول سلبيات النظام السائد، فإن هناك ميلا لدى بعض الأطراف لتصوير جماعة الإخوان المسلمين على أنهم أكثر خطرا من النظام الراهن، لذلك فإنك سوف تختار دون وعي أن تقبل سلبيات النظام!! ولسنا هنا في مجال المفاضلة بين هذين الطرفين (وكأنه ليس هناك من بديل سواهما!!)، لكن تلك الرؤية السياسية الجاهزة والصريحة، بل المسطحة أيضا، صبغت العمل كله بقدر من السذاجة الفنية، ولك أن تتصور أن الرغبة في تصوير أبناء النظام كملائكة قد جعلت في مركز الدراما "وكيل نيابة" بريئا تماما، حتى أنه لا يعلم شيئا عن الإخوان المسلمين الذين يحقق بشأنهم، وهي حيلة فنية باهتة تماما لكي يستمع بطلنا إلى حكاية "الجماعة" (ونسمع نحن معه أيضا) وحكاية تاريخها، فيعود المسلسل في "فلاش باك" طويل إلى بدايات تكوينها. ولا حاجة للقول بأن أبسط القواعد هي أن يكون رجال السلطة في مثل هذه الأمور قد تلقوا تعليما طويلا ومكثفا حول "الجماعات" التي يواجهونها، بما لا يضطرهم أبدا لاستقاء معلوماتهم من متهمين عابرين.
لم ينجُ مسلسل "الجماعة" أيضا من كل "الكليشيهات" التقليدية في تصوير "الأشرار" من وجهة نظر صانعي العمل، فأعضاء الجماعة أقرب إلى عصابات "المافيا" أو الجماعات الماسونية، وهو كعادة الدراما المصرية تجهلهم يتحدثون بالفصحى في حياتهم اليومية وكأنهم قد خرجوا لتوهم من إحدى المسلسلات الدينية بالغة التقليدية. ومن هذه المسلسلات يأتي "رايات الحق"، الذي يتناول الفترة اللاحقة على وفاة الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وهي فترة حافلة بالدراما بمعناها العميق، لكن المسلسل توقف عند من حاولوا تقويض ما أضافته النبوة إلى أمة العرب من القوة والوحدة، وغلبت المعالجة التقليدية على تصوير هؤلاء، في شكلهم وطريقة حديثهم وحركاتهم، فخلا المسلسل تماما من أي جديد قد يجذب المتفرج للاقتراب من هذه الفترة التاريخية المهمة.
المفارقة هنا – والتي قد تلقي ضوءا كاشفا أيضا على المعالجات الدرامية للتاريخ – هي أن هناك العديد من المصادر التاريخية التي تناولت هذه الفترة، ومن مختلف المناهج ووجهات النظر، لكن برغم أنها فترة حافلة بالكتابات الجادة فإنه يبدو أن صناع العمل اكتفوا بأبسط هذه المصادر، بينما كان اعتمادهم الأكبر على الأعمال الدرامية السابقة، وهي طريقة يمكنك أن تسميها – للأسف الشديد – نظرية "التوالد الذاتي"، فيصبح التقليد هو القاعدة: المؤمنون يرتدون ثيابا بيضاء، ويتحدثون بهدوء واطمئنان، وتبدو على محياهم ملامح الجمال، بينما "الكفار" على العكس تماما، إنها المعالجة الهوليوودية للبطل الطيب والخصم الشرير، وقد تصلح هذه المعالجة في الميلودراما أو الترفيه الخفيف، لكنها لا يمكن أن تكون أساسا لمعالجة درامية ناضجة للتاريخ.
أنت إذن في الدراما التاريخية أمام أركان أساسية لتُقيم دعائم عمل مقنع وراقٍ، أولها هو المصدر الذي يجب أن يكون موثوقا به، أو قل بالأحرى العديد من المصادر التي قد تختلف في مناهجها لكنها معا سوف تساعدك على تكوين وجهة نظر أقرب إلى الصدق التاريخي، وقد تستطيع أيضا أن تعود في هذا المجال إلى أهل الاختصاص حتى يكون هذا المستوى الأول من الصدق متحققا. لكن المستوى الثاني لا يقل أهمية، وهو ما يتعلق بالصدق الفني، الذي لا ينفصل عما يطلق عليه في فلسفة الفن "القصد الفني"، وببساطة فإن هذا الصدق يعكس ما تريد أن تقول من معالجتك لمادة تاريخية. هناك في مسلسل نادية الجندي "ملكة في المنفى" مشهد أثار ألمي بعمق، لقد أراد المسلسل أن يجعل من بطلته ضحية، وأتبع مشهد زفافها (اغتصابا) ببيرم التونسي وهو يلقي قصيدته المشهورة عن زواجها المشبوه من الملك فؤاد، ليبدو بيرم كاذبا وضيعا، وهو ما يتناقض مع الحقيقة التاريخية تماما، أي أنه يمكنك ببساطة أن تقول أن المسلسل أراد أن ينقذ بطلته "بالعافية"، فلم يجد أمامه إلا أن يضحي بالتاريخ!!

Thursday, November 18, 2010

فيلم "سلطة بلدى"

عندما تخفى النزعة الإنسانية المواقف السياسية الملتبسة

على مدار ساعتين كاملتين، تلقى إليك المخرجة نادية كامل فى فيلمها التسجيلى "سلطة بلدى" بعشرات الأسئلة، التى تتلاقى أحيانا وتتباعد أحيانا أخرى، وإذا كان المفهوم الشائع فى الفن – وإن لم يكن مفهوما دقيقا تماما لكننا سنصرف النظر عن دقته الآن – هو أن وظيفة العمل الفنى هى طرح التساؤلات وليس تقديم الإجابات، فإن هذا يبرر لصانعة الفيلم أن تطرح الأسئلة التى تؤرقها، لكن هناك فى الحقيقة عدة أنواع من الأسئلة التى تؤرق أى إنسان، مثل الأسئلة التى تمثل قلقا شخصيا للفنان وقد يحلو له أن يبثها إلى أصدقاءه فى جلساته الخاصة، لكن مادام قد قرر أن يصوغ من هذا القلق عملا فنيا مثلما فعلت نادية كامل فى فيلمها "سلطة بلدى" فلابد أنها تريد توصيل "رسالة" ما إلى أكبر قطاع من المتلقين ليشاركوها هذا القلق، وهنا لابد أن نتساءل بدورنا عن الرسالة التى كانت تفكر فيها وهى تصنع "سلطة بلدى"، وإن كنت فى البداية أؤكد (كل التأكيد) على أنه ليس لدى كاتب هذه السطور أية نية لتوجيه تهمة أو شبهة "التطبيع" لصانعة الفيلم على النحو المتعجل الذى قام به العديد من النقاد، بسبب أن الجزء الأكبر من الفيلم يتحدث عن السيدة نائلة كامل، أم المخرجة، التى تربطها قرابة الدم ببعض اليهود فى "إسرائيل"، وقامت بالفعل بزيارتهم وقد قاربت أعمار الطرفين على الانتهاء، كأنها رحلة وداع، وهو كما ترى سؤال "إنسانى" يتعمد الابتعاد عن البعد السياسى، بما يذكرك بإنسانية الفيلم الإسرائيلى "زيارة الفرقة" وإن كان فى "سلطة بلدى" أكثر "ميلودرامية" وتشوشا وأقل رهافة ونعومة.
هو فى الحقيقة سؤال أقرب إلى الصدمة، لكن أرجو أن يتحملنى القارئ لبعض الوقت لو ذهبت إلى مدى أبعد فى صدمته، وهى أياً منا لا يستطيع أن يؤكد على وجه اليقين أنه ليس له أقارب من اليهود، بل إن من المؤكد أنه قد حدثت عبر التاريخ تحولات فى معتقدات البشر، فقد يكون لى من بين أسلافى أو أسلافك من كان مسيحيا أو يهوديا أو حتى وثنيا، وربما يكتشف المرء منا أن هناك لعائلته فرعا ينتمى لديانة أخرى، ولعل مصر – تلك البوتقة الجغرافية والتاريخية – هى الدليل الأكبر على هذا التمازج، وليس غريبا أن تجد عائلتين مصريتين مسلمة ومسيحية تتشاركان فى نفس اللقب والجذور، وليس غريبا أيضا أن تجد فى فيلم "سلطة بلدى" ذلك الاختلاط بين الأديان والجنسيات (ولا نقول الأجناس أو الأعراق)، ففى عائلة المخرجة نادية كامل أبناء وبنات عمومة ينحدرون من أصول قوقازية مسلمة، وأخوال ينحدرون من جذور مسيحية إيطالية ويهودية تركية روسية، بل إن هناك الطفل نبيل، ابن شقيقة المخرجة، فلسطينى الأب، مصرى الأم، إيطالى الجدة، وهو يذهب فى بداية الفيلم لصلاة العيد للمرة الأولى حائرا وكأنه يبحث عن هوية، وفى مشاهد لاحقة يقف أمام قبر جده اليهودى إيلى روزينتال متمتما، فلا نعرف إن كان يقرأ له "الفاتحة" أو بأى دعاء يلهج به لسانه وقلبه البريئان.
هذا الطفل "نبيل على شعث" هو النموذج الأمثل على "السَلَطة المصرية البلدى"، وقد كان من الممكن أن يكون "البؤرة الدرامية" للفيلم التى تدور حولها العديد من الخطوط السياسية المتقاطعة والمهمة، من بينها – على سبيل المثال – أنه لا يحمل جواز سفر أو جنسية لأنه فلسطينى الأب بعد أن ضاعت فلسطين، وفى الوقت الذى تعجز فيه الأنظمة العربية عن استرجاع فلسطين فإنها تنكر على فلسطينيى الشتات (إن جاز التعبير) أن تكون لهم هويتهم المحددة. لكن الأهم فى هذا الطفل (بخلطة و"سلَطَة" جذوره الإنسانية) أنه التأكيد الحى (الذى أضاعته المخرجة للأسف سهوا أو عمدا) على زيف النزعة السياسية الصهيونية، والتى تقوم على أكذوبة "نقاء العنصر"، وهى الأكذوبة التى ينسفها وجود نبيل نسفا.
دعنا ياقارئى العزيز نتوقف عند هذه الأكذوبة قليلا، فعلى أساسها قام الكيان الصهيونى، بذريعة أنه يضم "اليهود" فى دولة واحدة، وكأن الدين اليهودى قومية تجمع شعبا نقى العنصر، وهو الخطأ القاتل الذى نقع فيه نحن أيضا عندما نتحدث عن الصراع بين "اليهود" و"العرب"، فاليهودية "دين" والعروبة "قومية" ولا مجال للصراع أو حتى المقارنة بينهما، بل إن هناك دراسات عديدة لكتاب من "اليهود العرب" أو ذوى الأصول العربية تشير إلى الحقيقة التى لم يلمسها – للأسف – فيلم "سلطة بلدى" ولو من بعيد، وهى الحقيقة التى تشير إلى أن إسرائيل ليست إلا كيانا استعماريا غربيا، لم يسرق الوطن الفلسطينى فقط، لكنه طمس وقمع الهوية والتاريخ العربيين لليهود العراقيين واليمنيين والمغاربة، أو كما تقول إيللا حبيبة شوحاط أستاذة الدراسات الاجتماعية فى جامعة نيويورك: "إن التعارض بين اليهودية والعروبة ليس إلا وجهة نظر أوروبية، ونحن – كيهود عرب – كنا نتحدث العربية وليس اليديشية، وعبر ألف عام كان إبداعنا الثقافى باللغة العربية... وإنك لو ذهبت حتى اليوم إلى معابدنا فى نيويورك أو مونتريال أو باريس أو لندن فسوف يدهشك أن تسمع فى تراتيلنا نغمة "الربع تون" حتى يخيل لك أنها تنبعث من مسجد... لقد انتزعت إسرائيل منا – نحن اليهود العرب – تاريخنا... وأصبح مصطلح "شعب واحد" ذريعة لكى يجبرونا على التخلى عن ذاكرتنا العربية التى تكونت عبر مايزيد على ألف عام وقبل أن تكون هناك دولة اسمها إسرائيل".
فى سياق آخر يكتب نعيم جيلادى، اليهودى الأمريكى من أصول عراقية الذى تخلى عن جنسيته الإسرائيلية، أن "يهود البلدان الإسلامية لم يهاجروا طوعا إلى إسرائيل لكنهم أجبروا على ذلك... واستخدمت طريقتان مع اليهود العراقيين للرحيل إلى إسرائيل: الخداع أو الإرهاب، فاليهود غير المتعلمين خدعهم الحديث عن أن إسرائيل هى أرض الميعاد والجنة التى يبصر فيها الأعمى ويسير الكسيح، أما اليهود المتعلمون فقد قام الصهاينة بإرهابهم بإلقاء القنابل على ممتلكاتهم وأماكن تجمعهم".
الصهيونية إذن لم تجمع "اليهود" فى سلتها النظرية المصطنعة إلا لسبب سياسى استعمارى، بينما هى تميز فى طياتها وممارساتها بين اليهود الشرقيين (واليهود العرب من بينهم) لتجعلهم أدنى من اليهود الغربيين بما يتنافى مع الزعم بنية إقامة "دولة يهودية". وإذا كان فيلم "سلطة بلدى" يلمِّح إلى "إنسانية" زيارة السيدة المناضلة نائلة كامل، زوجة المناضل اليسارى سعد كامل، المولودة فى مصر لأب يهودى تركى روسى وأم مسيحية إيطالية، والتى قد أصبحت مصرية تماما وتحلف "والنبى والنبى"، إذا كان الفيلم يلمِّح إلى إنسانية زيارتها لأبناء عمومتها اليهود فى "إسرائيل"، فإن من الغريب أنها تصفهم صانعة الفيلم بمجرد كونهم "يهودا" ولا تذكر شيئا مطلقا عن كونهم "صهاينة"، حتى أنها لم تذكر لنا كلمة واحدة، واحدة فقط، عن "نضال" هذه الأم الجليلة ضد الصهيونية وفضح زيفها ونزعتها الاستعمارية، مثلما فعل غيرها من المناضلين اليهود المصريين اليساريين مثل يوسف درويش وشحاتة هارون اللذين خاضا هذه المعركة على طريقة القديسين الشهداء.
إن ذلك يثير المرارة من جانب المتفرج لأن المخرجة تبدو كما لو كانت تتخلى فى نزق – بذريعة النظرة الإنسانية الأكثر رحابة - عن نضال الجيل السابق (لعل هذا يشير – للأسف - إلى عوامل تآكل وتشوه المفاهيم السياسية لدى شريحة المثقفين المصريين من الأجيال اللاحقة)، فالكيان الصهيونى كما يبدو فى الفيلم قائم وانتهى الأمر ولا حيلة لنا إلا التعامل معه، والمواطنون اليهود الإسرائيليون فى الفيلم غير مسئولين عن قرارات وتصرفات الحكومة الإسرائيلية، بينما تتناسى المخرجة أنهم اختاروا الصهيونية مذهبا سياسيا وعلما ونشيدا "قوميا"، كما لا تذكر أو تتذكر أن الصهيونية – وليس العروبة أبدا – هى التى تقوم على التمييز الدينى بين اليهود والأغيار، وأن إسرائيل هى النموذج السرطانى لكل النزعات العنصرية التى تميز بين البشر على أساس دينى، وأن الصهيونية تقوم على خرافة وجود "عرق يهودى" وهى أول من تعلم بزيف هذه الخرافة، كما تنكرها كل الدراسات الجادة بدءا من جمال حمدان وانتهاء بتروتسكى الذى رأى أن الصهيونية "تحالف عنصرى أعمى وفخ دموى لعين"، أو الفيلسوف اليهودى رافاييل كوهين الذى يؤكد أن "الصهيونية فى جوهرها تتبنى نفس الأيديولوجيا النازية لكنها تصل إلى نتائج مختلفة، فبدلا من تفوق العنصر الآرى يصبح اليهود هم الجنس الأرقى".
لكن فيلم "سلطة بلدى" - خاصة فى مشاهد البداية وتركيزه على خطبة العيد التى تهاجم "اليهود" – يلقى بتهمة التطرف والتمييز الدينى علينا، وينسى أن كل حركات التطرف الإسلامى هى تاريخيا رد فعل لاحق على الصهيونية، وأن وجود "الدولة اليهودية" لن يفرز إلا مزيدا من النزعة المضادة التى تدعو لإقامة "دولة إسلامية". وخلال الساعتين اللتين يستغرقهما عرض الفيلم تجد نفسك فى "سلطة بلدى" غارقا فى بحر من الأفكار المشوشة داخل كيان فنى مشتت، لذلك لا تجد مناصا من أن تقوم بنفسك بفرز تلك الأفكار المتناقضة. إنك على سبيل المثال (وإن لم يذكر لك الفيلم أية تفاصيل كانت ضرورية لإلقاء الضوء على موقف الجيل السابق تجاه الكيان الصهيونى) تقدر كل التقدير نضال سعد كامل ورفيقة حياته نائلة كامل، كما أنك تتعاطف أو حتى تعشق الطفل نبيل شعث الحائر فى البحث عن هوية فى وطن عربى ممزق. لكننى لا أستطيع تجاه "ابن عمى" اليهودى العربى الذى ارتضى إسرائيل وطنا أن أتعاطف معه وأذهب لزيارته لمجرد أنه يحب أن يستمع إلى أم كلثوم كل يوم، فهو الذى اختار أن ينضوى تحت راية نظام معادٍ للإنسانية. فنحن نرفض الصهيونية والاعتراف تحت أى ذريعة بدولة "إسرائيل، ليس من منطلق أننا مصريون أو عرب أو مسلمون ومسيحيون وجدنا أنفسنا طرفا فى صراع فرضته علينا حركة استعمارية غربية تحت شعار مزعوم (أكرر: مزعوم) بالبحث عن حل لما يسمى "المسألة اليهودية"، وإنما نرفض الصهيونية حتى لو كانت فى بلاد واق الواق، الآن وغدا وبعد مئات الأعوام، لأنها إحدى أكثر الضلالات الإنسانية خطرا، فهى لا تعادى العروبة أو الإسلام وإنما تعادى "الإنسان" بجوهرها العنصرى الذى يميز بين اليهودى وغير اليهودى، كما تميز بين اليهودى الغربى واليهودى الشرقى، على نحو لا يختلف مطلقا عن النازية وكل النزعات العنصرية البغيضة الأخرى.
يذكرنى اسم الفيلم "سلطة بلدى" ببضع سطور من رواية لليهودى يمنى الأصل يوسف تزويل، الذى يحكى عن هجرة أسرته خلال مراهقته إلى إسرائيل، وانتزاعهم دار أسرة فلسطينية، لم يبق منها إلا رجل وحيد... "كان يزرع فى الحقل المحيط بالدار بعض الخضروات، يعطينا بعضها ويحتفظ بالباقى، وإن "السَلَطة" التى أكلتها من هذه الخضروات، التى تنتمى إلى هذه العائلة الفلسطينية، تركت فى روحى ندوبا لا يمكن محوها، لذلك ظللت دائما غريبا عن هذه الدار المغتصبة". وربما كان من المثير للأسى أن تقرأ هذه الحقائق المريرة عند كُتَّاب ربما كانوا أكثر عرضة للتعاطف مع أسطورة "الدولة اليهودية"، لكنك تجد هذه الحقائق عندهم بوضوح، بينما تفتقدها فى فيلم "سلطة بلدى" لأنه تصور أنه ينادى بنزعة "إنسانية" وهو يتحدث عن كيان لا علاقة له بالإنسانية فى فلسفته أو ممارساته. مرة أخرى وبوضوح كامل، لو كان الفيلم يسألنى عن إمكانية زيارة "ابن عمى" اليهودى العربى فى "إسرائيل" فإننى أرفض على نحو قاطع الذهاب إليه فى الكيان الصهيونى، لكننى أرحب به إذا رفض هذا الكيان وعاد إلى جذوره العربية، أما اليهود الأوربيون فإن عليهم فى نهاية المطاف أن يبحثوا عن حل لمشكلاتهم فى الأوطان التى جاءوا منها، وأن يلتهموا كما يشاءون "سَلَطة بلادهم" أما "سَلَطة بلدى" فهى لنا، المسلمين والمسيحيين واليهود العرب، فى دولة فلسطينية ديموقراطية تجسد بحق الروح الإنسانية فى أرقى تجلياتها.

Wednesday, November 17, 2010

هل حقا هؤلاء هم "أهل كايرو"؟

للأعمال الفنية البوليسية سحر خاص لدى المتلقي، سواء كانت رواية تُقرأ، أو عملا دراميا تم تنفيذه بالوسائط البصرية السمعية مثل السينما والتليفزيون، إذ يبدا العمل عادة بعرض بعض الشخصيات والعلاقات، وفجأة تحدث جريمة غامضة، ليتلخص العمل كله بعد ذلك فى كلمة واحدة: من الذي ارتكب الجريمة؟ وفي الطريق نحو هذا الاكتشاف، الذي يأتي دائما في الصفحات أو المشاهد الأخيرة، تتوزع الاتهامات بين هذا وذاك، وكلما شعرت أنك اقتربت من المجرم الحقيقي أدركت أنك تزداد عنه ابتعادا، وعندما يحين أوان الكشف عن المجرم تأتي المفاجأة، إذ يكون هو أبعد الشخصيات عن الشك، ولكن ... لكننا سوف نترك هذه الـ"لكن" إلى نهاية المقال!
هذا هو السر في النجاح الجماهيري للمسلسل الدرامي البوليسي "أهل كايرو"، الذي كتبه بلال فضل وأخرجه محمد علي، لأن هذا النوع من الدراما كاد أن يختفي من على شاشة التليفزيونات والفضائيات العربية، برغم أن له مساحة ثابتة ومكانة مهمة في الدراما التليفزيونية في العالم كله، وهو ما تستطيع أن تتأكد منه إذا استطعت أن تفلت من مسلسلاتنا ذات مرة، لتتفرج على المسلسل الأمريكي "24" مثلا، غير أن أعمالنا التليفزيونية الدرامية تمضي دائما في "الموضة" السائدة، تارة مسلسلات سيرة حياة المشاهير، أو الأحياء العشوائية، أو كوميديا الموقف شديدة التواضع في شكلها ومضمونها.
جاء إذن "أهل كايرو" ليخرج عن المألوف في شكله، لكن السؤال هو إذا ما كان قد شق لنفسه طريقا جديدا في المضمون أيضا، وهذا ما سوف نحاول الإجابة عليه. الخط الدرامي هنا شديد البساطة، والتعقيد الظاهر ليس إلا مناورة من صناع المسلسل لتحقيق بعض الأهداف التي تبدو مشروعة من الناحية الفنية، حيث يصبح "التشويق" هو السمة الرئيسية. في البؤرة الدرامية هناك شخصية تدعى صافي سليم (رانيا يوسف)، يقال أنها سيدة مجتمع، وهي الصفة التي يحاول المسلسل بها الإيحاء بأنها اتخذت طرقا ملتوية في رحلة صعودها من حضيض الفقر إلى قمة الثراء والوجاهة الاجتماعية.
يقول المسلسل في نهاية الحلقات أن هناك من حولك في حياتك اليومية عشرات من أمثال هذه الشخصية، وهو تلميح إلى أن الصعود الاجتماعي يحدث في "القاهرة" الآن من خلال الطرق غير المشروعة، وهذا جانب آخر من جوانب التشويق، إذ توجد "توليفة" من الجريمة والسياسة، لكن صناع المسلسل لن يتطرقوا بالطبع لأي جرائم سياسية سوى بنوع من "التلسين" الذي اشتهر به الأدب والفن المصريين في الآونة الأخيرة. ولأن صافي سليم في رحلة صعودها التقت بالعديد من الشخصيات، فسوف يتجمعون في ليلة زواجها (وهي التي تزوجت مرات عديدة سابقة) في حفل الزفاف بفندق فاخر، وهو ما تلخصه لك جملة من الحوار تأتي على لسان إحدى الشخصيات: "نجوم سياسة على فن على دين على بيزينيس على كورة".
إذن هؤلاء هم "أهل كايرو" كما يراهم صناع العمل (أرجو أن تلتفت إلى استخدام كلمة "كايرو" بما يذكرك بأحد مونولوجات شكوكو!)، لكن هناك جانبا آخر يشير له العمل كلما تذكره، أو بالأحرى أنه ينساه متعمدا لكي يجعلك تنساه، هذا الجانب هو الحي الفقير الذي ولدت فيه صافي سليم قبل أن تغير اسمها، تاركة وراءها شقيقة وأبا، بينما رحلت دون عودة مع الأم والشقيق، وهنا يتعمد المسلسل أيضا أن يتجاهل تماما الحديث عن أسباب انقسام أفراد العائلة على هذا النحو، لكنه سوف يكشف لك السر في حلقته الأخيرة.
قررت صافي أخيرا أن تتزوج من طبيب جراح مشهور يدعى شريف راسخ (زكي فطين عبد الوهاب)، عاد من أمريكا بعد سنوات من الغربة ليستقر في مصر لحنينه إليها، فهكذا نقرأ على الشاشة في عبارات مكتوبة (مع تثبيت الصورة) على طريقة بعض الأفلام الأمريكية المعاصرة، وهو الأسلوب الذي سوف يتبناه العمل مع العديد من الشخصيات حتى العابرة منها، والتي لن يفيدك أن تعرف عنها شيئا، مثل منظم الأفراح أو زوج الشقيقة، أو حتى شخصية رئيس تحرير جريدة يستخدمه المسلسل في البداية لإثارة بعض السخريات حول من يزعمون الثورية ثم ينساه العمل تماما!! دعنا نشير هنا إلى أن المفترض أن تلك المعلومات المكتوبة صحيحة، لأنها لا تأتي على لسان إحدى الشخصيات، وإنما من وجهة نظر سارد الأحداث (وهو هنا المؤلف والمخرج معا)، الذي يعرف كل شيء عن الشخصيات لكنه يخفي بعض المعلومات حتى يصرح بها في الوقت المناسب دراميا، وهذا من أبسط قواعد التشويق، لكن من غير المتصور على الإطلاق أن هذا الراوي "يخدع" المتفرج بمعلومات سوف نعرف لاحقا أنها غير صحيحة!!
الأسلوب البوليسي هنا تلفيقي وبعيد عن صدق السرد، والعمل البوليسي الناضج ينثر المعلومات هنا وهناك بطريقة قد تفوت عليك (أو يجب أن تفوت عليك) حين تراها على نحو عابر، لكنك عندما تراجعها بعد ذلك تسأل نفسك كيف فاتت عليك، وهذا هو مصدر المتعة في العمل البوليسي، لكن أن يلقي إليك صناع المسلسل بمعلومات مغلوطة (مرة أخرى يفترض أنها موضوعية وصادقة) فإن معنى هذا أنه يلعب معك لعبة الخداع، والأدهى كما سوف نرى هو أن يحجب عنك معلومات أخرى تماما ليرميها لك في الحلقة الأخيرة.
من جانب آخر يجب أن نشير إلى أن في المسلسل عوامل فنية غطت على هذه العيوب الأسلوبية في الصياغة الدرامية، فأداء خالد الصاوي في دور ضابط المباحث حسن محفوظ اتسم بحيوية فائقة، إنه المعادل المصري تماما لشخصية البطل في سلسلة أفلام "داي هارد"، المتفاني في عمله حتى أنه ينفصل عن زوجته ابنة المسئول الكبير، ويعاني من تزمتها معه في أيام رؤيته لابنته وابنه، وهو يغطي إحساسه الإنساني المرهف بالصفات التي اكتسبها من عمله، والتي تمزج بين الصرامة و"الفهلوة" وخفة الظل ونخوة أولاد البلد. تكتمل هذه الشخصية وتتكامل مع شخصية الصحفية داليا غنيم (كندة علوش) المتخصصة في الحوادث، فبينهما علاقة عمل غريبة وطريفة معا، إنها تعتمد عليه كأحد مصادرها، وهو يعتمد عليها أحيانا في بعض أمور حياته الشخصية، مثل تسهيل رؤيته لطفليه، وهذه العلاقة تنمو لكي تصبح إحساسا عاطفيا يسري تحت السطح بما يعطي للملسلسل مسحة رومانسية رقيقة أحيانا.
من جانب آخر يمكنك أن تشعر بالأسلوب البصري المختلف الذي يتبعه المخرج محمد علي، فهناك حركة متدفقة في التصوير والمونتاج يندر أن تجدها في أعمالنا التليفزيونية، وما يؤكد عليها استخدام التصوير الخارجي في الأماكن الطبيعية للأحداث في العديد من المشاهد، ناهيك عن الكثير من التلقائية التي اتسم بها أداء معظم الممثلين، لكن هذه التلقائية تحولت أحيانا إلى الاصطناع كما يحدث مع شخصية شقيق صافي، تماما كما أن الأسلوب البصري ذي المسحة السينمائية بدا مجانيا أحيانا مثلما هو الحال مع استخدام الشاشة المنقسمة دون أن تكون لذلك ضرورة درامية، ولا تنس بالطبع الاستغراق في مشاهد الفرح لزوم تطويل الحلقات!
يمكنك أن تعد عشرات الشخصيات التي مر عليها العمل مرور الكرام، إنه يستخدمها ثم يتخلص منها كأنها أدوات "ذات الاستخدام الواحد" (!!) لمجرد أن تسمع منها وعنها بعض عبارات ساخرة، أو لإثارة الشك حول إذا ما كان أحدها هو القاتل، بدءا من الداعية الديني، ومرورا بالوزير السابق، والوزير الحالي، ورئيس التحرير الانتهازي، والمثقف الثوري على طريقة الأفلام المصرية، والذي يقول الشعر ويعلق صورة عبد الناصر ولا يحلق ذقنه أو يمشط شعره (!!)، ورجال الأعمال أصحاب السطوة والنفوذ، وصديقة قديمة لصافي أصبحت الآن سكرتيرتها، وخادمتها التي خرجت لتوها من عباءة زينات صدقي، ورجال أمن الفندق الذين تنحصر مهمتهم في أن يكونوا لسان حال المؤلف في التعليق على الشخصيات والأحداث!
في الحلقة الأخيرة، وبدون أية إشارة درامية سابقة، تحدث المفاجأة: فالأب الفقير الذي هجرته ابنته وزوجته سعيا إلى الثراء الفاحش ليس إلا وحشا آدميا، إنه كان يغتصب ابنته، وهو القاتل أيضا!! وإذا كان ذلك يمثل بدوره خداعا للمتفرج، الذي لم ولن يجد لهذه الصفة البشعة جذورا في المسلسل، فإن هذا "الحل" التلفيقي يحيل كل ما تصوره المتفرج نقدا سياسيا واجتماعيا إلى المرض النفسي الجنسي، بينما يجب على كل حديث عن مثل هذه التشوهات النفسية أن يردها إلى جذورها وأسبابها التي تكمن في الحالة الاقتصادية والسياسية المتردية للمجتمع المصري الآن، و"أهل كايرو" ليسوا أبدا هم أهل القاهرة الحقيقية، بل أهل هذه النوعية من الكتابات التي تخلط الجد بالهزل، وتضع الجاني والضحية معا في سلة واحدة، وهي سلة السخرية السوداء من أي شيء، وكل شيء.

Wednesday, November 10, 2010

عليك رغم الألم أن تحافظ على إنسانيتك، حتى لك كنت الإنسان الوحيد

فيلم "كيف تروض تنينك؟"



أجمل ما فى الأفلام الموجهة للأطفال، والمكتوبة جيدا، أنها تحتوى دائما على مستويات عديدة للتلقى. وهى فى هذا تشترك مع كل عمل فنى أصيل فى أنه يبدو على السطح بسيطا سهلا، لكنك تشعر أن هناك معانٍ خفية بين السطور (يطلق عليها أهل السيميولوجيا بمصطلحاتهم المعقدة "النص الفرعى")، إن هذه المعانى العميقة تلمس وترا عميقا في وجدانك وعقلك، وتدفعك إلى اكتشافها، لتدرك أن "فيلم الأطفال" الجيد والجاد أكثر أصالة من العشرات من أفلامنا المصرية الراهنة، التى نصنعها بقدر كبير من "الفهلوة" بمعناها السلبى، ونتفرج عليها وقد أعطينا عقولنا ومشاعرنا إجازة.
إن هذه المستويات المتعددة للمعنى فى أفلام الأطفال المتميزة تعود إلى أن صناعها يدركون الرابطة الوثيقة التى تربطها بالأسطورة، وفى كتب الدراسات السينمائية يمكنك أن تقرأ – على سبيل المثال – أن جورج لوكاس درس الميثولوجيا لكى يبدأ فى صنع سلسلته عن "حرب النجوم". فالأسطورة التى وُلدت بدورها فى طفولة الفكر الإنسانى، ويمتزج فيها الفن والدين وصورة بدائية للعلم، هذه الأسطورة تخاطب بداخل الإنسان مخاوفه وأحلامه مها، وتحاول أن تقدم لأسئلته الوجودية إجابات تبعث له الثقة بنفسه، حتى لو كانت بمفاهيمنا المعاصرة تعتبر إجابات ساذجة. إن هذه الأسئلة تبدأ وتنتهى دائما بعلاقة الإنسان بالعالم من حوله، سواء كان هذا العالم هو الكون الغامض الممتد بلا نهاية، أو كان العالم هو المجتمع الصغير الذى يعيش فيه الفرد محاولا الدفاع عن ذاته الفردية، والذوبان فى المجموع فى نفس الوقت.
كثيرا ما تدور أفلام الأطفال الأمريكية حول هذه الأزمة (الصراع بين الفرد والجماعة)، ويمكنك أن تلاحظ بشكل عام أن هذه الأفلام تمتد بين نقيضين متعارضين، تمثلهما شركة "بيسكار" من جانب، وشركة "دريم ووركس" من جانب آخر، وإذا أردت مثالا واضحا على هذا التناقض فإليك فيلمين، كلاهما من بطولة "نملة"، الأول هو فيلم شركة بيكسار "حياة حشرة"، الذى يؤكد أن العدوان على مجتمع النمل لن تتم مواجهته إلا من خلال تكاتف الجماعة، أما الفيلم الثانى فهى "النملة زِى" لشركة دريم ووركس، حيث البطل لا يهتم إلا بفرديته المطلقة، وهى الفردية التى يزعم الفيلم أنها السبيل الوحيد للخلاص.
لذلك فإننى أحب أفلام شركة بيكسار المرهفة والعميقة، مثل "البحث عن نيمو" و"شركة الوحوش المتحدة" و"الخارقون"، ولا أخفى كراهيتى لأفلام دريم ووركس الخشنة الغليظة مثل سلسلة "شِريك" و"حدوتة سمكة القرش". لكننى أعترف بأن مشاعر المفاجأة استولت علىّ مع الفيلم الأخير لشركة دريم ووركس "كيف تروض تنينك"، حتى أننى أتصور أنها تأثرت على نحو ما بأفلام شركة بيكسار. ففى هذا الفيلم لم يعد البطل هو الشخص المغرق فى ذاتيته (ويحتفى به وبها الفيلم ويكرسهما)، لكنه البطل الذى يمكن لكل متفرج طفل أو بالغ أن يشعر أنه يشبهه على نحو ما، لأنه يخوض "رحلة" داخلية وخارجية معا، إنه يرفض الامتثال للقيم الاجتماعية السائدة من حوله، بقدر ما هو مرفوض من المجتمع لاختلافه الواضح عما هو مألوف ومقبول، لكن الرحلة المضنية سوف تنتهى بقبول المجتمع له، وبنضجه فى التعامل مع هذا المجتمع.
تلك "الرحلة" هى ما يطلق عليه علماء الأنثربولوجيا والاجتماع مصطلح "طقس العبور"، وهو مصطلح مأخوذ عن ممارسات القبائل البدائية (وحتى المدنيات المعاصرة، وإن اختلفت الطريقة)، عندما تفرض على الصبى لكى يثبت "بلوغه" أن يخوض اختبارات قاسية مؤلمة، وهذا الألم – الذى عايشه كل منا على نحو ما، وربما ما يزال يعايشه أيضا – هو الثمن الباهظ الذى يجب علينا أن ندفعه لكى يتحقق هذا الهدف المزودوج النبيل: ألا ندع القيم السائدة تفرض علينا بلادتها وتقيد حريتنا فى الاختيار، فى نفس الوقت الذى ننجح فيه فى أن نؤثر فى الآخرين بقدر تأثرنا بهم. إنها العلاقة الناضجة بيننا وبين العالم، وإن كانت فى السياق المضطرب الذى نعيش فيه علاقة مبتورة مشوهة.
العالم الخارجى فى فيلم "كيف تروض تنينك" هو مدينة رمادية فى بلاد "الفايكينج"، مدينة لا تشعر بالاستقرار لأن هناك على أطرافها أنواعا مختلفة من التنانين، لا تتوقف عن الهجوم على المدينة واختطاف المواشى منها، لذلك فإن أهل المدينة يكرسون كل حياتهم لمحاربة هذه الوحوش، ولذلك أيضا فإن الرجل "العادى" فى بلاد الفايكنج هو عملاق ضخم الجثة متجهم الملامح، لا تكاد المشاعر الرقيقة أن تعرف طريقها إلى قلبه. فى هذا العالم ولد بطلنا الصبى هيكاب (زغطة!)، نحيل الجسم، مرهف الأحاسيس، حتى أن الآخرين من الكبار وأقرانه الصغار يسخرون منه دائما، والمفارقة الساخرة المؤلمة أن هيكاب ليس إلا ابن زعيم القبيلة ستويك، الذى يكاد أن يشعر بالعار من أن ابنه ليس فايكينج أصيلا. وهنا ندخل إلى العالم الداخلى لبطلنا الصغير، إنه يريد أن يكون نفسه لا كما يريده الآخرون أن يكون، وهو يدرك تماما أنه لا يحب أن يصبح رجلا قاسيا فى هذه المدينة الكئيبة التى لا تعرف للحياة معنى أو هدفا إلا قتل التنانين التى تحيط بمدينتهم.
بعد أن يؤسس الفيلم للشخصية الرئيسية وأزمته الداخلية، والتى هى فى جوهرها انعكاس لواقع خارجى خارج عن إرادته، يبدأ الصراع الدرامى. إن الجميع ينصحونه: "توقف أن تكون نفسك!"، ويشيرون إلى جسده الهزيل، وهو يريد أن يكون "طبيعيا" وسطهم حتى يتوقفوا عن السخرية منه، لذلك فإنه يذهب متسللا من خلف الجموع التى انشغلت بمحاربة التنانين، ويجرب أن يصطاد تنينا بأداة بسيطة اخترعها، وبالفعل فإنه يصيب التنين المعروف باسم "غضب الليل"، الذى لم يره أحد أبدا ثم عاش ليروى ماذا رأى، لأنه أخطر التنانين جميعا، لكن المشكلة أن أحدا لا يصدق هيكاب ويغالون فى السخرية منه.
يذهب هيكاب فى الصباح التالى باحثا فى الغابة عن المكان الذى يفترض أن "غضب الليل" قد سقط فيه، وبالفعل يجد التنين سجينا فى شبكة الحبال وقد فقد نصف زعنفة ذيله فأصبح عاجزا عن الطيران. هذا هو أحد أكثر مشاهد الفيلم رهافة فى المعالجة: كيف ستكون المواجهة بين هيكاب وتنينه؟ إنه يدرك أن مشاعره لن تسمح له بقتله، فيفك أسره، وعلى طريقة "أندروكليز والأسد" يتعامل برقة مع التنين الجريح العاجز عن إطعام نفسه، ويعطيه سمكة ويطلق عليه اسم توثليس (الأهتم) لأنه يستطيع إخفاء أسنانه عندما لا يحتاجها، وتنشأ بينهما علاقة رقيقة تزداد عمقا، يحاول فيها هيكاب أن يصلح الذيل المكسور للتنين، ويتعلم كيف يربت عليه فإذا به يربض فى سكينة كقطة وديعة، كما يعرف أن التنانين تخاف من سمكة صفراء، وهى المعرفة التى سوف تفيده فى معاملة التنانين.
لقد قام هيكاب بترويض التنين، لكنه تعلم أيضا من خلال هذا الترويض، وفى الحقيقة أنه ترويض متبادل، ومن الطرائف ذات الدلالة أن كريسيدا كاول مؤلفة سلسلة الروايات التى أخذ عنها الفيلم مادته، كتبت نفس القصة مرة أخرى من وجهة نظر التنين توثليس، وجاءت القصة بعنوان "كيف تروض فايكينجك"!! سوف يستخدم هيكاب ما تعلمه عندما يتدرب مع أقرانه الصغار على محاربة التنانين، فينبهرون بقدرته الغامضة التى أتته بعد شهرته وسطهم بالخوف، كما أنه سوف يثير غيرة الفتاة "الفايكينجية" أستريد، الفاتنة المقاتلة، لأن الصبى النحيل سرق منها نجوميتها فى ساحة التدريب.
تتسلل أستريد فى الغابة خلف هيكاب لنعرف سره، فتدرك حقيقة علاقته بالتنين توثليس، إنه يبدو للوهلة الأولى قد تخلى عن عقيدة الفايكينج فى قتل التنانين فتثور عليه، لكنها تغير رأيها عندما يصحبها هيكاب فوق ظهر التنين ليطير بهما فى الفضاء فى مشهد فاتن ساحر. العقدة الدرامية الآن أصبحت تتركز فى انبهار الأب بمواهب ابنه التى خفيت عليه، وهو ما يجعل الأب يقرر أن يقبض على توثليس ليقوده ورجال القبيلة إلى عش التنانين للقضاء عليهم، برغم رفض هيكاب لذلك، وهنا أتركك تكمل مشاهدة الفيلم بنفسك، لتعرف كيف انتهى الصراع.
فلنعد إلى "طقس العبور" فى تلك المرحلة الحرجة من العمر، أو قد يمتد إلى السؤال الذى يستمر طوال الحياة: هل أرضخ للقبيلة، أو أتمرد عليها؟ أم أن هناك إمكانية للتفاعل الخلاق بينى وبينها برغم اختلافى عنها؟ يؤكد الفيلم أن الاختلاف حق مشروع ومطلوب لإثراء الحياة، المهم أن "تكون نفسك"، أن تحقق ذاتك لا أن تسعى لإثارة إعجاب الآخرين ورضاهم، خاصة الآخرين الذين ترفض قيمهم ومعاييرهم المشوهة المريضة. وفى طقس العبور هذا سوف تعانى فى البداية من الألم والإنكار والاستنكار من جانب الآخرين، حتى "تنينك" سوف يتألم، وهنا أود أن أشير إلى أن إضافة التنين إليك تعنى أنه جزء منك، إن التنين لا يوجد خارجك، إنه فى داخلك وفى أعماقك، إنه الخوف والقلق والقوة الحبيسة التى تخشى أن تنطلق من عقالها، والتصالح مع التنين بداخلك هو الذى سوف يجعلك تنجح فى طقس العبور، ويجعلك "تطير" فى أجواز الفضاء، وحلم الطيران فى علم النفس والميثولوجيا يعنى دائما الإحساس بالتحرر والانطلاق، ولا يخلو من تفسيرات فرويدية، وأرجو أن تتأمل جيدا مشهد طيران هيكاب وأستريد فوق ظهر التنين، يبدأ بالخوف وينتهى بالنشوة، فى سماء ملونة حيث يمكنك أن تلمس السحاب، وتسمع موسيقى ملائكية ناعمة، كما يمكنك أن تربت عنق التنين فى امتنان لأنه حقق لك هذه الرحلة الحلم.
تأتى هذه المعانى وغيرها من خلال أسلوب التحريك شديد الإمتاع والإبهار، فمدينة الفايكينج تبدو فى البداية رمادية يخيم عليها الظلام، بينما هى فى النهاية مشرقة زاهية الألوان، فى إشارة للتغير الدرامى الذى حدث لأهلها، والتنانين مزيج من الزواحف والحيوانات المائية والطيور الملونة والقطط مع بعض الملامح الإنسانية (إنك لن تنسى عينى توثليس الجريح وهو يتوقع أن يغمد هيكاب خنجره فى قلبه)، ناهيك عن معارك الأطفال المضحكة فى تدريبهم على قتال التنانين، ورحلة الفايكينج فى مراكبهم عبر البحار.
تأمل أيضا تلك النهاية غير التقليدية لبطل فيلم من أفلام الأطفال: إن هيكاب يفقد إحدى ساقيه فى المعركة الأخيرة، تماما كما كان التنين توثليس قد فقد نصف زعنفة ذيله، فهما وجهان لعملة واحدة، ولا مبرر لخوف الفايكينج من التنانين. فى حوار بين الأب والابن يقول ستويك مشيرا إلى التنانين: "لقد قتلوا منا المئات"، فيجيب هيكاب: "ونحن قتلنا منهم الآلاف، إنهم يهاجموننا للدفاع عن أنفسهم"، فتلمس مستوى سياسيا واعيا, ونضجا فى صناعة فيلم للأطفال، إن العالم وكائناته حول المدينة ليس مخيفا كما يتصور أهلها، إن الجميع يبحث عن الطعام والمأوى، وليس هناك تناقض إذا فهم الفايكينج ذلك، وإذا تخلوا عن نزعة القتل والقتال. كل هذا ياعزيزى القارئ فى فيلم موجه للأطفال، لكننى أعترف أننى استمتعت به كطفل وناقد معا، ويكفى أنه أكد لى ما تعلمته من يوجين يونيسكو فى الماضى البعيد من مراهقتى: حتى لو تحول كل أهل المدينة إلى خراتيت، عليك رغم الألم أن تحافظ على إنسانيتك، حتى لك كنت الإنسان الوحيد.

Friday, October 22, 2010

"فاوست أمريكى: من كوندى إلى كوندى الجديدة"

بمجرد أن تسمع اسم الفيلم التسجيلى البريطانى "فاوست أمريكى: من كوندى إلى كوندى الجديدة"، سوف يتبادر إلى ذهنك على الفور صورة "فاوست" الذى باع روحه للشيطان، تلك الصورة التى أخذت أشكالا فنية عديدة عبر العصور، بدءا من مسرحيات الأخلاق التى كانت تعرض فى الكنائس فى العصور الوسطى، ومرورا بمسرحيات مارلو وجيته التراجيدية، وحتى المعالجات الحديثة التى شقت طريقها إلى السينما على نحو خاص، مثلما هو الحال فى فيلم "المسحور" Bedazzled فى نسختيه الكوميديتين: البريطانية (1967) والأمريكية (2000)، وإذا كان الشىء بالشىء يذكر، فلا مناص من أن نذكر أيضا النسخة الهزلية المصرية التى تحمل اسم "طير إنت" (2000)، وبرغم اختلاف المعالجات الفنية بينها جميعا، فهى ما تزال تطرح نفس السؤال الجوهرى الذى يلمس وترا حساسا فى أعماق كل إنسان: ماذا يفيد الإنسان إن ربح العالم وخسر نفسه؟
لكن فيلم "فاوست أمريكى" لا يتوقف عند هذا السؤال الأخلاقى، فهو ليس أمثولة ولا موعظة تقول للإنسان أن من الخير له ألا يبيع روحه للشيطان مقابل أى ثمن كان، لكن "فاوست أمريكى" فى جوهره "مذكرة ادعاء" بمعنى الكلمة، ضد من يشير إلى أنهم مجرمو حرب تجب محاكمتهم، غير أن ما نؤكد عليه من البداية أن الفيلم يتخذ طريقا مغايرا تماما لأسلوب مايكل مور، بقدر ما يقترب من أسلوب السينمائى التسجيلى الأمريكى المهم إيرول موريس، فالفيلم يبدو محايدا تماما فى وضعه "الحقائق" متجاورة، بدون تدخل واضح من صانع الفيلم الذى لا نكاد نشعر بوجوده، ولا نرى صورته أبدا، وهو لا يحفز من يقوم بتصويرهم على الإدلاء بشهادة تأخذ مسارا مسبقا، وهو بذلك أقرب إلى مدرسة "سينما الحقيقة" cinema verite منه إلى "السينما المباشرة" direct cinema، إنه يترك شخصيات الفيلم تختار الجانب الذى يعبر عن موقفها من مادة الموضوع، لكن هذا لا يعنى بالطبع أنه ليست هناك فى الفيلم "وجهة نظر"، وهى التى تنشأ عن "تجاور" اللقطات والمشاهد والحقائق، هذا التجاور الذى يقود المتفرج – دون أن يشعر – إلى تبنى وجهة النظر التى يطرحها الفيلم.
ووجهة النظر فى فيلم "فاوست أمريكى" هى تقديم هذا الـ"فاوست" للمحاكمة، ليس فقط لأنه باع روحه للشيطان، لكن لأنه لم يشتر السلطة والقوة مقابل روحه وحدها (بالمعنى المجازى للكلمة)، ولكن مقابل أرواح عشرات ومئات الآلاف من الأرواح (بالمعنى الحقيقى للكلمة) لبشر ضاعوا ضحية طموحه المجنون إلى السلطة. فى نفس الوقت فإن الفيلم يضع على طاولة التشريح فترة من أصعب الأوقات التى مرت بها البشرية فى السنوات الأخيرة، فترة امتزجت فيها السياسة بالـ"بيزينيس"، فترة يقولون أنها تشهد وجود ذلك الوهم المسمى "القرية العالمية الواحدة"، تحت الشعار الزائف بالعولمة، بينما ما تزال فى هذه القرية قصور ينعم أصحابها بالرفاهية، وأكواخ يموت قاطنوها من الجوع، وربما كان مصيرهم هو القتل إذا تصور الأغنياء أن الفقراء يمثلون خطرا عليهم، بما يذكر على الفور بالفيلم الروائى الذى نظلمه باعتباره فيلما للرعب، وهو فيلم المخرج جورج روميرو "أرض الموتى".
إذا أردت فيلم رعب تسجيليا بحق (بالطبع دون المؤثرات البصرية والسمعية لأفلام الرعب!) ففيلم "فاوست أمريكى" هو ضالتك المنشودة، الذى يبدو فى الجانب الأكبر منه كأنه تسجيل للرحلة "الأوديسية" التى سارت فيها كوندوليزا رايس، من الأحياء الفقيرة التى ولدت فيها فى النصف الأول من الخمسينات، حتى اعتلائها قمة السلطة التى يمكن أن تصل إليها، وانتهاء بالابتعاد عن الأضواء ولكن فى انتظار مستقبل ما، قد يتراوح – كما يوحى الفيلم – بين عودة "كوندى" إلى رئاسة جامعة ستانفورد، وممارسة الجولف والعزف على البيانو كما تقول هى، وبين محاكمتها وشركائها على ما يعتبره البعض جرائم حرب ارتكبوها مع سبق الإصرار، فى حق كل ما فى التاريخ الإنسانى من مُثُل أخلاقية، والأفظع أنه تم ارتكاب هذه الجرائم باسم هذه المُثُل!!
وفى الفيلم "قصة" كما ينبغى لكل عمل فنى أن يكون، والقصة هنا بالمعنى الأوسع للكلمة، فحتى المقال او الموضوع الإخبارى التقريرى يحتوى على قصة ما: بداية ووسط ونهاية، ويحتوى على بناء درامى، وكل عمل فنى يشبه على نحو ما مذكرة قانونية للادعاء أو الدفاع، يتم فيها ترتيب الحقائق على نحو محدد لكى تقود المتلقى إلى نتيجة محددة، ولعل هذه الأمر بعيد عن تصور البعض منا خاصة عن السينما التسجيلية، لكن "فاوست أمريكى" يضرب لنا مثلا بالغ البساطة والوضوح والتماسك فى كيفية "بناء" فيلم تسجيلى (ومن المؤكد أن هناك ما لا نهاية من الأبنية فى عالم الفن)، سواء على مستوى الشكل أو المضمون أو وجهة النظر.
وإذا كان الفيلم يعتمد فى مادته على لقطات أرشيفية فى الجانب الأكبر منه، مع شهادات لشخصيات عامة وخاصة تعرف طرفا من حياة وأوجه "البطلة" كوندوليزا رايس، لذلك يأتى معظم بناء الفيلم من رؤية كاتبه ومخرجه سيباستيان دوجارت، ومونتيرته ومنتجته ديانا ديشيلليو. ومثل هذه النوعية من الأفلام تجد بناءها النهائى على طاولة المونتاج، حيث يتشارك المونتير والمخرج فى صياغة "الرؤية" الفنية والسياسية، وهى هنا تقوم على فكرة رئيسية: "تجاور الأضداد أو المتناقضات"، فالفيلم فى كل لحظة منه يضع إلى جوار كل لون لونا يصنع معه تناقضا حادا، ويقطع كل خط مع خط آخر يتعامد عليه، فكأنك أمام لوحة من "بوليفونية" من الألحان، لكن من المؤكد أن الجمع بينها سوف يتركك وأنت فى حالة مزاجية وذهنية يغلب عليها مزيج من الأسى والغضب.
فى بداية الفيلم لقطات خاطفة عديدة لشخصيات "شهيرة" فى الثقافة الأمريكية، بوش الكبير والصغير، ونائبهما ديك تشينى، وشوارزينيجر، وأوبرا وينفرى، جميعهم يلقى بكلمات المديح لكوندى، التى جمعت صفتين كانتا – من وجهة نظر الثقافة الأمريكية - كفيلتين بوضع عقبات أمام وصولها إلى ما وصلت إليه: إنها زنجية، وامرأة. هنا لابد أن يتساءل المتفرج: أليس ذلك تأكيدا على أنها استثناء، وأن القاعدة ما تزال هى التمييز بسبب اللون أو الجنس؟ وسوف يجد المتفرج الإجابة المذهلة فى مشاهد لاحقة متناثرة من الفيلم بأن هذا "التمييز" ذاته كان أحد أسباب صعود نجم كوندى!
يعود الفيلم فى بدايته إلى فترة الطفولة، ابنة لأب قس فى كنسية صغيرة فى مدينة صغيرة، كان كل حلمه أن يجنب ابنته خوض آلام فترة الخمسينات والستينات خلال ذروة نضال الزنوج من أجل حقوقهم المدنية، وحركات العنف والعنف المضاد بين البيض والزنوج، والتى وصلت إلى ذروتها باغتيال مارتين لوثر كينج، وحرق بعض أحياء السود، ومن بينها كنيسة قريبة لحى كوندى حيث لقى فيها عشرات الأطفال الأبرياء مصرعهم. أراد الأب أن يبعدها عن "السياسة" (وأنت تعلم ما انتهت هى إليه)، وكانت حجته التى يؤمن بها أنه إذا أراد الزنوج الحصول على حقوقهم فمن خلال تحقيق مستوى أفضل من التعليم والكرامة والكبرياء. فى فترة الصبا تلك كانت كوندى تحلم بأن تكون عازفة بيانو شهيرة، ويعلق أستاذها فى هذا المجال أنها كانت بارعة فى تنفيذ التعليمات التقنية للعزف، لكنها كانت تفتقد "الإحساس العاطفى" بما تعزف. وعندما أدركت هى أنها لن تحقق نجاحا كبيرا فى هذا المجال قررت أن تتوقف عنه "لأنها لا تريد أن تكون رقم 2".
وهنا تبدأ المرحلة الثانية من حياتها، طالبة للعلوم السياسية على يد البروفيسور كوربيل، التشيكى المهاجر الذى ترك تأثيرا قويا فى الأوساط السياسية الأمريكية، لقد كان هو أبو مادلين أولبرايت بقدر ما كان الأب الروحى لكوندى، لكن تأثيره الأهم هو مدرسته فى "السياسة الواقعية"، التى تنادى بأن التاريخ تصنعه القوة، والأمر الواقع يفرض نفسه، بعيدا عن أى حديث عن المثل والمبادئ والأخلاق (ليت بعض سياسيينا يعرفون ذلك!)، وكانت نظريته قد تأكدت – كما يوضح الفيلم فى لقطات أرشيفية – من خلال التدخل العسكرى الأمريكى فى مناطق مختلفة من العالم، ناهيك عن حرب فييتنام المروعة التى سوف يعرض لك الفيلم بضع لقطات شهيرة عن فظائعها.
وفى الوقت الذى تخصصت فيه كوندى فى الشئون السوفييتية، فى ذروة الحرب الباردة خلال السبعينات، عرفت قصة حب خاطفة مع لاعب البيسبول أبتشيرش، الذى تعرفت عليه من خلال عشق أبيها لهذه الرياضة، وبالفعل تتم خطبتهما التى لم تستمر شهورا دون أن تتكلل بالزواج: لقد تلقت كوندى عرضا بالعمل فى إدارة الرئيس (من الحزب الديموقراطى) جيمى كارتر، وهكذا قررت الذهاب إلى واشنطن بعد أن أعادت خاتم الخطبة، ليؤكد لنا الرجل فى شهادته: "لقد فضلت السلطة على الحب".
ربما كانت هذه الجملة هى مفتاح شخصية كوندى، لكن الحقيقة أنها فضلت السلطة على كل ما يمكن للإنسان أن يحنى الجبين له. ففى غضون سنوات قليلة سوف تدرك كوندى أن الحزب الديموقراطى يتراجع، فقررت الانضمام على الفور إلى الحزب الجمهورى (لقد عادت بعد ذلك لفترة قصيرة للديموقراطيين مرة أخرى لتستقر فى النهاية فى أحضان الجمهوريين)، وهى تجد الشجاعة لتبرير كل ما تفعل، فى صفة سوف تصبح ملاصقة لها على الدوام. إنها تقول أن أباها كان جمهوريا لأن الديموقراطيين رفضوا إعطاءه بطاقة انتخاب، لذلك فقد كانت منذ البداية من الجمهوريين!!
فى الحقيقة أنها تتمتع بذكاء "واقعى" بالغ جعلها تدرك أن نجم الحزب الجمهورى فى تصاعد، خاصة فى فترة بارانويا سياسة رونالد ريجان (هل تتخيل أن رئيسا يستخدم اسم فيلم ليصف سياسته؟ هكذا فعل مع "حرب النجوم"!!). هنا كانت فترة صياغة أفكارها وتكوينها النفسى، وما ساعد على ذلك استعدادها الذى سوف يشرحه أحد زملاء دراستها فى مشهد لاحق بأنها كانت على استعداد دائما لتغيير آرائها من أجل إرضاء أساتذتها، وكان من تعاليم أستاذها فى هذه المرحلة، رونالد ريجان، أن القوة هى الهدف: "ليس مهما أن تكون أمريكا محبوبة فى العالم، المهم أن تنتزع الاحترام".
ساعدتها فى تلك الفترة دراساتها السوفيتية على أن تكون طرفا فاعلا فى اللقاء بين غريمى الحرب الباردة، أو بالأحرى فى تقويض المعسكر الشرقى كله. لكن بقدر ما كان ذلك نقطة إيجابية فى إنجازاتها فإنه كان يمثل أيضا تهديدا لانتهاء دورها السياسى بعد انتهاء الحرب الباردة، لكن كوندى عرفت كيف تلحق بالقطار الذى يقف متأهبا للإقلاع: قطار "المحافظين الجدد"، ومجموعة "صناعة الفكر" فى معهد هوفر للجمهوريين، حيث التقت وجورج شولتز، وواينبيرجر، وفى فترة لاحقة مع رامسفيلد وديك تشينى، ولترتبط بعلاقة عمل طويلة الأمد مع جورج بوش الأب الذى سوف يفتح لها طرقا عملية حتى فى فترة كلينتون من الحزب الديموقراطى. وخلال التسعينات لاحت لها فرصة أن تترأس جامعة ستانفورد حيث تعاملت مع زملائها بقدر هائل من القسوة المهنية، ثم فى مجلس إدارة شركة شيفرون للنفط التى كانت سببا فى مجازر عنيفة فى نيجيريا على يد الحكومة لأن أهل البلاد طالبوا بنصيبهم من هذه الثروة النفطية.
تأتى الفرصة الذهبية لكوندى مع استعداد جورج بوش الابن لترشيح نفسه للرئاسة، لقد كان جاهلا تماما فى السياسة الخارجية (هناك عشرات النوادر عن جهله فى هذا المجال، يتضمن الفيلم بعضا منها)، وتم اختيار كوندى لتكون مستشارته ومعلمته فى هذا المجال، لتبدأ بينهما علاقة عمل غريبة. لقد اختارها بوش مستشارة للأمن القومى، ويقارن الفيلم بين تواضع إمكاناتها مع سابقيها مثل كيسينجر، لكنها تكون قد قررت أن تستولى على الرئيس تماما، وفى إشارات يغمز بها الفيلم يقول بوش عنها أنها موعده الغرامى، ويسألها فى إحدى جلسات الأمم المتحدة إن كان يستطيع الذهاب إلى دورة المياه، وهى تشير إليه عند الحديث عنه بوصفه "زوجها"، ومن المؤكد أن الفيلم لا يقصد أبدا إلى التلميح الجنسى، وإن كانت العلاقة أكثر خطرا بكثير لأن آثارها تطال العالم كله.
وفى تطور يشبه المسرحيات التراجيدية تقع أحداث الحادى عشر من سبتمبر عام 2001، لقد كان من الممكن أن تكون الضربة القاضية على كوندى وحياتها السياسية، لأنها – مستشارة الأمن القومى – كانت قد تلقت تحذيرات من وكالة الخابرات المركزية بهجوم إرهابى وشيك، لكنها تجاهلته. وبدلا من الاعتراف بالتقصير بدأت مأساة "الحرب على الإرهاب"، اخترعت فيها أعداء وهميين، وتلاقت أهدافها مع رغبة بوش فى الانتقام من صدام حسين، وأهداف "البيزينيس" القذر عند المحافظين الجدد، حتى أن بوش رفض لمرات عديدة تقارير المخابرات عن أن العراق يخلو من أسلحة التدمير الشامل المزعومة، وهكذا بدأت الحرب التى دمرت وطنا بأكمله، وأعادته عشرات السنين إلى الوراء.
من جانب آخر كانت استراتيجية الحرب المزعومة ضد الإرهاب تتضمن تعذيب المشتبه بهم، بكل الطرق التى لا يمكن تخيل قدر بشاعتها، بحجة استخراج المعلومات منهم. وفى هذا السياق يعرض الفيلم كيف أن النظام الأمريكى يستطيع وقتما يشاء أن يخرق دستوره وكل الاتفاقيات الدولية التى ينادى فى مواقف أخرى بأن تحترمها دول العالم الضعيفة. تأمل على سبيل المثال تعليق بوش على أن اتفاقية جينيف تمنع تعذيب الأسرى وإذلالهم، إنه يقول بصلف: "تلك كلمات غامضة تماما، ماذا تعنى بالضبط؟"!! (يقطع الفيلم هنا مباشرة على أكداس الأسرى العرايا معصوبى الأعين فى سجن أبو غريب). وبينما كانت كوندى قد بررت من قبل الحرب على العراق بوجود وسائل لصنع أسلحة نووية، فإنها بعد فضح الكذبة تتمادى فى الكذب: "لم نخض هذه الحرب لهذا السبب ولكن لأن صدام طاغية وحان وقت التخلص منه"، كما أنها تدافع عن تعذيب المعتقلين فى جوانتانامو التى تراها "ضرورة لأنها جزء من الحرب على الإرهاب، هل تريدون أن يسير الإرهابيون فى شوارعنا؟". وفى أبشع صور خرق كل الأعراف القانونية تخترع كوندى تعبيرا لم يعرفه التاريخ من قبل: extraordinary rendition والذى يعنى تسليم المعتقلين المشتبه فيهم لدول أخرى لتقوم بالتحقيق معهم من خلال التعذيب الوحشى، وتنكر تماما النص القانونى habeas corpus الذى يفرض عدم احتجاز إنسان دون تقديمه للمحاكمة وتوجيه اتهام محدد له وتوفير فرصة له للدفاع عن نفسه.
وصلت كوندى إلى منصب وزير الخارجية، وتمادت فى سطوتها، لتتعاقد مع شركة "بلاك ووتر" (فرق الموت المرتزقة) بحجة توفير الدفاع للدبلوماسيين فى العراق، حيث ارتكب أفراد الشركة – المتمتعين بالحصانة!! – جرائم مروعة، وبينما كان عقد الشركة بمليار دولار فقد كان تعويض الضحية من العراقيين عشرة آلاف دولار! لقد كانت كوندى تبرر ذلك كله بأن ثلاثة آلاف أمريكى ماتوا فى الحادى عشر من سبتمبر، وكان رد محاورها أن نصف مليون أمريكى ماتوا فى الحرب العالمية الثانية لكن ذلك لم يسمح أبدا بتعذيب أسرى الحرب.
لقد عادت كوندى الآن إلى جامعة استانفورد، لكن وسط حملات تطالب بمحاكتها وشركائها على كل جرائم الحرب التى ارتكبوها. وهى وشركاؤها يستطيعون الإنكار تلو الإنكار، لكن هل يصمت العالم على الجريمة، التى يمكن تكرارها لأن المجرمين يفلتون من العقاب بهذه الطريقة؟ ذلك هو السؤال الذى يطرحه الفيلم بشكل غير مباشر، وإذا كان الفيلم ينتهى بالإشارة إلى عنوانه "فاوست أمريكى" بأننا أمام شخصية شكسبيرية تدفع أى ثمن مقابل السلطة، فإن المرء لا يملك أن يتساءل أحيانا: من لعب دور فاوست، ومن كان الشيطان؟ هناك فى الفيلم لقطة فوتوغرافية تكررت مرتين، وهى أيضا "بوستر" الفيلم: جورج بوش فى مقدمة الكادر جالسا على مكتبه، بينما كوندى فى الخلفية تنظر إليه فى دهاء، فربما كانت هى التى لعبت دور الشيطان. بل إن "الفاوستية" هى جوهر "الحلم الأمريكى" الذى يلخصه الفيلم فى تلك العبارة المخادعة على لسان كوندى: "ليس مهما من أين جئت، المهم أن تستطيع أن تحقق ما تريد"، وليس هناك إشارة واحدة على "كيف" تحقق ذلك دون أن تفقد إنسانيتك أو مبادئك الإنسانية. كما تجد فى العنوان الفرعى للفيلم تلاعبا لفظيا ليس غريبا على الإنجليز المغرمين بالتوريات pun، تأمل كيف كتب "كوندى الجديدة" مستخدما neo بدلا من new، والـ neo-con هم المحافظون الجدد.
يبرز الفيلم لغة الخطاب الأمريكى الذى يجافى المنطق أحيانا أو يلوى عنقه، إن كوندى تقول عن منعطفات حياتها أن تلك جزء من خطة إلهية أكبر، وتنسى أنها بالأحرى جزء من خطة سياسية أكبر، فليس هناك مبرر دينى واحد فى أن يضع بوش أمام العالم اختيارين لا ثالث لهما: "إما أن تكونوا معنا أو مع الإرهابيين"، أو أن يكون ثمن "الدفاع عن الطريقة الأمريكية فى الحياة" هو قتل وتعذيب ملايين البشر لأنهم غير أمريكيين ولا يتبعون "الطريقة الأمريكية فى الحياة". وبعيدا عن هذه المبررات المزعومة فإن جوهر السلام الأمريكى Pax Americana هو "القوة"، هو "الصدمة والرعب" كما أطلقوا على الحرب ضد شعب العراق، وليس لذلك علاقة بالحديث المزعوم عن الحرية والديموقراطية. فى نهاية الفيلم يرفع بعض أفراد الشعب العراقى أصابعهم المخضبة بالحبر بعد انتخابات فشلت حتى كتابة هذه السطور فى تشكيل حكومة عراقية، واللقطة التالية مباشرة هى عشرات المواطنين الأمريكيين يرفعون فى وجه كوندى أصابعهم المخضبة باللون الأحمر، فى إشارة إلى جرائم الحرب والتعذيب. هذا هو التجاور ذاته فى المزج بين صورة كوندى الطفلة البريئة وصورة كوندى المرأة الصارمة القاسية. وهو أيضا التجاور بين بوش يقول أن "أمريكا محظوظة لأنها نالت خدمات كوندى"، والفنان السينمائى والناشط السياسى شون بين وهو يؤكد: "مكان هذه المرأة هو السجن". المرأة، الزنجية، التى نسيت زنوج نيوأورليانز فى محنة إعصار كاترينا، ويشير فى الفيلم المخرج الزنجى سبايك لى أنها كانت تتسوق بضائع فاخرة بينما الزنوج يموتون"، حتى أنهم يقولون أمام الكاميرا: "إنها ليست واحدة منا"، والحقيقة أنها لم تعد أيضا واحدة من البشر عندما باعت روحها للشيطان، أو عندما قررت أن تلعب دور الشيطان ذاته!