Friday, August 27, 2010

الحلم بالتغيير الحقيقى يبدأ بالمناضلين ومعرفة معنى النضال




هذا ليس زمن الكتابة، أكرر لنفسى هذا القول منذ سنوات ومع ذلك لا أزال أكتب! لعلها حلاوة الروح مثل انتفاضة الذبيح قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة، أو لعله الخوف من الشعور القاتل بالوحدة وسط الزحام، فلا أجد مفرا من أن أهمس بالنداء فربما استأنست برجع صدى همساتى ... لكن المؤكد ياعزيزى القارئ أننى أدرك تماما أن كلماتى لن تغير فى الواقع الكئيب شيئا، لأن هذا ليس زمن الكتابة.
أعرف وأعترف أن هناك العشرات – بل المئات – من أصحاب الأقلام يملأون أعمدة الرأى، التى أصبحت "موضة" فى صحفنا جميعا دون أن تقوم هذه الصحف بمهمتها الحقيقية، ودائما هناك أعلى كل عمود صورة الكاتب مبتسما (لا أدرى لماذا) كما قد ترانى هنا، وتلك "موضة" أخرى تنفرد بها الصحف المصرية، لكن هل تساءلنا حقا إذا ما كانت كل هذه الكتابة تساهم ولو بأقل من القليل في صنع مستقبل أفضل؟ مستقبل أفضل للكاتب وحده؟ ربما، وأستطيع أن أدلك على مناضلين عديدين قفزوا إلى لجنة السياسات وأصبحوا أبواقا لها. لكن لمصلحة الوطن بحق؟ أشك. فى الماضى القريب كان من يكتبون يقرأون لبعضهم البعض دون أمل فى أن تصل كلماتهم للمرسل إليهم الحقيقيين، أما اليوم فقد توقفنا حتى أن نقرأ لبعضنا البعض، لكننا مستمرون فى الكتابة. إثبات موقف؟ يمكن. حلم بالتغيير؟ جائز. انتهاز للفرص ليحمل البعض اسم "كاتب"؟ لا شك. الدخول فى اللعبة لعل "البلية" تلعب ويحدث التغيير المستحيل فيجد الكاتب مكانا جديدا فى الواقع الجديد؟ عشم إبليس فى الجنة. اختلفت الدوافع، وكل من يشترك فى مولد الكتابة له حلمه الخاص، الخاص جدا، وهذا ما يؤكد مرة أخرى أننا لسنا فى زمن الكتابة.
هل تأملنا يوما وجوه الناس، ملايين الناس، المكدودة المتعبة فى كل شرائحها، وتساءلنا إذا ما كان هناك عشرة منهم قد قرأوا ما نكتب، وهل اقتنعوا بهذه الكتابة؟ ربما تجد جانبا من الإجابة فى تعليقات القراء على بعض المواقع الإلكترونية، وسوف تكتشف أن الكتابة الأكثر شهرة هى تلك التى تستغل – عمدا – قضايا ملتهبة لتزيدها التهابا (لقد أصبحت مدرسة هالة سرحان وتلاميذها وتلميذاتها هى الأكثر نجاحا!!)، ويفرح الكاتب بتكاثر عدد التعليقات التى يمسك بها القراء بخناق بعضهم البعض، فى حوار يفتقد إلى أبسط قواعد الموضوعية والفهم، ولن تدرى إن كان الكاتب قد حقق هدفه بهذه الطريقة، كما سوف تفاجأ بالأخطاء الإملائية والنحوية للقراء على نحو فادح فاضح يعكس غياب غياب الحد الأدنى من التعليم - فكيف الحال بالثقافة؟ - وإن أكثر من يسمون أنفسهم كُتَّابا فى الآونة الأخيرة لا يصيبهم الأرق أبدا لأنهم لا يعرفون اللغة العربية بحق، وإن نصبوا من أنفسهم أحيانا خطباء سياسيين فى موالد لجنة السياسات، أو وعاظا دينيين فى زوايا وكتاتيب الجرائد.
ومع ذلك فإن تلك الشريحة من قراء المواقع الإلكترونية ليست إلا نقطة فى بحر، هذا البحر العميق اللاهى عن أمثالنا ممن يلعبون على شاطئ الكتابة، وسوف أحكى لك تجربتى: إننى أذهب لمشاهدة الأفلام بحثا فى الأغلب عن الاستمتاع الفنى، وأحيانا أحب الكتابة عنها، لكننى أنظر حولى فى قاعة العرض وأبحث عن جمهور "حقيقى" فلا أجد، لقد جاءوا هنا للهو، ولاستكمال "فسحتهم" فى "المول"، إنهم يضحكون على ما لا أضحك منه (وربما أكشر أيضا!)، ويثرثرون عندما تكون هناك مشاهد تحتاج إلى تأمل، فهل لهؤلاء أكتب؟ ماذا أكتب؟ ولماذا؟ إننى لم أجد خلال السنوات الأخيرة اتفاقا فى الرأى بينى وبين هذا "الجمهور" ولو لمرة واحدة، وأنا هنا أضع كلمة الجمهور بين قوسين لأننى ما أزال أؤكد أن السينما لدينا ليس لها جمهور، فإذا كانت الإحصائيات (الصادرة بالمناسبة عن مؤسسات رسمية) تشير إلى أن معدل الذهاب إلى دور العرض فى مصر لا يتعدى مرة واحدة كل سبع سنوات (!!)، فهل نظل نتحدث بثقة أن لدينا صناعة سينما، بينما الحقيقة كلها أن لدينا أفلاما مصنوعة بالحد الأدنى من الفن، يطرحونها فى دور العرض لتحصد "الغلة" الأولى، ثم تباع إلى الفضائيات التى تعرضها فى أكثر الظروف سوءا، بشريط الرسائل النصية التى يتبادل فيها المشاهدون والمشاهدات عبارات الغزل، وبعشرات الإعلانات التى "تبهدل" أى بناء درامى، فيزداد ذوق "الجمهور" وعاداته فى المشاهدة سوءا، دون أن يعترض صناع هذه الأفلام على تلك الطريقة فى العرض، وإن كان "المخرج" المنتشر – بذكائه فى الإعلان عن نفسه بكل الوسائل وليس أبدا بأية موهبة يملكها – قد اعترض فقط على حذف إحدى القنوات للمشاهد الجنسية الصريحة من فيلمه.
إننى لا أفكر لحظة واحدة فى ألقى بالمسئولية على الناس، فهم لا يذهبون إلى دور العرض لأنهم لا يكادون أن يكملوا الشهر خبزا حافا، ولا يبقى لديهم ما يكفى لنوع من الترفيه مثل السينما، فى ظل الدروس الخصوصية، وصعوبة الانتقال التى تجعل المرء يحمد ربه على أنه وصل سالما – بالصدفة – إلى منزله ليستلقى أمام التليفزيون، ناهيك عن أن الأغلب الأعم من الناس يمارسون عملين أو ثلاثة فى اليوم الواحد حتى يستطيعوا توفير حد الكفاف لأسرهم. لا يمكن فى ظل هذه الظروف أن أطالب "الجمهور" بأن يرتفع ذوقه، أو يتنوع على أقل تقدير، قكل ما يبقى له من جهد ذهنى لا يكاد أن يكفى إلا أن يحملق كالمخدر فى شاشة التليفزيون، يتفرج على أكثر البرامج سفاهة، وأبشع التمثيليات تفاهة، فهل لهؤلاء أقول أن المسلسل الدرامى "سقوط الخلافة" عمل راقٍ بينما هم يرون فى فجاجة "عايز أتجوز" و"الكبير قوى" فنا رفيعا؟
السينما والتليفزيون – مثلهما مثل كل الفنون الأخرى – هما فى جانب منهما ظاهرة "اجتماعية" (وأقصد بهما أنها تشمل الأبعاد الاقتصاية والسياسية والثقافية والدينية)، ولا يمكن أن أفصلهما عن سياقهما، كما يجب علىّ أن أضع الكتابة الصحفية السائدة عنهما فى سياقهما أيضا، كتابة هى فى معظمها استهلاكية لا تختلف عن آراء هؤلاء المنومين مغناطيسيا أمام الشاشة، وهى بعض الأحيان دعائية إعلانية، صريحة أو خفية، أما القليل جدا منها الذى تنوى أن تكون كتابة جادة فهى لا تحمل العنوان الذى تريد أن تصل إليه، وإذا حملت عنوانا فإنه لا يستدل عليه!
هذا ليس زمن الكتابة، ليس لأن الناس غير مستعدين لأى حوار عقلى ووجدانى حقيقى مع الكاتب، ولكن لأن الناس غير مؤهلين لذلك بسبب ظروفهم، تلك الظروف التى لم يصنعوها لأنفسهم، وإنما مارسها "ضدهم" نظام يعمل منذ أكثر من ثلاثة عقود بنظرية "عوامل التعرية" التى تثلم كل يوم قليلا من وجدانهم وإحساسهم بالحياة والمعنى والهدف، نظام يريدهم ويريدنا قطعانا يسوقونها للحرث والحلب والذبح، ويضع على أعينهم قناعا يمنع عنهم النظر من حولهم ليدركوا أن العالم أكبر من الدائرة الخانقة التى يعيشون فيها، وأن فى هذا العالم إمكانات حقيقية للخروج من الأزمة، أية أزمة، باتباع المنهج العلمى وترتيب الأولويات، لكن المفارقة شديدة المرارة أن الشعب المصرى اليوم، فى ظل ثورة المعلومات الهائلة فى العالم كله، يعيش معزولا عما حوله، راضيا بجهله وربما فخورا به أيضا، ويكتفى بالقول الرائج الذى يروجه النظام بأن "مصر فوق الجميع"، بينما المصريون يعانون فى مجالات الصحة والتعليم والسكن والعمل والثقافة معاناة تجعلهم فى مرتبة أدنى من هؤلاء الجميع!!
لكننى لا أستطيع أيضا أن ألوم النظام وحده على هذه الجريمة، فنحن جميعا شركاء فيها. منذ أيام استمعت بالصدفة إلى صحفى لا تربطنى به إلا روابط الود، علا نجم صديقنا وأصبح فى الأعوام الأخيرة من "نجوم الإعلام" (أرجو أن يدرك القارئ أن مفهوم النجومية والإعلام لدينا له مواصفات متعلقة بالفلوس فقط). استطاع صديقنا الصحفى فى البداية استخدام علاقته الوثيقة بالفنانين والفنانات الذين أصبحوا ضيوفا على برامجه التليفزيونية، ثم انتقل لدور "الإله فوق الآلة" كما فى المسرحيات الإغريقية، يهبط من السماء فى نهاية المسرحية حاملا لواحد من "الغلابة" شقة أو بعضا من المال. قال صديقنا أنه لاحظ فى الآونة الأخيرة "تغيرا" سلبيا فى الشعب المصرى الذى أصبح عدوانيا، والدليل على ذلك كما يقول صاحبنا أنه عندما كان يمنح الفائز فى برنامجه خمسين ألفا من الجنيهات لإجابته على سؤال فى المعلومات "العامة جدا"، فإن "الجماهير" كانت تنقضّ على صاحب النصيب وكل منهم يصرخ: "عايز حقى"، ورأى الصديق أن ذلك يحتاج إلى عالم اجتماع ليفسر هذه الظاهرة.
وأنا أسأله بصدق: ألا تدرك التفسير حقا، أم أنك تتجاهله؟ إنك ياصديقى لست إلا أحد أدوات النظام فى تعرية هذه الجماهير من كل القيم الإيجابية. إنك لا تضيف لهم ببرامج الفنانين ما يجعلهم أقدر على فهم واقعهم والقدرة على تغييره، وأنت ببرامج الشقق والفلوس تزرع بداخلهم قيمة "الحظ"، وأن تحقيق الاحتياجات الأساسية لكل إنسان فى أى نظام ليس مسئولية الدولة والوطن والحكومة لكى يكونوا جديرين بهذه الأسماء، لكن النجاح يصبح مرهونا بفرصة فردية تماما، تعتمد على الصدفة أو التسول، أو كما يحدث الآن على العدوانية وانتزاع "الحق" بالذراع وربما بالسكين أيضا.
صديقى هذا يعرف أنه جزء من النظام، ويعيش عليه ويتعايش معه، ومع ذلك فإنه يعلن أنه ضد هذا النظام أحيانا، وهكذا يفوز بالحسنيين معا، مكاسب النظام وود المعارضة، تلك المعارضة التى تعارض النظام فى الصباح وتلتقى معه فى المساء فى حفلات الزفاف وأعياد الميلاد، كما تشهد صفحات "المجتمع" المستفزة والتى لا تخلو منها جريدة معارضة واحدة، دون أن تفسر لنا لماذا تنعم تلك "الصفوة" بما لذ وطاب بينما عشرات الملايين لا يجدون اللظى. وصديقى ليس وحده، فهو خيط فى نسيج كامل من الذين يطلقون على أنفسهم "الصفوة المثقفة"، الذين يطفون على السطح دائما فى كل الظروف مهما علا الفيضان، يعلنون نقدهم للوضع السائد بينما هم يستفيدون منه فى كل لحظة، وربما هم فى قرارة أنفسهم لا يرغبون فى تغييره حقا حتى لا تبور بضاعتهم، ولكى لا يتحلل هذا "الجيتو" الذين يعيشون فيه، يتبادلون فيه المجاملات، ويوزع أرباع الموهوبين ألقاب النجومية على أنصاف الموهوبين، فى السياسة والفن والأدب، وهى مجالات تشهد انحدارا حقيقيا حتى فى صفوف من يزعم أنه ضد النظام، بل إن بعضهم قد يركب موجة معارضة النظام لكى يستر نقص موهبته. هؤلاء هم "نجوم" عصرنا من بين الموالين للنظام ومعظم المعارضين له، نجومية الذى يستظل بالنعيم ويتحدث عمن يكتوون بالنار وهو يتعامى عن معاناتهم الحقيقية، وكيف له أن يعرف مرارة من لا يجد كساء يستر به جسده بينما "النجم" يظهر على شاشة التليفزيون فى بدلة تلمع تحت الضوء؟ لذلك لا تستغرب أن يتحدث هؤلاء بكلمات غائمة عائمة مثل "التغيير"، تغيير ماذا وإلى ماذا ولماذا (والأهم كيف) فهذا كله لا يهم، لذلك سوف يعتلى جمال مبارك كرسى السلطة ليس لأنه أقوى حقا بأنصاره من سماسرة السياسة ورجال الأعمال، وإنما لضعف الكثيرين ممن يعارضونه.
كنت أحلم منذ سنوات بجمعية وطنية تضم المئات من مثقفينا الحقيقيين فى كل المجالات، جمعية وطنية تقدم رؤية واضحة للوضع السائد وكيفية تغييره، على غرار ورقة الدكتور محمد غنيم التى يمكن أن تكون نقطة بداية ونواة لأجندة مثل هذه الجمعية، لكن "النضال" يدور الآن فى إطار عدد محدود لا أشكك فى صدق نوايا معظمهم، لكنهم بعيدون عن الجماهير، على مستوى العقل والعاطفة والفعل، وهذا "الفعل" النضالى الحقيقى والصادق هو الحل الوحيد فى زمن لم يعد أبدا زمن الكتابة.

Wednesday, August 25, 2010

تأملات ناقد مقهور عن السينما التسجيلية والسياسة والنضال


خلال نشاطات مهرجان الإسماعيلية الدولى العاشر للأفلام التسجيلية والقصيرة، وفى الندوة التى أقيمت حول الفيلم اليابانى التسجيلى الطويل "أيها المارينز عودوا لبلادكم" من إخراج فوجيموتو يوكيشا، تقدم واحد من الرعيل الأول للنقاد السينمائيين المصريين، وأبدى اعتراضه لأن الفيلم ليس "سينما" لابد لها أن تحتوى على تقنيات وجماليات وأبعاد من ذلك النوع الذى يستغلق على الجمهور "العادى" فهمه، حتى تتاح للناقد "الأخصائى" أن يفحص الفيلم ويكتب "الروشتة" التى يجب على المشاهدين إتباعها للفرجة على الفيلم، وأعتقد أن ناقدنا الرائد كان يتحدث عن سينما بعينها فى رأسه، وليست "السينما" بالألف واللام، فإحدى مشكلاتنا المستعصية أن أغلب أساتذتنا قد توقف بهم الزمن عند كتاب قرأوه فى بداية حياتهم هو فى الأغلب الكتاب الوحيد الذى قرأوه أو حتى سمعوا عنه ، وكان هذا الكتاب عن فيرتوف أو إيزنشتين مثلا، وبالكثير جان لوك جودار، ونسوا أن السينما ليست إلا وسيطا فنيا، يمكن – ومن حقه وواجبه – أن يستخدم أدواته لكى يصنع عشرات الأشكال والمضامين، مثلما تستطيع اللغة المكتوبة أن تنتج قصيدة أو ملحمة أو قصة قصيرة أو رواية أو مقالا أو تحقيقا صحفيا أو بحثا أو حنى معادلة رياضية، كذلك فإن السينما تمتد رقعتها إلى مالا يمكن أن نحدده فى شكل فنى معين ذى مواصفات جاهزة.
وإذا كان مصطلح "الفيلم الأنثروبولوجى" على سبيل المثال كان أعجوبة عندما ظهر إلى الوجود خلال الستينات والسبعينات مع مخرجين جاءوا من ميدان علم الاجتماع مثل جان روش، فى فترة كان تحقيق مثل ذلك النوع من "التوثيق والتسجيل" صعبا باستخدام شرائط السليولويد والكاميرات المعقدة ومونتاج الموفيولا، فإن "الفيلم-البحث" أصبح إحدى المنتجات المهمة فى عالم السينما التسجيلية العالمية المعاصرة، ليس فقط بسبب تقنيات الكاميرا الرقمية الخفيفة والمونتاج على أجهزة كومبيوتر منزلية، وإنما لأن ابتكار هذه التقنيات جاء فى نفس الوقت الذى احتشد فيه العالم بعشرات المشكلات الملحة خلال العقد ونصف العقد الأخيرين، بعد توالى كوارث مايسمى "النظام العالمى الجديد" الذى أنتجته السياسة الأمريكية المعاصرة الحمقاء، لكن الأهم من ذلك كله هو ظهور "نوعية" جديدة من السينمائيين، يدركون أهمية السينما كوسيط إعلامى جماهيرى، فدخلوا الساحة وقد عقدوا العزم على كشف مايقوم به الإعلام الرسمى هنا وهناك من التجهيل والتعتيم.
هل كان ظهور هؤلاء السينمائيين الجدد سببا فى زيادة الوعى الاجنماعى والسياسى لدى قطاع مهم من الجماهير التى تحركت لتمارس حركات نضالية حقيقية؟ أم أن ظهور هذا النوع من السينمائيين كان نتيجة وجزءا من تزايد هذا الوعى الاجتماعى؟ قد تكون هناك علاقة جدلية، فكلاهما سبب ونتيجة، كما أن وجود الوسائط الجماهيرية القادرة على تسجيل حركات النضال وتعزيزها ونشرها كان فى حد ذاته باعثا على "وعى جماعى" عالمى بالأخطار المحدقة بنا، وكان هذا الفيلم اليابانى "أيها المارينز عودوا لبلادكم" أحد تجليات هذا النضال، حين يحمل صانع الفيلم كاميرته "ليسجل" حركة نضالية محدودة لبضع عشرات من الناس العاديين ضد الاحتلال الأمريكى لقواعد عسكرية تقع بين اليابان وكوريا الجنوبية، تتخذها لتدريبات عسكرية لقاذفات القنابل التى يؤكد الفيلم أنها سوف تذهب بعد ذلك لكى تقتل شعب العراق ولبنان، حتى ينجحوا بعد سنوات فى تحقيق أهداف نضالهم. وعبر هذه السنوات الطويلة كان السينمائى يسجل الوقائع اليومية لهذا النضال، مثله مثل الآخرين، عليه أن يخوض نفس الأخطار التى قد تهدد حياتهم، وهو لا يعلم إن كان ذلك سوف يتيح له فى نهاية المطاف أن يصنع فيلما، وبعد ذلك نقول أنه لا يصنع سينما؟!
كان "الفيلم-البحث" هو أحد الظواهر المهمة فى مهرجان هذا العام مثل الفيلم الفنلندى الفرنسى السويسرى المشترك "إرهاب أبيض" للمخرج دانييل شفايتسر، الذى ذهب إلى عدة بلدان تمتد من الولايات المتحدة حنى روسيا وعبر عدة بلدان أوروبية، ليسجل ظاهرة تصاعد "النازية الجديدة" التى تنتشر بين الشباب وتتذرع بضلالة الدفاع عن أسطورة "نقاء الجنس الآرى"، فى تناقض كامل مع أبسط مناهج العلم ومبادئ الأخلاق "الإنسانية"، ليدرك المتفرج أن "العولمة" بشكلها الأمريكى الراهن ليست إلا أكذوبة تخفى وراءها النزعة الإمبراطورية الأمريكية، التى تفرخ كل يوم تلك النزعات اليمينية المتطرفة، سواء كفعل مشارك أو رد فعل مناهض لهذه العولمة المزعومة، وبذلك تقسم العالم إلى مايطلقون على أنفسهم "الجنس الأرقى والأنقى" وآخرين لا يصلحون إلا عبيدا!! هناك أيضا الفيلم الأرجنتينى الرائع "أُعدموا فى ميدان فلوريستا" الذى يحكى كيف بدأت انتفاضة شعبية أطاحت برئيس الجمهورية الديكتاتور بعد صدامات مفرطة فى العنف، على إثر قيام أحد رجال الشرطة فى عام 2001 بقتل ثلاثة شبان فى مقتبل حياتهم دون سبب وهم يقضون وقتا طيبا فى مقهى ميدان فلوريستا، ومن هذا الحدث تولد وتنمو حركة سياسية يسجلها الفيلم بصبر بالغ وحساسية إنسانية مرهفة عبر سنوات، مما يجعلك تفكر كثير وتبكى كثيرا وتشعر بالمرارة العميقة.
هل هى المرارة من أن نقادا مصريين آخرين اعترضوا على هذه الأفلام لأنها ليست تسجيلية؟ هل تعرف لماذا هى ليست تسجيلية من وجهة نظرهم؟ لأنهم يقولون أن الفيلم التسجيلى يجب أن يتراوح بين عشر دقائق وعشرين دقيقة – هكذا يمكن تعريف الأنماط الفيلمية بالمتر!! – وجهل هؤلاء السادة أن الفيلم التسجيلى الطويل ،الذى يعرض فى دور العرض الجماهيرية، أصبح أحد الأنماط الفيلمية المهمة، وبالصدفة فإن قاعات العرض الأمريكية – نكرر: الأمريكية – تعرض هذا الأسبوع وحده أربعة أفلام تسجيلية طويلة كلها تتمتع بوعى سياسى ناضج، مثل فيلم "العراق للبيع: حول من أصبحوا أثرياء بفضل الحرب" من إخراج روبرت جرينوالد، الذى يفضح تحالف شركات المقاولات والسمسرة التى يملكها عسكريون سابقون مع قادة البنتاجون لكسب عمليات "البيزنيس" فى العراق، بل إن بعض هذه الشركات الخاصة تزعم أنها متخصصة فى "المحققين والمترجمين" الذين أرسلتهم لسجن "أبو غريب" مما أدى إلى موت المئات من العراقيين الذين لا علاقة لهم بالمقاومة. ومثل فيلم "تعتيم أمريكى" من إخراج إيان إينابا الذى يتهم الإدارة والإعلام الأمريكيين بسرقة نتائج الدورتين الأخيرتين من الانتخابات الرئاسية، أو فيلم "الحقيقة من على أرض الواقع" من إخراج باتريشيا فاولكرو الذى يسجل شهادات قدامى المحاربين الذين يؤكدون على تزييف حقائق التجنيد والتطوع فى الجيش، وتحويل الجندى الأمريكى إلى "أداة للقتل" بلا عقل ولا قلب، كما يحكى الفيلم عن تجارب حقيقية فى التعامل بعنف وحشى مع النساء والأطفال فى العراق، والقبض العشوائى على الأبرياء الذين قيدوا أحدهم من يديه أياما طويلة حتى أصيبت بالغرغرينا وانتهت إلى بترها، وبعد التحقيق اكتشفوا براءة الرجل!!
قلت أن هناك مرارة تغص بها النفس حين نقارن بين أحوالنا وأحوالهم، فنحن فيما يبدو لم يفهم أغلبنا ماذا تعنى السينما التسجيلية وكيف أصبحت متاحة للجميع بأبسط التكاليف والتقنيات لنصنع عشرات أو مئات الأفلام، ولن نحتار طويلا فى اختيار موضوعات الأفلام فنحن نعيش وسط ذلك الطوفان الكاسح من القهر الذى نعانيه وبذلك فإن السينما عندئذ سوف تؤدى جانبا مهما من دورها. كما أننا لم نبذل جهدا فى أن نرسخ من خلال مهرجان السينما التسجيلية هذا المفهوم الذى يمكن أن يكون مجسدا فى بانوراما حقيقية تجمع عشرات الأفلام التسجيلية التجارية خلال العام الذى مضى حتى نفتح الطريق أمام هذا النوع من السينما الذى مازلنا نجهله ونستهجنه لأننا "مثثقفون" توقفوا عن النمو. كما أننا فى النهاية لا نملك ولو حركة سياسية واحدة فكرت أن تجعل السينما أحد وسائطها للتوثيق ونشر الوعى النضالى.
فى "فلوريستا" بالأرجنتين مات ثلاثة شبان على يد شرطى فتغير النظام السياسى، بينما ينتهك عندنا عرض الرجال والنساء على نحو روتينى ثم تمضى بنا الحياة كسابق عهدها ونقول تلك الكلمة المقيتة: "عادى"!! هناك قام السينمائيون والسياسيون من أجل تعميق الوعى الجماعى بعمل مشترك فى وحدة لا تنفصم باعتبار السينما سلاحا للنضال، فهل نعرف نحن حقا معنى النضال؟!
ملحوظة:
هذا المقال أهديه ممتنا للصديق العزيز جدا أحمد غريب رد الله غربته
وتعود كتابة هذا المقال إلى أربع سنوات مرت، وللأسف ما نزال نقف عند نفس النقطة.
والأغرب أن هناك "ناقدا" مصريا كتب مقالا نظريا يؤكد فيه أن السينما التسجيلية فى العالم قد ماتت!!
ترى من الذى مات؟؟؟؟؟

Tuesday, August 24, 2010

برامج الكلام ... كلام فارغ في الهواء


سيل جارف من تلك الأشياء التي يطلقون عليها تقعرا "التوك شو"، لعل ذلك المصطلح الغربي يضفي عليها احتراما، أغرق المتفرج العربي فجأة فيما يعرف باسم "البرامج الرمضانية"، لا يكاد أحدها أن ينتهي حتى يبدأ الآخر، وإن هربت بجلدك من واحد منها لطاردك على فضائية أخرى، وهكذا أصبحت معظم فضائياتنا العربية قناة واحدة، تحتشد بالكلام والمزيد من الكلام، ولو أنه كلام ربما كان الصمت أفضل منه، لأنه – وهذا هو أهم ما في الأمر – يؤثر سلبيا إلى حد كبير على ذهن المتفرج ووجدانه، وهذا هو ما سوف نتوقف عنده الآن ببعض التأمل، برغم أن "سياسة" من يصنعون هذه البرامج، ومن يقفون وراءهم، هو أن نتوقف تماما عن أي نوع من أنواع التأمل، لنصبح كائنات تفتقد أبسط شروط الحياة.
سوف يلاحظ القارئ أننا لن تذكر اسم برنامج واحد منها، لأنها في الحقيقة – من ناحية الشكل أو المضمون – ليست إلا برنامجا واحدا يتكرر وإن اختلفت الأسماء والأشكال. سوف نبدأ بالمضمون الذي يمكن أن نلخصه في كلمة لا أكثر: النميمة، فكأنك في مجتمع كامل مؤلف من عشرات أو ربما ملايين "المواطنين" (وطنهم الافتراضي هو جهاز التليفزيون وقنواته الفضائية العديدة) ليس لديهم ما يفعلونه أو يفكرون فيه إلا تلك النميمة، ماذا قال فلان على علان؟ وكيف رد علان على هذا؟ لكن من هو فلان وعلان وأشباههما أصلا حتى نهتم بهم كل هذا الاهتمام؟ إليك عينة عشوائية منهم: مطربون ومطربات (إذا تغاضيت عما إذا كانت لهم حقا علاقة بالطرب بالمعنى الحقيقي)، وممثلون وممثلات، ومخرجون ومخرجات، وصحفيون وصحفيات، وربما أحيانا رجال ونساء أعمال، والطريف في الأمر، واالذي يدل على إفلاس تام، هو أن يصبح مقدمو ومقدمات هذه البرامج أحيانا هم الضيوف، أو أن يكون الضيف في برنامج هو مقدم برنامج آخر، فكأنهم "شلة" أو عصبة أو عصابة استولت على استوديوهات التليفزيون في كل أنحاء الوطن العربي، وقررت أن تطارد المتفرج أينما ذهب، حتى أن الأمر يبدو أحيانا كأنه أحد كوابيس أفلام الخيال العلمي، حيث الدولة الشمولية تسيطر على مواطنيها من خلال تلك الشاشات المزروعة في كل مكان!
قد تتصور في هذا التشبيه الأخير نوعا من المبالغة، لكنه الحقيقة وإن لم ندركها بسهولة، وإن كنت في شك من ذلك أرجوك أن تتأمل قليلا نوعية "الكلام" والأفكار والقضايا التي يريدون مني ومنك أن نشغل بها أنفسنا. هناك مثلا ممثلة قررت أن تكون داعية دينية فبدأت تهاجم في أحد البرامج مخرجة تدعو بدورها إلى قدر كبير من الجرأة، وهنا يجد البرنامج فرصة لإشعال حريق بأن يطلب من المخرجة أن ترد، أما محور الخلاف فهو "الجنس". وفي برنامج آخر يطلبون من "محامٍ" (نعم، محامٍ!) أن يتحدث عن القضايا التي رفعها ضد الفنانين الذين يراهم العدو الأول للمجتمع. وفي برنامج ثالث يسألون "مطربة" عن خلفية صراعها مع مطربة أخرى، وقد يزيدون فيسألونها عن رأيها في عملية تجميل الأرداف، فتقول أنها لا توافق عليها لأنها لا تنجح، ويواجهون مطربة ثالثة بأنها مطربة تعتمد على "خلفيتها" ويطلبون منها أن تدافع عن نفسها، ويواجهون مخرجا بأنه متهم باصطياد "المزز" (تلك الكلمة السوقية المقحمة حديثا على العامية المصرية) لتمثلن في أفلامه، فيعترض على كلمة "اصطياد" ولا يجد في وصف الممثلات بهذه الصفة المبتذلة ما يثير رفضه!
أسوق لك هذه الأمثلة لأذكّرك فقط بنوعية "الأفكار" التي يشغلون ذهننا بها، وكأننا في مجتمع من "العوالم" أو الجواري، لا همّ لنا إلا الرقص والهزر والهزل، نخلط الدين والجنس في "توليفة" شديدة السخف، لا نناقش أيا منها بالحد الأدنى من الجدية، لكن كبف تأتي الجدية وصناع هذه البرامج يسعون إلى تسطيح وعي المتفرج، ليس وعيه بهذه "الأفكار" وحدها، وإنما بكل القضايا الحقيقية الأخرى، فليست هناك كلمة واحدة فقط (كلمة واحدة يا ناس) عن عشرات المشكلات التي تواجهنا، فكأننا نعيش في عالم آخر غير العالم الذي تعيش فيه بقية الأمم، المشغولة بصنع مصائرها (بل بصنع مصائرنا أيضا!)، بينما نحن لاهون بالخلاف بين المعلق الرياضي والقاضي السابق، أو حتى بين الأهلاوبة والزمالكاوية، وكان هذا هو محور برنامج بين مقدم برامج كان هنا ضيفا، وصحفي كان يقوم بدور مقدم البرنامج، وكلاهما من "النجوم" الزاهرة، في القاهرة المعاصرة!!
هذا عن المضمون فماذا عن الشكل؟ إذا عدنا إلى القاعدة الجمالية الأصيلة في كل عمل فني فالحقيقة أن الشكل ليس إلا الوعاء الخارجي للمضمون ولا يختلف عنه، فهو طريقة توصيل الرسالة. وإذا كانت الرسالة هي تغييب وعي المتفرج فلابد أن يساعد الشكل على ذلك, وهنا يأتي دور الإبهار الفارغ من المعنى تماما، فهو نوع من التشويش على المتلقي حتى لا يجد فرصة للتفكير، ولعلك لاحظت البذخ الفاحش في "الديكورات" التي لا ندرى لها وظيفة أخرى غير التضليل والتغطية على تفاهة المضون وابتذاله، وهناك على سبيل المثال ديكور لمغارة في الجبل (لبرنامج حواري، تصور!!)، ناهيك عن استخدام الكاميرا المحمولة التي تؤدي إلى لقطات مهتزة بدون أي معنى، أو الكادر المائل الذي تستخدمه السينما في الأفلام للتعبير عن لحظة درامية لعدم التوازن، والإفراط في استخدام الحيل الكومبيوترية كأن طفلا يلعب على أزرار الكومبيوتر دون هدف محدد، بل أيضا استخدام موسيقى مستوحاة من أفلام الرعب!
أما شكل الحوار فهو يحتشد بقدر هائل من العدوانية والغوغائية والسوقية، ولا مانع من أن يصل أحيانا إلى درجة الصراخ، مع "توليفة" هزيلة مضحكة من خلط ما هو جاد بما هو هازل سخيف، وتتحول المسألة في بعض الأحيان إلى مباراة في الابتذال بين الضيف ومقدم البرنامج، ولا مانع أيضا من الاستفزاز المتعمد للضيف (في برامج المقالب السخيفة)، لتقترب الكاميرا من وجه الضيف في لقطة قريبة ليظهر لنا غيظه الذي لا نعرف إن كان حقيقيا أم تمثيلا، لكن ما يهمنا هنا هو أن ذلك يكرس العدوانية المتزايدة بين الناس في المجتمع المصري خاصة في الفترة الأخيرة، فكأنها لغة متعارف عليها، فلماذا لا يستخدمها المواطن العادي في حياته اليومية وهو يشاهدها بكل هذا القدر من الاحتفاء على شاشات الفضائيات، ويمارسها "نجوم" مجتمعه اللامعون؟!!
يمكننا القول بدون أدنى مبالغة أن هناك مؤامرة حقيقية على عقل الشعوب العربية، من خلال هذا اللغو المبتذل، واللغة المستخدمة للتعبير عنه، مؤامرة لإخفاء القضايا الملحة التي تتعلق بوجودنا، وليس قضايا الصراعات بين العوالم والراقصات ومن دخل في زمرتهن ممن يعتبرون – للأسف – من صفوة المجتمع من الصحفيين والمثقفين والمحامين. لا أدري في الواقع بماذا يمكن لهؤلاء أن يدافعوا عما يقدمون للناس، قد يرددون القول الشائع بأن تلك رغبة "الجمهور"، لكن هذا الجمهور، الذي يظهر في برامج أخرى مستذلا مهانا في صورة الأبله الذي يمكن الضحك عليه ومنه، تماما كما يُستذل ويُهان في قوت يومه وقدرته على صنع مصيره، هذا الجمهور يستحق فضائيات أفضل، وسياسات إعلامية واقتصادية واجتماعية وسياسية أفضل، لكن متى يسمحون له بالاختيار، أو متى ينتزع هو بنفسه هذا الحق، على الأقل عندما يمسك بجهاز التحكم عن بعد، ويغلق التليفزيون في وجه من يلقون في وجهه بكل هذا القدر من الهزل والابتذال؟

Monday, August 23, 2010

البحث عن الشخصية المصرية فى أفلام حنان راضى

نادرا ما أشعر خلال مشاهدتى لمعظم الأفلام التسجيلية المعاصرة بتلك النشوة التى تملكتنى وأنا أشاهد بعض أفلام المخرجة الشابة حنان راضى، وما كان لهذه الفرصة أنا تُتاح لى لولا الزميلة والصديقة صفاء الليثى، التى تملك شعورا كبيرا بالحماس الحقيقى تجاه التجارب السينمائية الجادة لسينمائيينا الشبان. أعترف أننى تقبلت فى البداية أن أشاهد الأفلام يراودنى بعض التردد، ذلك لأن أرى أحيانا أن السينما التسجيلية المصرية تعيش أزمة بسبب انقطاعها عما يحدث فى العالم من تطورات هائلة فى هذا الفن، فهناك إما تعليق رتيب يأتيك على شريط الصوت يشرح لك ما تراه، أو مجموعة من اللقاءات المصطنعة، تم مونتاجها كيفما اتفق، تجلس فيها الشخصيات لتتحدث إليك بعبارات متقعرة كأنها الحقيقة المطلقة، بحيث يتحول الفيلم فى هذه الحالة أو تلك إلى مقال طويل ممل، يفتقر إلى الحد الأدنى من الفن السينمائى سواء من ناحية الشكل أو المضمون.
ولعل من الأفضل أن أوضح مع السطور الأولى لهذا المقال أن إعجابى ببعض أفلام حنان راضى لا يخلو من تحفظات، لأن بعض سمات هذه الأفلام تعكس أمراض السينما التسجيلية المصرية، لكن يجدر بى أن أبدأ بمصدر هذا الإعجاب: إنها من المرات القليلة – وربما النادرة – التى وجدت فيها سينمائيا مصريا يشعر بكل هذا الحب تجاه مادة موضوعه، خاصة أن هذا الموضوع هو "الإنسان"، المواطن المصرى الغلبان الذى لا يجد فرصة لأن يكون له صوت فى وسط هذا الضجيج الصاخب فى حياتنا الإعلامية والثقافية، وحين يقرر أحد أن يتحدث بالنيابة عنه فإنك تجد حديثا مشوها مشوشا، لكن حنان راضى تقرر أن يكون هذا المواطن، بشحمه ولحمه، هو "بطل" أفلامها، إنه يتحدث إليك مباشرة دون وسيط، و"شطارة" حنان راضى الإنسانية والفنية هى أنها تعطى الفرصة كاملة لهذا البطل أو البطلة للفضفضة، بكل ما يدور فى عقله وقلبه، لتكتشف أن تحت تلك البساطة الظاهرة أعماقا تثير البهجة والأسى معا .... إنها يا قارئى العزيز تركيبة "الشخصية المصرية" التى ما تزال تبحث – بعد جهود الرواد الأوائل فى علم الاجتماع مثل د.حامد عمار ود.سيد عويس – عمن يمضى قدما نحو فك أسرارها وألغازها.
سوف أتوقف بك عند أفلام أربعة لحنان راضى، دون التزام بسنوات إخراجها، وسوف تكتشف بالفعل أن هناك وحدة تربط بينها جميعا، وهو ما يعكس أن هذه الفنانة وهى ما تزال فى بداية الطريق تملك "رؤية" واضحة لما تريد أن تصنع من أفلام، تلك الرؤية التى لم يملكها سينمائيون مصريون قضوا عمرهم فى صنع الأفلام التى ليست إلا سلعا تجارية. يدور فيلم حنان راضى "المنسيون" عن أحد أطفال الشوارع، تتركه ليتحدث إلينا حول أسباب نزوحه إلى الشارع، ونمضى معه فى رحلته التى يحاول فيها التوافق مع المجتمع مرة أخرى. أما فيلمها "فاطمة: فتاة من مصر" فهو كما ترى من العنوان عن فتاة فلاحة فى العاشرة من عمرها، تصمم على بدء تعليمها الذى فاتها، لنعيش معها رحلة المعاناة لتحقيق هذا الهدف. ويأتى فيلم "الساحر" لنرى فيه صبيا صغيرا فى حوارى القاهرة، و"يناضل" بالمعنى الحرفى للكلمة لكى يصبح لاعب كرة قدم ماهرا لعله تأتيه يوما فرصة الاحتراف والشهرة. وأخيرا نصل إلى فيلم حنان راضى الرائع "أهل الرضا: الناس فى بلادى"، وفيه أربع شخصيات: صياد يعيش بين ضفتى النيل فى القاهرة فى قارب صغير مع أسرته، وقروية تسافر فجر كل يوم من قريتها فى الشرقية إلى القاهرة لكى تبيع كمية صغيرة من الخضار، وشيال فى محطة باب الحديد تحول إلى هذه المهنة بعد خصخصة الشركة التى يعمل بها، ثم ماسح أحذية عجوز ترك عائلته فى الصعيد لكنه يعولها بأن يمضى فى شوارع مصر الجديدة بحثا عن لقمة العيش.
منذ اللحظة الأولى تدرك أن خلف هذه الأفلام والشخصيات "رحلة" يحب على كل منهم أن يخوضها، إنها أحيانا رحلة نحو تحقيق هدف أبعد، وهى أحيانا أخرى رحلة كل يوم، وبرغم المعاناة الشاقة فإن أحدا منهم لا تنتابه أبدا أية مشاعر "وجودية" على طريقة سيزيف الذى يحلو لمثقفينا التعلق به بمناسبة وبدون مناسبة، وكأن هذه الأفلام تدلنا – كما كانت تفعل أفلام داود عبد السيد فى مرحلته الأولى، مثل "الكيت كات" و"سارق الفرح" – على أنه يجب أن نتعلم من هؤلاء الفقراء البسطاء كيف نعيش الحياة ... نعم، إن هناك رحلة مضنية مكررة، لكن لها إطارا أكبر وهدفا أسمى، وهذا هو أول دروس "فلسفة" الشخصية المصرية التى تبرزها أفلام حنان راضى: ربما تبدو الحياة وكأنها "محلك سر"، لكن هناك حركة تحت السطح، نحو افق جديد ربما لا نراه الآن، لكنه موجود أو يجب أن نجعله موجودا. وإذا كان واضحا هدف "الساحر" أو "فاطمة" أو "المنسى"، الأطفال الذين يحلمون بالمستقبل، فإن هدف "أهل الرضا" جميعهم هو "تربية العيال" على نحو أفضل. أما ثانى دروس "فلسفة" هذه الشخصية فهو الأهم، ولعله يضرب بجذوره فى الديانة الأوزيرية المصرية القديمة، التى أخذت فى مصر تنويعات أكثر تعقيدا مع دخول ديانات جديدة، إنه ذلك المزيج بين الاستسلام للقضاء، حتى لو كان الواقع مرا، والإيمان فى الوقت ذاته بأن العدالة الإلهية سوف تعيد الأمور إلى نصابها الصحيح. إنك مع "أهل الرضا" جميعهم تسمع عبارات مثل "ربنا ما بينساش حد"، "أو ما دام الواحد ماشى بما يرضى الله لو أكل رغيف بشوية ملح ها يكفّوه"، أو "لازم البنى آدم مننا يرضى بنصيبه عشان يعيش أسعد الناس"، وهو ما يمكنك أن تصفه بالتواكل والسلبية، لكن تحت السطح هناك لدى هؤلاء فهم حقيقى للواقع، إن الصياد يتحدث عن أن "الناس اللى فوق مرتاحة"، والقروية بائعة الخضار تشير إلى "البلدية وبتوع الحى" الذين يصادرون منها بضاعتها بين الحين والآخر، والشيال يؤكد لك أنه "بنسمع إن فيه ناس بتاخد مليارات، بتروح فين ما حدش عارف"، وماسح الأحذية يقول بمرارة: "كله اتغير من ناحية الأخلاق، بس كله غصب عشان الغلا، الناس تعبانة".
هناك إذن أسطح عديدة لتلك البللورة التى نسميها "الشخصية المصرية"، إنها تبدو "راضية" بقدرها لكنها فى أعماقها ترفض هذا الواقع، وتتوقع أن يأتى العدل يوما، وهذا التناقض (والتوازن) وحده هو ما أعطاها على مر العصور قدرة على البقاء برغم كل الظروف الكفيلة بإفناء شعوب بأكملها، وهذا ما يجعلك تسأل دائما: ترى كيف يكون حال هؤلاء الفلاسفة البسطاء إذا تحسنت ظروفهم؟! ... سؤال مرير، أليس كذلك؟؟ وما يزيد مرارته هو ذلك "الجمال" المبهر الذى تراه فيهم فى أفلام حنان راضى، ففى اللقطات العامة القليلة، واللقطات القريبة الكثيرة، ترى كيف أن وجوه هؤلاء تسطع بجمال حقيقى، برغم التجاعيد والأخاديد والندوب التى حفرها الزمن والحياة القاسيان على أرواحهم، تأمل مثلا البسمة التى تضىء وجوه "أهل الرضا" فى نهاية فيلمهم، أو ذلك الذكاء الذى تعاملت به حنان راضى مع "فاطمة"، إنها تبدا الفيلم بها كطفلة فلاحة، لكن فجأة تراها وقد خلعت ملابسها الريفية وارتدت ملابس المدرسة فلا تملك إلا أن تقول: "ياللجمال!!".
حققت حنان راضى ذلك باستخدام تقنيات بسيطة لكنها شديدة التأثير، فهى تتبع شخصياتها بالكاميرا على نحو تنسى فيه الشخصيات أنه يتم تصويرها، ومن المؤكد أن ذلك قد تحقق من خلال التصوير ساعات طويلة حتى اعتادت الشخصيات على وجود الكاميرا، لذلك فإن الشخصيات لا تمثل، كما أنها تعيش أمامنا لحظات القوة والضعف، بما لا يجعلها بطلة بالمعنى التقليدى للكلمة، وبما يزيد من تعاطفنا وتوحدنا معها، وإدراكنا للتطور الذى عاشته بين بداية الفيلم ونهايته. وبرغم أن التعليق يأتى من خلال "ضمير المتكلم" إذ تتحدث الشخصية المحورية عن نفسها بقدر هائل من الصدق، فإن هناك عنصرا بالغ الأهمية فى أفلام حنان راضى، إن بطل الفيلم أو بطلته ليسا فردين استثنائيين، إن كل الشخصيات من حولهما يمثلون امتدادا لهما، وهكذا تقول لك المخرجة أن وراء كل شخصية ثانوية عابرة من هؤلاء قصة مماثلة.
والحياة اليومية هى النسيج الذى تصنع منه حنان راضى "قصص" أفلامها، بعيدا عن الاصطناع، وهى تلتقط أيضا تلك اللحظات النادرة من حياة الشخصيات وتضعها فى مكانها فى مونتاج الفيلم. تأمل مثلا ماسح الأحذية فى "أهل الرضا" يبدأ فى سرد واقعة حدثت له منذ سنوات طويلة، إنه فجأة يتوجه إلى المصور ويسأله: "إنت معايا يابيه؟"، لأنه بذكاء بالغ يريد ألا تفوت علينا تلك الأمثولة التى تلخص فلسفته فى الحياة. لكن ... وهذه الـ"لكن" تعبر من جانب هذه السطور عن رغبة فى اكتمال الحس التسجيلى الراقى هنا ... أقول: لكن هناك شيئا ناقصا فى أفلام حنان راضى، وأستطيع أن ألخص هذا الشىء فى "الأسلوب" الذى أراه أحيانا لا يمضى متوافقا مع الرؤية العميقة والواقعية تماما لمادة الموضوع ومعالجته. إنها تقع للأسف الشديد فيما يمكن أن أسميه "الشكل المصرى المعاصر" للفيلم التسجيلى، فهو يبدو فى أحيان كثيرة مؤلفا من فقرات لا علاقة بينها بما يكسر وحدة الأسلوب والرؤية الفنية. تأمل مثلا على شريط الصوت تلك المسحة الانتقائية التى تنتقل بين عناصر صوتية متنافرة، فالموسيقى المؤلفة للفيلم متناثرة كيفما اتفق، وتُستخدم أغنية أحيانا كأنك فى فيلم روائى دون أن تعرف لماذا يجب أن يتضمنها فيلم تسجيلى يعتمد على الصدق الداخلى وليس الابتزاز العاطفى (ذلك الاستخدام الفج للأغنية أصبح آفة فى أفلامنا، خاصة القصيرة، التى يضيع جزء غير قليل منها فى هذه الحيلة الفنية التى لا أدرى من اخترعها). إن هذه الانتقائية تظهر أحيانا على شريط الصورة أيضا، فلا أعرف سببا لاختيار أماكن سياحية مثل جامع السلطان حسن ومسجد الرفاعى لتصوير بعض اللقطات فى "الساحر"، أو القفز الأسلوبى وغير المبرر إلى مشهد حلم يقظة لـ"فاطمة" تسقط فيه عليها أوراق الورد.
فلألخص هذه الملاحظات فى كلمات قليلة: يجب على الفنان أن يضع نفسه فى مكان محدد من مادة الموضوع (أى الشخصيات التى يريدنا أن ندخل عالمها)، فإذا قررت منذ البداية أن أترك مادة الموضوع تفصح عن نفسها بأقل قدر من التدخل الصريح والمباشر من جانبى، فيجب ألا أقع ابدا فى فخ "الشكلانية" التى تغرينى بصنع مشهد "جميل"، لأن هذا يعنى اقتحامى للعلاقة بين مادة الموضوع والمتفرج، كما يعنى كسرا لوحدة الأسلوب، وهو الأمر الذى لا تكمن أهميته فى الجانب الفنى فقط، لكنه يترك تأثيره السلبى على تحقيق أكبر قدر من التأثير فى المتفرج، لأننى – وأنا أبحث عن إثبات ذاتى الفنية بالتلاعب الشكلى – حطمت قواعد اللعبة التى أرسيتها بينى وبين المتفرج منذ اللقطة الأولى. من ناحية أخرى يجب أن يكون هناك بناء "درامى" للفيلم، يتصاعد نحو الذروة دون انقطاع، وبأكبر قدر من التركيز والاختزال، خاصة فى الفيلم القصير، وهو ما يضمن أن يصل الفيلم إلى المتفرج فى كل أنحاء العالم، وليس فقط المتفرج المصرى الذى سوف يتعاطف مع الشخصيات لمجرد أنها مألوفة بالنسبة إليه. هدف هذه الملاحظات فى التحليل الأخير هو الحفاظ على ذلك النقاء الفنى والإنسانى فى أفلام حنان راضى، والحلم بأن تستطيع أن تبلوره يوما لتصنع أفلاما ترقى بحق إلى مستوى العالمية.

الإعلانات: ما هي السلعة ومن هو الزبون؟

"لا أستطيع أن أتخيل حياتي بدونه!". إذا سمعت هذه العبارة، فما الذي يتوارد إلى ذهنك عن ذلك "الشيء" الذي لا تمكن الحياة بدونه؟ أرجو ألا تصاب بنوبة من الضحك أو الذهول إذا عرفت أنه نوع من "الشامبو"!! لكن لأن تلك "لغة" الإعلانات التليفزيونية فلابد أن تتوقع هذه المبالغة، لكن ما يجب علينا أن نفعله هو ألا نعتاد عليها، ونعتبرها أمرا مسلما به، لأن ذلك سوف يجعلها لغة "عادية" ومؤثرة، وهي بالفعل ليست عادية أبدا، فهي تعتمد على التلاعب بالمتلقي، وهي لا تقول له الحقيقة وإنما تزيفها، وهي أولا وقبل كل شيء لا تقدم لنا سلعا نحتاجها، بل كما يقول علماء الاجتماع تخلق بداخلنا احتياجا زائفا مصطنعا لتلك السلع، التي نستطيع طبعا أن نتخيل حياتنا بدونها، بل ربما سوف تكون حياتنا بدونها أكثر ثراء وعمقا.
تخيل مثلا أن تلك العشرات من القنوات الفضائية العربية التي تزدحم بها حياتنا قد توقفت عن بث الإعلانات، وسوف تكتشف أنك قد كسبت وقتا ربما يصل إلى ثلث عمرك! تلك هي الحقيقة، فإن ثلث وقت الإرسال – على الأقل – أصبح مخصصا للمادة الإعلانية الصريحة، ناهيك عن إعلانات خفية مبثوثة في شكل برامج تروج لطبيب ما، أو في شكل نوع من المشروبات تتناولها بطلة المسلسل أو الفيلم. لكن العلاقة بين الإعلانات والتليفزيون أصبحت علاقة لا يمكن تخيل حياة كل منهما بدونها، إلا إذا أعدنا صياغة العلاقة بيننا نحن المشاهدين وهذا الجهاز القابع في كل أركان حياتنا، فربما فرضنا عندها على الفضائيات شكلا أكثر حكمة وتعقلا وأخلاقية للإعلانات التليفزيونية.
يقول منتجو السلع أن الإعلان ضروري حتى يعرف المستهلك بمزايا البضاعة التي يروجون لها، وقد يكون هذا صحيحا في جانب منه (إذا افترضنا أنهم يقولون الحقيقة حول هذه المزايا)، لكن الجانب الأكبر من الحقيقة هو أن هناك عشرات المنتجين لسلعة واحدة، فتدفعهم المنافسة المحمومة إلى أن يطاردك كل منهم باسم سلعته في شكل إعلان، وبالطبع فإن الإعلان التليفزيوني هو أكثرها انتشارا، وضمانا لوصوله إلى قطاع أكبر من المستهلكين، إذا وضعنا في اعتبارنا عدد أجهزة التليفزيون والساعات التي نقضيها أمامه والقنوات الفضائية التي تتوالد كل يوم كالأرانب. ومن هنا اكتشف أصحاب هذه القنوات أن أرباحهم من هذه الإعلانات تفوق الخيال، حتى أن هناك العديد من المحطات لم تولد أصلا إلا لكي تكون "وعاء"، بالمعنى الحرفي للكلمة، للإعلانات التي تمثل الوقت الأكبر من الإرسال، الذي يمكن حشو المتبقي منه بالأفلام والتمثيليات المعادة المكررة، وهكذا فإن مثل هذا النوع من القنوات لا علاقة له بأي شكل بالإعلام، وإنما فقط بالإعلان.
تعال معي الآن نتأمل ما تقدمه لنا هذه الإعلانات، لنكتشف الحيل الفنية والنفسية التي تعتمد عليها، وهي حيل مكررة لا جديد فيها على عكس ما قد يروج له فنانو الإعلانات من أنها تقوم على الابتكار، برغم أن هناك حالات نادرة بالفعل من الإبداع الفني في بعض الإعلانات العالمية، لكنها استثناءات تؤكد القاعدة، وهي أن "الحاوي" ليس لديه من الألعاب إلا القليل لكي يقدمه المرة بعد الأخرى، خاصة في إعلاناتنا العربية التي لا تخلو في معظمها من البلادة أو حتى البلاهة! المبدأ الأول هو أن يتكرر اسم السلعة عشرات المرات خلال مدة الإعلان القصيرة جدا، والهدف بالطبع هو أن يلتصق هذا الاسم بذاكرة المتلقي، لذلك أيضا يلجأ فنان الإعلان إلى ابتكار "إفيه"، في شكل عبارة أو جملة موسيقية، لعل هذا الإفيه يغزو لاوعي المتفرج ويصبح جزءا منه، وإن شئت الحقيقة فإن ذلك ينجح في بعض الأحيان حتى أنه يصبح إضافة غير مباشرة لـ"فولكلور" الجمهور، قد يستخدمه في مناسبات ليست لها علاقة بالإعلان، مثلما حدث في مفارقة ساخرة مع إعلان تنظيم النسل في مصر، الذي كان يكرر جملة "أُنظر حولك"، فإذا بها تصبح وسيلة للسخرية المريرة من كل ما يحيط بنا من سلبيات.
وتلك الفكاهة ذاتها هي إحدى الحيل الفنية للإعلان، فهل يمكنك أن تدلني على إعلان واحد يدفعك إلى الحزن؟ نعم، أحيانا، في بعض الحملات السياسية المقصود بها إثارة الجماهير، مثلما حدث في الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة، فإعصار كاترينا على سبيل المثال اُستخدم للدلالة على تقصير الحزب الجمهوري الأمريكي في مواجهة الكارثة، لكن تلك بالطبع قصة أخرى لا علاقة لها بمعظم فضائياتنا العربية الغائبة عن السياسة مع سبق الإصرار والترصد! الفكاهة إذن مقصودة تماما، حتى يتوفر للإعلان حس ترفيهي يجعلك تقبل أحيانا أن تشاهده مرات عديدة، وربما يمكن أيضا صنع "مسلسل" من مادته، مثل أرنب البطاريات إياه، أو قرد إحدى شركات التليفون المحمولة. وقد يعتمد الإعلان على المحاكاة الساخرة لعمل فني شهير، أو يستخدم لحن أغنية قديمة، وعلى سبيل المثال فإن أحد إعلانات السمن المصرية يأخذ بطله شكل "إنديانا جونز" كما ظهر في سلسلة الأفلام التي صنعها ستيفن سبيلبيرج (!)، لكن إذا لم يكن معظم المتفرجين العرب يعلمون ذلك فإن الأغلب الأعم منهم يعرفون جيدا أن فيلم حسين كمال الشهير "شيء من الخوف" قد تم تقليده في الإعلانات مرارا على نحو ساخر.
ومن السمات الأخرى للإعلانات، التي تعتمد عليها في تزييف الحقائق، عنصر المبالغة، ولتتأمل مثلا كم تستخدم صيغة "أفعل التفضيل": أحسن، أكبر، أوفر، أنظف ... وفي بعض الأحيان ينقلب العيب ميزة!! هل تتذكر مثلا كيف أن معجونا للأسنان اكتشفوا بعد صناعته أنه لا يصنع الرغوة المطلوبة؟ لقد اعتمدت حملته الإعلانية على التأكيد على هذا العيب ذاته!! وفي أحيان أخرى يصل التزييف إلى تبرير غلاء السلعة، فيقولون لك أن نقص الكمية في العبوة (بنفس السعر السابق) لم يؤثر على قوة مسحوق الغسيل، بل زاد من هذه القوة! إن هذا التلاعب بالمتلقي يفضي بنا إلى الجانب النفسي في الإعلان، ولعل ذلك يظهر بوضوح في أن الجمهور المستهدف يكون دائما من الشرائح العمرية التي يصبح الاستهلاك من عاداتها التي لا تستغرق منها وقتا للتردد، خاصة الأطفال والمراهقين، وربما النساء الشابات فيما يخص مستحضرات التجميل والتخسيس.
يمتد هذا التلاعب إلى خصائص جمالية في المادة الإعلانية، لعل أولها اختيار "بطل" أو "بطلة" الإعلان، فهما في السلع باهظة السعر (السيراميك أو السجاد مثلا) من نجوم السينما، بينما في الإعلانات "البرجوازية" (مثل الشقق الفاخرة أو السيارات) هم من الشريحة العليا من الطبقة المتوسطة التي تطمح لاقتناء مثل هذه السلع، لكن في السلع "الشعبية" (السمن والمنظفات) يتم اختيار شخصيات عادية تماما، وأخشى أيضا أن اقول أنها قد تصل أحيانا إلى حدود السوقية، لتصور فناني الإعلانات أن هؤلاء هم من يمثلون مستهلكي هذه السلعة. وفي كل الحالات فإن الإعلان يشبه فيلما قصيرا يتفاوت في براعته الفنية، فهو للبسطاء ذو بداية ووسط ونهاية (أم تعاني من غسيل ملابس ابنها أو زوجها وتجد الحل السحري في مسحوق تنظيف ما)، وقد يكون أكثر تعقيدا عندما يعتمد على القطع القافز والحذف والاختصار الشديد، الذي يحطم المنطق السردي وربما أيضا كل مسحة واقعية (السناجب تلعب الكرة، ثم يبرز المشروب المعلن عنه من بين مخابئ السناجب).
تهدف كل هذه الخصائص الفنية إلى آثار نفسية، تتركز في إحساس المتلقي بأنه سوف يشعر بالسعادة إذا استهلك هذا المنتج أو ذاك، وسوف يكون أكثر صحة، وأكثر رضا عن حياته، وإذا كانت السلعة رائجة فإنه سوف يشعر بالأمان لأنه من بين الملايين الذين يستخدمونها، في تلاعب على غريزة القطيع، أما إذا كانت سلعة للصفوة فإنه سوف يُرضي باستهلاكها عقدة التميز عن الآخرين! الإعلان هنا لا يبيع سلعة فقط، بل يبيع نمطا سلوكيا، وهذا ما جعل الجهات المسئولة عن الإعلام في الدول المتقدمة تضع ضوابط في هذا الشأن، فهي تحدد حدا أقصى للفترة الإعلانية كل ساعة، كما تلزم القنوات التليفزيونية بفترات محددة من الليل أو النهار، والأهم هو التشجيع على إيجاد مصادر أخرى للتمويل تستطيع أن تقلل من اعتماد هذه المحطات على الإعلانات (هناك مثلا الاشتراك في إنتاج الأفلام السينمائية، وهذا ما سوف نفرد له مقالا منفصلا).
في عام 1989 ظهر فيلم إيطالي للممثل والمخرج الكوميدي ماوريسيو نيكيتي، بعنوان "سارق النجفات"، كان محاكاة ساخرة لفيلم الواقعية الإيطالية الكلاسيكي "سارق الدراجات". المفارقة هنا هي أن بطل الفيلم القديم كان يحاول سرقة دراجة بدلا من دراجته المسروقة لأنها وسيلة كسب رزقه، أما في الفيلم الجديد فإن البطل يجد نفسه مدفوعا لسرقة نجفة لا يحتاجها بسبب إلحاح زوجته التي استولت الإعلانات على عقلها وروحها. وبالفعل فإننا نجد أنفسنا مثل "فاوست" الذي باع عقله وروحه للشيطان، وهو هنا شيطان الإعلانات الذي يبيع لنا سلعا لا نحتاجها، والأهم هو أننا في النهاية الذين ندفع تكاليف الإعلان ذاته الذي يضاف بالفعل إلى ثمن السلعة. لم يكن فاوست يملك وسيلة لدفع الشيطان عنه، لكننا بفضل "الريموت كونترول" نملك أن نقلب المحطة عندما تأتي الفقرة الإعلانية، لأننا لسنا فقط مستهلك السلعة، بل نحن السلعة ذاتها!!

Sunday, August 22, 2010

هل هي برامج اعترافات النجوم أم فضائح النجوم؟

في كل عام يتفتق ذهن صناع البرامج عن "فكرة" تبدو جديدة، لكنها تتضمن نفس "البضاعة" دائما بصرف النظر عن التغليف، إنها بضاعة اعترافات النجوم بما يقال أنها أسرارهم، لكن الشكل يمكن أن يتغير: مذيع أم مذيعة يسألان نجما أو نجمة عن حكايات قديمة، والديكور ليس إلا استوديو على شكل بيت أو مطبخ، وربما يتغير المنظر إلى مكان غريب يخفي بعض المفاجآت، وقد يأتون بممثل أو ممثلة ليقوم بدور المذيع، ويذهب البعض إلى آخر المدى في "موضة" تدبير "مقالب" لضيوفهم، وإن كنا لا نعلم حقا هل هناك اتفاق مدبر بين جميع الأطراف فيما عدانا، بحيث نكون نحن ضحايا المقلب!
حاولت كثيرا أن أفهم السبب وراء وجود هذه البرامج، وما هو وجه المتعة والترفيه فيها، فلم أجد إجابة شافية إلا أن فضائياتنا تتِّبع سياسة إعلامية عشوائية، فهي تملأ فضاء فضائياتنا بهذا الفراغ الذي يعبر بحق عن انقطاع الصلة بين المسئولين عن هذه المحطات وما يمكن أن نسميه الإعلام بالمعنى الحقيقي للكلمة. لكن حجتهم فيما يفعلون هي أن المشاهدين يحبون مثل هذه البرامج، التي يشاهدون فيها "نجومهم" وهم على راحتهم، أو حتى على حقيقتهم كما يبدو في برامج المقالب المستفزة، حين تدخل النجمة في "خناقة" مع شخص يمثل أنه يسخر منها، أو في برامج الاعترافات المثيرة التي قد تحكي فيها النجمة عن بعض غرامياتها القديمة، لكن هل يستطيع أحد أن ينكر أن تلك النجمة ذاتها قد أخذت أجرا – مجزيا بطبيعة الحال – عن ظهورها في موقف من يدخل مشاجرة حامية الوطيس، أو عن حكاياتها التي تدور في غرف النوم المغلقة.
إن ما سوف نتوقف عنده هنا هو تأثير هذه البرامج في المشاهدين، الذين يقول صناع البرامج أن من أجلهم وحدهم يأتون بالنجوم المحبوبين، لذلك سوف نبدأ بتلك الكلمة الغامضة: النجومية، التي تبدو مثل الذريعة الجاهزة لدى المسئولين عن إعلامنا. لماذا يصبح شخص ما نجما، في أي مجال من مجالات الحياة؟ هل لأنه مشهور؟ السياسيون مشهورون حتى لو ارتكبوا الفظائع في حق الشعوب، مثل هتلر وشارون! والمجرمون مشهورون لأن جرائمهم تثير خوفا كامنا من تكدير أمن الحياة! فالشهرة إذن ليست أبدا معيارا للنجومية، وفي علوم وسائل الاتصال يقول آندي وارهول – الفنان الأمريكي الشهير بخروجه عن المألوف – أن خمس عشرة دقيقة لظهور أي شخص على شاشة التليفزيون تكفي لتجعله مشهورا، وهو ما أثار خيال صانعي فيلم باسم "15 دقيقة" الذي يدور حول اثنين من الصعاليك يقرران ارتكاب جريمة وتصويرها، لأن إذاعتها على الشاشة سوف تحملهما – في خمس عشرة دقيقة – إلى عالم الشهرة.
هناك إذن فرق هائل بين الشهرة والنجومية، فهذه الأخيرة تحمل معنى النجاح الذي يتمناه كل إنسان لنفسه، والنجم بهذا المعنى – كما تذكر الدراسات الاجتماعية في مجال الفن – مزيج في وجدان المتفرج من الواقع والخيال. بكلمات أخرى فإن النجم يحقق نجوميته عندما يرى المتفرج فيه شبها بنفسه كما هي في الحقيقة، كما يرى فيه أيضا صورته كما يتمناها. وبالمثل فإن النجمة تكون عند المتفرج شبيهة بفتاة يعرفها في الحياة، لكنها أيضا الفتاة كما يتمنى أن تكون في أحلامه. وصناعة النجومية في ضوء هذا المفهوم لا تأتي بشكل عشوائي كما يحدث في المجالات الفنية لدينا، وأرجو أن تلاحظ ذلك الإفراط في الصحافة الفنية العربية في إطلاق صفة النجم أو النجمة على كل من هب ودب، حتى لا تكاد أن تعرف من يحتل الصف الثاني أو الثالث في سلم هذه النجومية المزعومة.
صناعة النجومية الحقيقية تُبنى على دراسات اجتماعية وسياسية دقيقة، وصورة جيمس دين ومن بعده مارلون براندو – على سبيل المثال – فى بداية الخمسينيات تعكس واقع الشباب الأمريكى المتمرد آنذاك، الشباب الذي لم يشهد الحرب العالمية الثانية ويرفض أن يطلبوا منه التضحية بسببها، مثلما كانت صورة جين فوندا أو فانيسا ريدجريف في العقد التالي إشارة على التحول في صورة المرأة من براءة أودري هيبورن أو شهوانية مارلين مونرو، لتكون امرأة تطالب بحقها في أن تكون ذاتها وليست موضوعا لما يريده الرجل منها. هذه الصور للنجم أو النجمة تتم في صناعات السينما الراسخة نتيجة وعي كامل، وكانت تتم بشكل فطري في السينما العربية حتى وقت قريب، فتحولت صورتا فاتن حمامة وهند رستم في الخمسينيات، كنقيضين للبراءة والشهوانية، إلى صورة سعاد حسني التي تجمع بين البراءة الشقية والشقاوة البريئة، في فترة شهدت صعود الطبقة الوسطى ونمو أحلامها الخاصة والعامة، تلك الأحلام التي خبت وخابت في الفترة اللاحقة، وتمت ترجمة ذلك في أن تصبح صورة فتاة الشاشة هي نادية الجندي ونبيلة عبيد!
كانت هذه "الترجمة" تحدث لدينا بشكل تلقائي ودون وعي مسبق، لكنها كانت أيضا صادقة في تعبيرها عن الحلم والحقيقة في شخصية النجم بالنسبة للمتفرج، غير أن أمر "اصطناع" النجوم – وليست صناعتهم – تتم بطريق "التفريخ" في العقدين الأخيرين، خاصة مع حلول الفضائيات واحتلالها مكانا مهما في وسائل الترفيه، فذلك الفضاء الإعلامي الشاسع يتطلب عددا هائلا من الشخصيات التي يمكن اعتبارها "بضاعة" تشبه الوجبات السريعة التي يوصلونها حسب الطلب، إنها سريعة التجهيز (وهي لذلك سريعة التلف أيضا!)، كما أنها ليست بذات قيمة غذائية حقيقية، وهو ما يتطلب أن تحتوي على أكبر قدر ممكن من التوابل الحارقة.
تلك التوابل هي برامج الحوارات والاعترافات إياها مع هؤلاء النجوم، في مجالات التمثيل والغناء والرياضة والسياسة والصحافة، نجوم هم في الحقيقة أشبه بالشهب سريعة الاحتراق، لكنها قد تخطف الأبصار للحظة ثم تختفي إلى الأبد. يتم التحضير حاليا – استعدادا للكرنفال التليفزيوني السنوي في شهر رمضان – للعديد من هذه البرامج، التي رأينا منها في العام الماضى مثلا ديكورا يذكرك بسجن أبو غريب (!!) يدخل إليه النجم المزعوم، ليتم التحقيق معه بقسوة مضحكة، وسوف نرى هذا العام – مثلا أيضا – سائق سيارة أجرة يحاور الراكب (النجم إياه)، كما أن من المؤكد أننا سنرى نفس الحوارات العقيمة حول الخفايا والأسرار والفضائح، التي يأخذ "الضيف" ثمنا لإفشائها، كما أنه سوف يستثمرها في الفترة اللاحقة في الصحافة الفنية، بين ما قاله وما لم يقله، أو بين تضارب ما أدلى به فلان وما صرح به علان، ونحن – المشاهدين – لا ناقة لنا ولا جمل في هذه السوق التي تفرشها فضائياتنا، ولو أن ما تتركه هذه البرامج على وعي الجمهور يحتاج إلى وقفة تأمل.
فلنسأل أنفسنا بصدق: ماذا يمكن أن يستقر في وعي المتفرج ولا وعيه من هذه البرامج؟ وهنا سوف نعود إلى مفهوم الشهرة وليس النجومية، إن هؤلاء الذين يظهرون على الشاشة مشهورون لأنهم "ناجحون"، فهكذا سوف يفكر المتفرج للوهلة الأولى، وليس مهما معايير النجاح في هذا السياق. لقد أتتهم الشهرة بعيدا عن أية موهبة حقيقية، لقد أصبحوا مغنين أو ممثلين – أو يُفترض أنهم كذلك – بصرف النظر عن علاقتهم بهذا الفن أو ذاك، والمسألة كلها "ضربة حظ"، ليجلس المتفرج متسمرا أمام شاشة التليفزيون مستغرقا في حلم يقظة أن تأتيه هذه "الضربة" بطريقة غامضة ما، وبذلك تختفي معايير الموهبة والجهد (في كل مجالات حياتنا في واقع الأمر، ولتتأمل نماذج بعض رجال الأعمال أو حتى الثقافة والسياسة في الفترة الأخيرة)، ويبقى الحظ الذي قد يأتي بسبب هذه الفضائح التي لا يتورع هؤلاء النجوم المزعومون عن الفخر بها، وهكذا يمتزج الحظ والفضيحة في "وصفة" شيطانية نقدمها للمتفرج لكي تكون دليله إلى ... النجاح، نجاح بطعم الفشل الذريع، على المستوى الفردي والعام معا.