Thursday, December 30, 2010

"ويندى ولوسى": أمريكا فى زمن الضياع


الأفلام مثل الموسيقى، هناك أفلام تشبه الأغنيات الرخيصة التى قد تجذب قطاعا كبيرا من الجمهور، ثم سرعان ما تنتهى إلى الزوال، مثلما كان الحال مع "لولاكى" إن كنتَ تتذكرها، وهناك أيضا أفلام جادة مبهرة تذكرك بالسيمفونيات التى قد تبدو عصية على التذوق الكامل، لكن التلاعب بالتوزيع الأوركسترالى الضخم والفخم، على طريقة تشايكوفسكى مثلا، يشد المتلقى لسماعها، وهناك أخيرا أفلام شديدة الاقتصاد فى أسلوبها وتقنياتها، ليس لديها الكثير من عوامل الجذب الجماهيرى، سوى تلك الألحان التى تبدو قادمة من أعماق الروح، وبناء فنى لا يفصح عن نفسه بسهولة، مثل رباعيات بيتهوفن الوترية، التى تحتاج منك أن تعطى لها نفسك، وعندئذ فقط تكشف لك هذه الرباعيات عن أسرارها.
عندما شاهدت فيلم "ويندى ولوسى"، بناء على نصيحة ابنى السينمائى الشاب خالد، تذكرت على الفور تلك الرباعيات الوترية، وفهمت لماذا أعطى النقاد الأمريكيون للفيلم درجات كبيرة على موقع "ميتاكريتيك"، بينما لم يمنحه الجمهور إلا درجات قليلة، وهذا التناقض يعود فى رأيى إلى أن النقد السينمائى لم يعد فى الفترة الأخيرة يبذل جهدا كبيرا فى التواصل مع المتفرج والقارئ، حين كاد الخط الفاصل بين النقد الجاد والتحقيق الصحفى أن يتلاشى، فكانت النتيجة أننا تركنا الجمهور لسينما تتسابق فى إبهار المتفرج وغسيل مخه، بل إحيانا – مثلما يحدث فى أفلامنا – فى تشويه أحاسيس المتفرج وتحويله إلى كائن متبلد.
لم يعرض فيلم "ويندى ولوسى" فى الأسواق العربية عرضا جماهيريا، لأن الموزعين وأصحاب دور العرض، مثل معظم المنتجين وصناع الأفلام، يخفون شراهتهم للمال وراء شعار "الجمهور عايز كده"، بما يعنى أن الجمهور "مش عايز" الأفلام من نوعية "ويندى ولوسى". وإذا كان هذا الموقف يمثل مصادرة مسبقة على حق المتفرج فى أن يرى ويحكم بنفسه، فهذا الموقف لن يزيد إلا من موقف الجمهور الرافض لهذه الأفلام لأنه لا يعرفها أصلا، عملا بالمقولة المصرية الشائعة والتى توردنا أحيانا موارد التهلكة: "اللى تعرفه أحسن من اللى ماتعرفوش"!
سوف نحاول هنا أن نجعل من فيلم "ويندى ولوسى" من نوعية "اللى تعرفه"، لعل ذلك يصنع يوما تيارا يطلب السينما بمعناها الرفيع، أو على الأقل يطالب بحقه فى أن يرى كل نوعيات الأفلام. ولأن الفيلم غير متاح فى دور العرض، برغم سهولة الحصول عليه من الإنترنيت، فإننا لن نخشى هنا أن نحكى للقارئ حكايته، فربما كان ذلك دافعا لأن يبحث عنه ويستمتع بمشاهدته. ولعلى لا أذهب بعيدا عن الحقيقة حين أقول أن معرفة القارئ بتفاصيل حكاية الفيلم سوف تزيد من متعة مشاهدته، فالحكاية ذاتها شديدة البساطة، لكن جمالها فى طريقة حكايتها، أو كما يقولون فى علم الجمال أنه ليس من المهم فقط "ماذا" تقول، لكن "كيف" تقوله أيضا.
نحن فى البداية بالقرب من مخزن لقطارات البضائع على أطراف مدينة صغيرة فى شمال الغرب الأمريكى، نرى حركة القطارات البطيئة ونسمع أصواتها الرتيبة المنتظمة، ثم ننتقل إلى أحد المروج القريبة حيث نشاهد الفتاة ويندى (ميشيل ويليامز) تلاعب كلبتها لوسى شديدة الذكاء. الفتاة ترتدى قميصا وسروالا قصيرا حتى أنها تشبه الصبيان، خاصة فى قَصَّة شعرها القصير، ووجهها الخالى من آثار مساحيق التجميل، والكاميرا تتحرك حركة بانورامية بطيئة لتوحى لك بإحساس مطمئن تتمنى فيه كمتفرج لو امتدت وطالت تلك اللحظة من الوداعة والسلام. تختفى الكلبة لوسى عن أنظار ويندى فيتسلل بداخلها إحساس بالخوف، حتى تجد كلبتها عند مجموعة من الشباب والشابات، هم أقرب إلى الصعاليك المشردين، ويدور حوار قصير نعرف منه أن ويندى مسافرة على الطريق، لقد أتت من ولاية بعيدة وتنوى إكمال رحلتها إلى ألاسكا، حيث تقول أن هناك فرصة للعمل فى مصنع لتعليب الأسماك، فى نفس الوقت الذى يحكى فيه الصعاليك عن أنهم عائدون من نفس المكان الذى تنوى ويندى أن تذهب إليه.
وهكذا وبلمسات شديدة الرهافة، يضع الفيلم أمامك فكرته الدرامية: فتاة وحيدة ليس لها فى العالم من صديق حميم إلا حيوانها الأليف، وحلم بالذهاب إلى آخر العالم بحثا عن عمل، وربما هربا من ظروف خانقة، لكنك تعرف أن هذا الحلم ليس ورديا بأية حال عندما ترى الصعاليك العائدين منه. وهنا سوف أتوقف بك قليلا لنتأمل ما يسمى "سياسات السينما"، التى لا علاقة مباشرة بينها وبين السياسة بمعناها الدارج، لكنها علاقة صانعى الفيلم بالشخصيات والعالم الذى يصورونه، بما يؤدى بهم إلى قرارات تقنية وجمالية محددة. إن صانعى الفيلم لن يخبروك بأية تفاصيل "معلوماتية" عن ويندى، فكأنهم لا يعلمون عنها الكثير سوى ما تعرفه أنت، لذلك فإنهم لن يتدخلوا بينك وبين ما تراه على الشاشة، وسوف يكتفون فقط "بتسجيل" العالم كما هو بأقل قدر من التقنيات. وأرجو أن تلاحظ على سبيل المثال أنه لا يوجد فى الفيلم "فلاش باك" يفسر ويشرح، وليست هناك حركة "زووم" واحدة تجعلك تقوم بالتركيز على عنصر درامى دون آخر ... قل فى النهاية أن هذا هو العالم أمامك، وعليك أن تفسره وتتفاعل معه بالطريقة التى تختارها.
لكن الفيلم لن يخلو أيضا من "سياسة" على نحو ما، ولم يخطئ النقاد الأمريكيون حين لاحظوا أن جانبا من مضمون الفيلم يصور أمريكا فى نهاية عصر بوش وفى أعقابه، أناس على الطريق، بدأوا من واقع طرَدَهم إلى حلم متواضع بالبحث عن لقمة عيش فى ظروف أفضل. ولعل القارئ يلاحظ أننى أستعين هنا بشهادة النقاد الأمريكيين فى الجانب السياسى، لأن الكثير من نقادنا يتصورون أن القراءة السياسية للأفلام هى نوع من التعسف! بل إن هذا الموقف السياسى فى الفيلم يتجسد فى شكل فنى فى أن كل الشخصيات هى بشكل أو بآخر امتداد أو انعكاس للبطلة ذاتها، وهو ما يطلق عليه "البناء المفتوح" فى الدراما.
فلنعد إلى الحكاية: ويندى لا تملك من المال لتكمل رحلتها إلا بضع مئات قليلة من الدولارات، تظل تعيد حسابها المرة بعد الأخرى فى خوف من نفادها قبل أن تصل إلى غايتها، وهى تبيت لياليها على الطريق بداخل سيارتها الصغيرة العتيقة مع كلبتها لوسى، لكن السيارة لن تدور فى الصباح، فتضطر إلى دفعها إلى طريق جانبى، بعيدا عن مكان خال يحرسه حارس عجوز (والى دالتون)، كل ما يفعله طوال يومه هو أن يقف على قدميه دون أن يعرف بالتحديد ما هو ذلك الشئ الذى يقوم بحراسته سوى هذه الأرض الخاوية. تستعين ويندى بدورات المياه فى محطات الوقود على الطريق لكى تغسل وجهها فى الصباح، وتغير بعض ملابسها، وتجمع من الغابة القريبة بعض المعلبات الفارغة وتذهب لبيعها، لكنها تجد طابورا طويلا من جامعى هذه المعلبات فتتراجع عن فكرتها. تذهب ويندى إلى متجر قريب، وتختلس علبة طعام لكلبتها، فيمسك بها أحد الفتيان العاملين فى المتجر، ويسلمها إلى رئيسه فى العمل، مؤكدا لكى يثبت كفاءته أن القانون يجب تطبيقه على الجميع.
من أجل علبة طعام الكلاب يقودون ويندى إلى الشرطة، فتترك كلبتها مقيدة إلى جوار المتجر، وبعد ساعات طويلة يفرجون عنها بعد أن تدفع غرامة، لتعود فلا تجد لوسى حيث تركتها. لا تستغرب أن تكون الكلبة الأليفة هى صديقها الوحيد فى هذا المجتمع، فهذا ما سوف يتأكد توا: إن ويندى تتصل بأختها فى الولاية البعيدة التى أتت منها، فلا تتلقى سوى عبارات فارغة من أية مشاعر أو تعاطف، فتبيت الليلة وحدها فى السيارة، وإن كانت تخرج بين الحين والآخر فى الظلام تنادى على لوسى فى لوعة، دون أن تسمع سوى صدى صوتها. فى الصباح التالى، وبنصيحة من الحارس العجوز، تذهب ويندى إلى حظيرة الكلاب الضالة فى المدينة فلا تجد لوسى، وأرجو أن تتأمل هنا كيف تستعرض الكاميرا، المتحركة ببطء وتمهل، أقفاص الكلاب الضالة التى تنظر إلى الكاميرا، إن وراء كل منها قصة ربما تكون مماثلة، مثلما أن قصة ويندى يمكن أن تتكرر فى هذا المجتمع القاسى الذى قد نصنع له صورة مثالية مغايرة للحقيقة، برغم أنه ليس فى النهاية إلا مجتمعا ينقسم إلى من يملكون ومن لا يملكون.
حتى الملاذ الأخير لدى ويندى الذى تبيت فيه، سيارتها القديمة المعطلة، سوف تفقدها عندما تذهب بها إلى ورشة تصليح السيارات، ولا تجد سوى الغابة تنام فيها، وهناك تستيقظ فى الليل على صعلوك متشرد يهذى بأنه ليس مجرما إذ يطالب بحقه كإنسان، ثم يختفى، لكن الهلع يسيطر على ويندى فتمضى هائمة فى شوارع المدينة فى الليل، وتلجأ إلى دورة المياه تختفى فيها وتبكى، لكنها تنظر فى المرآة الملطخة وتواسى نفسها وتشجعها على الاستمرار فى الرحلة. الآن عرفت ويندى أن السيارة أصبحت متهالكة تماما ولن تساوى تكاليف إصلاحها التى لا تملكها، وعندما تعثر على لوسى أخيرا تكتشف أن رجلا مقتدرا قد آواها. تتسلل ويندى إلى حديقة منزل الرجل، وهناك تلتقى ولوسى فى مشهد مؤثر بحق، لكنها بعد لحظة تدرك أن عليها أن تتخذ القرار الصعب، أن تترك لوسى هنا على أمل لا تدرى إن كان سيتحقق بالعودة لها عندما تمتلك المال، وفى لقطتين قريبتين لوجهى ويندى ولوسى يشعر المتفرج بلوعة هذا الفراق، وتمضى ويندى وحيدة لتتسلق أحد قطارات البضاعة الراحل إلى ألاسكا، من مخزن القطارات حيث بدأ الفيلم، وكأنه يرسم القوس الأخير للنهاية التى ما تزال مفتوحة.
أخرجت الفيلم كيلى ريتشارد، التى شاركت فى السيناريو مع كاتب القصة جون ريموند، كما اشتركت فى مونتاجه أيضا، وهو فيلم "مستقل" بالمعنى الحقيقى للكلمة، وذو ميزانية متواضعة تماما، حيث تم تصويره فى مواقع التصوير الحقيقية باستخدام الضوء المتاح، وشريط للصوت حافل بالمؤثرات الصوتية الطبيعية على الطريق السريع إلى جوار مدينة صغيرة، كما أنه مستقل فى فكرته ومعالجته، إنه من نمط "فيلم الرحلة" لكنه يقف عند نقطة من هذه الرحلة متأملا، نقطة اللاعودة وضرورة الاستمرار نحو المجهول، عندما تجد الشخصية الرئيسية نفسها محاصرة بأنها "لا تملك" فى مجتمع لا يعرف قيمة إلا لمن يملكون، ونحن نجد أنفسنا بدورنا محاصرين مع الشخصية، ووجود الكلبة لوسى فى هذه الحبكة هو الذى يتيح الفرصة لأكبر قدر من التوحد بيننا وبين البطلة، إذ يعطيها أبعادا لا تملك إلا التعاطف معها. ومن خلال براعة هائلة من كل الممثلين دون استثناء، تصدق أن هذه الشخصيات حقيقية، وأن الفيلم "يسجل" واقعا لم يخلقه أو يختلقه، وهو ما يجعل الفيلم درسا حقيقيا لسينمائيينا الشبان الباحثين عن سينما مستقلة بحق، إنه الدرس الذى يعلمك ألا تصنع "لولاكى" مثل آلاف غيرك، وإذا لم تكن قادرا على صنع السيمفونيات المبهرة فقد تكون قادرا على تأليف رباعية وترية شديدة الاقتصاد والبلاغة معا، وإن كان ذلك يحتاج إلى وعى سياسى وجمالى حقيقى، ليتنا نمتلكه يوما.

Tuesday, December 28, 2010

السينما المصرية فى الألفية الثالثة ... قبل الميلاد!!


هل تذكر حكاية "الألفية الثالثة" والحديث المزعوم عن دخول مصر إليها "برجلها اليمين"؟ لقد مضى العقد الأول من هذه الألفية، واتضح أن مصر، فى كل المجالات دون استثناء، كانت لا تدخل إليها، بل تخرج منها مولية الأدبار، بفضل مجموعة "الشطار" والعيارين التى تحكمنا الآن، ليس فى ذهن أحد منهم مصلحة الوطن بالمعنى الحقيقى للكلمة، بل هدفهم جميعا هو تحويل مصر إلى سوق و"سويقة"، وكل واحد وشطارته وصوته العالى وقدرته على إلباس الحق بالباطل، وإنكار وجود الشمس فى عز الظُهْر، ومن يستطيع منهم أن ينتزع "حتة" من الوطن ليأكلها لحما ويرميها عظما فهنيئا له ومريئا، وكله باسم الفكر الجديد وحماية الأمن القومى على طريقة الجدار الفولاذى ومصر فوق الجميع، والمصيبة أننا – نحن المنتمين إلى ما يفترض أنها المعارضة – نكتفى بأن نقوم بدور الموسيقى التصويرية لهذه الميلودراما، بالكثير من الكلام والقليل من الفعل، تأتى إلينا فرص اتخاذ مواقف سياسية فنأبى استثمارها، فحين يتحدث البرادعى عن الأوضاع المقلوبة نتوقف عند الدفاع عن شخصه، بينما كان الأجدر بنا أن ندافع باستماتة عن أفكاره بتعديل الدستور وإصلاح أوضاع الحياة الحزبية فى مصر، وحين فكّرنا يوما فيما أطلقنا عليه "العصيان المدنى السلمى" فات علينا أن نجمع الشعب المصرى على هذا الموقف بسبب "شبه" قانون الضريبة العقارية، الذى يصممون به على عَقْرنا فى عُقْر دورنا وديارنا.
وإذا كان الحال كذلك، حكومة ومعارضة، فقل لى بالله عليك كيف يحق لنا ولو للحظة واحدة أن نتحدث عن ألفية ثالثة، حتى لو كانت قبل الميلاد؟ وعندما نتناول أحوال السينما فى مصر فلن نجدها منفصلة أبدا عن هذه الفوضى الضاربة أطنابها فى كل شىء، الخالق الناطق هى نفس العشوائية والاضطراب، سواء فى الكثير من الأفلام التى تتم صناعتها دون أن تعرف بالضبط لماذا ولمن صُنعت، أو فى بعض الأحكام النقدية التى يحكمها الهوى أحيانا والجهل أحيانا أخرى، وأخيرا الأرقام المغلوطة وغير الدقيقة التى تطالعنا هنا وهناك، بينما لا نعير التفاتا للأرقام الموثوق بها. ليست "شطارة" أبدا من كاتب هذه السطور أن يراجع هذه الأرقام والمعلومات أو تلك، بل هو الحزن الحقيقى والأسى العميق من أنك لن تجد الكثيرين من النقاد يعانون من الأرق بسبب الحال الذى وصلت إليه صناعتنا السينمائية، فنحن ننقد الأفلام: هذا فيلم جيد وياسلام عليه، وهذا فيلم ردىء و"وِحِش"، ثم ننام ملء جفوننا. إننا نتعامل مع السينما، كما نتعامل الآن مع كل شىء فى حياتنا، بالقطعة، كجزئيات لا نخرج منها بصورة للكل، هذا الكل الذى وصل إلى حالة مزرية من التردى والتدهور والانحدار.
سوف أحاول معك فى هذا المقال أن نقف عند بعض النقاط، التى أرجو أن تفى بالغرض من إلقاء بعض الضوء على أوضاع صناعة السينما فى بلادنا. ولأبدأ معك بما نشره موقع "ميتاكريتيك" منذ أيام قليلة، عن أفضل مائة فيلم خلال العقد الأول من الألفية الثالثة، وذلك طبقا لمتوسط آراء أشهر النقاد الأمريكيين، ومع ذلك فإن المركز الأول فى القائمة احتله فيلم أسبانى مكسيكى، والثانى رومانى، وتوالت أفلام من اليابان واستراليا والصين وفرنسا وبريطانيا والبرازيل و"إسرائيل" وألمانيا وكندا وإيطاليا وكولومبيا وإكوادور وروسيا وإيران. لن أسألك أين مصر فى هذه القائمة، (لا وجود بالطبع لأفلام مثل "ابراهيم الأبيض" أو "جنينة الأسماك"، لا فرق)، لكن أرجو أن تلاحظ أن ثلاثة أرباع هذه الأفلام لم يعرض فى مصر عرضا عاما أو خاصا، وحتى الرُبع الذى أتيح له العرض لم يتناول معظمه أية مقالة نقدية جادة فى مصر، وهو مايشير فى واقع الأمر إلى غيابنا، جمهورا ونقادا، عما يحدث فى السينما فى العالم، بينما نهتم ونتجادل ونتشاجر ونمسك فى خناق بعضنا البعض حول أفلام مصرية تتلعثم – بالمعنى الحرفى للكلمة – فى أبجديات السينما وبديهيات الفن. إن هذا يحدث فى عصر الإنترنيت، حيث يمكن للنقاد المصريين الاطلاع على مايكتبه النقاد فى العالم كله، وتحميل ومشاهدة الأفلام التى لا تُعرض للجمهور المصرى، والكتابة عنها لضخ دماء جديدة متدفقة ودافئة فى الثقافة السينمائية، لأن من المفترض أن النقد لا يكتفى بالتهليل أو التنديد بتلك الأفلام المتواضعة المفروضة علينا، وتُفسد ذوقنا النقدى والجماهيرى حتى إن لم نكن نشعر بذلك بشكل واعٍ، لكن يجب على النقد أن يفتح آفاقا جديدة أمام صانع الفيلم والمتلقى معا. وعند هذه النقطة أود الإشارة إلى حقيقة مفزعة لا تحدث أبدا فى أى وسط ثقافى ينبض بالحياة (وسطنا الثقافى السينمائى ينبض بالموت إن جاز التعبير)، وهى غياب أية مطبوعة سينمائية جادة ومنتظمة الصدور، وكان الأجدر وجود العديد من المطبوعات التى تعبر كل منها عن اتجاه أو منهج نقدى بعينه، لذلك وقع النقد فى هوة الصحافة السينمائية مدفوعة الأجر، ماديا أو معنويا، والتى تتحدث عن نجومية فلان، و"البطولة المطلقة" لعلان، وترتان الذى "تفوق على نفسه"، ناهيك عن الأحكام المتعسفة والمتسرعة التى لا تساعد المتلقى بأية حال على التذوق الحقيقى للأعمال السينمائية.
أريد أن أكون منصفا فأقول أن بمصر الكثيرين من النقاد الجادين، لكنهم لا يقومون بواجبهم كما ينبغى لهم، ربما بسبب المناخ العام الذى أصابته الشيخوخة فى كل شىء، أو لأنهم لا يجدون لهم منبرا ثابتا، أو لأنهم مشغولون بالبحث عن لقمة العيش فى نشاطات تبعدهم عن ممارستهم النقد بشكل مستقر مستمر، أو لكل هذه الأسباب جميعا. من جانب آخر فسوف تجد بعض "كهنة" النقد السينمائى، وأتباعهم من أنصاف النقاد الذين يرددون العبارات خلفهم كالببغاوات، هؤلاء لهم منابرهم التى يطرحون فيها قضايا وأحكاما قاطعة مانعة ما أنزل الله بها من سلطان، وهم يُغيرون هذه الآراء على حسب المصلحة، فالرائد الأول فى الدعاية لتحويل الثقافة السينمائية إلى استثمار أصبح الآن يهاجم هذا الاتجاه، والله وحده يعلم السبب وراء "إيمانه" بالرأى ونقيضه على هذا النحو الذى يضفى الشك على ما يدعو إليه فى الحالتين. إن هذا النوع من "النقد" لا يبغى فى الحقيقة إلا المصالح الشخصية، أما القضايا الموضوعية فقل عليها السلام. أعطيك مثالا صارخا: هل قرأت لأى من النقاد ولو بضع سطور عن البيانات التى أصدرها الجهاز المركزى للتعبئة والإحصاء، حول أن عدد دور العرض السينمائى فى مصر الآن 250 دار، وعدد رواد هذه الدور فى عام 2008 لم يتجاوز 18 مليون مواطن، وهى أرقام هزيلة إلى حد مفزع، وفى ظلها لا يمكن الحديث عن أن لدينا صناعة سينما، فهى تعنى أن هناك دارا واحدة للعرض السينمائى لكل 300 ألف مواطن، وأن المتفرج المصرى يدخل السينما مرة واحدة كل أربع سنوات! هل يمكن أن نقارن ذلك بأية صناعة سينما أخرى، حيث المتوسط هو دار عرض لكل عشرة آلاف مواطن، وحيث يدخل المتفرج السينما أربع مرات كل عام؟!! وفى ظل هذه الأرقام يجب أن نسأل أنفسنا: لمن نصنع الأفلام إذن؟ ولماذا نصنعها؟ وهل السينما – باعتبارها فنا – تمارس دورها المفترض فى صناعة وصياغة وجدان الجماهير، أم أنها حتى كتجارة تتجاهل الاحتياجات الحقيقية لهذه الجماهير، وتترك عقولهم وأفكارهم نهبا لكل الأفكار والتيارات المتطرفة يمينا أو يسارا؟ وكيف يمكن لنا كنقاد أن نتناول بالنقد المتحمس أفلامنا المصرية، التى تزداد للأسف الشديد تدهورا وتحللا فى الشكل والمضمون، بينما نحن نعلم أن الأفلام لم تعد إلا سلعة لجمهور عابر يعتبرها وسيلة للتسلية من الدرجة العاشرة؟! ألسنا بذلك نساهم فى تدنى السينما المصرية ونظرة الجمهور لها؟!
إن ذلك يقودنا إلى من يقومون بالإنتاج والتوزيع السينمائى، الذين لا ينظرون إلى السينما إلا كمجرد "سبوبة" يستكملون بها أرباحهم المادية والمعنوية، إنها وسيلة للكسب السريع السهل، الذى يتماشى تماما مع كل السياسات الاقتصادية المتبعة فى مصر الآن، والقائمة على النهب والخطف، "إخطف وإجرِ"، وأضف إلى ذلك الوجاهة الاجتماعية بالاقتراب من عالم الأضواء، ومع ذلك فهؤلاء المنتجون الموزعون، بهذا الفكر القاصر، هم الذين يصوغون القيم الأخلاقية والسياسية لمن يتفرج على أفلامهم. لم يقف فى طريق هؤلاء أحد عندما يرتكبون الخطيئة الجوهرية فى أية صناعة سينما، فى جمعهم للإنتاج والتوزيع والعرض، فهذا الاحتكار لن يؤدى بعد سنوات قليلة إلا للانهيار، هذا الانهيار الذى يمكن أن تلحظ بوادره فى تراجع متزايد فى عدد الأفلام وتدنى مستواها. إلى جانب ذلك، أرجو أن تتأمل فقط أفلام إحدى هذه الشركات، التى جاءت بأموالها من عالم القرى السياحية، لتصنع أفلاما تسخر فى وقاحة من شهداء حرب أكتوبر، وتهزأ بـ"كل" التاريخ النضالى فى مصر، وبعد ذلك يتصور (أو الحقيقة: يزعم) البعض أنه يمكن أن يصنع من خلالها أفلاما "ناصرية" أو تنادى بالحرية الفكرية، أو تدعى أنها كذلك!! (لعلك تفهم لماذا يعمل الناقد الكبير إياه كبوق دعاية لأفلام هذه الشركة، لكن هل تستطيع أن تفهم لماذا يسير بعض الحواريين "الغلابة" خلفه؟).
أعرف الآن ياعزيزى القارئ أنك تنتظر منى قائمة تمثل – من وجهة نظرى – أفضل عشرة أفلام مصرية فى العقد الأول من القرن العشرين، وأعترف لك أننى بذلت جهدا كبيرا لكى أحدد هذه الأفلام العشرة (عشرة فقط فى عشر سنوات!!)، بل إننى أعترف لك أيضا أننى لا أرضى كل الرضا عن بعض مما جاء فى هذه القائمة، لكنها على أية حال، وكما أعتقد، تعطيك لمحة عن الأسماء التى تتعامل بجدية مع الفن السينمائى، وإن لم يكن بعضها يلتزم بذلك دائما! هذه الأفلام بترتيب عرضها: "أرض الخوف" (2000) لداود عبد السيد، "فيلم ثقافى" (2000) لمحمد أمين، "الأبواب المغلقة" (2001) لعاطف حتاتة، "مواطن ومخبر وحرامى" (2001) لداود عبد السيد، "سهر الليالى" (2003) لهانى خليفة، "باأحب السيما" (2004) لهانى فوزى، "بنات مصر الجديدة" (2005) لمحمد خان، "ملك وكتابة" (2006) لكاملة أبو ذكرى، "فى شقة مصر الجديدة" (2007) لمحمد خان، و"واحد صفر" (2009) لكاملة أبو ذكرى. ويمكن بالطبع وبدون أدنى شك للقارئ أو أى ناقد زميل أن يختلف مع هذه القائمة، لكن تلك هى رؤيتى الشخصية للإنجاز الإبداعى للسينما المصرية فى أعوامها الأخيرة، والذى يشير – كما أتصور – إلى أنه ما يزال للتيار الجاد من جيل الثمانينات، ممثلا فى داود ومحمد خان، حلمه وإصراره على صنع سينما حقيقية كلغة ورسالة بالمعنى الأعمق للكلمتين، وإن كانت الظروف تعانده بقوة، فداود على سبيل المثال قضى عشر سنوات لكى ينجز فيلمه الذى لم يعرض بعد "رسائل البحر"، وما يزال بعض من فرسان هذه الكتيبة لا يجدون الفرصة للعودة إلى السينما مثل خيرى بشارة. من جانب آخر فإن فرسانا جددا مثل عاطف حتاتة أو هانى خليفة لم يجدوا الفرصة إلا لصنع فيلم واحد، بينما بدأ محمد أمين طموحا وانتهى إلى السينما التى ترقص على السلم بمغازلة النقاد و"زغزغة" المتفرجين بأفلام مشوهة الشكل والمضمون، فى الوقت الذى تملك فيه مخرجة شابة مثل كاملة أبو ذكرى رهافة التعبير وعمقه، دون أن تقع (كما يحدث لمخرجات أخريات) فى إغراء البهلوانيات السينمائية الفارغة، وإن كانت تلجأ بين الحين والآخر إلى "تقفيل" فيلم تجارى متواضع.
لعلك لاحظت أبها القارئ العزيز أننى لم أتوقف عند أى فيلم لأى من النجوم أو النجمات الذين يحتلون السينما المصرية الآن، فاعتقادى الذى أومن به كل الاعتقاد أنهم نجوم مصطنعون، فإن غاب أحدهم أو إحداهن عن الشاشة (كما حدث بالفعل) فلن يشعر أحد منا بافتقاد شىء ما، وهو ما يتناقض مع مفهوم "النجومية" بمعناها الحقيقى، التى لا تعنى كما يتصور البعض أنها "البضاعة الأكثر مبيعا"، لكن النجم أو النجمة هما جزء من واقعنا وجزء آخر من أحلامنا، والنجومية ليست ظاهرة فنية فقط، بل إنها فى جوهرها ظاهرة اجتماعية وسياسية، إن النجم الحقيقى يظهر على الشاشة بالنيابة عنى لكى يقول ما أريد أن أقوله لكننى أعجز عن قوله، وهو الذى يفعل فى الأفلام ما لا أستطيع أن أفعله فى الحياة وإن كنت أتمناه. ولأن السياق الذى نعيش فيه يتضمن واقعا بائسا يائسا بلا أحلام، فلا وجود لنجوم حقيقيين فى السينما والسياسة على السواء... ليس هناك قادة ثقافيون أو سياسيون بالمعنى الحقيقى للكلمة، ولم يكن ذلك إلا سببا ونتيجة فى وقت واحد لثلاثة عقود من التراجع والتدهور المادى والمعنوى، وربما لو ظهر ابن إياس فى زماننا لوجده يضاهى أكثر العصور ظلاما فى تاريخ مصر، ومصر يا من تتحدثون عنها بوصفها "فوق الجميع" ليست كتلة مصمتة أو صنما معبودا، وهى ليست النظام الحاكم فى أى من العصور، إنها الآن أنا وأنت كما نعيش هذه اللحظة من التاريخ، وبقدر ما ننجز تكون "مصر"، لأنها كائن حى تتفاعل فيه ومعه كل المؤثرات الإيجابية والسلبية، إنها تصح وتمرض، وهى الآن فى طور متأخر من المرض، ولعلها يوما تسترد صحتها وعافيتها، لكى تدخل العقد الثانى من الألفية الثالثة، وتنسى العقود الثلاثة المظلمة التى لن تستحق من التاريخ سوى نظرة الشفقة الممتزجة بالازدراء تجاهنا، لأننا لم نؤدِ واجبنا البديهى ليس فقط تجاه مصر، بل تجاه ما يعبر عن أبسط شروط الكرامة والثقافة الإنسانيين.