Wednesday, October 05, 2011

فيلم "حتى المطر" إنهم يسرقون منا سر الحياة!!


"حتى المطر"، عبارة يمكنك أن تنطقها بطرق عديدة، بشكل تقريري، أو استفهامي، أو استنكاري، وهذا هو المقصود تماما في الفيلم الإسباني "حتى المطر"، الذي يدور حول مهزلة ومأساة تعيشها الطبقات الفقيرة، في دول تسيطر عليها حكومات عميلة، ففي بوليفيا في بداية القرن الواحد والعشرين، اتفقت الحكومة مع شركات متعددة الجنسية على فكرة شيطانية، بأن يبيعوا للمزارعين الفقراء مياه المطر، وهو ما يذكرك بمشروع مماثل كانت تفكر فيه الحكومة المصرية ببيع مياه الري للفلاحين، ولا أدري إن كانت الفكرة ما تزال قائمة، فلا تملك إلا أن تصرخ: "حتى المطر؟!!".
يأتي هذا الفيلم الإسباني في سياق مراجعة راديكالية من جانب بعض المثقفين في أسبانيا الآن، للسياسات الغربية التي حملت تناقضات الرأسمالية بكل شراهتها للمال، على حساب أي شيء وكل شيء. إنها المراجعة التي تنظر إلى الماضي في أسى وغضب معا، كأن الحضارة الغربية تسأل نفسها: "ماذا فعلتُ للإنسانية وبها، بذلك المشروع الاستعماري من عصر النهضة حتى الآن؟". ونحن – أهل الشرق – تعودنا بدورنا ألا نثق في هذه المراجعات، بينما لا نفعل شيئا في الحقيقة سوى الاستهجان، أو إصدار أحكام متعجلة تصل إلى درجة الرعونة، وهو ما يذكرني بقول البعض أن فيلما سابقا للمخرج الأمريكي تيرانس ماليك، هو "العالم الجديد"، يكرر الدعاوى العنصرية حول اكتشاف الأمريكتين، بينما كان الفيلم في جوهره هجاء لمصطلح "العالم الجديد" ذاته، فهذا العالم كان موجودا قبل أن يعرفه الأوربيون، وله حضارته الراسخة، لكن بعضنا يحلو له الإطاحة حتى بمن يقفون في صفوفنا، أو قل بالأحرى صفوف الإنسانية بمعناها الشامل.
وفيلم "حتى المطر" ليس بعيدا عن إعادة اكتشاف لتيمة استكشاف هذا "العالم الجديد"، وسوف تجد بداخله فيلما عن كريستوفر كولومبس وهو يرسو على شاطئ البلاد التي تصورها بشكل خاطئ على أنها الهند، وأطلق على أهلها "الهنود الحمر"، وقال إنه يضم هذه البلاد للإمبراطورية الإسبانية، وفي الوقت الذي رفع شعار التبشير بالمسيحية، و"هداية" أهل البلاد للجنة والنار، ليرفع عنهم الخطيئة، كان يمارس أبشع الخطايا الإنسانية، فقد كان جل همه هو أن يجمع له كل فرد منهم قدرا من الذهب كل يوم، ومن يفشل تُقطع يده، بينما هو يحرق المتمردين منهم أحياء!!
كتب المؤرخ الأمريكي البارز "هوارد زين" عن ذلك أن الغربيين أعطوا الإنجيل إلى الهنود الحمر، وأخذوا منهم أرضهم مقابله، وياليتهم تركوا لهم الأرض ولم يقوموا بهذه الصفقة الظالمة!! وسوف تقرأ إهداء في بداية فيلم "حتى المطر" إلى هوارد زين، الذي تأثر به صناع الفيلم كثيرا. لكن الفيلم ليس في جوهره عن رحلة كولومبس في حد ذاتها، فتلك المشاهد التي رويتها لك ليست في الحقيقة إلا فيلما داخل الفيلم، فالحبكة الرئيسية تدور حول فريق من السينمائيين يذهب إلى بوليفيا ليصور هذا الفيلم، وبرغم أن بوليفيا لم تكن الأرض الأولى التي رسا فوقها كولومبس، فقد تم اختيارها لأنها فقيرة، حيث يمكن تأجير فرد "الكومبارس" بدولارين كل يوم، لا ليمثل فقط وإنما لكي يقوم بالأعمال اليدوية أيضا، ومصدر المفارقة الساخرة المريرة هنا هو أن صناع الفيلم يصنعون فيلما عن الاستعباد الذي قام به كولومبس، لكنهم هم ذاتهم يمارسونه!!
أرجو أن تلاحظ هذه اللمسة الساخرة من الذات في كل ثنايا الفيلم، الذي يستخدم حبكة "الفيلم داخل الفيلم" ليصنع توازيات واختلافات بين الواقع والفن، لكن دعنا نبدأ من البداية. نحن مع المخرج سيباستيان (جايل جارسيا ماركيز) الحالم منذ سنوات بتفيذ هذا المشروع الناقد لكولومبس، وهو يأتي إلى هنا بصحبة المنتج المنفذ كوستا (لويس توسار) الذي لا يهتم إلا بتوفير أكبر قدر من المال، وهو ما يبدو على الفور مع مشهد اختيار كومبارس من أهل البلد الفقراء، المصطفين في طابور طويل انتظارا للقرار، لكنهم يصدمون عندما يعرفون أنه ليست هناك حاجة إليهم، ليثور من بينهم رجل يصطحب ابنته، وبينما يتعاطف معه المخرج فإن المنتج يرى في ذلك تضييعا للوقت، لكن حماس الرجل، ووجهه المنحوت كأنه تمثال هندي أحمر قديم، يقنعان المخرج بأن يسند دور زعيم المتمردين إليه.
بدءا من هنا يبدأ نوع من التداخل بين الإطار الخارجي (صناعة الفيلم حول كولومبس) وفيلم كولومبس بالداخل، ليس فقط من أجل محاولة خلق توازٍ بين هذا وذاك، على العكس فإن الخطين يتلاقيان أحيانا لكنهما يتباعدان في أكثر الأحيان، خاصة أن مساعدة المخرج تصور أحيانا لقطات بكاميرتها لفريق العمل, ونرى هذه اللقطات على الشاشة، وهكذا تكون لديك ثلاث مستويات للسرد: فيلم عن المخرج وحلمه بأن يصنع فيلما، ومشاهد من الفيلم الذي يصنعه، وثالث تصوره مساعدته يجعلك تصدق أن ما تراه من الفيلمين السابقين حقيقي تماما.
يجتمع الممثلون لكي يجروا "بروفات" القراءة، وهنا نتعرف على الممثل الذي يقوم بدور كولومبس، إنه العجوز أنطون (كارا إليخالدي) الذي تشعر أنه يحمل على كتفيه سنوات مثقلة بالأمال المحبطة، حتى أنه يغرق في شرب الخمر، لكن المثير هو أنه يرفض تماما النزعات اللا إنسانية عند كولومبس الذي يجسده، لكنه في أول مشهد يظهر فيه يبدو مندمجا تماما في الشخصية، إنه يقف في مطعم الفندق يتلو بعض سطور من دوره، ويعلن عن أنه نزل إلى هذه الأرض التي أصبحت ملكا لملكة إسبانيا ولله (!!)، ويتوجه إلى عاملة المطعم التي يتعامل معها على أنها هندية حمراء، ويلاحظ القرط الذهبي في أذنها فيخلعه ويحمله في يده ويسألها في انبهار وقسوة من أين أتت بهذا الذهب، وهي لا تجيب بالطبع لأنها لا تعرف ما يدور، ليفيق في النهاية من انماجه في الشخصية ويعتذر لها.
وبقدر حماس الممثل الذي يقوم بدور كولومبوس للهنود الحمر، نرى موقفا معاكسا من الممثل ألبيرتو (كارلوس سانتوس) الذي يجسد دور القس لاس كاساس، هذا القس الذي أدرك المظالم التي يعاني منها الهنود باسم المسيح، فالممثل يبدو لا مباليا بمضمون دوره، أو يتصرف أحيانا على عكس هذا المضمون. وهذا الانقلاب للأدوار يبدو أوضح ما يكون مع المخرج سيباستيان الذي يبدأ متعاطفا، والمنتج كوستا الذي يبدأ استغلاليا، فكل منهما سوف ينتهي عكس ما بدأ، وهذا التحول يؤكد على "الدراما" المطلوب وجودها في أي فيلم جيد، لأنها تتوقف عند المشاعر والأفكار المرهفة وتغيراتها، بما يجعل المتفرج أقرب للتفاعل والتوحد. أما الشخصية الوحيدة في الفيلم التي سوف ينطبق وجودها في الواقع وفي الفيلم داخل الفيلم فهو دانييل (خوان كارلوس أدوفيري)، الهندي الأحمر المتمرد، سواء في بوليفيا المعاصرة، أو في دور "آتوي" زعيم التمرد في الفيلم عن كولومبس.
مصدر التصادم والتعارض والتلاقي بين الواقع والفن هو ما يحدث في هذه القرية البوليفية الآن، حيث السلطات تمنع أهل البلاد من حفر الآبار بحثا عن مياه المطر، لأنها تنوي أن تبيع لهم هذه المياه عن طريق شركة أمريكية. وهنا يتزعم دانييل اعتراض أهل القرية ضد السلطات، إنه يذهب إلى المدينة حيث يقود المظاهرات، بما يعرضه للضرب المبرح من رجال الشرطة والجروح التي تصيب وجهه. وما يهم المنتج كوستا في ذلك كله ليس معاناة الأهالي أو القمع الذي يتعرضون له، فكل ما يهتم به هو الخسارة المالية التي سوف يتعرض لها الفيلم، إن لم يستطع دانييل إكمال دوره بعد أن قطعوا شوطا في التصوير، فكأنه الوجه المعاصر لاستغلال كولومبس، برغم أن يصنع فيلما انتقاديا لاستغلال كولومبس.
يبرز هذا النقد الذاتي في أفلام إسبانية عديدة معاصرة، لعل من أهمها الفيلم القصير عن "المطاردة"، والذي يبدأ وسط أدغال أفريقية، حيث تجار العبيد الأوربيون ينزلون على الشواطئ، ويطاردون الزنوج على نحو دموي شرس، ومن يتم القبض عليه يُشحن على السفن إلى أوربا، وفجأة تنتقل المطاردة إلى الغابات الأوربية في الزمن المعاصر، للقبض على الأفريقيين المتسللين إلى أوربا وإعادتهم إلى بلادهم، فكأن هذا الفيلم القصير يقدم رؤية لا تخلو من مرارة تجاه الذات، من الحضارة الأوربية التي كانت في الماضي تخطف الأفارقة وتأخذهم كعبيد، بينما هي الآن تمنع عليهم أن يبحثوا عن لقمة عيش في البلدان التي كان أجدادهم عبيدا فيها!!
تلك هي المرارة الذاتية التي تبدو في العديد من مشاهد "حتى المطر"، مرارة لا تخلو من حزن وأسى، سواء في الفيلم داخل الفيلم، حيث الهندي الأحمر يساعد رفاقه الذين وقعوا أسرى في أيدي رجال كولومبس، أو في الإطار الخارجي في بوليفيا المعاصرة، حيث القتال الشرس بين المدنيين العزل المدافعين عن حقهم المشروع في مياه المطر، وفرق مكافحة الشغب التي تستخدم العنف المفرط. إنه نفس النضال، والحاضر يكرر الماضي، بين من يمارسون الاضطهاد ومن يعانون منه، بين الأغنياء والفقراء، بين من يرفعون لواء الحضارة وهم يتصرفون بوحشية، وأناس يبدو بسطاء في حياتهم لكنهم هم جوهر كل حضارة إنسانية حقيقية.
في أحد مشاهد الفيلم المهمة – وأرجو ألا يتوقع مني القارئ أن أذكر له كل المشاهد – تقوم الكلاب بمطاردة الهنود الحمر في زمن كولومبس، ويقترب كلب متوحش من الكاميرا في مواجهتنا تماما كأننا بدورنا سوف نقع ضحية الافتراس، وسوف نعرف أنه حدث في التاريخ أن نساء القيبلة قررن ألا تتركن أطفالهن الرضع لتنهشهم الكلاب، فقررن إغراقهن في النهر!! يالقسوة الحقيقة، التي تصبح أكثر قسوة هنا، لأن المخرجة الإسبانية إيثار بولين أدركت بحس المرأة وطأة الموقف، فقررت أن تتوقف عنده بالتأمل. إن مخرجنا يريد تصوير هذا المشهد، باستخدام خداع المونتاج بالطبع، وعبثا يحاول إقناع نساء القرية المعاصرة بإعادة تمثيله، فتلك الحقيقة التاريخية المرعبة تتجاوز أي قدرة على تمثيلها من جديد.
وبينما كان أهل المدينة يعيشون حالة من الرعب بسبب القمع على يد الشرطة، كان الموظفون الرسميون في الحكومة يقيمون حفل استقبال لفريق عمل الفيلم، إنك تسمع الصرخات وأصوات طلقات الرصاص في الخارج، بينما "المثقفون" يناقشون بهدوء في الداخل سر "الأزمة" بين الفقراء والأغنياء، يختلفون في الرأي وهم يقارعون الكئوس، بما يذكرك بأحوال بعض البلدان العربية التي تشهد ثورة شعبية، و"سفسطة" سياسية، تنتهي بإدانة الجميع للجميع، ومصافحة الجميع للجميع!! إن أنطون (ممثل شخصية كولومبوس) ينتقد الحكومة البوليفية لأنها لا تدرك أهمية الماء لأهل البلاد، وتتعامل معهم بنظرية ماري أنطوانيت، فما حاجتهم للمياه إذا كانت الخمر موجودة؟!! لكن الموظف الرسمي يجيبه بأن فريق عمل الفيلم لا يختلف كثيرا عن الحكومة في استغلاله فقر الكومبارس، فيبتسم الجميع!!
سوف يلعب المنتج كوستا على حث الهندي الأحمر دانييل على البحث عن خلاصه الفردي وحده، فلماذا يربط نفسه بأقرانه إذا كان يستطيع أن يحصل على مال أكثر من الفيلم، يمكنه من شراء ما يريده من مياه؟ فيجيبه الرجل: "الماء هو الحياة، وأنت لن تفهم ذلك". لكن كوستا في الفيلم لا يبدو أبدا ذلك المنتج الشرير الذي يدوس على كل شيء من أجل تحقيق المال، وهو "إنسان" بالمعنى الدرامي وليس نمطا لشخصة في فيلم، خاصة مع أداء الممثل لويس كوسار أحد أشهر الممثلين الإسبان حاليا، وهو أيضا بطل فيلم "الزنزانة 211" الذي تنافس مع "حتى المطر" للوصول إلى الأوسكار في بداية هذا العام، والذي قد نتوقف عنده في مقال قادم. إنك تشعر أن لكوستا عالما خفيا، وحياة ليست سعيدة بأية حال، برغم أن عليه أن يصبح "الأب" بالنسبة للجميع، يشجعهم ويطيب خاطرهم لكنه هو نفسه لا يجد التشجيع من أحد، وهذا ما يمهد لتحوله في الجزء الأخير، حيث يكون عليه أن يختار بين أن يهرب بمشروع الفيلم من هذا المكان المضطرب، أو أن يخوض رحلة بين النيران والرصاص لكي يصل بابنة دانييل للمستشفى لعلاجها من جرح خطير.
لا يعود كوستا من رحلة فيلمه إلا بهدية دقيقة الحجم من دانييل، يفتحها فيجد زجاجة مياه صغيرة، وينطق اسمها بلغة أهل البلاد: "ياكو"، فقد عرف الكلمة ومعناها. وهذا هو ما يرجوه منك فيلم "حتى المطر"، أن تدرك أهمية هذه القضايا الحيوية للبسطاء، ملح الأرض وصانعي مجدها الحقيقيين، الذين توقفت عندهم كاميرا الفيلم طويلا في لقطات تسجيلية حميمة، تضبف بعدا آخر للدراما، التي امتزجت فيها طبقات من الأساليب، تلتقي جميعا معا في الرغبة في منح الفيلم طاقة حيوية وصدقا عميقا، وهو يتحدث عن هؤلاء الناس الذين يجب أن نصنع الأفلام عنهم، ومن أجلهم، لأنهم هم الذين يصنعون الحياة.

Saturday, October 01, 2011

فيلم "أجورا" ياإخوتنا في الإنسانية، هناك ما يجمعنا أكثر مما يفرقنا!!


من أين تأتي كراهية الإنسان لأخيه الإنسان؟ هل هناك مصدر أزلي أبدي تنبع منه هذه الكراهية، حتى يبدو أنه ليس ثمة أمل في أن تحيا البشرية كلها في سلام؟ ذلك هو السؤال الذي يطرحه فيلم "أجورا" وإن لم يكن بشكل مباشر، وبرغم أن الفيلم يعود عرضه إلى عام 2009، فإنه يبدو كأنه يتحدث عن هنا والآن، في مناخ ينذر باندلاع الحرب الطاحنة في أية لحظة، بسبب حالة من "الغباء المتعمد" تسيطر على قطاعات هائلة من الناس والبلدان. فهل تصدق مثلا أن الإسرائيليين يرددون أن السبب في أزمة التفاوض هو "تعنت" الفلسطينيين؟!! وأنه قد ظهرت فجأة في مصر نزعات تناقش مسألة "الهوية"، وتريد في الحقيقة أن تنزع عن الوطن هويته المصرية، تحت ستار الدين والتدين؟!!
ما هذا الجنون؟ هذا هو ما تجد نفسك تردده وأنت تشاهد فيلم "أجورا"، بشرط أن تتحلى أنت أيضا بالتسامح بلا حدود، وتتخلى عن أي تعصب للأفكار الجاهزة المسبقة، ويستقر بداخلك الإيمان بأننا جميعا سواء، وأن ما يفرقنا هو من صنعنا، من اختراعنا، وليس قدرا مفروضا علينا. ليس هذا التسامح أو التخلي عن التعصب سهلا، فهو يمس أحيانا مناطق "الإيمان" في النفس البشرية، والتي تترك العقل وراء ظهرها، فالمؤمن في أي دين يعتنق مفهوم أن "التسليم" بالمعتقدات هو البداية والنهاية، ولا دخل للعقل أو المنطق في ذلك، وأنا لا أستطيع أن أجعلك تهجر هذا المفهوم، لكني أسألك فقط: لماذا تحتفظ لنفسك وحدك بالحق فيه وتنكره على غيرك؟ فالمؤمن بدين آخر هو أيضا يسلم بمعتقداته، ويراها غير خاضعة للمنطق، فلا مناص إذن من الاختيار بين أن يتعايش الجميع في سلام، أو أن تستمر الحرب الدامية بين البشر بلا نهاية إلا الفناء.
ولكي يناقش هذه الفكرة، اختار المخرج الإسباني أليخاندرو أمينابَرْ الفترة التاريخية التي تقع بين نهاية القرن الرابع وبداية القرن الخامس الميلاديين، والمكان هو مدينة الإسكندرية المصرية، الواقعة آنذاك تحت الحكم الروماني، و"أجورا" هي الساحة الرئيسية في أي مدينة، الساحة التي تشهد الوقائع اليومية من بيع وشراء ومجادلات ونزاعات وتحالفات، ومن هذه الوقائع تتألف شيئا فشيئا – وبقدر غير قليل من الغوغائية - الأحداث الكبرى التي قد تغير مجرى التاريخ. لقد كانت الإسكندرية – مثلها مثل مصر الآن – ساحة كبرى تصطرع بالأفكار المتناقضة، خاصة على مستوى الدين، بين ديانة يسمونها "وثنية" تجمع بين آلهة المصريين والرومان القدماء، وديانة تحمل صفة "السماوية" هي المسيحية، لا تكاد إحداهما تترك الأخرى تعيش وتتعايش في سلام، ولا مهرب إلا أن يقضي أتباع هذه أو تلك على أتباع الأخرى، وفي قلب هذا الصراع يضيع من يمثل التسامح الإنساني الرحب، القائل بأن البشر جميعا سواء.
يتجسد هذا التسامح في هيباتيا (ريتشيل وايز)، الفيلسوفة التي تؤمن بالحرية بلا قيود، وهي شخصية تاريخية حقيقية، كانت مهمومة بالبحث عن إجابات لأسئلة العلم والفلسفة، وبرغم جمالها وشبابها فقد وهبت حياتها لأفكارها وأبحاثها، وقد جمعت من حولها شبابا من مختلف العقائد، كمثال على التعايش بين الجميع. وفي جمال بالغ البساطة تؤدي وايز الدور على نحو يقنعك أنها هيباتيا الحقيقية، التي يبدأ الفيلم بها وهي تلقي محاضرة بين طلابها، الذين يشعر بعضهم بالميل نحوها، لكنها تطرح جانبا على الدوام أي علاقات جسدية، ليس لأنها راهبة، ولكن لأنها تعرف مكانها في العالم في تلك اللحظة من التاريخ الإنساني، فهي إن رضيت بأن تكون زوجة في هذا المجتمع الأبوي فسوف تتخلى عن حريتها في البحث والاستقلالية اللذين لا تقبل بغيرهما بديلا، وهي تدرك أيضا أن البعض ينظر لها نظرة مثالية، لكنها امرأة من لحم ودم، حتى أنها تصدم البعض من محبيها بحقائق الجسد التي قد تبعث على النفور.
هيباتيا إذن كامرأة حقيقية رمز للعقل المنفتح لأي حقائق علمية أو فكرية جديدة، فلا تقبل بالمسلمات إن تناقضت مع ما يكتشفه الإنسان كل يوم من جديد. إنها الحركة في مقابل السكون الذي تسعى إليه العقائد، وهي تجد معنى الوجود في البحث الدائم للإجابات عن الأسئلة، بينما الآخرون يركنون لأكثر الإجابات بساطة عن أكثر الأسئلة صعوبة. ويختار السيناريو – الذي شارك مع أمينابر في كتابته ماتيو جيل - لتجسيد هذا الصراع بعض الشخصيات الرئيسية، فمن بين طلاب هيباتيا هناك أوريستيس (أوسكار إيزاك)، الذي يحبها ويعلن عن حبه أمام حشد هائل، لكنه يرضى باختيارها أن تبقى "حرة" وإن لم يتوقف عن حبها، وهو الذي سوف يتحول فيما بعد إلى المسيحية ويصبح واليا على الإسكندرية، ليقف موقف الاختيار بين الإذعان لتعاليم "رجل الدين" (وليس الدين نفسه) بأن يضع هيباتيا في مكانها في المجتمع كامرأة محكوم عليها بأن تبقى في موضع التابع، أو أن يدافع عن حريتها إلى النهاية.
هناك الشخصية الأخرى ديفوس (ماكس مينجيلا)، وهو شخصية متخيلة من خلق صناع الفيلم، وأراه بالفعل شخصية مهمة كأنها الضوء الكاشف على جوهر هذا العمل الفني. إنه عبد شاب، يتبع هيباتيا في كل مكان، يستمع إلى محاضراتها العلمية في شغف، يفهمها ويعلق عليها بذكاء حقيقي، كما أنه خادمها حتى في حمامها، تعتمل في أعماقه الرغبة فيها لكنه لا يستطيع حراكا، وهي لاهية تماما عن وجوده كأنه قطعة جماد. ديفوس هنا هو الوجه الآخر من أزمة هيباتيا، إنها الحرة التي تعاني من نقص حريتها لأنها "امرأة"، بينما هو عبد سُلبت منه حريته كإنسان. ولعل الخطأ من جانب هيباتيا هو أنها لم تدرك أن معركة الحرية التي تناضل من أجلها لا تتجزأ، فلا يمكنها أن تحصل عليها ما دام المجتمع (أو الثقافة، أو الفكر، أو الديانة) يعطي الحرية للبعض وينكرها على آخرين.
سوف يجد ديفوس خلاصه في الساحة، التي تشهد صراعا محتدما بين أصحاب الديانة القديمة والديانة الجديدة، فكل منهما يوجه سهام نقده (أو الحقيقة سبابه) إلى آلهة الطرف الآخر، وفي هذا السياق الهيستيري سوف يرى البعض في المصادفات نوعا من المعجزات، كأن يسير شخص على النار بسرعة فلا يصيب منه اللهب إلا قليلا، بينما يحرق شخص من أتباع الديانة الأخرى. لكن هنا أيضا يبدو معنى ومغزى ولادة ديانة جديدة: إنك عندما ترى على الشاشة الأتباع الجدد وقد ضموا إلى صفوفهم كل المحرومين والمضطهدين، الجوعى والفقراء والمساكين والمرضى، تدرك أن الديانات تولد من أجل هؤلاء، وتبشرهم بأن يرثوا الأرض وبالملكوت، وفي أحد المشاهد المهمة يذهب ديفوس بصحبة المسيحي الغيور أمونيوس (أشرف برهوم) إلى كنيسة، حيث يرى الفقراء يمدون أيديهم نحوه في استعطاف، ليعطيهم الخبز الذي اشتراه لأسياده، فقد علم أن هناك لهؤلاء المحرومين سيدا أعلى، إنه يعطيهم كسرات الخبز وفي الوقت ذاته يعرف معنى أن يكون حرا. لكن سوف يطرح عليك الفيلم سؤالا كلما تقدمت حبكته: إذا كانت الديانة الجديدة تحرر المضهدين، لماذا يحدث دائما أن تخلق لنفسها مضطهدين جددا؟ لماذا تنادى بالحرية في بدايتها، ثم تعمد إلى تقسيم العالم مرة أخرى إلى أحرار وعبيد؟
من المؤكد أن الديانات ذاتها ليست السبب في هذا التناقض الجوهري، وإنما في تحول الدين إلى "مؤسسة" يدافع عنها (وليس عن الدين) المنتفعون منها، ليجعلوا من أنفسهم سادة ومن الآخرين عبيدا!! وهكذا تولد العقائد الجديدة ضد السابقة عليها، ولكن بدلا من أن تدور المعركة بينهما على أرض تحقيق المساواة بين الجميع، فإنها تدور حول "الآلهة"، لتشهد الساحة (أجورا) الصراع بين الوثنيين من جانب، والمسيحيين واليهود من حانب آخر، لتقع مذبحة حقيقة ينتصر فيها الطرف الأخير، ويلجأ الوثنيون – ومعهم هيباتيا – إلى المكتبة، ليعيشوا في حالة حصار قاسية، وتحاول هيباتيا أن تجد العزاء في الانشغال في أبحاثها، لكنها لا تستطيع أن تتجاهل أن أباها الفيلسوف ثيون (مايكل لونسديل) قد جرح في الساحة جرحا بليغا على أيدي الدهماء، بما سوف يؤدي إلى احتضاره وموته.
من أكثر المشاهد التي أثارت الاعتراضات من جانب الكثير من متفرجي الفيلم ذلك المشهد الذي يجتاح فيه المسيحيون المكتبة، فيلحقون بها دمارا كاملا، وتحاول هيباتيا أن تنقذ ما تستطيع دون جدوى. بالطبع سوف يقول البعض أن هذا لم يحدث على هذا النحو من البشاعة، وهم يتصورون أنهم بذلك يدافعون عن الديانة المسيحية، لأنها لا تنادي بالعنف على الإطلاق، لكن التاريخ يؤكد أن هذا قد حدث، ليس لأن المسيحية تنادي بذلك، وإنما لأن الغوغائية تسود في هذا المناخ التاريخي المضطرب، الغوغائية التي يصورها الفيلم من خلال لقطة من أعلى، للدهماء كنقاط سوداء صغيرة تتحرك في عشوائية هنا وهناك، إنهم ليسوا "مسيحيين" بشكل محدد، وإنما جموع تحركها شهوة الانتقام، متسلحة بما تتصور أنه ديانة جديدة، وما يؤكد هذه النزعة التي قطعت العلاقة الوثيقة مع عالمية الدين هو أن أتباع المسيحية سوف يطردون من الإسكندرية حلفاء الأمس، أتباع اليهودية.
وسط المذبحة يقدم الفيلم مشهدا دالا، هيباتيا محاصرة في المكتبة، ويعثر عليها العبد ديفوس المؤمن بالمسيحية سرا، لقد جاءته الآن فرصة أن ينتقم لكل رغباته المكبوتة، إنه يسعى لاغتصاب هيباتيا، لكن سرعان ما ينهار ويبكي على صدرها، ويعطيها سيفا لكي تقتله، لكنها بدلا من ذلك تخلع عن رقبته طوق العبودية، وتمنحه حريته. وفي سلسلة متلاحقة من المذابح المتبادلة بين أتباع الديانات، سوف تمضي هيباتيا مذهولة وسط الدمار، كأنها الصوت الوحيد الصارخ في البرية، لذلك فإن الطرف المنتصر في هذه المعركة سوف يطلب دمها، لكي تسكت إلى الأبد. في مشهد دال آخر، يقف رجل الدين ليلقي بعض الكلمات التي يخلع عليها صفة القداسة، ويطلب من الجميع الانحناء، أي الخضوع والتسليم المطلق له (وليس لأي إله في الحقيقة)، ويركع الجميع ما عدا هيباتيا، لأن الله الذي يتحدث عنه رجل الدين "ليس أكثر عدلا من أي إله سابق".
عندما يتحدث إنسان عن أنه ينطق بـ"كلمة الله"، تيقن من أنه يكذب، إنه يريد – أستغفر الله العظيم – أن يجعل من نفسه إلها، يقتل بدم بارد، متذرعا بأن ذلك هو "الشريعة"، التي قالوا أن هيباتيا قد انتهكتها لأن امرأة، مفروض عليها الصمت الكامل، وأن تختفي عن الأنظار!! يحاول أوريستيس الدفاع عن هيباتيا لكنه يتلقى حجرا يشج رأسه، وتتوالى الأحجار من الدهماء الذين يغذيهم من يلبسون مسوح رجال الدين. لقد أصبحت هيباتيا وحيدة إذن، لينتهي الفيلم بمشهد لا يعمد إلى أحداث عنيفة مباشرة على الشاشة، وإن كانت تقشعر له الأبدان، وهو يقتفي الوقائع التاريخية الحقيقية، لقد قرر المتطرفون "سلخ" هيباتيا حية، ثم تقطيع أوصالها، وحرقها، والتهمة: ساحرة، ولا تؤمن بإله!!
يحاول "أجورا" أن يغلق الصراع الدرامي على نحو لا يخلو من مغزى، إن ديفوس يقرر أن يخنق هيباتيا حتى ينقذها من عذاب هذا الموت البشع، وهي توافقه على ذلك، فتستسلم له، ويتصاعد على شريط الصوت لحن من صوت بشري غارق في الأسى. إنني أعلم تماما أن هناك من سوف يسرع بالاعتراض على الفيلم، وعلى هذا المقال، لأنهما يتماسان مع التصورات الدينية للبعض. وتلك في الحقيقة هي أزمة مصر الآن، فبدلا من البحث الجاد عن مشكلاتنا التي نعيشها في كل يوم، في كل لحظة، ينحرف بنا الخلاف إلى مسائل العقائد الدينية. وإذا كان هناك من يقول لآخر: "إلهي افضل من إلهك"، فهل يتصور نفسه مؤمنا موحدا حقا، أم أن هذا التجديف بعينه؟!!
يقدم "أجورا" قضيته على نحو بالغ العمق، فهذا الفيلم من النمط التاريخي لم يقلد أفلاما أخرى على طريقة "المصارع" على سبيل المثال، فالأداء التمثيلي والسينمائي ينحو إلى قدر كبير من الإحساس الواقعي، كما أنه لم يجعل هيباتيا شخصية مثالية، إنها الوجه الآخر لشخصية العبد ديفوس، وهي غير واعية بأن قضيتهما واحدة، وأي فكرة تريد إصلاح حال البشر لابد أن تضعهما معا في حساباتها، وليس هناك بديل عن أن تطلب الحرية لهيباتيا وديفوس معا، ولا معنى للحرية ما لم تتحقق على المستوى المادي والروحي معا. وأي فكر، وأي دين، لا يضع في حسابه تحرير العبيد، والأهم هو عدم صنع عبيد من نوع جديد، سوف يكون فكرا ودينا محكوما عليه بأن يعيد إنتاج القهر التاريخي، ليظل مصير الحرية في قبضة الغوغائية في الساحة، في "أجورا".

Monday, September 26, 2011

فيلم "شجرة الحياة" عندما يتلاقى الشعر والفلسفة في الصورة السينمائية


تيرانس ماليك، طالب الفلسفة ومدرسها في مقتبل شبابه، ومترجم بعض أعمال الفيلسوف الألماني هايدجر، والمنحدر عن أصل إيراني أو ربما لبناني من المهاجرين إلى الولايات المتحدة، عشق السينما وتحول إليها، لكنه عبر حوالي أربعين عاما لم يقدم إلا خمسة أفلام، وبينما كان يتكسب عيشه من إصلاح سيناريوهات أفلام متواضعة يرفض أن يذكر عليها اسمه، فقد حققت أفلامه القليلة شهرة واسعة، لكنه أبى أن يكون له في هذه الشهرة نصيب، فهو يفضل أن بنزوي ويختفي عن أنظار الصحافة الفنية، وهو لا يحضر أبدا استلام أية جائزة تحصل عليها أفلامه بوفرة، كما حدث في مهرجان "كان" الأخير، الذي فاز فيه فيلمه "شجرة الحياة".
وإن كان هذا يمثل بالنسبة لك لغزا، فاللغز الأكبر هو أفلامه ذاتها، التي تبدأ بفيلم "الأراضي البور" (1973) الذي كان في جوهرة أنشودة رثاء للطفولة، مثلما كان "أيام الجنة" (1978) رثاء للبراءة، وأتى "الخط الأحمر الرفيع" (1998) ليتخذ من الفيلم الحربي مبررا لطرح أسئلة الوجود الكبرى، وأخيرا "العالم الجديد" (2005) عن لقاء الحضارات الأصلية بالحضارات المعاصرة. إنها أفلام لا تشبه أفلاما أخرى، وإن أردت مني أن اذكر لك ما هو وجه اختلافها فيكفي أن أقول لك أن كلا منها يمثل سؤالا حائرا في أعماق صانعها، وهي جميعا تكرر نفس السؤال المرة بعد الأخرى، لأنه لا يجد إجابة شافية، ولعله في ذلك يتلاقى – ولا نقول يتشابه – مع مخرجين قلائل في تاريخ السينما، مثل البولندي أندريه فايدا والألماني فيم فيندرز، فالسينما عندهم هي أداة للبحث في أي شيء وكل شيء، بحيث لا تجد خطا فاصلا بين ما هو روائي وما هو تسجيلي، وما هو تأثيري أو سيريالي، وما هو تجريبي أو تجريدي. وفي كل أفلام تيرانس ماليك سوف تجد هذا البحث متجسدا في "مونولوج" داخلي، يتوزع على الشخصيات جميعا، ولأن هذا المونولوج في حقيقته ليس إلا ما يهمسه ماليك لنفسه، فسوف تعجز أحيانا عن أن تحدد من بين شخصيات الفيلم من هو صاحب التعليق الآتي من خارج "الكادر".
إنه مونولوج متصل وإن سمعته متقطعا، يبدو كأنه حديث الإنسان، الهامس أحيانا، الصارخ أحيانا إخرى، لقوة أو قوى مجهولة لا يعرفها بشكل يقيني، إنه يتحدث إليها وإن كان ينتابه الشك أحيانا في أن أحدا يسمعه وينصت إليه، وذلك تجسيد للمشاعر الوجودية التي تجعل المرء ضعيفا ووحيدا ومهجورا في هذا الكون. لكن هذه "الفلسفة" لا تأتي أبدا عند ماليك في شكل أفكار مجردة، بل في شكل "صورة" محسوسة وملموسة على نحو يلمس أعماقك، إنها صورة تحقق الشعر في السينما، من خلال القدرة على التجسيد والتجريد والتكثيف معا، وتتركك لكنها ترفض أن تغادرك، فسوف تبقى معك أياما بعد مشاهدة الفيلم، تؤرقك وتبعث بداخلك نفس الأسئلة التي أرقت ماليك وقضت مضجعه.
ولأن الصورة تأخذ المركز الأهم عنده، فإن الحبكة القصصية تتراجع لتصبح مجرد نقطة الانطلاق لتأملات لا تنتهي، وفيلم "شجرة الحياة" يبدأ بالفعل وينتهي بصورة واحدة غامضة: الظلمة يشقها الضوء المائل للاحمرار والذي يتراقص ويتخذ أشكالا تجريدية، وتتداخل أصوات الطيور مع لحن كورالي، وصوت تعليق من خارج الكادر: "أمي، أبي، شيء ما قادني إلى بابكما". ليس لهذه الصورة تفسير محدد، لكنها توحي ببداية التكوين كما جاءت في الديانات الكتابية، خاصة أنها تأتي مباشرة بعد آيات من سفر النبي أيوب، على لسان الله وهو يحدث أيوب فيما يشبه اللوم على جهله أو تجاهله: "أين كنت حين أسستُ الأرض ... على أي شيء قرّتْ قواعدُها ... عندما ترنمت كواكب الصبح معا وهتف جميع بني الله" (أيوب 38).
حقا، أين كان الإنسان؟ وهل لأنه لم يكن موجودا فإنه يحق له أن يتجاهل المعجزة أو يقلل من شأنها؟ يبحث العلم كثيرا في بداية خلق الكون، وتتعرض الآن آخر نظرياته عن "الانفجار الكبير" للتشكيك، وهذا الشك هو ما يبرر وجود الفلسفة، التي ينقلها ماليك هنا للفن. وقد يفكر أغلب الناس في أن تلك قضايا ثانوية، أو هي من شأن الغيب، لكن هناك من يهتز فَرَقَا ورعبا عندما يداهمهم هذا الغيب بإحدى المعجزات الصغيرة الكبيرة مثل الميلاد والموت، اللذين يمران أيضا بدورهما مرور الكرام عند العامة كأنها قضايا مسلمة بها، لكن ماليك يجعلها محور حبكة الحدوتة، إن كان في الفيلم أية حدوتة على الإطلاق.
لم أرَ عملا فنيا يملك كل هذا القدر من الطموح على طرح القضايا الكونية إلا عند نجيب محفوظ، الذي مايزال ينتظر الكثير من الكشف والاكتشاف، ولكاتب هذه السطور منذ ربع قرن دراسة نقدية عن رواية "قلب الليل" التي قد لا ترقى فنيا لمصاف روايات أخرى له، لكنها تحمل بذور الأسئلة الأكبر في تاريخ الإنسانية، حيث يتلاقى ما هو كوني مع ما هو تاريخي، ويمكنك أن تجد أحد هذه الأسئلة في بداية فيلم "شجرة الحياة" من خلال تعليق من خارج الكادر: أي طريق نختار؟ طريق الطبيعة أم طريق النعمة (أو طريق الله)؟ طريق الاستسلام لقوانين الطبيعة أم لتعاليم الأديان (إن كان هناك تناقض بينها حقا)؟ طريق إشباع غرائزنا الأساسية أم كبح هذه الغرائز والسيطرة عليها؟
"النواة" القصصية في الفيلم ليست إلا حكاية ولادة صبي، ونموه وسط أسرة أمريكية من الطبقة المتوسطة، التي تعيش في مناطق الضواحي عند منتصف القرن الماضي، ولعلها مقتبسة عن بعض ذكريات ذاتية لتيرانس ماليك نفسه. إننا في بداية الفيلم نشاهد حالة هي أشبه بالحياة في الفردوس، جنة عدن، أو ما قبل السقوط إلى الأرض. الكاميرا تطير وتطفو على نحو ناعم غريب، كأنها عين راعية تعرف كل شيء وتسهر عليه وتوجد في كل مكان، وهناك أب (براد بيت) وأم ( جيسيكا شاستين) وأطفالهما الذكور الثلاثة، يتأرجحون ويلعبون في استرخاء واستمتاع كاملين. وكما حدث في الجنة، ينتهي كل ذلك على نحو غامض، عندما يصل للأسرة خبر عن موت أحد أبنائها.
صدقني إن قلت لك أنني لا أعرف – برغم أنني شاهدت الفيلم مرات عديدة – أين يقع هذا الحدث وسط مسار الأحداث، لكنه هنا يقع في البداية، ليمثل "السقوط" من الفردوس إلى الأرض، ويجسد المفارقة الإنسانية الأكبر، إن هذا الفقدان مؤلم لكن الحياة تمضي ... هل هذا شيء طيب أم سيء؟ إن الله (أو الطبيعة عند البعض) تعطي ثم تأخذ، إنه – كما جاء على لسان الجدة – ولسبب ما يرسل الذباب لجروح كانت تنتظر شفاؤها، فما هو السبب؟ ما هو السر؟ هذا ما يعيشه الابن الأكبر (شون بين) الذي نراه الآن وسط مبانٍ عصرية تتناقض تماما في خطوطها وألوانها عما عاشه في طفولته، وإن كانت قراءتنا صحيحة فإنه الآن على"الأرض" بعد سقوطه من الجنة الأولى.
ربما كان الفيلم كله بعد هذه النقطة هو تداعيات من ذكريات هذا الابن، أو لعلها تأملاته وتأملات ماليك نفسه، وهي التأملات التي تبدأ بسرب هائل من الطيور التي تحوم في السماء، ويأخذ السرب أشكالا منسابة متعددة تشبه إلى حد كبير فنون التلاعب البصري (أوب آرت)، فتسأل نفسك: هل ذلك يحدث وفق قانون أم أنها المصادفة؟! إنه السؤال الذي ينطبق على سر الخلق ذاته، الذي سوف يبدؤه ماليك معك في سلسلة مبهرة بحق من الصور التي قد لا تجدها إلا في أرقى الأفلام التجريبية: الضوء يشق الظلام، ويتخلق الدخان والموج والأضواء والظلال، وقطرة ملونة تنتشر في الماء فتصنع أشكالا كأنها السديم الذي يأخذ أشكالا معجزة، وحمم بركانية تتدفق، والنيران وألسنة اللهيب، ومن كل ذلك تنمو ما يشبه الكائنات الأولى التي تزداد تعقيدا وهي تسبح في البحار، فلا تملك إلا أن تقول: يالروعة معجزة الحياة!!
من قلب هذه المعجزة يولد سؤال: هناك في المروج ديناصوران بداائيان، من الواضح أن أحدهما يحتضر، يشمه الآخر ويمضي إلى حال سبيله، فهل الحياة الرائعة في إعجازها هي أيضا بهذه القسوة؟ هل الحياة قوة دافعة لا تعرف ولا تعترف إلا بقوتها واستمرارها حتى أنها لا تعبأ بالموت أو الموتى؟ كان هذا هو السؤال الدائم في أعماق تيرانس ماليك حول التناقض بين الروعة والقسوة، وهذا ما سوف يعرضه لك فيما يشبه سردا تسجيليا لحياة الصبي الأكبر للعائلة، وهي الحياة التي تتلاقى في الكثير من خطوطها وخيوطها مع حياة أغلب البشر، إن لم يكن البشر جميعا.
دعني أعرض لك طرفا من هذه الوقائع العادية وغير العادية في آن واحد: الأب والأم شابان متحابان في مقتبل العمر، وصورة أيقونية تتردد في معظم أفلام ماليك لستائر النافذة تؤرجحها الريح، والأب يلمس بطن الأم الحامل في حنان، وخروج الابن إلى الدنيا في استعارة سيريالية كأنه يخرج من قلب الماء، ويد الأب أو الأم تحتضن قدم الوليد فلا تكاد أن تبلغ في طولها إصبعا، ومرة أخرى تهمس بينك وبين نفسك: يالروعة الحياة!! في حضن الأم يبدو العالم كأنه النعيم، ويرعاه الأب في مشيه، وتعلمه الأم الكلمات الأولى، وفراشة تحط على يد الأم، وتقترب قطة في توجس.
وعند قدوم طفل آخر يبدأ هذا الفردوس في التلاشي، وتظهر الغيرة في عيني الطفل الأكبر، ويحوم القلق فوق هذه الجنة الأرضية الصغيرة، وإذا كانت الأم تمثل الحنان الهادئ، فالأب هو الأوامر الصارمة. وعندما يصبح الأطفال ثلاثة، ويكبرون قليلا، تشعر كأنك تشاهد عائلة من الأسود مثلا، حيث الأشبال تلهو في مرح ممزوج بالعنف، كأن الطبيعة تدربهم على قسوتها، ويشارك الأب في هذا التدريب كأنه يشحذ مخالب صغاره، وتراه أحيانا وحيدا يرقب الفضاء من حوله لأنه يريد أن يحمي العائلة من الأخطار المحتملة (إنني أطلق على ذلك "الإحساس الديكي"، لأنني في طفولتي كنت أرى الديك لا يتمتع بالأكل أبدا، إنه يقف منتبها دائما، يلقط بين الحين والآخر حبة ذرة، بينما الدجاجات من حوله منهمكات في التهام الغذاء!!)، كما ترى الأم تستمع باللهو مع أطفالها كأنها عادت هي الأخرى إلى طفولتها.
وفي مسحة من علم النفس، الذي تتردد أصداؤه أيضا في بعض نظريات علم الاجتماع عند القبائل البدائية، تلمح الصراع الخفي بين الابن والأب، إن الابن يفكر في لحظة عابرة في "قتل الأب"، كأن العالم مع الأم وحدها سوف يصبح أفضل بدونه، كما يعرف الابن أحاسيسه الغريزية الأولى باستراق النظر إلى الأم، وتزداد خشونة الابن في ألعابه. هل هذا "الأب" – وضف إلى ذلك رمز الأبوة في الأفكار الميتافيزيقية – قاسٍ أكثر من اللازم، أم أن هذه القسوة تعبير عن الحنان العميق؟ هل يريدنا "الأب" أن نكون نسخة منه برغم أن ذلك مستحيل وغير إنساني؟ وهل في تلك الرغبة ما يشير إلى أنه لم يستطع أن يحقق ذاته فأراد تحقيقها من خلالنا؟
قد تبدو لك تلك الرحلة على الورق مجردة، لكنها في الحقيقة مجسدة في صور لن تنساها أبدا، وفيها خلاصة القلق الوجودي عند ماليك وعند الكثيرين منا حتى لو لم نعترف بذلك. إن هذا القلق يجد حلا من خلال فكرة الحياة من جديد، عندما يتلاقى السابقون واللاحقون عند البعث، الذي يصوره الفيلم في مشهده الأخير والابن الأكبر في كهولته يمضي في طريق من صحراء جبلية قاحلة، ويدخل من باب خشبي بلا بناء، فإذا به يسير على لسان من الأرض وسط البحر يقوده الصبي الذي كانه في طفولته، وأسراب من البشر تتلاقى، هنا يلتقي بأمه وأبيه شابين في مقتبل عمرهما، وبأخويه اللذين رحلا (حتى الآن لا أعرف إن كان الاثنان الآخران قد ماتا أم واحد فقط!!)، ويشمل الجميع فرح عذب لا ينتهي.
وكما بدأ الفيلم بالضوء الذي يشق الظلام فإنه ينتهي به، عودا على بدء، فلا تدري إن كنت قد شاهدت فلسفة أم شعرا أم مزيجا رائقا راقيا منهما. وفي إشارة بالغة الذكاء والخفاء نرى الأم في لقطة تذكرك كثيرا ببطلة فيلم إنجمار بيرجمان "بيرسونا"، وكأنها إشارة ولاء من ماليك للسينمائي الفيلسوف بيرجمان، الذي يشترك معه في همومه الوجودية، بما يبعده أيضا عن مقارنته مع ستانلي كوبريك، الذي سوف يحلو للكثير من النقاد تشبيه فيلم "شجرة الحياة" مع "أوديسا الفضاء 2001"، لكن الحقيقة أن كوبريك يبدأ فلسفته بالتشاؤم من مصير الحضارة الغربية، أما تشاؤم تيرانس ماليك فهو ليس تشاؤما حقيقيا، أنه رغبة في الكشف عن قانون الوجود والحياة، فربما بعد أن نعرفه سوف نرتاح بالاستسلام له، الاستسلام للصراع بين ما نسميه الخير والشر، واللذين قد يكونان وجهين لجوهر واحد.
ألم أقل لك أنه فيلم ليس هناك الكثير من الأفلام التي تشبهه؟!

Monday, September 05, 2011

مقلب برامج المقالب


منذ ظهور البرنامج التليفزيوني الأمريكي "الكاميرا الخفية" في حوالي منتصف القرن الماضي، جاءت بعده نسخ عديدة منه في مختلف المحطات التليفزيونية وبالعديد من اللغات. كان هناك سحر خفي في فكرة البرنامج، أن ترصد ردود أفعال الناس تجاه موقف مفاجئ ما، لكن نجاحه كان يعتمد في الحقيقة على عدة عوامل: إخفاء الكاميرا التي تسجل وتلتقط أكثر الانفعالات العفوية رهافة، وتحقيق متعة "شبه مرضية" عند المتفرج، هي متعة "التلصص" على الآخرين، لكن برغم بعض الاعتراضات على فكرة البرنامج من جانب بعض المؤسسات الاجتماعية، فقد استمر منذ ذلك الحين، حين وجد من يدافع عنه بحجة أنه قد يفيد فى البحث النفسي عن ردود أفعال الناس العاديين.
وكان طبيعيا أن ينتقل البرنامج إلى مصر ولو أنه تأخر بعض الشيء، وحمل عدة أسماء من بينها "الكاميرا الخفية" أو حنى "زكية زكريا"، وتفاوتت الاستجابات تجاه الفكرة، لكن أكثر ما استفز البعض هو ما بدا من اصطناع المواقف في الكثير من الأحيان، والاتفاق منذ اللحظة الأولى بين من يصنعون البرنامج ومن يقع في الفخ المزعوم، وبذلك فإنه كان يفتقد سبب وجوده. في العام الماضي جاءت تنويعات أخرى، انتقلت بالفكرة إلى أماكن لم تكن تخطر على بال، مثل "الميكروباص" أو وسائل النقل الجماعي، وهي تمثل في مصر الآن – وبسبب زحام المرور غير المعقول – مكانا "اجتماعيا" يقضي فيه المصري وقتا طويلا، ويلتقي فيه بغرباء لم يكن يتصور في يوم ما لقاءهم، ويخطط من يقدمون البرنامج لظهور مفاجئ لشخصية غريبة الأطوار، لتسجل الكاميرا ردود أفعالهم تجاهه.
بالطبع كان اختراع الكاميرات متناهية الصغر، والتقنية الرقمية التي تنقل وتسجل برهافة غير مسبوقة، وراء إمكانية صنع مثل هذه البرامج، وبقدر تفاهة المضمون في بعضها، فقد جاءت برامج أخرى بهدف أكثر عمقا، مثل "تاكسي مصر"، الذي يرمي إلى معرفة آراء الناس العاديين فيما يجري من أحداث، فكأنه نوع من استطلاعات الرأي العشوائية، التي قد تفيد معرفتها أحيانا، وإن كانت لا تخلو من ضرر قد نتطرق له في مقال قادم.
لكن المثير للاهتمام هذا العام هو هذا الفيضان من برامج "المقالب"، وهي جميعا من نوع لا يخلو من خطورة ما، وسوف نتوقف بالتأمل عند بعضها الآن. هناك برنامج يدعى "هاكشن"، ولعلك ترى كيف أنه حتى الاسم يتضمن سخرية من النمط الفيلمي المسمى "أكشن"، أي الأفلام التي تتضمن مشاهد حركة خطرة. لكن البرنامج هنا لا يخلو من سذاجة الفكرة والتنفيذ: استضافة أحد الممثلين أو إحدى الممثلات (من أهل الكوميديا خاصة بما يعكس أن المسألة لن تتعدى التهريج!)، وإقناعهم بتصوير بعض اللقطات أمام شاشة خضراء، تمهيدا لإجراء خدع إلكترونية بعد ذلك. إنهم يطلبون من الممثل أن يركب حصانا صغيرا سوف يرفسه، أو يدرب كلبا سوف ينبح فيه، أو يصعد فوق حبال يقال له بعد دقائق أنها تالفة. الهدف: إثارة الخوف في الممثل بأي طريقة!! لكن الهدف الذي نراه دون أن يقصد إليه صناع البرنامج هو توضيح كيف أن كثيرا من الأعمال الفنية عندنا يتم صنعها بقدر غير يسير من الهذر والهزل، أي أنهم غالبا ما يضحكون على عقولنا عندما يصورون أنهم يصنعون لنا "فنا"!!
لكن العدد الأكبر من برامج المقالب يضع ضيفه في مأزق قبل وصوله بالفعل إلى مكان "العمل"، ولعل أكثر هذه البرامج خطرا من ناحية الفكرة والتنفيذ هو "ما كانش يومك"، فهناك اتفاق مع ممثل أو ممثلة على عمل ما، وهو في الطريق له يلقى ما لم يتوقع أبدا أن يقابله. سوف أضرب لك مثلا بحلقة منة فضالي، إنها في سيارة التوصيل إلى موقع التصوير، يبادلها السائق بعض كلمات الترحيب المهذبة، لكنه شيئا فشيئا يسفر عن قدر غير قليل من الطيش والجلافة، فهو تارة يطلب منها "بقشيشا"، وتارة أخرى يصطنع عيوبا في السيارة تجعلها ترتج وتتمايل من حين إلى آخر. وهنا يظهر بالطبع الخوف فى عيني الممثلة ووجهها، ويتزايد صياحها في السائق الذي يتلقى منها ما لذ لها وطاب من عبارات السباب (والسيدة فضالي لا تعجز عن استدعاء قاموس كبير في هذا المجال!!)، لكن الأمر يصل إلى درجة ظهور قطاع طرق أيضا يهددون الممثلة، وعندما تصل تجد نفسها في فندق في غرفة رجل لا تعرفه، ثم تظهر زوجته التي توسع الممثلة ضربا!!
لا أدري بشكل يقيني ما دار في ذهن صناع هذا البرنامج عندما خططوا له، لكني سوف أحدثك عن رد فعل المتفرج عندما يرى ما حدث على الشاشة: إذا حدثت له مثل هذه المواقف (فهي ليست موقفا واحدا) فسوف يقابلها إما بالبلاهة، أو بسلاطة لسان مقتديا بالممثلة التي يفترض أنها نموذج يسعى الكثير من المتفرجين لتقليده!! وهي سلاطة اللسان ذاتها التي يحتشد بها برناج "بين السما والأرض" حتى أن هناك العديد من الحذف فيه في مرحلة المونتاج، غير أن ذلك لن يخفى على المتفرج بأية حال.
الفكرة هنا مقتبسة عن فيلم "بين السماء والأرض" (1959) الذي كتبه نجيب محفوظ وأخرجه صلاح أبو سيف": ركوب أسانسير يقف فجأة بين الأدوار، ويظهر أن أحد ركابه يتصرف على نحو غريب، فماذا يكون رد فعلك؟ في حلقة هالة فاخر يدخل فجأة زوجان يتشاجران في المصعد في جلبة واضطراب، وفي حلقة سامي العدل يقتحم المصعد فتى يطالب بالاشتراك في استخدامه ويوقفه عن العمل. هنا يمكنك أن ترى ما يمكن للكاميرا الخفية أن تحققه، باستخدام ممثلين غير محترفين يصطنعون موقفا ما، وفوق أكتافهم يقع عبء تطور الموقف، وهو ما يبدو أنهم عاجزون عنه بعد دقائق قليلة، فإذا بالحلقة تقع في مأزق التكرار أو السكون، أو افتعال تصعيد الموقف مرة أخرى، أحيانا لدرجة الخطر إذا اضطر الممثل غير المحترف إلى ذلك، إذا بدا له أن الأمر بات أقرب للانتهاء من قبل أن يبدأ!!
عبثا تحاول أن تبحث عن أي شيء كان صناع هذا البرنامج يسعون له عندما خططوا له، فلا تجد هدفا سوى إثارة الخوف في نفس "الضيف"، لتصبح مهمتنا هنا هي "الفرجة" عليه وهو في هذا المأزق. ومن الغريب أن يأتي برنامج آخر، بنفس الفكرة والاسم، هذه المرة هو "الأسانسير"، والفرق الوحيد أن "الفريسة" شخص عادي، يعرف عنه معدو البرنامج بعض المعلومات، ويوقعونه في مصعد معطل مع شخصية أخرى تكشف له عن بعض هذه المعلومات، مما يثير المفارقات. في إحدى الحلقات على سبيل المثال تصعد سيدة في المصعد، ويوقعها "حظها" مع سيدة أخرى تقول أنها الزوجة الأخرى السرية لزوج السيدة الأولى، وهنا يجب أن تنوقع سيل الشتائم والإهانات التي سوف يتم تبادلها بين الطرفين!!
أخيرا يأتي "رامز قلب الأسد"، والذي يبدو أنه حقق مشاهدة كبيرة بين المتفرجين، ويقدمه رامز جلال ويعتمد على استضافة ممثل شهير، وهو أيضا يصعد في مصعد يصل به إلى أحد الأدوار ليجد أسدا في انتظاره على الباب. أنت طبعا تتوقع أن الضيف سوف يبهت ويحتار في التصرف، و"متعتنا" هي التلصص عليه على نحو لا يخلو من انحراف نفسي، فبدلا من أن تأخذنا الشفقة عليه، أو على الأقل نتعاطف معه لأننا قد نكون في نفس الموقف، فإننا نضحك لأن الخطر لا يواجهنا ويواجه شخصا آخر، وهذا هو الأثر السلبي الفادح الذي ينتج عن مثل هذه البرامج.
تأمل كيف أن الواقع العربي يحتشد الآن بقدر هائل من الفواجع الحقيقية ذات الجذور السياسية، وها هو التليفزيون يصنع لنا فواجع بديلة، مستعارة ومصطنعة، ومملة في بعض الأحيان أيضا، إننا نقلب بين الفضائيات، ونتجنب أن نرى نشرات الأخبار والضحايا الذين يسقطون هنا وهناك، ونتفرج بدلا من ذلك على برامج المقالب، وياله من مقلب دبره لنا صناع مثل هذه البرامج!!

برامج اللعب في الدماغ


تستطيع في كل البرامج التي تقدمها الفضائيات العربية أن تعثر على الأصل الأجنبي لها، ماعدا نوعا واحدا منها هو "برامج اللعب في الدماغ"، أو النميمة التي يختلط فيها كل شيء بأي شيء، حيث تستضيف شخصا لا علاقة له بالموضوع الذي تناقشه، وتطرح عليه أسئلتك كأنه الخبير الذي يدلي بدلوه، فإذا به يزيد البئر تعكيرا، لأنه أولا ليس لديه أدنى وضوح في الرؤية، وهو ثانيا يردد عبارات شائعة على ألسنة العامة، فتكون النتيجة أن يخرج المتفرج من هذا كله إما بفقدان الاهتمام بالموضوع، أو بمزيد من الاضطراب والتشوش.
في كل عام كانت برامج رمضان تحفل بهذه النوعية، لكنها لم تكن تقترب من السياسة، أما هذا العام فقد أصبحت السياسة بديلا عن حرب الشائعات بين الفنانين والفنانات، وهي الحرب التي وصلت إلى ذروتها في العام الماضي، وكانت إشارة مستترة لمحاولة إلهاء الناس عن قضايا باتت قريبة، أما وقد فرضت هذه القضايا نفسها فقد عادت الفضايات إلى سياسة الإلهاء، هذه المرة باستخدام القضايا الملحة ذاتها!
لا ندري على وجه اليقين إذا كان التكاثر الغريب لهذه البرامج فجأة على هذا النحو مصادفة أم تخطيطا، لكن المؤكد أنها "سهلة" جدا على عكس ما توحي به للوهلة الأولى، حتى لو كانت تستعين بديكورات بالغة الفخامة، أو بشاشات كومبيوتر عديدة وعملاقة كأنك في وكالة الفضاء الأمريكية (!!)، فكل ما يحتاجه الأمر هو مقعدان متقابلان، يجلس مقدم البرنامج في أحدهما، والضيف أو الضيفة في الآخر، ثم تتوالى الأسئلة المكررة، مع صدور مؤثرات صوتية مخيفة، أو ظهور مؤثرات بصرية خاطفة، عند هذه الجملة أو تلك، كأنك تشاهد فيلما من أفلام الرعب.
سوف نتوقف أمام بعض حلقات بعض هذه البرامج ونحاول أن نفهم، ربما أدركنا المغزى من تكاثرها الغامض. هناك مثلا برنامج "نصف الحقيقة" الذي تقدمه لميس الحديدي، والذي يقول في عناوينه هو أنه يدعوك إلى أن تتساءل: هل الضيف يقول نصف الحقيقة، أم كل الحقيقة، أو لا شيء من الحقيقة؟ وفي الحقيقة أن البرنامج لا يدعوك مطلقا إلى أن "تشغل عقلك" حتى تصل إلى إجابة. في إحدى حلقاته تظهر الكاتبة لميس جابر، التي اشتهرت فجأة بعد كتابتها مسلسل "الملك فاروق"، وبدت لنا في ثوب "المؤرخة". ومن المؤكد أن التاريخ ليس حكرا على أحد، وهناك من أساتذة التاريخ المحترفين من شوهوه، بينما كان هناك "هواة" تركوا بصمة لا تمحى، لعل أهمهم هو صبحي وحيدة صاحب كتاب "في المسألة المصرية". لكن الخطر في هذه الحالة هو أن يتم تقديم لميس جابر بوصفها "صاحبة التوكيل الرسمي للتأريخ"، بينما الحقيقة أنها تستند إلى مجلات ودوريات شائعة، وتُغرق المتفرج في قصص فرعية قد تبدو طريفة، لكي تُمرر وجهة نظر غير موضوعية، لعل من بينها النظرة المتعالية على الجماهير، وإلقاء اللوم عليهم بدلا من تحميل النظم السياسية مسئوليتها عن كبتهم، أو مثل وضع ستين عاما في تاريخ مصر منذ قيام ثورة يوليو حتى اليوم في سلة واحدة، دون النظر إلى الفروق الدقيقة بين مراحل هذه الفترة ذاتها.
هناك نوع آخر من التاريخ، يكتبه "نجوم" السياسة التليفزيونيون، وبرنامج "أنت وضميرك" الذي يقدمه الصحفي مجدي الجلاد يبرز في هذا المجال. تأمل مثلا الحلقة التي استضاف فيها المحامي المشهور مرتضى منصور، الذي أخذ يكرر "حواديته" عن خصومه السياسيين، بالتفاصيل التي لا تهم أحدا غيره، مع استخدامه لغة هي أقرب للغة رجل الشارع (وهو يفخر بذلك)، مع توجيه السهام في كل اتجاه، وإلقاء معلومات لا يعلم حقيقتها إلا الله، مثل العثور على "40 مليون جنيه في ميدان التحرير" خلال أحداث الثورة، وهو أمر لم يذكره مصدر آخر وليس عليه دليل واحد، لكن كما يقول المثل المصري: "العيار اللي ما يصيبش يدوش"، فقد لا تصيب الرصاصة التي تطلقها، لكنها على الأقل سوف تحدث انفجارا صوتيا مثيرا للرعب!!
استضاف نفس البرنامج الممثل الكوميدي طلعت زكريا، الذي اشتهر عنه إطلاق أقوال طائشة، من بينها أن المتظاهرين في ميدان التحرير كانوا يتعاطون المخدرات، ويمارسون علاقات مشبوهة. كان الغريب أن طلعت زكريا قد ضرب رقما قياسيا في الظهور في هذه البرامج، وهو أمر لم يحققه أكثر الثوار حماسا، ولعل هذا يشير لك إلى أين تحاول هذه البرامج أن تمضي، فالممثل الكوميدي يؤكد في كل مرة يظهر فيها أنه شاهد بعينيه هذه الظواهر الغريبة، وأن ميدان التحرير كان يحتشد بأناس يزورونه من أجل "الفسحة"، بينما لا توجد كلمة شافية واحدة – حتى لو كانت معارضة – عن الاحتجاجات ذاتها.
جاء طلعت زكريا بابنه عمرو أيضا ليشهد على صدق كلامه في برنامج "الشعب يريد" الذي يقدمه طوني خليفة، وهو البرنامج الأعقد في "شكله" من أقرانه، فهو يلعب بالديكور والإضاءة، وتتصاعد فيه الموسيقى المتوترة عند كلمات معينة، ناهيك عن طريقة مقدمه في محاصرة الضيوف حتى أنهم لا يجدون فرصة لإكمال جملة مفيدة واحدة. تأمل كيف يتم استخدام عبارة كانت شعارا في بلدان عديدة لتصبح عنوانا للبرنامج، الذي يردد فيه طلعت زكريا أن "المخدرات كانت بتتوزع في ميدان التحرير"!! وعندما تحين الفرصة لحديث سياسي أكثر جدية، مثل حلقة خالد يوسف، يقوم مقدم البرنامج بتشتيت أي فكرة فلا تكتمل أبدا.
قدمت المذيعة والممثلة ريهام سعيد برنامجا يُدعى "فاصل ونعود"، تقوم فكرته على إيهام الضيف بتوقف التصوير بينما يتم تسجيل الحوار معه، وهو ما يفترض أنه سوف يؤدي إلى انطلاقه في آراء صريحة قد لا يطلقها في الجزء المذاع، ولابد أنك تعرف بالطبع أنه مادام هذا الحوار "السري" قد أذيع فإن الضيف قد وافق عليه. قد تصلح هذه الفكرة مثلا لحوارات النميمة الفنية، مثل حلقة منة فضالي التي تفتخر بأنها "أكثر من يصدر عنه الشائعات"، لكن أن يمتد ذلك إلى السياسة فإن الأمر يتحول إلى هزل كامل، كما في حلقة المؤلف الموسيقي عمرو مصطفى، الذي يقول أنه قدم لمصر إنجازات أهم من نجيب محفوظ وأحمد زويل. من جانب آخر فإنه يعطي المتفرجين درسا في ألا يصدقوا إلا ما هو "صوت وصورة"، وعندما يصطدم ببعض هذه الأصوات والصور يقول أنها تلفيق ناتج عن استخدام "الفوتوشوب"!!
ليس هناك أي جديد في برنامج هبة الأباصيري "كش ملك"، بل إن هذا العنوان ذاته لا يعني أي شيء، فالحكاية كلها إعادة لنفس الحوارات الفنية التي سبق لك رؤيتها في أعوام سابقة، مع الاتجاه أحيانا لبعض آراء هذا الفنان أو هذه الفنانة فيما يجري من أمور، دون أن تكون لهذه الآراء قيمة حقيقية. على النقيض يأتي برنامج الممثلة بسمة "من أنتم؟" الذي يحاكي في شكله مواجهات برنامج "الاتجاه المعاكس"، لكن مقدمة البرنامج هنا تفتقد الخبرة والمعرفة التي تؤهلها لأن تتحكم في مجريات الحوار. وقد تأتي بعض الحلقات ساخنة مثل حلقة تامر أمين ووائل الإبراشي، لكن الطابع العام يظل مرتبطا بقدر غير قليل من الخفة. إنها تستضيف مثلا الممثلة عفاف شعيب، التي كانت سببا في إثارة بعض الانتقادات التي لا تخلو من سخرية، لتصريحها بأن الشعب المصري كان يعاني من أزمة خلال المظاهرات لعدم توفر الكباب والكفتة والبيتزا، وبعيدا عن هذا الموضوع فإنها كررت مرة أخرى أنها علمت من أقاربها في أمريكا ولندن (هكذا) أن هناك مؤامرة ضد مصر، لأنها "أكبر بلد في العالم"، وهذه المؤامرة هي تدريب جنود أجانب على التحدث بالعامية المصرية، وإنزالهم الشوارع لاختطاف الدبابات!!
لعلك تبتسم الآن ياعزيزي القارئ، وهذا هو بالفعل ماأثار بعض برامج أخرى قائمة على السخرية، ربما نتوقف عندها في مقال قادم، لكن ما يثير المرء حقا هو أنه إذا كانت برامج الفضائيات في رمضان هذا العام قد قررت أن تناقش السياسة، فلماذا لم تفكر لحظة واحدة في أن تضفي على هذه البرامج عمقا وجدية؟ أم أن تحويلها إلى الخفة والاستخفاف كان مقصودا، بهدف اللعب في الدماغ؟

Monday, August 22, 2011

شيوخ وإعلانات



حرام والله ما تفعله فينا محطات التليفزيون، نجلس نحن فى استرخاء أمام الشاشة بينما هى تسرق منا حياتنا عينى عينك، ويمكنك أن تحسب مثلا عدد ساعات الإرسال الحقيقى وتقارنها بتلك المخصصة للإعلانات، فحلقة المسلسل قد تستغرق مثلا ساعة كاملة، لكن أكثر من نصفها مواد إعلانية تعاد وتتكرر المرة بعد الأخرى، كما أنهم اخترعوا لك طريقة جديدة فى تلخيص كل إعلان فى خمس ثوان فى نهاية الفقرة الإعلانية، كأنها المراجعة العامة النهائية التى يتأكدون بها أنك قد حفظت الإعلان عن ظهر قلب.
المصيبة أن إعلانات اليوم لا يمكن حفظها، فهى سقيمة لا تتمتع بأى خفة ظل، بينما كانت هناك فترة ذهبية اعتبرت فيها الإعلانات هى "فولكلور" الأطفال، تلك كانت الثمانينيات من القرن الماضى، حين لم تكن هناك إلا قناة تليفزيونية واحدة أو اثنتان، وكان الآباء والأمهات يضطرون إلى ترك أبنائهم فى المنزل ويذهبون للعمل، وفى تللك الساعات كان التليفزيون يقوم بدور "جليسة الأطفال"، ومن مواده تكون وعى جيل كامل سواء بالمسلسلات أو الأفلام أو الأغنيات الأجنبية، والإعلانات أيضا. كانت تلك هى فترة المشروب الذى يعلن عنه حسن عابدين فى "مسلسل" إعلانى كوميدى، ومعجون الحلاقة صاحب "الثلاثة أسباب" لاستعماله، والمبيد الذى ينتشر ويتوغل، ناهيك عن الأطعمة البسيطة التى تعلن عنها فتيات جميلات تلعبن حواجبهن وتغنين أغنية قصيرة.
استدعت نوعية البضائع المعلن عنها فى ذهنى فكرة أراها دالة، فالإعلانات فى كل فترة تشير إلى دلالات اجتماعية واقتصادية وسياسية طريفة. قارن مثلا تلك البضائع التى تستهلكها الشريحة الأكبر من الطبقة المتوسطة حتى الثمانينيات، بتلك التى انتشرت خلال العقد الماضى. لم يعد البلوبيف أو الجبن هو المطلوب ترويجه، بل السيارات فى بلد يعانى من أزمة مرور حادة، وهكذا لا تقوم الدولة بحل المشكلة حلا حقيقيا مثلما تفعل الدول التى تعرف معنى المسئولية، حين تفكر فى وسائل النقل العامة وتعطيها أولوية، لكن الدولة فى مصر ظلت طوال عقود تدير ظهرها لحل المشكلات، وتروج فى الوقت ذاته للحلول الفردية التى تزيد المشكلة تفاقما، مثلما فعلت فى أزمة الإسكان أيضا، حين تزايدت على نحو فادح وفاضح إعلانات المدن السياحية، بينما كانت وما زالت هناك الملايين التى لا تجد مأوى غير العشوائيات القبور.
إننى أنظر للإعلانات اليوم فأجد مفارقات تثير الضحك أحيانا والأسى فى أكثر الأحيان، فقد توقع الجميع انخفاضا هائلا فى نسبة الإعلان فى رمضان هذا العام، بشكل يترك تأثيرا على إنتاج الدراما التليفزيونية، وربما خفضت الوكالات الإعلانية أسعارها، لكن المحصلة فى هذا كله هو أن الإعلانات احتلت معظم ساعات الإرسال، بمواد باهتة تفتقد أى سحر أو خفة ظل، برغم التكلفة الباهظة فى صنعها، مثل إعلان إحدى شركات المحمول، التى استغلت أزمة ساويرس الذى أوقع نفسه فى مأزق توزيع نكتة سقيمة، فإذا بها تتحول إلى سلاح ضده بإهانة الإسلام (!!! إلى ما لا نهاية من علامات التعجب)، وتنتشر دعوة للناس بترك شركة المحمول التى يشارك فيها، وها هى شركة منافسة تقول لعملائها الجدد "شكرا" على تحولهم إليها، وقد استعارت لحنا من ألحان سيد درويش لتجعله المصاحب للإعلان الذى ظهر فى جزء منه مجموعة كبيرة من لاعبى ومدربى كرة القدم.
وهكذا يختلط الدين بالبيزينيس مثلما يحدث فى عالم السياسة هذه الأيام على نحو ينذر بخطر بالغ، لكننى سوف أرجئ هذا الحديث حتى آخر المقال، لنكمل معا رحلتنا فى عالم الإعلان، وإن لم نبتعد عن "الدين" أيضا، فإذا كان العقدان الماضيان هما حقبة "السيراميك" فى التاريخ المصرى (سماها الروائى صنع الله ابراهيم فى روايته "ذات" عصر "السرمكة")، فما يزال هناك جديد فى عالم السيراميك، فربما جاء الأوان لاختفاء رجال أعمال الحزب الوطنى السابق العاملين فى هذا المجال، ليحل محلهم رجال أعمال من الإخوان المسلمين، فالواضح تماما أن الإخوان ليس لديهم أى برنامج اقتصادى أو اجتماعى مختلف عن أسلافهم من الحزب الوطنى، وخطاب هؤلاء مثل خطاب أولئك، كل الفرق هو بداية الكلام بالبسملة والحوقلة، ووضع كلمة "الإسلام" هنا وهناك، أما الباقى فكله سيراميك!!
تذكرت أيضا حدوتة "عجلة الإنتاج"، التى صدعوا رؤوسنا بها وما يزالون، لقمع بذور الثورة فى وجدان الشعب المصرى، ولست أدرى فى الحقيقة عن أى "إنتاج" يتحدثون، بينما إعلانات البطاطس المقلية تطاردنى بأسماء تجارية مختلفة، وكأنها المشروع الصناعى القومى الذى سوف ينقذ مصر من الأزمة، والله يرحم أيام السد العالى، والحديد والصلب، تلك الأيام المتهمة بالشمولية لأن من كان يريد بطاطس مقلية كان يصنعها فى منزله من زيت التموين، ولا ينفق عليها الملايين كما يحدث اليوم. ولأن الشىء بالشىء يذكر فتلك النزعة الوطنية فى الأيام الخوالى تحولت على أيدى رجال البيزينيس والإعلانات إلى هزل سخيف، مثلما يحدث فى إعلان المشروب إياه الذى ما أن تتجرعه حتى تهتف بالنشيد القومى.
لكن أكثر الإعلانات سلبية بالمعنى الكامل للكلمة هى إعلانات "التسول"، التى تدعوك مثلا إلى التبرع لمستشفى بينما تعرض لك طفلا مريضا (نفس تكنيك المتسولات فى الشارع)، أو تقول لك أنك لو اشتريت السلعة الفلانية فأنت تساهم فى إدخال المياه النقية لبعض البيوت، لأن الشركة صاحبة السلعة تعدك بأنها – شخصيا – سوف تفعل ذلك، كما أن شركة شطائر النفايات الأمريكية الشهيرة سوف تساهم فى التعليم (هكذا!!)، ناهيك عن المشروع الوهمى الذى يزعم أنه يعطى الجوعى ما يسد رمقهم. تلك تجارة بالمشكلات الحقيقية للمجتمع المصرى، وهى ذات المشكلات القديمة الجديدة: الفقر والجهل والمرض، لكن بيزينيس التسول يشوه وعى الناس بها، فهو يحيل الحل إلى تبرعك أو شرائك لسلعة ما، والله وحده يعلم ماذا يفعلون بتبرعك غير إنفاق جزء منه على هذه الإعلانات، لكن الأهم هو ترسيخ مفهوم "الصدقة" فى حل المشكلات القومية، التى يجب أن تقوم بها الدولة وليس غيرها، وإن عجزت عن أن تفعل ذلك فعليها أن تتنحى جانبا وتترك غيرها يقوم بالمهمة.
ولأننا فى عصر الديموقراطية (هكذا يقولون ويريدوننا أن نصدقهم) فقد أقامت إحدى شركات المشروبات حملة للتصويت (يسمونه "الفوتينج" حتى تشعر أنك فى أمريكا!!)، ولا أدرى بالضبط والله فكرة هذا الإعلان، لكننى أراه سقيما تماما، فبالإضافة إلى أنه يدعوك لشراء المشروب، فهو يطلب منك أن ترسل رسالة بالهاتف المحمول، وهكذا تستفيد شركتان فى وقت واحد من غفلتنا، وتعمق فينا فكرة أن النهوض بالتعليم أو الرياضة أو مساعدة الفقراء سوف تأتى بأن نتجرع هذا المشروب!!
كانت الإعلانات تطاردنى على شاشات التليفزيون طوال شهر رمضان، لكن كلما حاولت أن أهرب منها كنت أجد نفسى محاصرا بهجوم آخر، هذه المرة من أصحاب اللحى الطويلة (وأحيانا القصيرة)، وليس هذا ذما فى تربية اللحية التى يربيها اليوم كل من هب ودب، لكنه نقد لمن يصور لنا أنها دليل على ورعه وتدينه، ذلك أن الله لا ينظر إلى صورنا بل إلى قلوبنا، كما أن تبجح البعض بأنه يملك "الحقيقة" حول "شرع الله" (تلك العبارة التى يستخدمونها بنزق بالغ لكنه محسوب تماما) ليس إلا تبجحا يعكس عدم فهم الآية القرانية الكريمة: "فلا تزكوا أنفسكم، هو أعلم بمن اتقى" (صدق الله العظيم)، بكلمات أبسط إن علينا ألا نتصور أو نصور للآخرين أننا "أفضل" وأكثر فهما للدين، فربما كان رجل بسيط يعمل فلاحا باليومية أو كناسا أكثر تقوى من "الشيخ" الذى يظهر فى الفضائيات وقد "رسم" التقوى على وجهه، علاماتها تلك اللحية الطويلة، وزبيبة الصلاة على جبهته.
أزعجتنى تماما تلك الهجمة الشرسة من الشيوخ المزعومين على شاشاتنا، والإسلام لم يعرف فى جوهره شيوخا يزعمون أن لهم وحدهم حق الإفتاء فى كل أمور حياتنا، وقد قال الرسول الكريم: "أنتم أعلم بشئون دنياكم"، فهل ترى شيوخ الفضائيات أدرى فى هذه الشئون من الرسول عليه الصلام والسلام؟ مصدر الخطر بحق هو أن ذلك ليس فتوى فى مسائل دينية قد تقتنع بها أو تصرف النظر عنها، لكنها تدخل سافر فى أمورنا السياسية، و"غسيل مخ" للبسطاء من الناس بالمعنى الحرفى للكلمة. تأمل مثلا سحر عبارة "تطبيق الشريعة" أو "العودة إلى شرع الله"، ما يكاد الإنسان البسيط يسمعها حتى تولد فى ذهنه صورة لمجتمع يشبه "ألف ليلة وليلة"، حيث الجميع فى مرح وحبور، والسلطان (الخليفة) يتنكر فى الليل ليطوف بالأسواق ليتعرف على مشكلات الناس!! لكن هل هناك حقا شىء اسمه "الشريعة" بلا خلاف أو وجهات نظر؟ وإذا كان الأمر كذلك لماذا إذن قتل بعض الصحابة بعضهم البعض؟ لكن الحقيقة أنه لا يوجد مثل هذه "الشريعة" النقية فى كل الأمور الحياتية.
يحدثونك فى الفضائيات عن بعض تصوراتهم عن تلك الشريعة، فيقولون أنها تطبيق الحدود، وعلى الفور ينبثق إلى الذهن صورة دموية لقطع يد السارق. وهنا نتساءل: هل الحدود (أو العقوبات)هى البداية لتكوين مجتمع عادل؟ أليست ذلك هو الوجه الآخر لنفس سياسات المرحلة الفاسدة الماضية التى كانت تتصور أن حل كل شىء يبدأ وينتهى بسن القوانين، أى أن كل ما يفعله الإسلاميون هو استبدال عقوبة بأخرى؟ وإذا كان "القطع" بصورته الدموية تلك هو الضامن لتحقيق مجتمع أفضل لماذا تستمر السرقة فى مجتمعات تقوم بتطبيقه؟ وهل تنطبق هذه العقوبة على من يسرق رغيفا فقط، أم تمتد إلى من يختلس الملايين، وهو فى حكم "الشريعة" التى يتحدثون عنها ليس سارقا، لأنه أخذ من "بيت المال" الذى له فيه نصيب؟
وإذا كان هؤلاء الشيوخ يتحدثون عن ضرورة تطبيق "الحجاب" مثلا بالقوة، فذلك نموذج على الخلط الفادح الفاضح، فكلمة "الحجاب" لا تعنى فى القرآن نوعا من الملابس، وليس هناك ما يسمى رداء إسلاميا، فملابس الكفار (وأسماؤهم بالمناسبة أيضا) هى ملابس المسلمين فى بداية الدعوة، ومن المؤكد أن الرسول (ص) كان سيرتدى ملابس عصرية لو عاش بيننا، وكانت أمهات المؤمنين سوف ترتدين ملابس متزنة لا علاقة لها بما يدعو إليه الإسلاميون. كان الرسول سوف يتستخدم التليفزيون والسيارة والكومبيوتر، مثلما استخدم أدوات عصره، وإذا كان القرآن يقول: "وأعدوا لهم ما استطعتم من رباط الخيل" فإنه لا يقصد الخيل تحديدا بالطبع. وإذا كان – مرة أخرى - الشىء بالشىء يذكر، لماذا يتجاهل الإسلاميون حديث الرسول الكريم: "أنتم شركاء فى ثلاثة: الماء والنار والكلأ"، أى فى كل مصادر الإنتاج الرئيسية؟ لكن الإسلاميين ينتقون ما يعزز سلطتهم الفاشية فقط.
كان هذا هو طابع رمضان على شاشات التليفزيون هذا العام، أراه حتى الآن منذرا بالخطر، فما نزال نعيش حالة من تغييب الوعى أو تشويهه، بين برامج استضافة أسامة سرايا ومصطفى الفقى، وإعلانات التسول، وفتاوى شيوخ العودة إلى عصر الخلاء. لا أملك إلا أن أحلم برمضان قادم أفضل وأجمل، فهل سوف يتحقق الحلم أم أنه سوف يتحول إلى كابوس؟

Thursday, August 18, 2011

مسلسل "خاتم سليمان" استعراض الممثل الواحد


في رمضان من العام الماضي، كان هناك مسلسل يحمل اسم "أهل كايرو"، الذي حقق جماهيرية واسعة بسبب حبكته البوليسية التي أحبطت المشاهدين في نهاية الحلقات، لأنها جاءت بحل مفاجئ لم تكن له أي إشارات سابقة في الأحداث أو رسم الشخصيات. وكان الممثل خالد الصاوي هو بطل الحلقات، لكن بالرغم من ذلك كانت هناك إلى جانبه العديد من الشخصيات الرئيسية والثانوية، والإيقاع المتدفق السريع، والحوار الذي يلمح إلى الكثير من تناقضات الحياة في مصر في الآونة الأخيرة، وكانت كل تلك العوامل مجتمعة هي أسباب إضافية للنجاح النسبي للمسلسل، ويبدو أن ذلك قد أغرى خالد الصاوي بتكرار التجربة، ليقوم هذا العام ببطولة "خاتم سليمان"، الذي بدأ في حلقته الأولى بداية مشجعة، لكنه مع توالي الحلقات يشي بنقاط ضعف عديدة جعلته يتراجع يوما بعد يوم.
لعلك قد لاحظت منذ اللحظة الأولى تلك "الموضة" في التورية التي يحملها عنوان المسلسل، الذي يحمل اسم بطله "سليمان"، لكنه يضيف إليه خاتما سوف يجعله يرتديه لسبب غامض، فكأنه إشارة ملتبسة لخاتم النبي سليمان الذي يسخّر به الجن، فكذلك بطلنا سليمان الذي يأتي بالأعاجيب بين الحين والآخر، برغم المآزق التي يمر بها وتكاد أن تعصف به، لكنه يقوم من عثرته قويا ليعاود سحره من جديد.
هذا "السحر" الذي يملكه سليمان – الذي يقوم بدوره بالطبع خالد الصاوي – هو محور كل الحلقات، التي كتبها محمد الحناوي وأخرجها أحمد عبد الحميد، لكنك تلمس في كل التفاصيل تدخل البطل الممثل الذي يبدو أنه اعتبر نفسه "نجما"، وليست القضية أن يكون ذلك صحيحا أو لا (فالنجومية شيء نسبي تماما، خاصة إذا أصدر صاحبها حكما بشأنها)، لكن القضية هي أن تصبح هذه النجومية هي البداية والنهاية، وبدلا من أن تكون في خدمة العمل الفني، تصبح كل عناصر العمل في خدمتها!
تبدأ الحلقة الأولى بداية قوية، وهي الحلقة التي تمثل "قسم العرض" في البناء الدرامي، فهناك مستشفى شهيرة تحمل اسم صاحبها سليمان العريني، جراح القلب البارع الذي يصفه الحوار كالعادة بأنه "أشطر جراح قلب في مصر"، وتدير هذه المستشفى الدكتورة شاهيناز (رانيا فريد شوقي) زوجة سليمان، وهي تمسك بحزم بمقاليد الأمور فيها، وهو ما نراه في لمسات سريعة في إصدارها الأوامر هنا وهناك، حيث وصل إلى المستشفى أحد الوزراء مصابا بجلطة في القلب، لكن المشكلة أن الدكتور سليمان كعادته غائب في مكان مجهول.
دعك الآن من "منطقية" أن يكون هناك في الواقع جراح شهير على هذه الشاكلة، فلابد أنك تتسامح مع هذه التفاصيل قليلا لكي تستمتع بالعمل الفني، وسوف تعرف سريعا أن بطلنا جالس يلعب "طاولة" في مقهى شعبي، تنطلق من قلبه الضحكات الطفولية الصافية وهو ينتصر على خصمه. بعد أن ينتهي بطلنا من اللعب يصحبنا إلى سطح منزل فقير في قلب الحي القديم من القاهرة، لينطلق في تأملات عن منظر المدينة في الليل، لكن هدفه في التواجد في هذا المكان هو استعادة "حمامة زاجلة" له، كانت قد ضلت طريقها إلى عش غريب، ويدفع سليمان مبلغا كبيرا لاستعادتها وهو راضٍ بذلك.
كانت السلطات تبحث عن الدكتور سليمان في كل مكان لكي ينقذ الوزير المريض في تلك اللحظات الحاسمة من حياته، وينجحون بالفعل في النهاية، ويصحبونه عائدين إلى المستشفى، لكنه يبدو لاهيا بحكاياته مع الضابط الذي يصحبه، عن هواياته الغريبة وذكرياته المضحكة عن وزير الصحة الذي كان زميلا قديما له أيام الدراسة. لقد كان المسلسل هنا (وطوال الحلقات) يريد أن يضع خطوطا أكثر وضوحا حول شخصية سليمان، لكنه كلما حاول ذلك زاد الشخصية غموضا، حتى أنك تسأل نفسك: هل هو عابث ليس لديه إحساس بالمسئولية؟ هل يعاني من اضطراب نفسي ما؟ أم أنه متمرد على نجاحه ويريد أن يعيش حياة عادية مليئة بالمباهج الصغيرة؟
عبثا تحاول أن تجد إجابة واضحة على تلك الأسئلة حول بناء الشخصية الرئيسية، ويبدو أن صناع المسلسل بدورهم لا يملكون إجابة واضحة عنها، فما أغراهم بها هو أنها تقترب من شخصية "زوربا اليوناني"، التي ظهرت في الفيلم الشهير من بطولة أنتوني كوين، عن رواية الأديب اليوناني الكبير نيكوس كازانتزاكس، وهي شخصية تغري بالفعل أي ممثل بتجسيدها لما تملكه من تناقضات بالغة الحيوية، لكنها تحتاج إلى قدر هائل من الرهافة حتى لا تبدو هذه التناقضات – كما هو الحال هنا – أقرب إلى التشوش والاضطراب.
سوف يحاول المسلسل بالطبع أن يضع هذه الشخصية في مواقف تبرز تناقضاتها وحيويتها، لكن هذه المواقف سوف تصبح أقرب إلى "نمر" فيها الكثير من الافتعال، وقد تستغرق إحدى هذه النمر حلقات بأكملها، حتى إذا انتهت ينساها المسلسل ليمضي إلى نمرة أخرى. تبدأ هذه النمر مع كارثة حقيقية يعيشها سليمان وزوجته شاهيناز، فابنتهما الشابة الوحيدة شهد تذهب مع إحدى صديقاتها إلى موسيقي شهير، حيث تتكشف الليلة عن مصرع هذا الموسيقي، ليقع الاتهام بالقتل على الابنة، ويمضي سليمان في مغامرات بالغة السذاجة في محاولة للكشف عن الفاعل الحقيقي، مستخدما واحدا من أصدقاء الطفولة تحول إلى ممارسة الدجل والشعوذة، اللذين يصبحان سلاحه في اكتشاف أسرار الجريمة!
في "منطقة" أخرى من المسلسل (فكأن المسلسل مناطق معزولة دراميا عن بعضها البعض) نرى الصحافية الشابة عبير، التي تحاول الحصول على سبق صحفي يؤهلها للتعيين في الصحيفة التي تعمل بها، فتمضي خلف قصة الوزير المريض، وتدعي المرض لتدخل المستشفى لتكون قريبة من مصدر الأخبار، وحين تتكشف حقيقتها وتبدو قريبة من تلقي العقاب، يكشف لنا المسلسل عن أنها مريضة بسرطان الدم، وتلك كما ترى تطورات لا علاقة لها بأي بناء درامي متماسك، حيث لا علاقة بين مرضها ومغامراتها الصحفية، تماما كما يسير المسلسل في خط جديد عندما يقابل سليمان مجموعة من المجرمين، يدخل معهم في محاورات تجعلهم – مثلنا – حائرين في فهم شخصيته!!
من هذه الخطوط القصصية العشوائية تدرك أن البناء البوليسي هنا يفتقد الحد الأدنى من التماسك والإقناع، وذلك للانشغال بما يراه المسلسل أكثر أهمية وهو شخصية سليمان، لكنه هنا أيضا يفتقد المصداقية، ليس فقط لأن الشخصية بعيدة عن الواقعية، وإنما لأنها غير متكاملة الملامح بالمعنى الدرامي للكلمة. دائما يتحدث نقاد الدراما عن "الدافع" الذي يقود الشخصية لتصرفاتها، حتى لو كانت هذه التصرفات بالغة الغرابة, لكن الشخصية هنا ولدت "هكذا" وبدون أية دوافع، ولا تجد سوى "مونولوجات" طويلة من الحوار يتحدث بها البطل عن نفسه، أو يتحدث بها الآخرون عنه، وبصرف النظر عن أن هذه المونولوجات تربك إيقاع الأحداث تماما، أو أنها تجعل الممثلين يسترسلون في أداء "زاعق" بالمعنى الحرفي للكلمة، فإنك لا تستطيع أن تبني دراميا شخصية ما من خلال الحوار وحده، خاصة عندما يكون محتشدا بعبارات غائمة تصف سليمان بأن "بحر مليء بالألغاز" أو بأنه "شبح"، كما جاء بالنص في المسلسل!!
يدور المسلسل إذا عن سليمان، وكل الشخصيات تدور في فلكه، وكل الأحداث تمضي إليه، لذلك تبدو كل عناصر المسلسل مكرسة له، أو بالأحرى لخالد الصاوي، الذي يظهر كما لو كان يقف على خشبة مسرح، يلون في نغمات صوته وحركات جسده على نحو شديد المبالغة بما لا يتناسب مع رهافة الشاشة الصغيرة، التي تسجل النفاصيل الدقيقة فلا تتطلب من الممثل كل هذا القدر من تضخيم الأداء.
ربما تحمل الحلقات الأخيرة من "خاتم سليمان" نفسيرا لهذه الشخصية، لكن ذلك سوف يكون بدوره عن طريق جمل الحوار وحدها، وبعد ثلاثين حلقة من مسلسل كان يكفي فكرته فيلم في أقل من ساعتين، لكن همه كان أن يمنح بطله عرضا متصلا لأن يثبت موهبته، فإذا به يتحول في النهاية إلى أن يكون عرضا للممثل الواحد!!

Wednesday, August 17, 2011

الكبير أوي الضحك من غير سبب ليس دائما قلة أدب


أحيانا ما يتعامل النقد مع الأعمال الكوميدية بمنطق الاستخفاف، وينظر لها على أنها لا ترقى لمستوى النقد، وغالبا يكون السبب الرئيسي في ذلك أن النقد يتعامل أساسا مع المضمون، بينما يهمل الشكل أو يتجاهله ويجهله. فأغلب المقالات النقدية تبدأ بعبارة: "هذا العمل يتناول ..."، فإذا كان هذا الذي يتناوله العمل الفني جادا في مظهره أصبح في عرف الناقد جديرا بالاحترام، حتى لو كانت المعالجة هزيلة. وهناك أمثلة عديدة هذه الأيام لأعمال الفنية ضعيفة، لكنها تختفي وراء الزعم بمعالجة قضية جادة، وذلك في الحقيقة أخطر من ألا يتناول العمل مثل تلك القضايا أصلا، فغايته في هذه الحالة تكون هي الضحك بمعناه البسيط، وهو إن لم ينفع لا يضر، وذلك تماما هو حال المسلسل التليفزيوني "الكبير أوي"، الذي يأتي هذا العام جزأه الثاني ليحقق نسبة عالية في المشاهدة.
أثار حيرتي في البداية نجاح هذا المسلسل "الخفيف"، بين الكبار أو الأطفال على السواء، وأهملته بعض الوقت لكن تزايد النجاح جعلني أقترب منه بالتحليل، فإذا بي بالفعل أمام عمل قد يبدو للوهلة الأولى سهلا، لكنه يحتاج إلى جهد كبير في التنفيذ، وصياغة دقيقة رقيقة للعناصر الدرامية والبصرية معا، لأنه يستفيد كثيرا من ثقافة سينمائية وتليفزيونية واسعة، عربية وغرببة على السواء، وهذا في رأيي أحد أسباب نجاحه، فنكاته تشبه نكات أفلام التحريك الأمريكية المعاصرة، التي تحتوي على مستويين، الأول مباشر يخاطب الأطفال، والثاني موجه للكبار أصحاب قدر من الثقافة يسمح لهم بإدراك الأبعاد التي تفوت على من لا يملكها.
دعنا في البداية نلقِ نظرة على البناء العام للمسلسل الذي كتب فكرته وقام ببطولته أحمد مكي: هناك رجل صعيدي يدعى "الكبير قوي" يعمل عمدة لقرية تسمى "المزاريطة"، يفاجأ أن له شقيقا توأما تربى في أمريكا ويحمل اسم "جوني"، ويظهر جوني ذات يوم ليعيش في القرية أيضا، وهنا تتصادم الثقافات المتباينة تصادما مضحكا، خاصة أن القرية تحمل أحيانا ظلالا رمزية من فكرة "الوطن". إن هذا التصادم يميل أحيانا إلى السخرية من "الخواجة"، لكنه يوجه سهام نقده أيضا للعمدة الصعيدي، فالمسلسل لا يقع في مأزق الانحياز لأيهما، أو السخرية الفجة من الصعيدي مثلما فعلت أعمال أخرى كانت مجرد نكات جامحة من ذلك النوع الذي يتداوله الناس في حياتهم اليومية.
بالطبع يلعب أحمد مكي دوري الشقيقين، بينما يكتب السيناريو والحوار كل من مصطفى صقر ومحمد عز الدين وتامر نادي، ويتناوب على الإخراج إسلام خيري وأحمد الجندي. لكنك تستطيع أن تلمس تأثير أحمد مكي في كل التفاصيل، خاصة اختيار فريق الممثلين الذين يعملون معه دائما، ويشكلون بالفعل فريقا متجانسا يجيد الأداء على نحو يندر أن تجده في أعمالنا الفنية المعاصرة، لا فرق في ذلك بين ممثل رئيسي أو "كومبارس" يلقي جملة حوار واحدة، خاصة أن العمل يقتضي في بعض الحلقات استخدام مجاميع هائلة، مثل الحلقات الثلاث التي تحدثت عن قدوم فريق كرة قدم أمريكية إلى القرية، في تنافس يحمل بعض دلالات وطنية.
في تلك الحلقات – كمجرد مثال – نموذج على أسلوب المسلسل كله: فهناك تأثر واضح بأفلام الألعاب الرياضية الأمريكية، حيث يأتي التحدي من فريق كرة قدم أمريكية فلا يجد البطل مناصا من قبوله لأنه يمس شرفه، وهو هنا الشقيق جوني، فإذا به يجمع مجموعة من البسطاء الذين لا يعرفون بالطبع شيئا عن هذه اللعبة، لذلك فهم يبدأون من الصفر أو ما هو دونه، وعندما يبدو الأمل ضعيفا يظهر شخص يملك قدرات خاصة، وهو هنا لص يدعى "القطر" (أي القطار)، سريع العدو بحيث لا يستطيع أحد اللحاق به، ويأتي يوم النزال، ويتجمع أهل القرية جميعا على نحو فريد، وأعتقد أن صناع المسلسل بذلوا جهدا فائقا في تصوير هذه المباراة، ولعل ذلك استغرق منهم يوما كاملا لالتقاط العديد من اللقطات العفوية لكي يمكن فيما بعد تجميعها في المونتاج.
وكعادة أفلام الرياضة ينهزم في البداية فريق البطل جوني، بينما يجلس الشقيق الكبير قوي في المدرجات متخفيا لأنه يعتبر الاشتراك في هذه اللعبة عارا. وينزل "القطر" إلى الملعب ليحمل بعض الأمل للفريق المهزوم، لكنه يصاب ليضيع هذا الأمل، وهنا يقرر الكبير قوي أن ينزل إلى أرض الملعب ليشترك مع شقيقه في الدفاع عن شرف القرية، وعندما يتحقق الانتصار الصعب نرى على الشاشة تقليدا ساخرا من طريقة التليفزيون المصري في الاحتفال بتلك الانتصارات الرياضية في مبالغة مضحكة.
من أهم سمات "الكبير أوي" أنه يوزع سخرياته بجدية بالغة، فهو لا يميل أبدا للتهريج في التمثيل الذي أصبح من علامات هذا الفن في مصر في الآونة الأخيرة، خاصة فيما عرف باسم "كوميديا الموقف" أو "السيتكوم"، وبلغ هذا التهريج ذروته العام الماضي في مسلسل "عايزة أتجوز" وأصبح الجميع يقلدونه، لكن "الكبير أوي" يحافظ على الشعرة الدقيقة الفاصلة بين الجد والهزل، ولعل هذا هو السبب في أن الممثلين يحققون هنا درجة عالية من الإتقان والإقناع، نذكر من بينهم دنيا سمير غانم في دور هدية زوجة الكبير قوي، أو هشام اسماعيل في دور الخفير فزّاع، أو محمد شاهين في دور توماس صديق جوني ومساعده.
لا يبتعد "الكبير أوي" في بنائه العام عن كوميديا الموقف أيضا، فقد تأتي كل حلقة منفصلة بذاتها، أو تتجمع حلقتان أو ثلاث معا في حكاية واحدة. وهذا البناء يسمح لصناع المسلسل باستضافة بعض الممثلين المشهورين في بعض الحلقات، كما يسمح لهم أيضا بأن ينتقلوا في الزمان والمكان، حتى أن هناك بعض الحلقات تمضي إلى الماضي لتحكي عن نزوات الأب المضحكة في شبابه. هناك سمة أخرى لا تقل أهمية، وهي أن المسلسل لا يقع في الثرثرة المملة التي تهدف إلى التطويل بأي ثمن، وجرب مثلا أن تفوت جزءا من بداية حلقة ما وسوف تكتشف أنه قد فاتك الكثير، ففي قسم عرض المعلومات الرئيسة تشعر بتدفق الإيقاع السريع سواء في الأحداث أو الحوار، كما أن المشاهد الطويلة نسبيا تعمد على الفور إلى استخدام المونتاج لخلق هذا الإيقاع.
غير أن السمة الأهم هي الاعتماد على السخرية من أعمال سابقة. تأمل مثلا الحلقة التي شك فيها الكبير قوي في أن توماس جاسوس، بسبب أسئلته الفضولية وتصويره لأماكن عديدة في القرية، فيذهب بطلنا إلى المخابرات المصرية، حيث يجد ضابطا هو ابن الضابط الذي كان مسئولا عن رأفت الهجان، ويقلد يوسف شعبان الذي قام بهذا الدور!! ولتلاحظ أيضا التناقض بين منطوق بعض جمل الحوار ومضمونها، إن الضابط يقول للكبير: "خد راحتك كأنك بتكلم واحد صاحبك"، بينما يشي الأداء بالتهديد والوعيد!!
في حلقة أخرى يصبح هدف السخرية هو الفيلم الأمريكي "تبديل الوجوه"، الذي قام فيه المجرم جون ترافولتا بسرقة وجه نيكولاس كيدج، فلم يجد هذا الأخير إلا أن يكتسي بوجه الأول ليمضي الفيلم في مفارقات تحتشد بالتشويق و"الأكشن"، أما هنا فإن الكبير يشاهد الفيلم قبل نومه فيحلم بكابوس يرى فيه تبديل الوجوه مع شقيقه جوني، وتتصاعد المفارقات حتى أن الجميع في القرية يبدلون وجوههم مع بعضهم البعض.
تعتمد مثل هذه المحاكاة هنا على إدراك التفاصيل السينمائية والبصرية وليس مجرد البناء العام للحبكة فقط، لذلك فإن "المتعة" في مشاهدة "الكبير أوي" قد تتوقف بالنسبة لبعض المتفرجين عند الضحك، لكنها تمتد عند البعض الآخر إلى إدراك التشابه مع الأعمال التي يتم السخرية منها، وإلى دقة التنفيذ التليفزيوني التي يمكن أن تجد لها مثالا في مشهد يودع جوني والكبير فيه كل منهما الآخر حتى أنهما يحتصنان، وإذا أتيحت لك فرصة مشاهدة هذا المشهد مرة أخرى فسوف يدهشك براعة المونتاج واستخدام "الدوبلير" في وقت واحد.
في سياق من التوترات ذات المستويات العديدة يأتي مسلسل "الكبير أوي" ليمنح المتفرج بعضا من لحظات اللهو البريء النظيف، وذلك هدف يستحق العناء بالفعل، وصل إليه صناع المسلسل بالكثير من الجهد، فاستحقوا نجاحا جماهيريا، وليثبتوا أن الضحك من غير سبب ليس دائما قلة أدب!!

Tuesday, August 16, 2011

رمضان والصيام عن الثورة


يأتى شهر رمضان هذا العام بطعم مختلف ... منذ ثلاثين عاما أو يزيد تعود المصريون أن ينظروا إلى هذا الشهر على أنه شهر التليفزيون، وأصبحت الأجيال تُنسب إلى "فوازيرها"، فذاك جيل فطوطة أو نيللى، وهذا جيل شيريهان، وفجأة انقطعت الأجيال أو تمييزها على الأقل بهذه الطريقة، فقد باخت الفوازير إلى درجة أن أحدا لن يتذكر مثلا أنه قد ظهرت فى العام الماضى "واحدة" تدعى ... (نسيت اسمها للحظة ثم تذكرته: مريم فارس)، قدمت فوازير ليست فوازير، ورقصا أشبه بارتعاشات الصرع، وأغنيات أقرب إلى الزار. كان السبب فى فقدان بهجة الفوازير هو أن الحياة اليومية باتت فزورة كبرى، كان خاتمتها الانتخابات التشريعية "بتاعة" أحمد عز، التى فاق التزوير والفُجر العلنى فيها كل تصور، ثم جاءت فزورة "خليهم يتسلوا"، أو بكلمات أخرى: "فيلشربوا من البحر، أو يخبطوا رأسهم فى الحيط"، وكان أن خبطنا رؤوسنا بالفعل، ولكن فى رأس النظام، الذى تهاوى بعد أن خاض دور شطرنج طويلا مع الشعب.
نتصور أحيانا أننا قد انتصرنا فى هذه المباراة، والحقيقة أن "الطابية" قد تدخلت بما بدا للحظة أنه لصالحنا، لكن بعد استراحة قصيرة من توتر اللعب أدركنا الحقيقة المرة: الطابية تريد أن تصبح الملك!! لذلك يأتى رمضان هذا العام بطعم مختلف.
فى كل صباح رمضانى هناك فرصة أمام ربات البيوت بشكل خاص أن ترين المسلسلات والبرامج التى لم تتمكن من رؤيتها فى الليلة السابقة، لكن فى اليوم الرابع عشر من رمضاننا هذا كانت المحطات تذيع محاكمة حبيب العادلى "المدنية" بتهمة قتل الثوار، فى "شو" إعلامى لطيف يجلس فيه الرجل كأنه فى نزهة قصيرة. فى الوقت ذاته كان هناك حدث مهم يجرى دون أن يدرى به أحد، لأن التليفزيون لم يهتم به حتى كخبر قصير، وهو تحويل أسماء محفوظ للنيابة "العسكرية"، ولأنها غير مشهورة بالمعنى التليفزيونى، ولا يراد أن تكون مشهورة، فقد قامت وسائل الإعلام بأن "كفت على الخبر ماجور"!! من هى أسماء محفوظ؟! فتاة مصرية تشبه أخواتنا وبناتنا، كانت من بين شباب مصر الذى خرج فى يوم 25 يناير، وقامت على أكتافه كل الأمجاد المزعومة التى تشدقت بها فصائل عديدة، مثل حديث عصام العريان عن "خطط" الإخوان المسلمين" للثورة منذ زمن طويل، وهم الذين انتهزوا ومايزالون ينتهزون أى انتصار يحرزه غيرهم.
لماذا تم تحويل أسماء للنيابة العسكرية؟ لأنها نبهت إلى أن المجلس العسكرى يرتكب خطأ فادحا بتصرفاته التى يحار فى فهمها كل لبيب، وحذرت من أن سياسة المجلس إياه سوف تؤدى إلى تيارات من العنف. النكتة الأولى هنا هو اتهام الفتاة البريئة بالدعوة إلى العنف، وهى التى بح صوتها ورفاقها من أبناء الشعب المصرى بالهتاف: "سلمية سلمية"، بينما كانوا يلاقون أبشع وسائل العنف على أيدى رجال العادلى، الذى كان يبتسم فى قفص محاكمته فى يوم التحقيق مع أسماء.
النكتة الثانية هى أن جلسة محاكمة العادلى "المدنية" انتهت بينما استمر التحقيق "العسكرى" مع أسماء ساعات عديدة. عبثا حاولت أن تقنع المحققين بجدية تحذيرها، الذى لا يعنى أبدا أنها شخصيا سوف تلجأ للعنف، وإنما أن المجلس العسكرى يمارس مرة أخرى سياسة "خليهم يتسلوا"، بما سوف يعيد الدائرة إلى بدايتها (أنظر أعلاه!!)، أو لأن هذه السياسة التى تلعب لعبة خطيرة هى التى تستخدم قوى العنف والإرهاب لتضرب قوى الثورة، وما تزال مظاهرات السلفيين فى الأذهان، ورفعهم صور بن لادن ورايات تنظيم القاعدة وأعلام السعودية، ولم يتم التحقيق مع أحدهم أبدا برغم ارتكابهم ما يرقى إلى الخيانة العظمى، كما لم يتم التحقيق مع ما يسمونهم "البلطجية"، الذين اعتدوا على الثوار تحت سمع وبصر المجلس العسكرى مرتين، مرة فى "الجمل" وأخرى فى "العباسية"، بينما يتم التحقيق مع أسماء لأنها أطلقت نداء على "تويتر"!!
أُفرج عن أسماء بكفالة عشرين ألف جنيه فى النيابة العسكرية، فى الوقت الذى كانوا قد أفرجوا عن عائشة عبد الهادى فى النيابة المدنية بنصف هذا المبلغ لاشتراكها فى "معركة الجمل"!! ولم تظهر هيئة سياسية واحدة تعرض دفع الكفالة فقام الشباب بجمعها من بعضهم، وقد فات عليهم – لأنهم مشغولون بالثورة – أن يشاهدوا مسابقة "بيبسى" المحمومة على شاشات التليفزيون، التى تعرض جوائز تكفى للإفراج عن العديد منهم أمام النيابة "العسكرية"، وربما تفادى الثوار أن يستعينوا بـ"بيبسى" حتى لا تثبت التهمة التى أطلقها "واحد" يقال أنه مطرب وملحن، اسمه عمرو مصطفى، ظهر فى العديد من البرامج التليفزيونية الرمضانية هذا العام، ليقول إن هذا البيبسى خطط للثورة تحت شعار "اشرب وعبّر" أو "اتكلم واشرب"، لست أدرى على وجه اليقين، وأن بيبسى حين ذكر احتفاله بمرور 125 عاما على انطلاقه كان يعطى إشارة بدء الثورة لأتباعه فى اليوم 25 من الشهر 1!! جاء ذلك فى أحد البرامج التليفزيونية، بينما كان موقع "يوتيوب" يبث شريطا قصير يؤكد فيه أن كلمة "بيبسى" تعنى "ادفع كل قرش لتنقذ اسرائيل"، مع أن اسم هذا المشروب يعود إلى "إنزيم" يدعى "بيبسين"، كما أنه ظهر قبل أن يكون لكلمة "إسرائيل" أى معنى غير الإشارة لنبى الله يعقوب، ولكى يزداد الأمر "لخبطة" فقد كان هذا الشريط الهزلى لمرشح الرئاسة عن السلفيين حازم أبو اسماعيل، الذى كان "الوحيد" – حتى كتابة هذه السطور – الذى أدان بكلمات بالغة الحدة والوضوح تحويل الشباب الثائر للمحاكمات العسكرية!! حد فاهم حاجة؟!!
فى هذا الواقع المضطرب أتى رمضان هذا العام، وكنت لسذاجتى قد توقعت أن يكون رمضان ساخنا، يتحول فيه "الميدان" إلى ساحة للاحتفال السياسى والكرنفالى فى وقت واحد، فإذا بنا نقرر أن نأخذ "أجازة" من السياسة فى رمضان لنجلس أمام شاشات التليفزيون، فى الوقت الذى قرر فيه المجلس العسكرى "احتلال" الميدان، مع أول يوم من الشهر، وأن يُجلى عنه قوات "الأعداء" الذين جاءوا للإفطار فيه، بينما احتلت قوات الثورة المضادة شاشات التليفزيون.
جلسنا أمام الشاشات نتلقى برامج غسيل الدماغ، التى تعبث فى عقول ملايين المتفرجين، الذين باتوا أقرب لعدم فهم ما يجرى بسبب التباس المواقف، هل ما حدث ثورة؟ هل قامت الثورة بهدف إقصاء مبارك أو حتى محاكمته، لكى يجلس مكانه "جنرال" من نظامه، لتصدق "نبوءة" عمر سليمان عن الانقلاب العسكرى، ليكون ذلك هو أول انقلاب عسكرى يُعلن عنه قبل وقوعه؟ هل المسألة مجرد تغيير فى الوجوه بينما يبقى الوضع على ما هو عليه، هذا الوضع الذى يعنى أن تظل مصر دولة تابعة، وأن يقوم اقتصادها على الطفيلية التى من توابعها أقصى درجات الظلم الاجتماعى؟ وهل بدأت الديكاتورية حقا مع نظام عبد الناصر الذى يقع ضمن "الستين عاما" التى يذكرونها دائما عندما يتحدثون عن "الماضى"، لتزول الفروق الجوهرية بين نظام ناصر الذى لا يفرق بين الديموقراطية السياسية والاجتماعية، ونظامى السادات ومبارك الذين يقومان على تكوين عصابات النهب المنظم للأوطان؟
وسط هذه "اللخبطة" ظهرت برامج رمضانية تكائرت كأنها الخميرة التى كانت نائمة ثم استيقظت فجأة، وأنا أعترف للقارئ بعجزى عن معرفة إذا ما كانت تلك مصادفة أم تخطيطا منظما، أن يظهر مثلا تامر أمين فى العديد من الشاشات على مدى أيام متناثرة، ليقول أنه وزملاءه فى "البيت بيتك" هم الذين أشغلوا فتيل الثورة، أو أن نرى أسامة سرايا يشرح فلسفته فى الدفاع عن الحزب الوطنى، أو حسام البدراوى يحكى بالتفصيل الممل عن "نضاله" لكى يعود مبارك إلى صوابه، ناهيك عن طلعت زكريا، أو تامر الآخر (حسنى). ولست ضد أن يظهر هؤلاء وغيرهم ليدافعوا عن مواقفهم، لكن ما دام التليفزيون قد قرر أن يأتى هذا العام ببرامج "سياسية" فى قالب ترفيهى، فلماذا لم يستخدم ذلك فى تصحيح بعض المفاهيم بدلا من زيادة تشويهها على طريقة "الليبرالية يعنى أن أمك تقلع الحجاب" (!!!)، ولماذا لا يهدف للتنوير بدلا من ضرب كل الكراسى فى "الكلوبات" بالسخرية الجامحة من أى حديث سياسى جاد، فى عشرات البرامج التى تحاكى بشكل هزلى برامج "التوك شو"، حين يقال لنا مثلا أن الحرية اشتقت اسمها من "الحر"، أى من الجو الحار؟!!
من جانب آخر هناك برامج تغذى النزعة العدوانية فى نفوس المشاهدين (ما هى ناقصة!!)، برامج تقول للمتفرج أن يضحك وهو يرى شخصا فى مأزق رهيب، وكأنها فى الحقيقة نوعا من تعويد الناس على العنف الذى استشرى فى الآونة الأخيرة منذ ما أُسمى "الانفلات الأمنى"، وهو اسم الدلع للتفريط الأمنى المتعمد، من السلطات القائمة على شئون البلاد، السلطات السابقة واللاحقة، التى تستخدم هذه الفوضى لتأسيس سلطتها والحاجة للاستعانة بها. ولست أدرى فى الحقيقة أين ذهبت "الدولة"، فالثورة لم تتوجه للحظة لتقويض الدولة أبدا، بل للنظام، فكانت النتيجة أن اختفت الدولة وبقى النظام!!
ما الذى يحدث؟ إننى أنظر إلى شاشات التليفزيون وأحاول القراءة، فلا أرى سوى إعادة إنتاج للمرحلة السابقة، كل ما حدث أن مبارك وولديه وراء القضبان، بشكل مؤقت أو دائم؟ حقيقة أم تمثيلية؟ لا يهم، فالمهم ألا يتغير شىء، بل ربما يصير أسوأ، حين تصبح المحاكمات العسكرية هى "العادية"، فخلف كل قيصر يموت قيصر جديد كما قال الرائع الراحل أمل دنقل، لكن هل لن تبقى وراء شهدائنا إلا دمعة سدى؟ هل نصوم طويلا عن السياسة؟ هل نعود إلى الحظيرة؟ تساؤلات تجعل لرمضان هذا العام طعما آخر، كأنها الهزيمة بنكهة الانتصار، وياليتها لا تكون!!

Wednesday, August 10, 2011

مسلسل "سمارة" استنساخ نادية الجندي ونبيلة عبيد!!


"سمارة، زهرة برية نشأت وترعرعت في جو أسود رهيب"، هكذا كان صوت المذيع والمخرج المصري ديمتري لوقا يعلن بعد ظهيرة كل يوم، في الخامسة والربع تماما، ويتجمع المصريون حول أجهزة المذياع في منتصف الخمسينيات من القرن الماضي حتى تكاد الشوارع أن تخلو من المارة. كانت تلك هي الفترة التي بدأت فيها تقاليد المسلسل الدرامي الإذاعي المصري، التي أصبحت اليوم من بين ذكرياتنا الفولكلورية، وبعد القليل من المسلسلات ذات الطابع البوليسي أو النفسي، مثل "حب وإعدام" و"هل أقتل زوجي؟" و"العنب المر"، جاء مسلسل "سمارة" الذي كتبه محمود اسماعيل، وقامت ببطولته سميحة أيوب ومحسن سرحان، ليؤسس تقاليد مسلسلات العصابات على الطريقة المصرية، التي انتقلت فيما بعد للسينما ثم التليفزيون.
من المفارقات المهمة أن نمط دراما رجال العصابات الأقدم في أمريكا كان وما يزال يضع المجرم في القلب من الحبكة، ولا تحتل المرأة فيه إلا مكانا هامشيا، لكن الدراما المصرية جعلت في الكثير من الحالات البطلة هي الأهم، وكانت في البداية نموذجا للنقاء الذي اضطرته الظروف لأن يتلوث، وفيها قسوة ظاهرة لكن قلبها يفيض بالرقة عندما تجد من يدرك فيها هذا البعد، وهي باختصار ليست "الفاتنة القاتلة" على الطريقة الأمريكية، لكنها الضحية، أو "الزهرة البرية التي نشأت وترعرعت في جو أسود رهيب"!
لا ندري على وجه الدقة السبب وراء اتجاه صناع الدراما التليفزيونية المصرية للعودة إلى "سمارة"، وإن كنا نستطيع أن نخمنه، فقد مر أكثر من نصف قرن حتى لا يكاد أغلب الجمهور اليوم أن يعرف من هي "سمارة" كما كانت لدى الجيل الأقدم. دعنا نؤكد من البداية أننا لسنا ضد إعادة "تيمة" ما عشرات المرات، إذا كانت تُقدم في كل مرة ومعها تفسير فني جديد، يلقي الضوء "المعاصر" على حكاية قديمة، وربما كان أشهر "المقتبسين" هو شكسبير، الذي صنع معظم مسرحياته عن قصص سابقة عليه، ومع ذلك استحق أن يكون المؤلف الدرامي الأول في تاريخ الإنسانية.
فلنفترض أنه سحر الحدوتة إذاً هو الذي حدا بكاتب السيناريو والحوار مصطفى محرم، والمخرج محمد النقلي، أن يعيدا روايتها، ويضعاها كما ورد في صدر الحلقة الأولى في "القاهرة 1945"، ليبدآ كل حلقة لثوانٍ بالأبيض والأسود لينتقلا بعد ذلك للألوان. وبرغم الحلقات الثلاثين الممتدة عبر شهر كامل، يدور المسلسل في عالم درامي ضيق خانق، بين الحي الشعبي الذي تقيم فيه سمارة (غادة عبد الرازق)، والحي الراقي الذي أتى منه البطل كمال (أحمد وفيق)، وإذا كان من الخيال الجامح أن تلتقي مثل هاتين الشخصيتين في الواقع، فإن المسلسل يجمعهما في علاقة غرامية مشبوبة، تظل تراوح مكانها طوال الوقت دون أن تتحرك قيد أنملة، لكنها تتيح للبطلة أن ترقص وتمثل وتضحك وتبكي.
يجب أن تصدق منذ اللحظة الأولى أن سمارة تملك من الجمال ما يجعل "كل" الرجال يقعون في حبها، بل إن من يخطبونها يلقون مصرعهم بشكل غامض، وسوف نعرف أن وراء هذه الجرائم رجلين مزواجين من "أهل الحتة"، الأول هو المعلم سلطان (حسن حسني)، تاجر المخدرات الكبير الذي يتخفى وراء تجارة الفاكهة، ويتعامل مع رجل غامض يطلقون عليه "البك الكبير" هو الذي يجلب المخدرات إلى البلاد، أما الثاني فهو المعلم فتوح (سامي العدل) الذي بدا صبيا للأول، ثم تحول بدوره إلى تجارة المخدرات أيضا وراء قناع تجارة الخضروات.
وسوف يظل سلطان وفتوح غريمين في حب سمارة، وإن كانت تجمعهما الجريمة. وبينهما تقف بطلتنا تغازل هذا مرة وذاك مرة، بدافع من أمها (لوسي) النهمة إلى المال بأي ثمن، ويصطنع لها المسلسل قصة في الماضي إذ عشقها والد سمارة (زكي فطين)، ابن الحسب والنسب، الذي ترك أسرته من أجل محبوبته الراقصة وضيع عليها ثروته، وأصبح اليوم مدمنا على الخمر، مستذلا مهانا من الأم التي لا تتورع عن أن تتخذ لنفسها رجلا آخر تعيش في حماه، مثل المجرم العريق في الإجرام صالح أبو شفتورة (ضياء عبد الخالق)، الخارج لتوه من السجن، ويذكرنا اسمه بالاسم المستعار الذي اتخذه ضابط الشرطة المتنكر في المسلسل الإذاعي القديم: سيد أبو شفة!!
على الجانب الآخر من هذا العالم الدرامي يقيم الأغنياء من رجال السياسة، الذين يتحدثون عن الفضيلة وإن كان يجب أن تتوقع أن يسفروا عن نقيضها. وفي القلب من هذه الطبقة يوجد عبد المجيد بك (عبد الرحمن أبو زهرة) صاحب المركز المرموق في حزب الشعب، الذي يرأسه فهمي باشا (عمر الحريري)، لكن ما يهمنا أن عبد المجيد هو والد كمال، الأستاذ في الجامعة، والمشغول ببحث عن تأثير البيئة في سلوك البشر، والذي يذهب إلى الحي الشعبي الذي تقيم فيه سمارة، لأنه الحي المشبوه الذي مُنعت نساؤه من ممارسة الرذيلة، ليذهب بطلنا ليدرس كيف ترك ذلك تأثيرا على أبناء الحي، أو بالأحرى بناته.
تأتي هذه المعلومة في سياق الحوار مرة أو مرتين، لكنك لن تراها أبدا مجسدة على الشاشة، فكمال لن ينشغل لحظة واحدة بهذه الدراسة المزعومة، والسبب: أنه وقع في حب سمارة في اللحظة التي وقعت عليها عيناه!! تأمل كيف يعبر المسلسل عنها: تقع سمارة أمام سيارة كمال، فتصرخ وتولول، وينزل هو ليرى ما حدث، وفجأة ينطلق سهم "كيوبيد" ليصيب القلبين، وتصدح الموسيقى معلنة عن ميلاد الحب، فقد قررت سمارة أن تعشق هذا الفتى، كما سوف ينسى هو خطيبته ويهجرها من أجل سمارة.
أرجو ألا تسيء الظن ببطلنا، فهو لن ينسى دراسته، لكنه سوف يجعل سمارة موضوعا لها، لينتقل المسلسل في بعض الحلقات لاقتباس "بيجماليون" أو "سيدتي الجميلة"، حين يأخذ كمال محبوبته إلى صالون التجميل، ويعلمها كيف تتخلى عن تعبيراتها السوقية لتستخدم قواعد المجتمعات الراقية، ويذهبان إلى منزل أسرته حيث تقنعهم بالفعل أنها زميلته في الجامعة. لكن المسلسل لا يكتفي بهذا الاقتباس وحده، ولك أن تتخيل مثلا أنه سوف يمضي أيضا لتقليد "خللي بالك من زوزو"، حين تقرر سمارة أن تصارح أسرة حبيبها بحقيقتها، فتفاجئ الجميع برقصة "هز بطن" مثيرة، وبرغم أن الموقف يشي بأنه دليل على شعور سمارة بالهوان، فلن تتوقف إلا بعد أن تؤدي الرقصة كاملة!!
بكلمات أخرى أوضح فإن المسلسل لا يدور حول شخصية فنية تدعى "سمارة"، بل حول غادة عبد الرازق، الممثلة والمؤدية التي قررت أن تكون النسخة الجديدة القديمة من نادية الجندي ونبيلة عبيد، في دور المراة التي تجسد "ملكة النحل" القاتلة، يسعى إليها كل الرجال، وفي الوصول إليها هلاكهم، كما أن الدراما المصنوعة تمنحها دائما فرصة للانتقال من الحضيض إلى القمة لكي تعود إلى الحضيض في النهاية، وهو ما يمنح النجمة فرصة لاستعراض "الإمكانيات"، خاصة النواح والعويل من جانب، والدلال والرقص من جانب آخر.
ترك هذا الاصطناع في الكتابة أثره الفادح على التمثيل، ليأتي في أسوأ حالاته على الإطلاق، ولن تصدق مثلا أن لوسي التي قدمت أفضل أدوارها مع داوود عبد السيد في "سارق الفرح"، أو أسامة أنور عكاشة في "أرابيسك"، هي ذاتها التي تؤدي هنا بشكل مفرط في المبالغة: تنطق ببطء وصخب وتشيح بالأيدي وتنظر بتحديق، ولن يفلت أي من الممثلين الآخرين من هذا الأسلوب، فهم يقفون في صف واحد كأنهم على خشبة مسرح، وينتظر أحدهم في صمت وسكون حتى يأتي دور سطر حواره فإذا به يتحرك وينطق فجأة!!
كانت "سمارة" القديمة رمزا للبراءة التي وضعتها الظروف في "جو أسود رهيب"، لذلك أصبحت "فولكلورا" لأن المتلقي تعاطف معها وأراد لها أن تنجو من هذا السياق، وحتى عندما ماتت في نهاية المسلسل الإذاعي أحب الجمهور أن تنجو ليظهر لها جزء ثان. أما الحال في المسلسل التليفزيوني، فالبداية والنهاية هي "الفرجة" وليس التعاطف، وتلك من آفات الدراما المصرية في الفترة الأخيرة، لذلك إذا ماتت سمارة في نهاية الحلقات لن يتأثر المتفرج، ولن يشعر بالحنين إلى أن تنجو مثل هذه البطلة من الموت!!

Saturday, August 06, 2011

مسلسل "دوران شبرا" عن دراما التشابه والاختلاف


من الرموز الشائعة في عالم السرد الروائي والدرامي في مصر في الفترة الأخيرة رمز "العمارة"، أو البناية التي تضم قطاعات مختلفة من الناس، حتى أنها تصبح تجسيدا لوطن كامل في لحظة معينة. ولعل شهرة رواية علاء الأسواني "عمارة يعقوبيان" كانت دافعا لظهور مزيد من هذه الأعمال، وإن لم تكن "يعقوبيان" هي الأولى في هذا المجال، وربما لا يتذكر المتفرج مثلا فيلم جلال الشرقاوي في النصف الثاني من الستينيات "الناس اللي جوه"، الذي كان بدوره نوعا من المحاكاة لمسرحيتي نعمان عاشور "الناس اللي تحت" و"الناس اللي فوق". ومنذ سنوات قليلة ظهرت رواية نعيم صبري "شبرا"، لتعرض في نسيج رقيق كيف أن المصريين المسلمين والمسيحيين يتعايشون معا عبر الأجيال.
وإذا بدا لك للوهلة الأولى أن هناك تشابها بين هذه الرواية ومسلسل "دوران شبرا"، الذي كان اسمه "شبرا" فقط قبل أن يغير صناعه اسمه حتى لا تثبت شبهة التشابه، فإن هذا لا يبخس المسلسل حقه أبدا، فهو بكتابة عمرو الدالي، وإخراج خالد الحجر، يدرك جيدا ما هي صنعة الدراما، التي تبدأ بخلق شخصيات من لحم ودم، لا تقع في الإطار النمطي للأخيار والأشرار، وهي تتلاقى وتتباعد، تتحالف وتتصارع، وتغير من مواقفها مع تغيرات الأحداث، وبذلك فإنها تظل تشد المتلقي إليها دائما، وهي سمة من النادر أن تتحقق في الآونة الأخيرة في الدراما المصرية، التي فقدت للأسف أهم الأبجديات الدرامية.
دعنا في البداية نتوقف قليلا عند "جغرافية" العمارة القديمة في حي شبرا القاهري: هناك بدروم تسكن فيه عائلة من يحرسون العمارة، وفي القلب منها المرأة الشابة عزة (حورية فرغلي) التي سوف نعرف على الفور أنها تحملت عشر سنوات من غياب زوجها ناصر (هيثم زكي) في السجن، ظلت خلالها تعمل خادمة لدى سكان العمارة، لتربي أيضا الفتى يوسف شقيق زوجها الذي أصبح الآن صبيا يافعا، ولتتلقى دائما تبكيت أمها مبروكة (حنان يوسف)، التي تبيع الخضار أمام باب العمارة. أما في الطابق الأول فهناك شقتان متجاورتان، لامرأتين تقتربان من خريف العمر، الأولى هي المسيحية لولا (دلال عبدالعزيز)، زوجة عزيز (سامي العدل) صاحب محل العطور، وأم ابنها الوحيد أشرف (أحمد عزمي) الذي يتلقى منها التدليل على الدوام. أما الشقة الثانية فتسكنها المسلمة أم سامي (عفاف شعيب)، وأولادها سامي الذي يعمل في إحدى دول الخليج وعاد لتوه منها خاوي الوفاض، وهاني موظف البنك الذي يجتهد للبحث عن شقة ليتزوج من زميلته، وعماد (محمد رمضان) الذي يبدو عابثا لكنه في الحقيقة يبحث لنفسه عن مكان تحت الشمس التي لا يكاد يراها، لأنه يعمل عملا ليليا في "سوبرماركت"، بمرتب لا يكفي نزواته العابرة، ويحلم بالسفر ليحقق الحرية التي يحلم بها. وإلى جانب هاتين العائلتين هناك رفعت (بطرس غالي)، الأرستقراطي العجوز الذي يعيش وحيدا، حتى تأتيه في الأجازة حفيدته نورا لتقضي الصيف معه. وفي الأعلى يقيم المدرس زيدان (زكي فطين)، الأعزب الذي يخفي عن جيرانه استقباله في منتصف الليل بعض فتيات الشوارع.
برغم الاختلاف بين أفراد هذه "الشريحة" من المجتمع المصري، سواء في الطبقة أو الديانة أو العمر أو حتى النظام الأخلاقي، فإنهم جميعا يكونون نسيجا واحدا، وهو ما يعبر عنه المسلسل بالعديد من الطرق. تأمل مثلا كيف أن صلاة الصبح تربط الشخصيات معا في لقطات تنتقل بينهم كأنها لقطة واحدة متصلة، لا فرق بين أبناء دين وآخر، أو قارن كيف أن أغنية تنطلق من المذياع تربط بين أحد المشاهد والمشهد التالي له حتى لو تغيرت الشخصيات. وربما سوف تتكرر كثيرا تلك العادة في المجتمعات المصرية التقليدية (وحي شبرا من أهم هذه المجتمعات) عندما تنفتح البيوت على بعضها في الأتراح والأفراح.
تمضي الأحداث بتلقائية ونعومة لأنها أحداث الحياة اليومية، المعتادة منها والاستثنائية. يخرج ناصر من السجن مثلا، وهو الذي كان شقيا "بلطجيا" لكنه قرر التوبة خلال سجنه، إنه يحلم بحياة كريمة يكسب فيها رزقه بعرق جبينه، لكن الواقع لا يتركه في حاله، ليجد نفسه ممزقا من ناحية بين سلطة يجسدها ضابط المباحث عمر (أحمد كمال)، الذي يريد أن يعمل ناصر لديه مرشدا، مع تهديد أمين الشرطة رضا الذي يحمل ثأرا قديما لأن ناصر ضربه "علقة" قبل أن يدخل السجن، ومن ناحية أخرى هناك حسن ماريكا، زميل ناصر القديم الذي يريد أن يعود لمشاركته طريق الخروج على القانون. اختيار صعب يعيشه ناصر، ولا يجد من يحميه سوى الجماعات الدينية التي لا يعرف هدفها الحقيقي، لكنها تتيح له على الأقل ما يكفيه لكي يعيش حياة كريمة.
قصة ناصر تلك تمثل نموذجا للدراما المكتوبة والمنفذة بشكل جيد، فالصراع بداخل الشخصية وخارجها معا، وسوف يحملها المسلسل (كما سوف تحمل المسلسل) إلى مستويات جديدة من الصراع، حين يقرر ناصر أن يخوض التجربة المريرة والخطيرة للتلاعب بأطراف الصراع. كما أن قصة الشاب أشرف بدورها تمثل نواة درامية أخرى: إن أباه عزيز سوف يلفظ أنفاسه الأخيرة في صباح عادي من الأيام العادية، بينما هو يضحك على نكتة ألقاها عليه صبي المقهى، وهو الموت الذي سوف يجعل الابن أشرف يواجه الحياة بجدية ربما للمرة الأولى في حياته، ليكتشف أن أباه مدين بمبلغ كبير للبنك، فيقرر أن يحول محل العطور لنادٍ إلكتروني بإيعاز من ماجدة، الشابة التي تغريه بالزواج منها واحتوائه بما يجعل أمه – لولا – تشعر بالأسى من هذا المصير.
إنك لا تستطيع أن تلوم الأم لولا على مشاعرها، لكنك أيضا لا تستطيع أن تلوم الابن أشرف على تصرفه، بل إنك لا تشعر بالكراهية تجاه ماجدة، فهي شخصيات درامية كاملة، وكل منها لديها دوافعها التي لا يساورك الإحساس بالشك في صدقها. إن هذا يمتد أيضا لعائلة أم سامي وأبنائها الثلاثة، الذين سوف يتواجهون في لحظة صراع قاسية على الشقة، التي يبدو بيعها للجميع كأنه الحل الوحيد لمشاكلهم أو أنها سبب مشاكلهم، ومن المشاهد عميقة التأثير في المسلسل ذلك المشهد الذي تلجأ فيه أم سامي للمسجد، وتبحث جارتها لولا عنها فيه حتى تجدها، لتبدو لك المرأتان وجهين لعملة واحدة، فليس هناك في الحقيقة أي اختلاف بينهما على عكس ما يبدو على السطح: نفس السعادة، ونفس الشقاء.
التشابه والاختلاف في آن هو سر حيوية مسلسل "دوران شبرا"، ففيهما يتحقق الصراع الدرامي بشكل راقٍ. كما أن المسلسل يحتفظ ببعض الشخصيات التي تبدو ثانوية، حتى يأتي أوان استخدامها بشكل أكثر درامية، فتكتشف أنها في الحقيقة شخصيات رئيسية على نحو ما، ولعل شخصية سمية، شقيقة عزة الأصغر، تجسد هذا الدور، فهي تظهر في الحلقات الأولى بشكل عابر، لكنها تصبح محور بعض اللحظات والصراعات، إنها تحاول التلاعب بطريقتها بمراهقي الحي، الذين يغازلونها ولا تصدهم ربما سعيا إلى هدية تافهة أو نزهة عابرة، لكن ذلك قد يجر الأحداث إلى صراع أعمق وأكثر شراسة وعنفا. وبنفس القدر تلعب نورا، حفيدة رفعت الزائرة من فرنسا، دورا مهما في حياة الصبي يوسف (شقيق ناصر)، لكن صداقتهما البريئة تشعل نارا بين الفرقاء، كما تثير لدى المتفرج أسئلة جوهرية حول ما يجمع أو يفرق بين أبناء الوطن الواحد.
بين المستوى الواقعي لمسلسل "دوران شبرا"، والمستوى الرمزي له، علاقة وثيقة، والعمارة هنا هي الوطن، في لحظة فارقة من حياته، حيث الكل في مفترق طرق، تبدو مسالكهم متباعدة مشتتة، لكنها في الحقيقة طريق واحدة، لكن إداركها يعتمد على قدرتنا على فهم أن ما يوحدنا أعمق ألف مرة مما يبدو أن يفرِّق بيننا.

Wednesday, July 20, 2011

أسطورة البطولة المطلقة



شاعت في الفترة الأخيرة في الصحافة الفنية المصرية تعبيرات غريبة، إن كانت قد فاتت على صحافي مبتدئ فلا ندري كيف فاتت على الصحافيين الكبار، مثل تعبير "السيرة الذاتية"، التي يقصدون بها الأعمال التي تتناول سيرة حياة أحد المشاهير، أما "الذاتية" فلا تطلق إلا على من يكتب سيرة حياته بنفسه. وبالمثل أصبح تعبير "البطولة المطلقة" شائعا بدرجة تثير الضحك، وهو تعبير لا يمكن ترجمته إلى أي لغة في العالم، فهل يعنون به أن الممثل الفلاني أو الممثلة الفلانية سوف تمثل الفيلم وحدها، بدون أبطال آخرين أو شخصيات ثانية أو ثانوية، أو ربما أيضا بدون ديكور أو "أكسسوار" ما دامت البطولة "مطلقة"؟!!
يتجاهل هذا التعبير – ولعله يجهل – أن السينما، كأي نشاط في الحياة، لا تعتمد أبدا على أي وجود "مطلق" لشخص ما، ولا يمكن لجسد أن يعيش بنوع واحد من الخلايا أيا كانت درجة أهميتها. ودائما ما كانت الأدوار الثانية والثانوية في الأفلام عميقة التأثير على البناء الكلي للفيلم، ناهيك عن أن هناك أفلاما – ربما توقفنا عندها في مقال لاحق – تقوم على عدم وجود "بطولة" من أي نوع لشخصياتها. تعال نتذكر مثلا عبد الوارث عسر في دور الأب لعبدالحليم حافظ في "الوسادة الخالية"، دور قصير لكنه يجعل قصة الحب تقف على أرض الواقع الخاص بالطبقة المتوسطة آنذاك، و"التيمة" الرئيسية للقصة هي ذلك بالتحديد: أنه لا وجود حقيقيا لأي قصة حب إذا لم تضرب بجذورها في واقع الحياة.
أعرف أنك تملك ياعزيزي القارئ عشرات الأمثلة على هذه الأدوار الثانية المهمة، مثل حسين رياض في "شارع الحب"، أو زكي رستم في "الفتوة"، أو فريد شوقي في "السقا مات" أو "خرج ولم يعد"، أو صلاح منصور في "الزوجة الثانية"، ومئات الأدوار الأخرى. إننا نتحدث هنا عما يسمى "الأدوار المساعدة"، التي أصبحت من الأهمية بحيث يخصصون لها جوائز خاصة في المهرجانات العالمية. وفي الأغلب الأعم فإنها الأدوار التي تصبح نمطية، وتلتصق بالممثل من فيلم إلى آخر، مثل دور الأب والأم والحماة والصديق (السنّيد) والطبيب والشرير والراقصة، إلى آخر هذه الشخصيات، لكن قيمة الممثل الحقيقية تأتي من قدرته على تقديم تنويعه الخاص لهذه الشخصية النمطية، وخروجه أحيانا منها لكي يؤدي أدوارا أكثر عمقا ورحابة.
من بين من قاموا بالدور النمطي لشخصية تلقي بظلال قاتمة على الحبكة صلاح نظمي مثلا، فهو "العزول" بين الحبيبين، وعندما تقدمت به السن قدم فيلم "الجحيم" في دور الزوج الثري الذي تعتبره الزوجة وعشيقها عقبة في طريقهما فيقرران التخلص منه. لكن تأمل كيف أخذ عادل أدهم هذه الشخصية نفسها لتصبح أكثر تأثيرا، في بعض الأحيان من خلال المبالغة الكاريكاتورية المقصودة، وأحيانا أخرى بإضفاء ملامح إنسانية مرهفة عليها. من جانب آخر كان أشهر أشرار السينما المصرية هو محمود المليجي، الذي تكفي نظرة عينه، ورفع حاجبه، لترتعد فرائص ضحيته، لكن انظر كيف أنه قام بأدوار بالغة الرهافة والقوة معا في "الأرض" مثلا، حتى أن الفلاح محمد أبو سويلم أصبح "فولكلورا" لدى جمهور السينما العربية، ورمزا لمقاومة الرجال للظلم والقهر. هل أذكرك أيضا بممثل اسمه "عدلي كاسب"؟ تراه في فيلم "السفيرة عزيزة" في دور الجزار الذي يسيطر على شقيقته (سعاد حسني) طمعا فيما ورثته، حتى أنه يكاد أن يمنعها عن الزواج من الجار الطيب حبيب القلب (شكري سرحان)، ففي هذا الدور يصبح عدلي كاسب كالعاصفة الهوجاء التي لا تبقي ولا تذر، لكنه يظهر على العكس تماما في أفلام كوميدية مثل "عائلة زيزي" أو "سر طاقية الإخفاء".
هؤلاء الممثلون الذين يجري تصنيفهم على أنهم ممثلو الأدوار الثانية هم الرصيد الحقيقي الذي تملكه أي صناعة سينما، وبدونهم تصبح الأفلام "استعراض الشخص الواحد" كما هو الحال اليوم في صناعة السينما المصرية. وبقدر اتساع قاعدة هؤلاء الممثلين في الماضي ضاقت رقعتهم اليوم بشكل لا يصدق، إن أردت مثلا واحدا لشخصية أكبر في العمر فلن تجد سوى حسن حسني، وأحيانا صلاح عبد الله، وهما لا يفعلان سوى إلقاء سطور الحوار بطريقة هزلية وبدون الإحساس بأي شخصية فنية مرسومة لدوريهما، ليس لأنهما يفتقدان موهبة وحرفة التمثيل، فحسن حسني هو الذي أدى دور "رُكْبة" في فيلم داود عبد السيد "سارق الفرح"، ذلك الرجل الأعرج الذي يتمنى أن يطير في أجواز الفضاء، وصلاح عبد الله هو "المخبر" في فيلم داود أيضا "مواطن ومخبر وحرامي"، ليصبح معادلا لسلطة ثقيلة اليد بليدة الفكر.
بل إن أهمية أصحاب الأدوار الثانية تأتي أيضا من أنها مرحلة التكوين لقطاع كبير من الممثلين والممثلات، وربما كان النموذج الأهم هو فريد شوقي، الذي بدأ رحلة حياته في أدوار بلا اسم، حيث كان يطلق عليه فقط "رجل العصابة"، وعبر سنوات أثبت أنه قادر على أداء أدوار أكثر تركيبا، ليصبح في مرحلة لاحقة "ملك الترسو" بتعبيرات تلك الأيام. كذلك اسماعيل ياسين الذي استمر عشر سنوات في أدوار صغيرة قبل أن يصبح أول ممثل مصري تكون له سلسلة أفلام تحمل اسمه الحقيقي. وهو الأمر الذي ظل القاعدة لسنوات طويلة في السينما المصرية، فقد انتقلت شادية مثلا من دور الأخت أو الصديقة إلى أدوار البطولة، كذلك فؤاد المهندس ومحمد عوض اللذين كانت لهما أفلامهما الخاصة بهما، بعدما كانا مجرد مضحكين صغيرين في عشرات الأفلام. وحتى السبعينيات كان نور الشريف أو عادل إمام يقومان بهذه الأدوار الثانية، قبل أن يصبح الأول بطلا في عشرات الأفلام الجادة، ويحتل الثاني قمة الأفلام الكوميدية التي ما يزال يتشبث بها. لكن ما الذي حدث في الفترة الأخيرة؟
إن شئت الحقيقة فإن ما حدث في السينما كان انعكاسا لما يحدث في المجتمع ككل، فإذا لم تكن القيمة الوحيدة للإنسان مستمدة مطلقا من موهبته أو مهاراته، بل من السلطة التي يملكها، سلطة الحكم أو سلطة المال، وحيث تختفي كل المعايير الحقيقية والعادلة التي تسمح بالصعود الاجتماعي لمن يستحق ذلك بالفعل، فقد ظهر السعي إلى تلك الأسطورة التي تحمل مصطلح "البطولة المطلقة". ومثلما تجد في واقع الحياة "أبطالا مطلقين" ظهروا فجأة على سطح عالم السياسة والمال، بدون أن تعرف من اين أتوا بما يملكون، فإن الكثيرين من العاملين في مجال السينما تملكتهم هذه الرغبة أيضا في الصعود بأي ثمن.
بالأمس حاول ممثل مثل طلعت زكريا أن ينتقل من صفوف الممثلين الثانويين إلى صفوف البطولة، وليس في هذا أي عيب، لكن المشكلة تأتي من استخدام وسائل بعيدة تماما عن الفن والموهبة، ولعلك تعرف ما آلت إليه محاولاته الآن. وفي سياق قريب تجد محاولات الصعود من رامز جلال، وماجد كدواني، وخالد سرحان، وعشرات غيرهم، وكانت جميعا محاولات فاشلة.
السبب ليس أنهم أقل في إمكاناتهم ممن أصبحوا أبطالا لأعمال فنية، لكن السبب يكمن في السياق العام، سياق يقلل من أهمية الأدوار الثانية والثانوية برغم أهميتها. تأمل مثلا كيف أن ميريل ستريب، الممثلة والنجمة، لا ترفض أدوارا مساعدة في أفلام مثل "ساعات" أو "اقتباس"، كذلك فرانسيس ماكورماند في "تربية أريزونا"، أو صامويل جاكسون في "قصة شعبية رخيصة"، أو جورج كلوني وبراد بيت ومات ديمون في سلسلة أفلام "عصابة أوشان".
كلمة السر هنا هي أنه لا يوجد شيء اسمه "البطولة المطلقة"، وفي الحياة والفن توجد أعمال حقيقية يقوم فيها كل منا بدوره، لا فرق بين دور كبير أو صغير، وقد تتغير الأدوار من وقت إلى آخر، ليس المهم من قام بالبطولة، لكن المهم أن ينجح العمل ككل، وهذا ما يجب أن نسعى إليه، أن تكون لدينا أفلام، وأن يكون لدينا وطن.