Wednesday, January 19, 2011

فيلم "سحب مع توقع سقوط شطائر اللحم"


كلما رأيت فيلما أمريكيا من أفلام التحريك المعاصرة زادت دهشتي، فصناع هذه الأفلام على اختلاف أساليبها وشركاتها المنتجة لا تخلو أعمالهم أبدا من رسالة، برغم أن المفهوم الشائع أنها أفلام موجهة للأطفال وبالتالي فإنها للمتعة فقط، وهذا للأسف مفهوم خاطئ عن الفن، تسمعه من بعض فنانينا الذين يُفترض أنهم يصنعون أفلاما للناضحين من المتفرجين، فيزعم الفنانون أنهم لا يبحثون إلا عن المتعة، التي تعني في اعتقادهم "الهيافة"، أو قل في أفضل الأحوال تضييع ساعتين من وقت وعمر المتفرج، بزعم أن الهدف الوحيد هو "الضحك". في مقابل ذلك تأمل أفلام التحريك الأمريكية فلا تجد هذا الانفصام بين المتعة والرسالة، بل لعلهم يدركون أن الرسالة تصبح أكثر أهمية وخطرا عندما توجهها للأطفال، وهذا هو ماسوف تجده تحت السطح من فيلم "سحب مع توقع سقوط شطائر اللحم".
لعلك لاحظت أن عنوان الفيلم يشبه على نحو ساخر عبارات النشرة الجوية، وملاحظتك في محلها، إذ أن الفيلم يحكي عن مدينة تعيش على سمك السردين في كل طعامها، وهاقد أتت لهم أخيرا من السماء "معجزة" أن تتساقط أنواع الطعام المختلفة فوق رؤوسهم كأنها المطر المنهمر، فماذا ترى سوف يصنع هذا التغيير في حياتهم؟ ومن تلك "الفرضية" الفنية يصنع الفيلم عالما كاملا يكاد أن يضم بين جنباته الكثير من حقائق الحياة، البسيطة منها والمعقدة على السواء. والفيلم يعتمد على قصة مصورة ظهرت خلال الثمانينات، كتبت سطورها جودي بارنيت، ورسم رسومها رون بارنيت، وكتب سيناريو الفيلم وأخرجه فيل لورد وكريستوفر ميلر. ويكاد الفيلم في أجزاء عديدة منه أن يحاكي بعض هذه الرسوم، وهو في ذلك يسير في طريق سارت فيه السينما الأمريكية منذ أن قررت تحويل شخصيات القصص المصورة إلى أفلام، بدءا من زورو ومرورا بكل الأبطال الخارقين مثل سوبرمان وباتمان وسبايدرمان، ولقد امتدت هذه النزعة حتى إلى قصص أكثر جهامة، مثل "الطريق إلى الهلاك" من إخراج سام مينديز، أو "مدينة الخطيئة" من إخراج روبرت رودريجيز، تلميذ كوينتين تارانتينو النجيب.
تبدأ الحدوتة في "سحب مع توقع سقوط شطائر اللحم" مع طفل يدعى فلينت، يحلم أن يصبح مخترعا وإن كانت اختراعاته تنهي عادة بنوع من الكارثة المضحكة. إنه على سبيل المثال يحاول أن يحل للأطفال من أقرانه مشكلتهم في انحلال أربطة أحذيتهم، بأن يجد توليفة تحكم هذا الرباط، لكنها تتحول إلى لاصق للحذاء نفسه في القدم، حتى يستحيل خلعه أبدأ! ومرة أخرى "يخترع" فئران طائرة، فإذا بها تهاجم البلدة في أسراب كثيفة، لذلك فإن بطلنا الصغير فلينت لا يجد من أبيه تيم (صوت الممثل المخضرم جيمس كان) إلا التبكيت، بينما تشجعه أمه فران (صوت لورين جراهام)، التي تهديه معطفا أبيض يعطيه مظهر العالم، إن المعطف فضفاض عليه بشكل مضحك، لكنه سوف يصبح على مقاسه عندما يكبر (صوت بيل هيدر)، ويستمر في اختراعاته العجيبة، حتى بعد أن توفيت والدته ولم يعد هناك أمامه إلا اللوم الدائم من أبيه الذي يعقد حاجبيه دائما، حتى أن عينيه تختفيان تحت حاجبيه الكثيفين، ذلك لأن الأب يريد من الابن أن يتوقف عن هذه الأحلام، ليساعده في محل يخدم صناعة صيد السردين.
في هذه الخطوط الرئيسية التي يقدمها الفيلم في دقائقه العشر الأولى جوهر الصراع الدرامي، مع طرح ذكي للرسالة الخاصة بالفيلم، في مستواها البسيط والمعقد على السواء. تأمل على سبيل المثال هذه الأفكار: هل لأنك صغير فإنه يجب أن تتوقف عن أحلامك، خاصة إذا كانت لا تسير في التيار السائد الذي يريدونك أن تسير فيه، لكي تكرر مسيرتهم المعتادة؟ هل تستسلم للفشل إذا خابت تجاربك الأولى وسخر منك الآخرون؟ والسؤال الأعقد هنا – وأرجو أن تتذكر أن الجمهور المستهدف معظمه من الأطفال – هو إذا ماكان عليك أن تسمع نصيحة الأب لأن المفترض أنه يعرف الواقع أكثر منك؟ وهذا السؤال الأخير على نحو خاص سوف نؤجل البحث عن إجابته حتى يمضي الفيلم في أحداثه وتطوراته الدرامية.
فلنمضِ أولا مع الأحداث، ونرسم صورة المدينة التي تعيش فيها شخصيات الفيلم، إتها جزيرة صغيرة لا تننتج إلا الأسماك التي كانت تُصدِّرها إلى أنحاء العالم، لكنه الأمر الذي يعاني الآن من الكساد، حتى أن أهل البلاد لا يعيشون إلا على السردين الذي يصنعون منه كل أنواع مأكولاتهم. يبدو الجميع راضين بهذه الحياة، ولكنه الرضا الذي سوف يتضح أنه ليس صادقا تماما. لقد كبر بطلنا فلينت الآن وأصبح شابا يافعا، ولا يزال يمضي في اختراعاته الفاشلة التي تثير سخرية الآخرين، وفي تناقض له دلالته نرى أن بطل المدينة المشهور شخص مفتول العضلات، تتجمع حوله الفتيات في إعجاب بينما لا يستطيع فلينت أن يثير اهتمام إحداهن، كما أن هذا "النجم" يصحب العمدة شيلبورن (صوت بروس كامبيل) في كل مكان حتى يزيد من الشعبية السياسية للعمدة، الذي يبدو شخصا ضحلا في تفكيره حول مشروعاته لاجتذاب السائحين إلى الجزيرة.
سوف يصبح عمدة المدينة في التطور الدرامي للفيلم هو "الشرير" المضاد للبطل، وإن يكن ذلك بشكل لا يتسم بالعمق، لكنه كان كافيا بالنسبة للجمهور من الأطفال لكي يدركوا كيف يمكن للسياسة أن تصبح نوعا من التلاعب بمصالح الناس بدلا من أن تعمل لصالحهم. وسوف يبدو ذلك واضحا عندما يستكمل البطل فلينت اختراعاته العجيبة، بصنع آلة تصنع مختلف أنواع الطعام من الماء، ولإنه يحتاج لصنعها إلى طاقة كهربية عالية، فخلال احتفال يقيمه العمدة لاجتذاب السياح إلى المدينة، يتسلل فلينت إلى محطة الطاقة، وكعادته في تصرفاته الخرقاء يطير الاختراع إلى السماء، ويتحول إلى فرن هائل يحول السحب إلى طعام، ويكفي للمرء أن يفكر في نوع ما من الأطعمة لكي يجده ينهمر من السماء!
هل هناك حلم "ألذ وأشهى" من ذلك الاختراع؟ لكن مهلا، فالإنجازات العلمية لا تكفي لكي تحقق أحلام الناس كما ينبغي لها أن تكون، ودائما ما يحتاج العلم إلى "الأخلاق" لكي تتوجه الاختراعات الجديدة إلى اتجاهها الصحيح، وتلك رسالة أخرى من رسائل الفيلم. إن اختراع فلينت يبدو للجميع كأن يحقق عالما يشبه الجنة، لكن في أي شيء يفكر البشر؟ سوف يفكرون في كل الأطعمة التافهة التي لا تغني أو تسمن: شطائر "الهامبورجر" أو "البيتزا" أو "الاسباجتي"، تنهمر كأنها المطر فوق رؤوس الجميع فيسري الابتهاج في المدينة التي عاشت أعواما طويلة على السردين وحده.
مرة أخرى تجد بين السطور أفكارا أكثر عمقا مما تبدو في الظاهر: هناك مجتمعات تعيش حالة من التقشف نتيجة ظروف اقتصادية خاصة، ومن بين هذه الظروف على سبيل المثال تخصيص الجانب الأكبر من الموارد للتصنيع، وعادة ماتشعر هذه الشعوب بالحرمان نتيجة هذه السياسات دون أن تنظر إلى الهدف المستقبلي البعيد، وتتلاعب دول أخرى بمشاعر الحرمان تلك لكي تجعل الشعوب تفقد إيمانها بوطنها، تماما كما حدث خلال الحرب الباردة بين الكتلتين الشرقية والغربية، وهاهي دول المعسكر الشرقي قد انهارت لأن شعوبها استولى عليها الشعور بافتقاد كل السلع الاستهلاكية التي يتمتع بها أبناء النظم الرأسمالية، فهل بعد أن غزت تلك السلع بلدان الشرق تحقق لها "الرخاء" المأمول؟ إن ذلك يذكرنا بما حدث في بعض البلدان العربية التي فقدت خطط تصنيعها لكي تتحول إلى الاقتصاد الاستهلاكي، وأنت تعرف جيدا ما آلت إليه هذه البلاد على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والسياسي. وربما تساءل القارئ: وهل يمكن لفيلم أمريكي موجه للأطفال أن يحتوي على هذه الأفكار "التقدمية"؟ وأرجو أن يحاول القارئ أن يعيد مشاهدة أفلام التحريك التي صنعتها شركة بيكسار الأمريكية، مثل "شركة الوحوش المتحدة" أو "حياة حشرة" لكي يرى كيف أن هذه الأفكار السياسية التقدمية تسري في هذه الأفلام.
سوف يتحول اختراع فلينت إلى كارثة، حين يتحول انهمار الطعام من السماء إلى فيضانات وموجات من الإعصار، ويمكنك أن تلاحظ في خلفية الصورة كيف أن نشرات الأخبار التليفزيونية تذيع أنباء عن حرب العراق تارة، وعن إعصار كاترينا تارة أخرى، لتدرك أن صناع الفيلم يقصدون هنا مجتمعا تحول إلى الرأسمالية الاستهلاكية تماما، وهو الأمر الذي يتجسد في العمدة رجل السياسة، الذي لا يتوقف عن التهام الطعام وما يزال يطلب المزيد، إنه يصبح بدينا على نحو لا يصدق، حتى أنه يتحرك على كرسي ذي عجلات، ومع ذلك فإنه يريد من فلينت أن يزاد انهمار الطعام من آلته العجيبة فوق المدينة، بزعم أن ذلك سوف يجعل السائحين يأتون إلى الجزيرة أفواجا، وأرجو أن تتأمل مصير هذا العمدة في نهاية الفيلم (وهنا أرجوك أن تبقى في دار العرض لتشاهد بعض اللقطات بعد نزول العناوين الأخيرة)، إن العمدة يسبح في الفيضان على طوف مصنوع من الطعام، إنه لا يتوقف عن التهامه، لذلك فإن الطوف نفسه يتآكل، ليغرق العمدة نتيجة شراهته التي بلا حدود، بما يذكرك بتعبير "الرأسمالية المتوحشة" التي تأكل نفسها إن لم تجد ما تأكله!
لن يجد بطلنا فلينت مفرا من أن يطير بنفسه إلى قلب الآلة العجيبة، التي تشبه جحيما حقيقيا، تصحبه في هذه الرحلة الخطرة صديقته الجميلة سام (أنَّا فاريس)، الصحافية التليفزيونية التي أتت للمدينة لتغطية بعض الأخبار، ونكتشف أنها كانت في الماضي مذيعة للنشرة الجوية، لكنها تعاني من فقدان الثقة بالنفس، وهي الثقة التي تستعيدها مع فلينت في الوقت الذي تؤكد له أيضا ثقته في نفسه. سوف يحاول فلينت أن يوقف الآلة الجهنمية عن إغراق الأرض بالطعام إلى الحد الذي يتحول فيه هذا الطعام إلى أكداس من القمامة، ومن خلال هذه المحاولة سوف يستعين فلينت بأبيه في مشهد شديد الإثارة، وسوف تلاحظ أن صانعي الفيلم قد نثروا مشاهد الحركة المثيرة خلال الفيلم في نوع من إبهار المتفرجين من الأطفال، وإن كانت بعض هذه المشاهد تتحول أحيانا إلى نوع من رحلة الملاهي التي تخلو من الدراما وإن لم تكن تخلو من المتعة، مثل المشهد الذي يسبح فيه فلينت وصديقته سام فوق "الجيللي" وبداخله، كأنه حلم مبهر جميل بفقدان الشعور بالجاذبية الأرضية.
هناك حيلة درامية بارعة ليتنا نتعلم منها في كتابة سيناريوهات أفلامنا، وهي ما يسمى "زرع" وسائل حل الأزمة الدرامية منذ بداية الفيلم، فإن كنت تذكر اختراعات فلينت الفاشلة في مستهل الأحداث، مثل لاصق رباط الأحذية، أو الفئران الطائرة، فتلك سوف تكون هي بعض الأدوات التي يستخدمها صناع الفيلم للوصول إلى النهاية السعيدة، ناهيك عن حل الصراع بين الأب والابن في اختلاف أفكارهما، لقد أدرك الابن في النهاية أن الأب كان على "بعض" الحق في ألا ينساق المرء أمام أحلامه دون أن يكون لديه هدف أخلاقي، كما أن الأب سوف يدرك أيضا أن الابن على بعض الحق في أن يحلم بواقع مختلف عن الواقع السائد، إن الأب قد لا يصرِّح بذلك، لكن فلينت كان قد اخترع آلة تحول الأفكار إلى كلمات منطوقة، وهاهي أفكار الأب يتم الإفصاح عنها في تدفق لتعرب عن إعجابه بذكاء وشجاعة ابنه، في مشهد عاطفي مؤثر يحقق التوافق بين مواقف الجيلين التي تبدو في ظاهرها متعارضة.
بقدر الإعجاب بأن فيلما للأطفال يحتوي على هذه الأفكار والرسائل الناضجة، فإن المرء يشعر بالأسى تجاه الكثير من أعمالنا الفنية التي تعامل جمهورها من البالغين باعتبارهم أطفالا لا يملكون عقولا! ولقد أدركت الكثير من أفلام التحريك الأمريكية في الآونة الأخيرة أهمية الرسالة التي يحملها العمل الفني، وهي في طريقها لتحقيق ذلك تجمع بين المتعة والجدية، ولتتأمل على سبيل المثال كيف أن الفيلم يجعل بطله يفقد أمه التي تموت قبل أن ترى حلمها يتحقق، وكأن الفيلم يزرع في الطفل بعض حقائق الحياة القاسية، وتأمل أيضا كيف يمكن للأحلام أن تتحول إلى كوابيس إن لم يكبح الإنسان جماحها، من خلال القيم الأخلاقية والإنسانية، لذلك كله نرجو من أعمالنا الفنية أن تتعلم من مثل هذه الأفلام كيف يمكن أن تجمع بين المتعة والرسالة، وأن تتذكر أن الفن، أي فن، ومهما كانت بساطته، يسعى دائما إلى الحق، والخير، والجمال.