Tuesday, May 17, 2011

أحبك يا نيويورك


يقولون عن مدينة نيويورك: إما أن تقع في غرامها إلى حد الجنون، أو أن تكرهها كما لم تكره من قبل! هذا ببساطة هو أيضا حال فيلم "أحبك يا نيويورك"، المؤلف من إحدى عشرة قصة تدور جميعها في هذه المدينة التي يصفونها دائما بأنها تجسيد لفكرة "الكوزموبوليتانية"، حيث تجتمع كل الأجناس والأعراق والقوميات والنزعات والأخلاقيات والطبقات، فلا تدري إن كان ذلك يؤدي في النهاية إلى نسيج متناغم واحد، أم أن التنافر يكون هو العنصر الذي يجمع بين هذه المتناقضات.
رأيت فيلم "أحبك يا نيويورك" مرات عديدة، وفي كل مرة أقارنه مع فيلم "أحبك يا باريس"، قرينه السابق في سلسلة أفلام "مدن الحب" المزمع إنتاجها الواحد بعد الآخر (هناك قيد الإنتاج فيلمان عن "ريو" و"القدس")، وأجدني أحب "باريس" أكثر من "نيويورك"، لا أقصد المدينتين وإنما الفيلمين، وأتساءل عن السبب، فالأسماء وراء الفيلم الأمريكي لا تقل لمعانا عن صناع الفيلم الفرنسي. لكن برغم تنوع الأساليب في "باريس"، فقد كانت هناك وحدة فنية خفية تربط بين الفقرات والأفلام القصيرة، أما في "نيويورك" فقد كانت القفزات تأخذك هنا وهناك في نوع من التشتت، لعله كان مقصودا للإيحاء بتلك اللوحة النيويوركية التي تضم شتاتا من البشر، لكن ذلك التشتت قد يترك أيضا أثرا سلبيا على المتلقي عندما يخرج من قاعة العرض، فلا تبقى في ذاكرته إلا القليل من القصص والشخصيات، على عكس "باريس" الذي تصحبك فيه شخصياته لأيام طويلة.
في الفن هناك دائما قاعدة ذهبية (من بين قواعد أخرى عديدة)، فالعمل الفني الناجح هو الذي يكون في مجمله أكبر من مجموع أجزائه. إنك مثلا قد تعجب ببيت أو اثنين من قصيدة، لكن القصيدة تكون أكثر اكتمالا عندما تترك فيك أثرها ككل، وبالمثل فإنك قد تنبهر في السينما من براعة التصوير أو جمال الموسيقى، لكن ذلك ليس هو "الفيلم"، تماما كما أنك قد ترى عيني امرأة فتراهما أجمل عيون في العالم، لكن "وجها" أبسط وأقل جمالا لامرأة أخرى قد يفتنك أكثر لأن فيه روحا ناعمة من التناغم. يمكنك أن تعبر عن هذه الروح بأنها القاعدة الجمالية "الوحدة في التنوع"، وفي "نيويورك" سوف تجد التنوع، لكنك لن تجد الوحدة.
المفارقة الغريبة هنا أنه على النقيض من "أحبك يا باريس"، يوجد في نيويورك مخرج خاص لصنع انتقالات لتجمع بين القصص المختلفة، هو راندي بالسماير، الذي اختار أن تكون هناك فتاة مصورة فيديو (إيميلي أوهانا) تطوف في أنحاء نيويورك، وتظهر بين الحين والآخر لتقابل شخصية من هذه القصة أو تلك على نحو عارض، لكن هذا الخيط بدا مفتعلا تماما بحيث لا تكاد أن تتذكره، والأدق أن نقول أنها حيلة فنية مراهقة وساذجة إلى حد كبير، لا يبقى منها سوى اللقطات العامة للمدينة من زوايا مختلفة، يصنع منها المونتاج المتلاحق شبكة متداخلة، تلك الشبكة التي تزداد تعقيدا مع غياب لوحات تفصل القصص عن بعضها البعض، بما يعبر عن تعقيد المجتمع في نيويورك، تعقيدا يستعصي أحيانا على الفهم، وربما على مجرد التعاطف أيضا.
أرجو ألا تتسرع في حكمك، فالفيلم ليس بهذا الجفاف الذي قد توحي به هذه الكلمات، ومن المؤكد أيضا أن مدينة نيويورك ذاتها ليست بهذه القسوة، ولعل من يحبونها يفعلون ذلك لأنها تحديدا تشبه "الحاوي" أو الساحر الذي يفاجئك بألاعيبه، إنه يستغل فيك الغفلة ومع ذلك فإنك تحب أن تراه!! أليست تلك الازدواجية بدورها من سمات المجتمعات البشرية؟ ألسنا نحب ونكره أحيانا الشخص ذاته في وقت واحد؟ ولعل القصة الأولى في الفيلم تعكس ذلك التناقض الساخر والقاتم، وهي القصة التي أخرجها جيانج وين، هناك "نشّال" شاب (هايدن كريستينسين) يسرق محفظة رجل كهل (آندي جارسيا) يبدو ثريا، ويذهب الشاب إلى حانة ما تزال في النهار خالية من روادها إلا من فتاة جميلة (ريتشيل بيلسون)، ليصطنع الحديث الناعم معها. وهنا يظهر الرجل الكهل، وهو بدوره نشال يستعيد محفظته بالطريقة ذاتها، ليلقن الفتى درسا فكأنه يقول له: إن كنت محتالا فأنا أكثر منك احتيالا، وهو الدرس الذي يبدو أن نيويورك تلقنه لكل ساكنيها!!
تشعر في القصة بروح من الكاتب الأمريكي الشهير في عالم القصة القصيرة "أو هنري"، حيث جملة النهاية تقلب كل العلاقات الدرامية لتلقي ضوءا جديدا ومختلفا عما سبق لك أن رأيته، ولتتأمل أيضا كيف أن القصة تكشف لك عن أن الفتاة بدورها تسعى إلى "سرقة" الرجل الكهل من زوجته. الكل لصوص من نوع ما، والمدينة تحتضنهم جميعا لتسرق منهم حياتهم! سوف تجد تأثير "أو هنري" في قصتين أخريين، تبدوان معا تمرينا على موقف واحد يخرجه إيفان أتّال: رجل وامرأة يخرج كل منهما على انفراد من مطعم مزدحم ليدخنا السجائر على الرصيف، ويتبادلان حوارا، فماذا يمكن لك أن تتخيل هذا الحوار بينهما؟ إليك الإجابتين: في الأولى نرى الرجل (إيثان هوك) يستغل الموقف ليغازل المرأة (ماجي كيو) بعبارات فاضحة تتزايد في جرأتها، بينما تبدو المرأة الصامتة كأنها تشعر بالحرج، وعندما يلوح لك أنه قد كسب معركة الاقتحام تأتيك المفاجأة، حين تخرج له المرأة بطاقة عملها كفتاة ليل، حيث رقم هاتفها وموقعها على "الإنترنيت"، وتقول له أنها تؤجر وقتها بالساعة، وإن كانت لديها أوقات بسعر مخفض، وتتركه وحيدا وقد استولى عليه الذهول!! الإجابة الثانية عن التمرين على هذا الموقف نرى فيها الرجل الكهل (كريس كوبر) الذي يبدو كأنه يقابل المرأة (روبين رايت بين) على رصيف المطعم، يتبادلان الحوار ويقولان أنه ليس هناك من متعة أكبر من أن يلتقي غريبان ليستمتعا باكتشاف كل منهما للآخر، لكننا في النهاية نكتشف بدورنا أنهما زوج وزوجة، قررا للحظة أن يلعبا هذه اللعبة لعلها تبعث فيهما حرارة المشاعر بعد ملل الاعتياد.
اعتياد الغربة، وغربة الاعتياد، هذان هما العنصران اللذان يسودان على أغلب قصص الفيلم، حيث يلتقي الغرباء في كل لحظة فتجمعهما الغربة، بينما يشعر الرفاق بأن العادة قد فصلت بينهما بسور عال يتحايلون لتحطيمه. أليست تلك أزمة وجودية حقيقية في مجتمع يبدو كأنه يحقق للمرء كل شيء فيما عدا إنسانيته؟! سؤال قد يحتاج إلى فنان مرهف ليجيب عنه بعمق وصدق، لولا أن قصصا عديدة في الفيلم تطغى عليها المعالجة التي لا تخلو من الاصطناع، الذي ينعكس في الإبهار الشكلي في أغلب الأحيان، لكنني لا أخفي عليك يا عزيزي القارئ أنني لم أخرج من هذه القصص سوى بالحيرة وعدم الفهم! تأمل على سبيل المثال القصة التي أخرجها ألين هيوز، فيها خطان متوازيان نسمع في كل منهما "مونولوجا" داخليا لشخصيتين: المرأة (دري دي ماتيو) والرجل (برادلي كوبر)، إننا لا نعلم علاقتهما الواحد بالآخر، لكنهما غارقان في الحيرة حول الاستمرار في علاقة ما، ويظل التقاطع بينهما بلا دلالة بالنسبة للمتفرج حتى تجمعهما لقطة نهاية القصة، حين يذوبان في قلبة طويلة ملتهبة، ولا ينقذ هذه الفقرة من الناحية الشكلية إلا الاستغراق في القطع المونتاجي السريع، والكاميرا المتحركة، واللقطات شديدة الاقتراب، والانتقالات السريعة في الزمن، حتى أن الفقرة كلها تبدو فيلما تجريبيا لا يثير فيك أية مشاعر أو افكار.
هناك فيلم تجريبي من نوع مناقض تماما أخرجه أنطوني مينجيلا (الذي فارق الحياة قبل عرض الفيلم، لذلك هناك إهداء له في لوحات النهاية)، وتعتمد هذه الفقرة على الأسلوب بالغ الرصانة والكلاسيكية، "باليتة" الألوان تشبه عملا من أعمال الفنانين التشكيليين الكلاسيكيين ديفيد أو آنجر، و"الكادرات" تبدو كإطار اللوحة، لكن الاغتراب والنزعة التجريبية يأتيان من عالم القصة، التي تحكي عن مغنية (جولي كريستي) كانت في الماضي تنعم بالشهرة، لكنها نجوميتها قد ذوت، إنها تلجأ لفندق عتيق يديره رجل عجوز (جون هيرت) يرمقها بإعجاب، لكن هناك فتى أحدب (شيا لابوف) يقوم على خدمتها. يبدو أنها تنوي الانتحار، لكن الفتى يبعث فيها روحا من التفاؤل، قبل أن يختفي في ضوء النافذة ليسقط منها إلى الشارع ميتا، لكن يظهر الرجل العجوز من الضوء كأن الفتى لم يكن إلا خيالا في ذهن المرأة!! لم أجد في هذه الفقرة أيضا إلا تنويعا على غرام مينجيلا بالغموض الذي قد يتعسف بعض النقاد تفسيره، لكنني أعترف بعدم تذوقه، وعندي أسبابي التي سوف أسردها لك في نهاية هذا المقال.
بقدر أقل من الاغتراب يأتي فيلم فاتح أكين، لكنه لا يخلو بدوره من الغموض المفتعل: هناك فنان عجوز (أوجور يوسيل) يقع في غرام عيني فتاة صينية (شو كي) بائعة في محل، تطارده عيناها حتى أنه يرسمهما في كل ورقة تصل إلى يده. إنه يطلب منها أن تأتي إلى مرسمه لكي يرسمها فتتردد، وعندما تكون قد حزمت أمرها على الموافقة تذهب إلى عنوانه فتكتشف أنه قد مات لتوه!!
وسط هذا الاغتراب المصطنع سوف تجد في الفيلم قصصا أكثر عمقا في التناول، وربما ليس من الصدفة أن تشترك الممثلة ناتالي بورتمان في فقرتين منهما. إنها في الأولى (التي أخرجتها المخرجة هندية الأصل ميرا ناير) "سمسارة" للمجوهرات تتعامل مع محل يديره رجل هندي (إيرفان خان)، وكل منهما ينتمي إلى ديانة مختلفة، إنه من أتباع طائفة سمحت طقوسها لزوجته أن تهجره لتصبح كاهنة بعد أن تحلق شعرها وتتطهر، ويقول الرجل في سخرية مريرة أنها كانت منذ فترة قصيرة زوجة له لكن عليه الآن أن يعبدها. أما الفتاة فيهودية تستعد للزواج حسب الطقوس المتزمتة التي تفرض عليها أن تحلق شعرها (كانت تلك هي الفترة ذاتها التي حلقت فيها بورتمان شعرها لتؤدي أدوارا تقتضي ذلك، في "حرف في يعني الانتقام" و"أشباح جويا")، وتقول أن الطقوس ألزمتها بأن تزيل في عشر دقائق الشعر الذي ربته طوال خمسة وعشرين عاما، لذلك فإنها ترتدي الآن "باروكة"، فيقول لها الرجل الهندي ساخرا أن الباروكة ربما تكون شعر زوجته، فأغلب الشعر المستعار في أمريكا يأتي من المعابد الهندية!!
يقول الرجل والفتاة في نهاية الفقرة أن معتقدات كل منهما تعدهما بوصول "المخلِّص"، الذي يكون عليهما أن يقضيا العمر في انتظاره، في نيويورك!! هنا يأخذ الاغتراب في المكان بعدا ميتافيزيقيا أيضا، كما يأخذ بعدا إنسانيا في الفقرة الأخرى التي اشتركت فيها أيضا ناتالي بورتمان، هذه المرة كمخرجة، وهي فقرة من أكثر أجزاء الفيلم عذوبة: رجل ملون من أصل لاتيني (كارلوس أكوستا) يصحب طفلة شقراء جميلة (تيلور جير) في نزهة في الحديقة، وبكل البراءة من جانب الطفلة والنضج من جانب الرجل تمضي حوارات تلقائية بينهما، تؤكدها تلك اللقطات التي تتأمل الكاميرا فيها جمال الطبيعة من حولهما. إنهما يصلان إلى النافورة، ويجلس الرجل بين الأمهات في انتظار انتهاء الطفلة من لعبها، فتبدين إعجابهن بدوره كجليس أطفال رجل. إننا سوف نعرف أن الرجل ليس في الحقيقة سوى والد الطفلة، التي انشغلت عنها أمها بعلاقة جديدة، وربما لا يعكر جمال هذه الفقرة إلا المباشرة في توصيل تلك المعلومة لنا، بينما كان الأجمل أن يحافظ الفيلم هنا على رهافته في التعبير.
سوف تبتسم في حنان وأنت ترى الفقرة الأخيرة التي كتبها وأخرجها جوشوا مارستون: زوجان عجوزان فيما يبدو أنها رحلة لتدريب ساق الرجل العجوز إلى السير بعد كسرها. الزوجة (كلوريس ليشمان) لا تتوقف عن نصيحته بأن يرفع قدمه عن الأرض، وهو (إيلي والاش) يؤكد لها في ضجر أنه يفعل ذلك بالفعل. في حوارهما يمتزج الملل المتذمر بالحب العميق، وهي سمة رفقة الطريق عبر السنين الطويلة، لا يكاد الواحد منهما أن يلقي باللوم على الآخر لسبب ما حتى يتراجع فيشفق عليه. هل هي السمة التي تأتي من الملل من الحياة ذاتها؟ أم من المصاعب التي تواجههما كل يوم فيشعران بالغربة في زحام مدينة لا تترك مكانا للعجائز؟ أيا كان السبب فهما يصلان أخيرا وبعد رحلة شاقة إلى شاطئ البحر لتحتض هي يده وتلقي برأسها على كتفه، فيقبلها في جبينها. وفجأة يقطع عليهما تلك اللحظة من الصفاء صبيان يلهوان بعنف، ليكون على الزوجين أن يبدآ رحلة شاقة أخرى للعودة من حيث أتيا!!
برغم خبرة صناع هذه الفقرات، التي تراوحت بين السذاجة والنضج، فإنك تستطيع أن تتعلم من بعض أخطائهم التي بدت واضحة في الفيلم. إن أردت أن تصنع فيلما قصيرا عليك أن تمسك بروح اللحظة التي تختصر الزمن كله في دقائق قليلة، وبروح المكان بحيث يجمع بين كونه مكانا محددا وهو أيضا الكون كله. والأهم هو أن تمسك بروح الشخصية، فليس لديك في الفيلم القصير متسع من الوقت لرسمها، ومع ذلك فلابد أن تكون واضحة المعالم للمتلقي (المتفرج)، لكنني في "نيويورك" كدت لا أعرف دوافع العديد من الشخصيات، حتى أنها بدت كعرائس الماريونيت بين يدي صانع الفيلم. لذلك، إذا كان علي أن أقول "أحبك يا نيويورك" ببعض التردد، فالحقيقة أن من المؤكد أنني "أحبك يا باريس" أكثر!!