Friday, June 03, 2011

فيلم "بلا حدود" ورحلة فى اللاوعى الأمريكى


أيا كان رأيك في السينما الأمريكية، وقدرتها على دس السم في العسل أحيانا، فإنك لا تملك في أغلب الأحوال إلا الإعجاب بها، فتلك الصناعة السينمائية الأقوى في العالم لم تصبح كذلك إلا لأنها تعلمت كيف تجدد نفسها دائما، وتولد من جديد كلما بدا أنها على مشارف الإفلاس!! لذلك لم يكن من غريبا أن تتعلم صناعة السينما الأمريكية من كل الحركات السينمائية الجادة في العالم كله، بدءا من إنجازات السينما السوفييتية، ومرورا بالواقعية الجديدة في أيطاليا، والموجة الجديدة في فرنسا، والسينما الحرة في بريطانيا، وحتى حركة "دوجما 95" في الدنمارك، وأن تدمج إنجازات كل هذه الحركات فيما تصنعه من أفلام تجارية.
عندما كنت أشاهد الفيلم الأمريكي "بلا حدود" Limitless، وجدت نفسي أبتسم سرا، لأن سؤالا غريبا طرأ على خاطري: في نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات من القرن الماضي، كان المخرج الفرنسي ألان رينيه يغامر في أفلام مثل "العام الماضي في مارينباد" و"هيروشيما حبيبي"، بمحاولة التعبير عن العوالم الداخلية للشخصيات، من خلال "تمزيق" الزمن، الذي لم يعد عنده متعاقبا من البداية إلى النهاية. عندما ظهرت هذه الأفلام كان الجمهور ينظر إليها على أنها موجهة للصفوة، وتتعالى على المتفرج العادي بذلك الأسلوب الذي بدا آنذاك غرائبيا، لكن الأسلوب ذاته أصبح في متناول هذا المتفرج، يتقبله ويستمتع به كما هو الحال في فيلم "بلا حدود"، فما الذي حدث؟ كيف استطاعت هوليوود أن تجعل الغريب عاديا؟ ومن فن الصفوة فنا جماهيريا؟!
هناك عشرات الأمثلة على تلك القدرة الخاصة التي تتمتع بها السينما الأمريكية، لكننا ونحن نتوقف الآن مع فيلم "بلا حدود" سوف نحاول أن نتلمس أسباب هذه القدرة. المدهش أيضا أن "التيمة" الرئيسية للفيلم تبدو مطروقة في العديد من الأعمال الفنية في بلدان العالم المختلفة، بل في مختلف الأزمان أيضا. هل تتذكر مثلا قصة علاء الدين ومصباحه السحري؟ خاتم سليمان؟ طاقية الإخفاء؟ كلها تيمات تتحدث عن أن شخصا عاديا يستطيع فجأة أن يملك بطريقة سحرية ما قدرات خارقة، وهي القدرات التي سوف تتصارع على امتلاكها أيضا أطراف شريرة. إنها التيمات التي تتيح للمتلقي (القارئ أو المتفرج) حلم يقظة قصيرا بالقدرة على تجاوز قوانين الطبيعة، كما أنها تجعله يعيش للحظات مع وهم انتصاره في الصراع المحتدم بين الخير والشر.
لقد تطورت هذه الفكرة البدائية (بالمعنى الإيجابي الذي يدل على أنها تضرب بجذورها في الوعي الإنساني) من خلال ما يسمى "الخيال العلمي"، وأصبحت الشخصيات الخارقة للطبيعة من بين الشخصيات الأقرب لأهواء الجماهير في كل مكان، ولعلك تذكر مثلا كيف أن الأفلام الأخيرة التي تناولت "الرجل الحديدي" و"سوبرمان" و"الرجل الأخضر" و"سبايدرمان" تتحدث كلها في البداية عن الكيفية التي تحول فيها البطل من شخصية عادية ليكون خارقا. أحيانا يكون هذا التفسير أقرب إلى "الخيال" منه إلى "العلم" (إنه كذلك في أغلب الأحيان)، لكنه التفسير الذي يتيح للمتفرج تبريرا للظاهرة التي يطلقون عليها "التظاهر بالتصديق"، أي قبول المتلقي للمقدمات المنطقية للعمل الفني حتى يستمتع به. وأنت مثلا تذهب إلى مسرح العرائس، لتوقع عقدا ضمنيا مع الفنان بأنك سوف تتظاهر بتصديق أن ما تراه ليست كائنات مصنوعة من الخشب والورق الملون، بل هي بشر من لحم ودم.
في بداية فيلم "بلا حدود"، المأخوذ عن رواية "حقول الظلام" للمؤلف ألان جلين، وسيناريو ليزلي ديكسون، وإخراج نيل بيرجر، تأتيك هذه المقدمة المنطقية: هل نحن نستخدم كل خلايانا العصبية (خاصة في المخ البشري) في وقت واحد؟ ويفترض الفيلم أن الإجابة بالنفي، وربما كانت تلك هي الحقيقة بالفعل، وإن كانت هناك تحفظات علمية عليها. ما يهمنا هنا هو أن الفيلم ينتقل فورا إلى الخطوة المنطقية التالية: ماذا لو أتيح للإنسان أن يستخدم كل تلك الخلايا معا؟ وسوف تكون الإجابة بالطبع هي أن قدراته على الاستيعاب والتفكير والتصرف سوف تتزايد إلى حد هائل. كلام مقنع، أليس كذلك؟ ولأننا لسنا في مناظرة علمية بل أمام عمل فني، فلن نتوقف كثيرا عند قبول أو رفض هذه المقدمة، لنسأل الفنان: ماذا إذن تريد أن تصنع بذلك؟ "ورينا الشطارة"!!
لا تأتي هذه الفكرة بالطبع من خلال جمل تقريرية كما تبدو لك الآن في المقال، بل هي في الفيلم تأخذ شكلا بالغ البراعة، فنحن مع الشخصية الرئيسية الشاب إدوارد مورا، واسم شهرته إيد (برادلي كوبر)، نرى من خلاله كل أحداث الفيلم، ونسمع صوته آتيا من خارج "الكادر" كأننا أمام رواية من ضمير المتكلم. إنه يحكي – ونراه على الشاشة – شابا يعيش حالة مزرية وفوضى كاملة، يقضي أيامه في الحانات يحكي لأصدقاء الصدفة عن كتاب يؤلفه، لكنه بمجرد أن يجلس أمام الكومبيوتر تتطاير الكلمات من رأسه. وهو في المشاهد الافتتاحية يقابل فتاته ليندي (آبي كورنيش) التي تخبره أنها تلقت ترقية في الصحيفة التي تعمل بها، وأنها لن تستطيع الزواج منه لتكرر معه قصة زواجه الأول الفاشلة. يمضي إيد خائبا لكنه يقابل في الطريق فيرن (جوني ويتورث) شقيق زوجته السابقة، الذي كان يعمل في تجارة المخدرات، لكنه يبدو الآن قد تحول إلى مخدرات من نوع آخر، أقراص غامضة تتيح لمتعاطيها أن يمتلك جهازا عصبيا أقوى عشرات المرات من الحالة العادية.
لا يصدق إيدي تلك المزحة وإن كان يبتلع القرص قبل أن يدخل إلى شقته، ويقابل على الدرج زوجة صاحب المنزل التي تنهال عليه باللوم لتأخره في دفع الإيجار، وتنصحه بأن يبحث لنفسه عن عمل. خلال ثوان معدودة يبدأ عمل العقار: بطرف عينه يلمح اسم الكتاب الذي تحمله، ليدرك أنها طالبة في القانون، وفجأة تتدافع في ذهنه شذرات المعلومات التي عبرت عليه في كل حياته، وتتدفق لتكون في متناوله ليستخدمها في التو واللحظة، لينطلق في نصائح دراسية لزوجة الجار بما يجعلها تنبهر به. أنه أيضا يجد أن لديه طاقة هائلة لترتيب المنزل، ويجلس أمام الكومبيوتر ليكتب، حيث تتساقط فوقه – بالمعنى الحرفي للكلمة من خلال الصورة السينمائية – الحروف والكلمات، ليكمل العديد من الصفحات، يقدمها لوكيلة أعماله التي تنظر لها بانبهار وهي لا تصدق عينيها.
دعنا نتوقف هنا قليلا لنرى كيف تنجح السينما الأمريكية في التسلل إلى وجدانك حتى بأكثر الأفكار غرابة، فهي على مستوى السرد تستخدم دائما حيلة واحدة لا تتخلى عنها أبدا، وأرجو أن تتعلم منها السينما المصرية قليلا، فأكثر مخرجينا مهارة من الناحية التقنية والفنية لا يلتفتون كثيرا لدور المتفرج في التلقي (تأمل مثلا بعض أفلام داود عبد السيد، وكل أفلام يسري نصر الله). العنصر الأساسي في السينما الأمريكية هو "التوحد"، إنها تخلق منذ اللحظة الأولى حالة من التطابق بين مشاعر الشخصية الرئيسية ومشاعر المتفرج، لتجد نفسك – وبدون أن تشعر – تضع نفسك مكان هذه الشخصية، لتصدق كل أحاسيسها وعواطفها وأفكارها، لذلك فإنك سوف تمضي معها في كل تصرفاتها حتى أكثرها شططا. يفعل فيلم "بلا حدود" ذلك بأن يحكي لنا السرد من ضمير المتكلم، لكن ذلك ليس أقوى الأدوات لتحقيق التوحد (ولا تفعل كل الأفلام ذلك بالطبع)، لكن الأهم هو أن نرى الأحداث من خلال "وجهة نظر" الشخصية الرئيسية، وهو ما يتجسد في الفيلم هنا فيما يمكن أن نسميه "شلال الوعي" وليس "تياره" فقط.
يكاد الزمان والمكان أن يكونا زمان ومكان الشخصية الرئيسية، وليسا الزمان والمكان الموضوعيين. وهنا يعمد الفيلم إلى ما يسمى "أسلوب إم تي في"، الذي يستخدم شذرات قصيرة من لقطات لا يستغرق بعضها جزءا من الثانية، وهي جميعا لقطات تعبر عما يدور في وجدان البطل. ومن خلال هذه القفزات المونتاجية فائقة السرعة يتم اختصار الزمان والمكان، حيث تتوالى الأيام بالبطل في ثانية واحدة، كما ينتقل إلى الماضي بشكل خاطف عندما يتذكر زوجته السابقة. وتحت تأثير القرص الغامض تتعدد صورته على الشاشة، كأنه أصبح عدة أشخاص في وقت واحد، وتصبح العدسة ذات الزاوية الواسعة تجسيدا لرؤيته التي تقتنص القدر الأكبر من المعلومات البصرية في لقطة واحدة، ويصل الإبهار السينمائي (المقصود) لقمته مع لقطات "الزووم" العديدة التي تبدو لقطة واحدة متصلة، كأن البطل قادر تحت تأثير العقار على أن يخترق الحواجز المكانية المعتادة. مرة أخرى فإن هدف الفيلم من ذلك كله هو "التوحد"، أن ترى العالم من خلال عيني البطل وتدركه من خلال وعيه.
بعد أن يؤسس الفيلم لحالة التوحد تلك من جانبك، يدخل بك إلى عالمه الروائي أكثر، فتلك القدرة التي جاءت للبطل إيدي مهددة بالزوال عندما ينتهي مفعول العقار السحري، وهو قد تذوق حلاوة أن يكون خارقا، فيبحث عن فيرن شقيق زوجته السابقة، لكنه عندما يجده يكون قد وقع في مأزق مرعب، فقد عثر على فيرن مقتولا على نحو غامض، وفيرن بلا شك طرف في لعبة أكبر مع هذا الدواء، لكن إيدي ينجح في العثور على كمية كبيرة من الأقراص والمال في شقة فيرن، ليعود إلى حياته يستمتع فيها بتأثير العقار الذي يحقق له "النجاح".
وضعت الكلمة الأخيرة بين قوسين لأهميتها في الثقافة الأمريكية، حيث النجاح مشروط دائما بالقدرة على أن تفعل كل شيء، "بلا حدود"، وتأمل كلمات الصحف كما جاءت على لسان الصديقة ليندي تصف البطل: "إنه هوديني (ساحر عرفته أوربا عند نهاية القرن التاسع عشر)، إنه نبي زماننا، إنه إله"!! إن القرص الغامض يجعل البطل قادرا على إتقان كل ما يريد: ينهي كتابه في أربعة أيام، ويتعلم العزف على البيانو، وكيفية الكسب في لعب الورق، واجتذاب النساء، ناهيك عن اكتشافه في مشهد لاحق أيضا لقدرته على إتقان القتال، حين تضطره الظروف للشجار مع أناس احتك بهم في محطة المترو، فإذا به يسترجع في ذهنه بسرعة البرق كل شذرات المعلومات التي رآها بشكل عارض لفنون القتال (تتوالى على الشاشة في مونتاج متلاحق). لكن الأهم من ذلك كله هو تعلمه للمضاربة في "البورصة"، وهو سوف يجعله هدفا لرجل المال كارل فان لون (روبرت دي نيرو في دور يقلد فيه نفسه!!)، الذي يستعين بقدرات البطل الخارقة لكي يستولي على شركات المنافسين له أيضا.
الفيلم في التحليل الأخير ليس من علامات السينما الأمريكية، لكن بعض ما تعلمه كاتب هذه السطور من المخرج الأمريكي الأشهر مارتين سكورسيزي، أنه يمكن لك أن تعثر على "اللاوعي الأمريكي" في الأفلام غير المشهورة، أو التي تفتقد الإبداع بالمعنى الحقيقي للكلمة. فالفيلم يبدو متعثرا في خطوطه السردية، بعضها لا يكتمل مثلما هو الحال مع الزوجة السابقة ميليسا (أنا فريل) التي تبدو بدورها ضحية للعقار، حيث تحولت إلى حطام بعد رحلة قصيرة ممتعة من الثراء السريع، أو مثل شخصية الحبيبة ليندي التي تظهر وتختفي عندما يحتاجها السرد فقط، أو حتى اللجوء إلى شخصية نمطية مثل "الفتوة" الروسي جينادي (أندرو هوارد) الذي أقرض البطل مالا عند نقطة ما من السرد، ليطارده بعد ذلك على نحو محموم من أجل الأقراص السحرية في مشهد دموي رهيب، فالبطل تتم محاصرته في شقته التي تشبه القلعة، وعندما يضيق جينادي عليه الخناق لا يجد إيدي مفرا من أن يقتله، ويشرب (بالمعنى الحرفي) من دمه الذي يكون مشبعا بالدواء!! ناهيك عن خط سردي غامض آخر، عن أحد أعراض الدواء الذي يجعل البطل أحيانا يفقد ذاكرته القريبة، فلا يعرف – ولا نعرف نحن أيضا – إن كان قد ارتكب جريمة قتل وهو تحت تأثير العقار.
هنا تجد نفسك أمام الوجه الآخر للاوعي الأمريكي: النجاح مرهون أيضا بصراع مثير للرعب، إما أن تكون قاتلا أو مقتولا. بل سوف يحمل لك الفيلم بعض مفاجآت أخرى في "الحدوتة" تشير إلى تغلل هذا الدواء في المجتمع الأمريكي، ولن أكشف لك الآن عن هذه الانعطافات السردية لتستمع بها بنفسك مع مشاهدة الفيلم. لكن أرجو أن تتوقف عند أزمة "البارانويا" التي تصيب البطل، إنه يجد نفسه متفوقا أو فائقا، لكنه يكتشف أيضا أنه محاصر مطارد في كل لحظة، وهي الأزمة التي تعبر بدورها – بكل صدق – عن إحدى سمات الشخصية الأمريكية، على المستوى الفردي والجماعي، والاقتصادي والاجتماعي، والسياسي والأخلاقي. وكلما نظرت حولك في الحياة والسينما على السواء، سوف تجد آثارا لجنون العظمة والاضطهاد الذي تعاني منه أمريكا، وربما كان موعدنا في مقال قادم عن فيلم أمريكي تجاري أخر لنتحدث أكثر عن هذا المرض النفسي، الذي يحول أمريكا – كما حدث مع السيكلوب ذي العين الواحدة في أسطورة "أوليس" – إلى عملاق أعمى، فإذا به تحت تأثير الخمر والغضب يطيح بالجميع في جنون.

مهرجان القاهرة السينمائى: الأفلام؟ أم السجادة الحمراء؟


حيرة واسعة النطاق تنتاب حاليا الأوساط السينمائية في مصر، حول إقامة مهرجان القاهرة السينمائي هذا العام أو تأجيله إلى عام مقبل. يقول البعض أن الأسباب تعود إلى افتقاد الأمن بما يجعل من إقامة هذه الدورة مستحيلا، ويقول البعض الآخر أن المهرجان يتكلف تكاليف باهظة بما سوف يشكل عبئا اقتصاديا في هذه الظروف بالغة الصعوبة. وإذا كانت هذه الأسباب تبدو منطقية إلى حد ما، فقد توجه اهتمام بعض ثالث إلى التحذير بأن عدم إقامة المهرجان في موعده ربما يتسبب في سحب صفة "الدولية" منه، لكن هناك من يرد على هذا التحذير بأنه سوف يتصل بالاتحاد الدولي للمنتجين، ليأخذ منه "إذنا" بهذا التأجيل!
يبدو الأمر كله نوعا من العبث الكامل، فإذا كان الأمن عاجزا عن حماية مهرجان للسينما، فذلك أدعى للتساؤل عن حماية الوطن والمواطن، وهل هما أقل أهمية وخطرا من المهرجان؟ وإذا كان السبب ماليا فلماذا لم يتحدث أحد بوضوح عن ميزانية هذا المهرجان، وما هي أوجه الإنفاق فيه، وهل يمكن اختصار بعضها؟ ومن الذي يصرف أصلا؟ أم أن ذلك من "الأسرار" التي يحتكرها البعض لنفسه لغرض ما؟ أما حكاية "صفة الدولية" فتلك هي أكبر كذبة يعيش عليها من يعتبرون المهرجان غنيمة لهم، ويروجون أقوالا لم يتحقق من صدقها للأسف من يكررونها بعدهم في وسائل الإعلام، حتى أصبحت الكذبة حقيقة.
الحكاية كلها تكمن في وجود "اتحاد" لصناعات السينما مقره باريس، يمكن لأي صناعة سينما في العالم أن تشترك فيه، كما أن عدم العضوية لا يعني شيئا في حد ذاته، لكن الاشتراك فيه يجعلك عضوا في هذا النادي الافتراضي، حيث تنظم مع زملائك مواعيد المهرجانات، حتى لا تتداخل هذه المواعيد مع بعضها البعض. وهكذا اشتركت غرفة صناعة السينما المصرية في الاتحاد، وكان نصيب مهرجان القاهرة موعدا في نوفمبر من كل عام، وإن كان ذلك يجعله الأخير بين أقرانه، فلا ييبقى له من الأفلام الجديدة كل عام إلا النزر اليسير.
دعنا نفترض إذن أن الاتحاد الدولي إياه قرر "شطب" مهرجان القاهرة من هذه القائمة، فهل يعني ذلك شيئا؟ أولا لن يحدث هذا مطلقا لأن الاتحاد ليس "الأمم المتحدة" التي توقع عقوبة على بلد ما، وهو ليس إلا جهة "تنظيمية" بين بعض المهرجانات. وثانيا هناك مهرجانات خارج تلك القائمة المزعومة هي من بين أفضل المهرجانات في العالم على الإطلاق، مثل مهرجاني لندن وتورنتو. لكن ما يجب ذكره في هذا السياق أيضا أنه إذا كانت "غرفة صناعة السينما المصرية" هي العضو الممثل لمصر، لماذا إذن تدفع وزارة الثقافة المصرية الجانب الأكبر من تكاليف المهرجان ومرتبات العاملين فيه، حتى في حالة عدم إقامته؟!
تعكس تلك الدوامة من التساؤلات حالة من غياب الوضوح وسط دوائر الثقافة في مصر، الذي يعكس بدوره حالة من تعمد الغموض لصالح بعض المنتفعين، وحالة من الغفلة من جانب أكثر المشتغلين بالصحافة السينمائية في مصر. وربما كان ذلك جميعه يشكل "تواطؤا" مريبا، حين تضيع الحقائق ومعها السينما والثقافة السينمائية كلها، فلم يسأل أحد فيما يبدو نفسه عن معنى إقامة مهرجان، وما الهدف منه، وما إذا كنا نحقق مع مهرجان القاهرة جزءا من هذا الهدف؟
ربما كانت الطريقة المثلى في بعض الأحيان للبحث عن الحقيقة هي أن نسأل عن "ألف باء" ما نبحث عنه، لذلك سوف نسأل أنفسنا سؤالا بدهيا ربما اندهش البعض من مجرد طرحه: ما هو المهرجان السينمائي؟ إنه مكان واحد، يحدث فيه كل عام (وأحيانا خلال دورة زمنية من نوع ما) اجتماع عدد وافر من الأفلام، تنتظمها وحدة واحدة، تعرض وسط صناعها والمهتمين بالشأن السينمائي، بهدف تبادل الخبرات فيما بينهم، على مستوى الإنتاج والتوزيع والعرض. لكن الدولة المقيمة للمهرجان يكون اهتمامها الرئيسي، حتى لو لم تعلن عن ذلك صراحة، هو إلقاء الضوء على صناعتها السينمائية، وفتح المجال أمامها لمزيد من الازدهار.
قد تكون الوحدة التي تجمع الأفلام المعروضة هي تاريخ صنعها، حيث تكون من إنتاج العام المنقضي على آخر دورة سابقة للمهرجان، لكن هناك أنواعا أخرى من تمييز هذه الأفلام: قد تكون من نمط فيلمي محدد مثلما يحدث مع أفلام الرعب مثلا، أو من إنتاج بلاد بعينها كبلدان البحر المتوسط، أو الدول الأفريقية الأسيوية، أو أمريكا اللاتينية، أو يكون التصنيف حسب طريقة الإنتاج، كمهرجان ساندانص للسينما المستقلة، أو ربما حسب النوعية مثل أفلام التحريك أو السينما التسجيلية، أو حسب مادة صنع الفيلم كأفلام الديجيتال (الرقمية) أو الفيديو، أو طبقا لطول الفيلم مثلما يحدث في مهرجانات الأفلام القصيرة. وعادة ما يقيم هذا المهرجان أو ذاك احتفالية صغيرة بأحد صناع الأفلام كنوع من التكريم له.
هكذا ولهذا تقام مهرجانات السينما في العالم، وتبعا لتحقيق الهدف من إقامة المهرجان يكتسب شهرة في العالم كله، ويصبح مقصدا للفنانين السينمائيين من كل أنحاء العالم. ولتتأمل الخطوات الثابتة الراسخة لأهم المهرجانات في العالم منذ إنشائها: فينيسيا في عام 1932، ولوكارنو في عام 1946، وكارلوفي فاري في عام 1946، وكان في عام 1947، وبرلين في عام 1951. لكن تأمل أيضا كيف استطاعت مهرجانات "محلية" أخرى أن تكتسب شهرة فائقة، وربما كان "الأوسكار" هو أشهرها على الإطلاق، برغم تركيزه على السينما الأمريكية، لكن دول العالم تتسابق لكي تمثل نفسها فيه بفيلم في مسابقة أفضل فيلم أجنبي. والدرس هنا هو أن صناعة السينما القوية تستطيع أن تخلق مهرجانا قويا، لكن مجرد إقامة المهرجان قد لا تعني شيئا حقيقيا لصناعة السينما في بلده، فالأهم هو نوايا من يقومون على المهرجان.
أين مهرجان القاهرة من ذلك كله؟ للأسف الشديد، وفي ظل سياسة كانت ترى الثقافة نوعا من "الضجيج" لا أكثر، فقد انصب اهتمام القائمين على المهرجان على "السجادة الحمراء" وملابس النجمات وحفلات العشاء فوق مركب نيلية!! ولعلك عزيزي القارئ تتذكر كيف أن منظمي المهرجان تنتابهم الحيرة كل عام حين يبحثون عن فيلم يمثل مصر فلا يجدون، فلا المهرجان أفاد صناعة السينما المصرية أو ساعد على تقدمها قيد أنملة، ولا استفاد الفنانون المصريون أنفسهم من إقامة المهرجان، سواء من ناحية زيادة اطلاعهم وعمق ثقافتهم بالفرجة على أفلام ذات مستوى عالمي متميز، أو بخلق فرص عمل لهم في السينما العالمية.
إننا نتوقف كل عام عند دعوة بعض "النجوم والنجمات" من هنا وهناك، ودون أن تكون هناك معايير لهذا الاختيار على الإطلاق. قل لي بالله عليك ما هي العلاقة بين دعوة ريتشارد جير في أحد الأعوام (لتتوقف مذيعات التليفزيون عند سحره الجنسي!!) وجون مالكوفيتش في عام آخر، فالأول نجم بالمعايير التجارية للسينما، بينما الثاني ممثل مغامر في مغامرات فنية بعيدة عن النوعية التجارية؟ ومن الملاحظات المدهشة بحق هي دعوة نجوم توقفوا عن صنع السينما منذ فترة، مثل صوفيا لورين وألان ديلون وكلوديا كاردينالي، ناهيك عن باد سبينسر نجم "الترسو" في مصر منذ ثلاثة عقود!! لقد جاء الممثل مورجان فريمان إلى مصر ولم نسأله أبدا عن نشاطه في جمعيات حقوق الإنسان، كما جاء المخرجان إيليا كازان وأوليفر ستون دون أن يزيدنا ذلك – على المستوى الجماهيري – ثقافة ومعرفة بأفلامهما.
هل جاء هؤلاء حبا في السينما المصرية ومهرجان القاهرة؟ في الحقيقة أن أي نجم يأتي في إطار "البيزنيس"، حيث هناك مقابل مادي مدفوع، ناهيك عن زيارة للمعالم الأثرية يزيد من إغرائها أن توقيت المهرجان يأتي في شتاء مصر الدافئ، لكن هل استثمرنا ذلك حقا في تعريفهم بالسينما المصرية؟ هل أقنعناهم بأن من الممكن الدخول في إنتاج مشترك حتى بتوفير أماكن التصوير؟
للأسف مرة أخرى: ليس هذا واردا على الإطلاق في ذهن القائمين على مهرجان القاهرة، الذين لا يهتمون إلا بالمغانم التي يحصلون عليها منه. لذلك فإنهم لا يهتمون مطلقا بأن يقام أم لا، ما دامت مرتباتهم وامتيازاتهم تسير كما هي، لكننا نقدم طرحا بديلا: المهرجان هو السينما أولا، وإذا كانت هناك ظروف تعوق إقامته كما كان يقام كل عام فربما كان ذلك حلا عبقريا، ألا يقام كما كان يقام كل عام، حيث يمكن الاستغناء عن كل من يستفيد منه بشكل شخصي دون أن يفيد السينما شيئا. اعرضوا الأفلام، فهذا هو مهرجانها، وليس مهرجان السجادة الحمراء!!

Sunday, May 29, 2011

سر "اللهو الخفى" فى مهرجان القاهرة السينمائى



منذ سنوات كان السيد شريف الشوباشى رئيسا لمهرجان القاهرة للسينما، وفجأة طلع علينا بمفاجأة أنه يريد "نقله" إلى مدينة شرم الشيخ (تصوروا لو أن ذلك قد حدث!!)، ولم يقل لنا لماذا لا يترك مهرجان القاهرة فى حاله، ويقيم المهرجان الذى يعجبه فى أى حتة أخرى. لكنه حاول آنذاك إغراءنا بالفكرة، فقال أن رئيس الاتحاد العالمى للمنتجين وعده – إذا حدث ذلك – أن الملايين سوف تنزل ترف على مصر، عندما يأتى لها المنتجون السينمائيون العالميون من الغرب والشرق، ومرة أخرى لم نعرف ما هى العلاقة بين الموضوعين.
اليوم يعود الحديث عن هذا "الاتحاد العالمى" أو "الدولى" فى بعض الأقوال، ويصفونه بأنه "الجهة الدولية التى تمنح الشرعية لمهرجان القاهرة، وتعتبره من أهم 11 مهرجانا سينمائيا على مستوى العالم"، وأن هناك اتصالات تجرى حاليا لمنع "سقوط المهرجان فى الدرجة الثانية لو ألغى موعد انعقاده"!! وقد تكررت هاتان الجملتان بين القوسين فى صحفنا الفنية، كأنهم مثلا يتحدثون عن الأمم المتحدة، لكن الحقيقة أنهما من بين عبارات يتناقلونها دون أن يتساءل أحد عما إذا كانت تعنى شيئا حقيقيا، أم أنها مجرد لغو يكرره بعض من لا يعلمون وراء بعض المغرضين؟!
ما هو هذا "الاتحاد العالمى" الذى يشبه اللهو الخفى؟ وما هى سلطاته على المهرجانات؟ وما هى الجهة فى مصر التى تقدمت إليه لتكون عضوا فيه؟ وبالمناسبة ما هى الجهة التى تدفع لأعضاء إدارة المهرجان مرتباتهم، ولماذا تدفعها إذا كانت غير الجهة الأولى؟ وما هى المهرجانات العشرة الأخرى فى جنة الاتحاد الدولى؟ وما معنى رقم 11؟ وهل مهرجان القاهرة أهم من مهرجانى لندن وتورنتو مع أنهما ليسا فى القائمة المزعومة التى تضم 14 مهرجانا وليس 11؟ وهل هذان المهرجانان "درجة ثانية" لأنهما "باباهم مش كائد طابية"؟!!
أتمنى أن يهتم أحد بالبحث عن إجابات لهذه الأسئلة، وساعتها سنعرف أننا ضحية لمن ورثوا مهرجانا سينمائيا ولم تكن لهم بالسينما أى علاقة، وصنعوا حوله الكثير جدا من الأوهام والمغالطات، وحولوه إلى "سبوبة" يأكلون منها بقلاوة، ويسافرون هنا وهناك فى المهرجانات العالمية على حساب البسطاء الذين لم يدخلوا السينما طوال حياتهم. وأرجو أن يبحث لنا وزير الثقافة عن إجابة، بعدها سوف يدرك أنه لو ظلت السينما ومهرجانها أسيرين لمن اختطفوهما لصالحهما بفضل غفلتنا، واختفوا وراء تلك المفاهيم المغلوطة المتداولة، سوف نظل كما كنا طوال ثلاثين عاما بلا ثقافة حقيقية، حتى لو كان لدينا منصب اسمه وزير للثقافة.