Saturday, June 18, 2011

سينما اللون الواحد، أسود وأسود!!



فجأة، اكتشف الشعب المصرى أنه شعب متدين، وكان هذا التدين متجسدا فى ألا نستخدم إلا "السلام عليكم" بدلا من كل أنواع التحية الأخرى، متصورين أنها "تحية الإسلام"، مع أن اليهود المتطرفين كانوا ولا يزالون يستخدمونها بلغتهم العبرية "شالوم عليكم"!! ترى هل كانت عبارات مثل "صباح الخير" و"صباح النور" و"نهارك زى الفل" و"اقعدوا بالعافية"، وعشرات العبارات الجميلة الأخرى التى تميز الشعب المصرى، هى العبارات الكافرة التى كان يقولها أبو جهل؟! هل كان يطيل لحيته بطريقة تختلف عن الرسول (ص)؟ هل لم تكن الحدود المطبقة هى ذاتها حدود الجاهلية، واليهودية من قبلها؟ أم أن رسالة الإسلام أعمق بما لا يقارن مع تلك الدعاوى الشكلية جدا، والمؤقتة جدا، والمرتبطة جدا بعصرها وبيئتها؟؟؟
كما أيقظت ثورة يناير بعضا من طاقتنا الإيجابية، فى أن نحلم بأن نصنع لأنفسنا وطنا أفضل، فإنها أيقظت أيضا الكثير من الطاقة السلبية، التى تستنفد الجهد تماما فى معارك جانبية عديدة، تدور كلها حول زعم البعض أنهم أكثر تدينا من كل المصريين الآخرين، وباتوا يعدون العدة لفرض تصورهم المقيت عن الحياة، تصور ينحصر فى تكميم أفواه الناس وتعمية عيونهم، من أجل أن يمرح من يستولون من بينهم على السلطة ويرتعون، ومن يحاول أن يفتح عينيه يجد نفسه متهما ... بالخروج عن الدين والعياذ بالله!!
ظهرت التباشير فى قول بعض الإخوان أنهم يعدون العدة لصنع فن "إسلامى"، وللأسف سوف يصدقهم البعض، متصورين أن ذلك يعنى مثلا "السينما الأخلاقية"، على طريقة السعودية التى لم تعرف طريق صناعة السينما لأنها ما تزال تناقش موضوع تحريم قيادة المرأة للسيارة. لكن إذا كان من الممكن تصور أن يحدث ذلك فى بيئة مثل السعودية، لم تخرج من الثقافة البدوية إلا من بضع عشرات من السنين، فكيف يمكن أن يطرأ على عقل إنسان أن ذلك يمكن أن ينطبق على الثقافة المصرية، التى أعطت عبر آلاف السنين مذاقا خاصا حتى لممارسة الطقوس الدينية، مثل تراتيل الكنائس وتلاوة القرآن والأذان؟
المشكلة الأساسية فى ذلك كله أن بعض "الإخوان" يزعمون – وهم يعرفون أنهم لا يقولون الحقيقة – أنهم وحدهم الذين يحمون الأخلاق، بطريقة "المطوعين" الذين يمسكون بالعصى ويطوفون فى الطرقات يضربون الناس ويسبونهم، لأنهم فرضوا أنفسهم "آمرين بالمعروف وناهين عن المنكر"، ولعل القارئ يعرف مدى تحلى هؤلاء المطوعين (أو مدى تخليهم) عن الأخلاق التى يزعمون حمايتها.
أسوأ ما يمكن أن يفعله إنسان أن يختزل النشاط الإنسانى فى كلمة واحدة، أيا كانت هذه الكلمة، أو أن يجعل تلك الكلمة هى المعيار الوحيد الذى يقيس به كل الأشياء. إنهم يقولون لك أن "الدين" مثلا يفرض أن تكون السينما "أخلاقية"، لكن معنى الأخلاق عندهم ينحصر فى "الجنس"، الذى يطل عندهم برأسه فى كل همسة ولمسة وإيماءة، وربما لو كان سيجموند فرويد ما يزال حيا لوجد عندهم دليلا فشل هو ذاته فى العثور عليه لإثبات نظريته.
دعنا نرد الأمور إلى أصلها ياعزيزى القارئ: الإنسان كائن متعدد النشاطات، وبين هذه النشاطات علاقات متبادلة التأثر والتأثير، لكن لا يمكن القول على الإطلاق بسيادة نشاط منها على الآخر. إن أردت الدقة فالفن الراقى يصنع أخلاقا راقية، لكن الأخلاق الراقية لا تؤدى بالضرورة إلى فن راقٍ، وإلا كان بابا روما وعلماء الدين الإسلامى فنانين أكثر من غيرهم. والأخلاق ليست أيضا ناتجة عن نشاط واحد (أن تذهب مثلا للمسجد لأداء الصلاة بانتظام)، بل هى تعبير عن مجمل العلاقات الاجتماعية كلها، وأن تجد عملا ترتزق منه، ومسكنا لائقا تأوى إليه، وتعليما جيدا لأولادك، وعلاجا مضمونا لأفراد اسرتك، وأن يتحقق ذلك كله بالعدل، تلك هى الأخلاق، وما عداها فهى دجل ونصب وإعادة إنتاج لسلطة تسرق الناس، لكنها هذه المرة ترفع شعار الدين والأخلاق!!
لقد دافع كاتب هذه السطور دائما عن وجهين للفن: حرية الإبداع من جانب، والأخلاق من جانب آخر. والأخلاق كما نفهمها هى أن يساهم العمل الفنى فى أن يرتقى بالإنسان، بأن يدرك إمكاناته، وقدرته على صنع مصيره، هذا المصير الذى يروج بعض المتمسحين بالدين أنه خارج الإرادة البشرية. المهم هنا هو أن تناضل من أجل مجتمع عادل أولا، ثم تترك للفنان ممارسة فنه بحرية كاملة، لا أن تفرض عليه النواهى والمحظورات. وفى مجتمع عادل، ومجتمع حر، سوف تكون العملة الجيدة فى الفن قادرة على طرد العملة الرديئة, أما أن يأتى فلان وعلان ليعين نفسه "مطوعا" أو"محتسبا" فإن هذا لن يؤدى فى النهاية إلى فن مشوه ومجتمع أكثر تشويها.
والعينة بينة، فقد ظهر السيد صبحى صالح (الذى جعلوه يشارك فى الإصلاحات – أو ما يفترض أنها إصلاحات - التى هى لا مؤاخذة دستورية!!) ليعلن كفر بعض من صفوة الثقافة المصرية فى العصر الحديث، الذين إن شطبت عليهم بهذا النزق فلن تترك من هذه الثقافة شيئا مذكورا. تذكرت ذلك وأنا أتصفح بعض سطور من مقال قديم للكاتب الرائع يحيى حقى، وهو يتحدث عن تجريته خلال الطفولة مع السينما. "دخلت السينما ... وإذا بالفيلم قصة دينية، مستقاة من التوراة، كلها لت وعجن، وحركات ثقيلة، وسحن حزينة ... وأغنام ونعاج، وامرأة عجوز تتطلع إلى السماء طويلا، وشيخ يبارك قوما قد جلسوا القرفصاء".
يتساءل "الطفل" يحيى حقى فى براءة كل عاشق للسينما: "ليس فى هذه القصة لص واحد، ولا مبارزة، ولا مطاردة، ولا قطار، ولا جياد ... لماذا نسوا ماشيست وشارلى شابلن؟!" ... وهاهو صبحى صالح ومن يصدقونه يريدون مسح ماشيست وشابلن من تاريخ السينما أيضا. والفن هو المتعة التى ينكرونها على الناس ويحتفظون بها لأنفسهم وبطريقتهم ومعاييرهم، وليتهم يتركون الفن فى حاله، ويتركوننا فى حالنا أيضا، نحن المصريين الذين يعرفون الله بكل خشوع وهم يتمايلون طربا مع موسيقى القرآن. إننا لو صدقنا ما يقولون عن "شرعية" تصرف إنسانى ما، لتحولت كل الشخصيات فى الأفلام إلى تحية "السلام عليكم" دون غيرها، وربما يزعمون يوما أن هناك لونا "شرعيا" واحدا، ويقررون إلغاء كل الألوان الأخرى لأنها حرام، بينما الحرام هو ما يفعلون، فالحياة متعددة الألوان، والموت فقط له لون وحيد.

Thursday, June 16, 2011

الفيلم الإسرائيلي "مدير شئون العاملين" كيف تصنع فيلما سياسيا بارعا دون أن تتحدث في السياسة؟!


تبدو قضية السينما الإسرائيلية بالنسبة لنا دائما قضية شائكة، إذ نتجاهلها في الأغلب الأعم بتصور أن ذلك يعكس رفضنا لها، وموقفا سياسيا يقف ضد إسرائيل وما تمثله وما يمثلها. لكن أليس من الأجدى أن نطرح تصورا بديلا، أعتقد أنه التصور الأنضج في التعامل مع الحياة؟ إنك لكي تتعامل مع مرض السرطان فإن عليك أن تعرف طبيعته وحجمه وقدر انتشاره، وهذه المعرفة لا تعنى القبول به والاستسلام له، وإنما تساعدك على مقاومته. كذلك إسرائيل، فما أتصوره موقفا صحيحا هو معرفة أكبر وأعمق بها وما تنتجه في كل المجالات، وأن "تعرف" لا يعني أنك "تعترف"، وعندما تعي قدر الخطر في وجود إسرائيل فإن هذا لا يعني أنك تقول أن هذا الوجود شرعي، بل ربما كان الخطوة الأولى في الاتجاه الصحيح نحو مقاومة هذا الخطر.
مشكلتنا في الفترة الأخيرة أننا أصبحنا نكتفي بأنفسنا، نتحدث في قضايانا كأننا نتحدث إلى ذواتنا، أو إلى الذين يعرفون بالفعل ما نتحدث عنه، بينما إسرائيل تدرك تماما أنها تتحدث إلى العالم، المتعاطف معها بالفعل أو ذلك الذي تريده أن يزداد تعاطفا. كنت منذ شهور قد تناولت على هذه الصفحة الفيلم المصري "أولاد العم"، وأشرت إلى أنه يحول قضية الصراع إلى فيلم "أكشن" رديء، يفترض أن المتفرج سوف يقف إلى صف "البطل" لأنه كريم عبد العزيز، الذي يمثل ضابط المخابرات المصري، إنه يذهب إلى تل أبيب لإنقاذ امراة مصرية من براثن ضابط مخابرات إسرائيلي، ودون أن أكمل لك الحبكة لابد أنك تعرف كيف يمكن لصانع فيلم مصري أن يمضي فيها.
حاولت أن أبحث في ذاكرتي عن فيلم مصري واحد يخاطب الجمهور في العالم حول هذه القضية فلم أجد، وعلى العكس تماما هناك عشرات الأفلام الإسرائيلية التي تنقل وجهة نظرهم بقدر هائل من البراعة التي لا يمكن إنكارها. هذا ما تأكد لي مرة أخرى عندما شاهدت الفيلم الإسرائيلي "مدير شئون العاملين" أو "مدير الموارد البشرية"، الذي تقدمت به إسرائيل في مسابقة هذا العام لأوسكار أفضل فيلم أجنبي، وبرغم أنه لم ينجح في الوصول إلى التصفيات النهائية، فإنه نجح على الأقل في توصيل رسالته التي سوف نتوقف عندها هنا. أذكرك فقط في البداية أن مخرجه هو عيران ريكليس، الذي نجح من قبل في أن يقدم فيلمين بالغي التأثير، الأول هو "العروس السورية" (2004) عن زواج شابة درزية على الجانب الإسرائيلي من الحدود مع سوريا، من شاب على الجانب الآخر، ليرسم الفيلم صورة للعلاقات الإنسانية المتشابكة بين كل الأطراف، بمن فيهم الطرف الإسرائيلي المتمثل هنا في ضابط الحدود. أما الفيلم الثاني فهو "شجر الليمون" (2008) عن المرأة الفلسطينية التي تملك حديقة لأشجار الليمون، مهددة بالإزالة بعد إقامة وزير إسرائيلي بجوارها، ولا يقف معها في هذه المعركة سوى امرأة إسرائيلية هي زوجة هذا الوزير!!
ها أنت ترى أن البعد السياسي في هذين الفيلمين يتواريان في الخلفية، أو يتم التعبير عنهما بشكل رمزي خافت، وهو أمر يميز الكثير من الأفلام الإسرائيلية المعاصرة، فهي لا تجنح أبدا إلى الخطابة التي كانت تميز هذه الأفلام حتى بداية الثمانينيات، حين كان البطل الإسرائيلي تنويعا على شخصية "الكاوبوي"، بل على العكس تماما، لقد أصبح هذا البطل الآن يعاني من أزمة "وجودية" يجد حلها في قتل العربي!! بل إن هذا العربي ذاته يختفي، ليصبح في الخلفية خطرا بلا وجه لكنه يظل جاثما على الحبكة طوال الوقت، إنه موجود وغير موجود، والأفضل – كما توحي هذه الأفلام - ألا يكون موجودا حتى لا تتأزم الأمور كما تراها على الشاشة!!
ليس في فيلم "مدير شئون العاملين" عربي واحد، ومع ذلك فإنه موجود طوال الوقت!! تلك هي النظرة الفنية والسياسية البارعة التي يتخذها الفيلم كاستراتيجية له، ولتتأمل معي خط "التيمة" الرئيسية للفيلم: امرأة مهاجرة من بلد ما في أوربا الشرقية، لا يحددها الفيلم وإن كانت هناك تلميحات أنها رومانيا، هذه المرأة تحمل درجة في الهندسة لكن الظروف القاسية تدفع بها للعمل في إسرائيل كعاملة للنظافة. إنك لن ترى هذه المرأة أبدا إلا في لمحات خاطفة للقطات صورها ابنها لها في الماضي على هاتفه المحمول، لكن حضورها هنا يصبح جثة بعد مصرعها في حادث "إرهابي" في مدينة القدس، ويكون على بطل الفيلم أن يحمل هذه الجثة على عاتقه – بالمعنى المجازي أحيانا، لكن بالمعنى الحرفي أيضا أحيانا أخرى – لأن هناك التزاما "أخلاقيا يدفعه لذلك.
قبل أن أمضي معك في تفاصيل الفيلم سوف أتوقف بك قليلا عند هذه "التيمة": إن الفيلم لا يعنيه من بين كل الخطوط إلا هذه الجملة الأخيرة، الالتزام الأخلاقي الذي تتحمله إسرائيل عن طيب خاطر، إسرائيل التي تتجسد في بطل تسيل منه المشاعر الإنسانية (والدموع أحيانا) في كل لحظة تجاه حتى من لم يعرفهم من قبل، مثل هذه المرأة "المسيحية" المهاجرة، وتجاه أهلها الذين يراهم ويرونه للمرة الأولى فتجمعه بهم أواصر بشرية هي من سمات المتحضرين. من جانب آخر فإن الفيلم لا يتساءل بالطبع لحظة واحدة عن هؤلاء "الوحوش" الذين قاموا بالعمل "الإرهابي" ودوافعهم وقضيتهم، وهو بالتالي يغيِّبهم عن المتفرج كبشر، ووجودهم يُختزل في خطر الموت الذي يهدد الجميع في أية لحظة، كل ذلك والفيلم لم يتحدث في السياسة!!
يبدأ فيلم "مدير شئون العاملين" بلقطات تسجيلية لمصنع خبز تبدو كأنها إعلان رائع عن الخبز الإسرائيلي (!!)، ونرى البطل (مارك إيفانير) مستعدا لمغادرة الصنع بعد انتهاء عمله، وسوف تلاحظ على الفور أن هناك حزنا خفيا يختفي وراء قسمات وجهه، وهو ما سوف يتأكد بعد ذلك عندما نعلم أنه بعد انتهاء حياته العسكرية، وبداية حياته المدنية، لم ينجح كثيرا في زواجه بسبب تفانيه في عمله، وهو دائما يلقى اللوم من زوجته السابقة على عدم حرصه على الرعاية الكاملة لابنتهما طالبة "الباليه". هذا البطل الممزق سوف يفاجأ بمزيد من الأعباء، فالأرملة العجوز صاحبة مصنع الخبز (جيلا ألماجور، إحدى الممثلات المخضرمات في إسرائيل) تستدعيه لأن هناك مهمة عاجلة تتطلب تدخله: بسبب حادث "إرهابي" وقع منذ أيام تم العثور على جثة لم يتعرف عليها أحد، ووضعت في المشرحة حتى اُكتشف أنها امرأة تدعى يوليا تعمل في مصنع الخبز بفضل "قسيمة" مرتبها التي وجدت مع الجثة. الآن سوف يجد مصنع الخبز نفسه مهددا بالتشهير لإهماله تغيب موظفة تنتمي إليه، ومهمة البطل هي أن يعالج هذا الأمر كله.
أرجو أن تلاحظ أن الشخصيات (فيما عدا الجثة!) لا تحمل أسماء، إنها في الحقيقة رموز إن تأملت ما بين السطور، وفي حوار حميم بين صاحبة مصنع الخبز والبطل تدرك أن "الأرملة العجوز" تمثل إسرائيل ذاتها، إنها "الوطن" وهي بنص كلماتها مدينة للبطل على كل تضحياته من أجلها، لكنه مدين لها أيضا بأنها جعلت له كيانا، وحتى لو كان يشتاق أحيانا للهروب إلى حياة أكثر حرية، فهو مرتبط بها كما أنها مرتبطة به إلى الأبد. من جانب آخر هناك ذلك الالتزام الأخلاقي تجاه "الجثة"، وأنت تعرف كيف أن إسرائيل لا تتوقف عن التفاوض من أجل "رفات" ضحاياها (قارن ذلك للأسف بما تفعله بعض الأنظمة العربية تجاه شهدائها)، فالطرف الذي يهدد المصنع بالفضيحة هو صحفي (غوري ألفي) يتسم بالعدوانية ويطلقون عليه "ابن عُرْس" (أو "العِرْسة" في العامية المصرية)، فهو يطارد البطل ويتهمه بالقصور، ويخبره بأنه ليس مهتما بالجثة في حد ذاتها، فرسالته إلى الأحياء، بأن إسرائيل لن تتخلى عنهم حتى لو لقوا مصرعهم.
يحاول البطل أن يفك الخيوط المتشابكة في هذه القضية، والسؤال الذي يبدأ به: كيف لم يدرك وهو مدير شئون العاملين تغيب المرأة المهاجرة طوال هذه الأيام؟ تأتي الإجابة على لسان رئيس وردية الليل، لقد قرروا الاستغناء عن العمالة الزائدة، ومنها هذه المرأة، التي أشفق عليها رئيس الوردية فأبقاها في كشوف المرتبات حتى تجد عملا مناسبا، وفي الحقيقة أنه وقع في غرامها كأنها ملاك هبط من السماء. الكل إذن تصرف على نحو أخلاقي، وليس هناك شبهة إهمال أو ازدراء للبشر. يذهب البطل إلى حي اليهود في القدس حيث كانت تقيم يوليانا باسم "روث"، في غرفة هي أشبه بالدير الذي يوحي بالطمأنينة، ثم يذهب إلى الدير المسيحي في المدينة، باحثا عن مدفن يأوي الجثة المسكينة، وحيث يقابل راهبة (سيلينا دوري) تتحدث بدورها عن يوليانا بإنسانية بالغة، لكن الوقت يكون قد تأخر، فقد نشر الصحفي اتهاما بالتقصير للمصنع ومدير شئون العاملين فيه، وليس هناك سوى حل واحد تقترحه "الأرملة": أن يذهب البطل بالجثة إلى وطنها (كلمتا الوطن والبيت هما في العبرية كلمة واحدة).
في معظم مقالاتي عن الأفلام أحاول ألا أكشف عن كامل حبكتها، حتى أترك للقارئ مساحة للاستمتاع عندما يشاهد الفيلم بنفسه، لكن لا حل هنا سوى أن أمضي معك في بقية الفيلم حتى نحاول معا أن نفهم مزيدا من الأبعاد السياسية فيه. لقد قالت الراهبة في مشهد الدير السابق أن يوليانا قد وجدت ضالتها في مدينة القدس، برغم أن "الأمر معقد هنا لكنه يشبع الروح". غير أن البطل مضطر لأن يبدأ رحلة لم يخطط لها لإعادة الجثة إلى الوطن، مع مبلغ من المال يمثل تعزية من "الأرملة" لأهل الضحية. وإذا كان هذا الفيلم يتسم بغلالة من الحزن الجاد في الجو العام له، فإن الخط الرئيسي فيه يذكرني بفيلم إسرائيلي آخر لكنه هذه المرة يتسم بخفة الظل، هو "شعرية" (2007) من إخراج إيليت ميناحمي، و"شعرية" هو الاسم الذي تعطيه بطلات الفيلم لطفل صيني قامت السلطات على غير موعد بترحيل أمه المهاجرة غير الشرعية، ليصبح الفيلم كله رحلة لإعادة الطفل إلى الأم في مغامرات طريفة. إنك لا تملك إلا أن تتساءل: كيف لإسرائيل أن تصبح هي البطلة الدائمة لإعادة المشتتين إلى ديارهم، وهي التي تنكر على أبناء فلسطين حق العودة؟! والإجابة ياعزيزي القارئ تشير إلى وعيهم بأهمية السينما في بث رسائل سياسية دون أن ينطقوا بكلمة سياسية واحدة!
يأخذ البطل جثة الضحية في تابوت، ويصحبه الصحفي الذي ينطلق من روح شكاكة ساخرة، ليبدآ رحلة طويلة في ذلك البلد من أوربا الشرقية، حيث يخيم الجليد على كل شيء، وتتلوى الطرق عبر الجبال الوعرة والقرى المتناثرة، ويغرق الجميع في فقر مدقع وعلاقات إنسانية متوترة. يتصور البطل أنه قد وجد زوج المرأة (بوجدان ستانيوفيتش) لكي يسلمه جثتها، لكنه يكتشف أنهما مطلقان، فيبحث عن ابنها المراهق المتمرد (نواه سيلفر) لكنه يدرك أنه غير مؤهل لاستلام الجثة لصغر سنه، فيقرر أن يسافر إلى القرية التي تنتمي لها المرأة، وفي الطريق يضطر مع رفاق الرحلة أن يبيت بضع ليال في مخبأ من الهجوم النووي تحت الأرض، وعندما تتعطل السيارة التي تحملهم يكمل الرحلة في مدرعة عسكرية، حتى يصل إلى القرية حيث تقيم الجدة العجوز (إيرينا بيتريسكو) صاحبة الأخاديد العميقة على الوجه. لكن الجدة ترجو البطل أن يأخذ الجثة معه مرة أخرى إلى القدس حيث تستحق أن تدفن، في المدينة التي "تشبع الروح".
إنهم عزيزي القارئ يتحدثون عن مدينة القدس، وليست هناك كلمة واحدة عن أصحابها الحقيقيين. هل نلوم إسرائيل على أنها تصنع مثل هذه الأفلام؟ لا أستطيع أن ألوم المعتدي وحده على عدوانه إذا كان من وقع عليه العدوان لا يفعل شيئا، وينتظر من العالم أن يفهم قضيته دون أن يتحدث بكلمة واحدة مفهومة. وهنا سوف أضطر آسفا أن أدخل إلى منطقة شائكة ملغومة، عن صناعة السينما العربية بشكل عام، والمصرية بشكل خاص. لا أدري إن كنا نتحدث حقا بلغة سينمائية متماسكة وتستطيع الوصول للناس، إذا كنا والصحافة السينمائية والنقد السينمائي العربي يحتفي ببعض التجارب التي تبدو لنا راقية، وهي في الحقيقة أقرب إلى الوليد المبتسر، لا فرق في ذلك بين تجارب ما بعد الحداثة التي لم أتعاطف معها ولم أفهمها أبدا مثل "يد إلهية" أو "الوقت المتبقي" لإيليا سليمان، أو الملحمية التي تفتقد الإمساك بالخط الرئيسي كما في "باب الشمس" ليسري نصر الله، أو في الفيلم الجزائري المشترك هذا العام في مسابقة أفضل فيلم أجنبي في الأوسكار "خارجون على القانون" من إخراج رشيد بو شارب (ربما سوف نتوقف عند هذا الفيلم الأخير في مقال قادم)، أو في التغريب الذي يعشقه يسري نصر الله لكنه يفتقد أي قدر من النضج كما في "جنينة الأسماك"، أو حتى في رصانة "رسائل البحر" لداود عبد السيد، رصانة تبدو أقرب للترنم بصلاة خاصة بصانع الفيلم لكنها لا تهم أحدا غيره.
إنني لا أطلب من صناع الأفلام العربية أن يصنعوا أفلاما من نوعية خاصة (سوف يتصور البعض أنني أقصد بها الأفلام ذات الرسالة أو المضمون السياسي)، لكنني أتساءل حقا لماذا يبدون كأنهم يقفون خارج تاريخهم؟! ولماذا يحتفي النقد السينمائي العربي في مجمله بهذه التجارب كأننا نتحدث إلى أنفسنا فقط؟ وأقارن ذلك بالفيلم الإسرائيلي الذي لم يبلغ أفاقا سينمائية راقية لكنه يترك في المتفرج أثرا عميقا. أنظر مثلا إلى لقطة النهاية وحاول أن تستشف منها الرسائل الخفية بين السطور: البطل والصحفي الإسرائيليان، وقد أدركا أن مهمتهما واحدة، يدخلان المدرعة ويغلقان غطاءها عليهما، فمهما تنازع الإسرائيليون فلا حل أمامهم سوى التوحد في هذا "الوطن" المحصورين والمحاصرين بداخله، وهما يحملان التابوت الذي يرمز للمسئولية الأخلاقية التي لا يتنكران لها، بينما تمضي المدرعة – كأن القوة العسكرية وحدها هي القادرة على إكمال المهمة – نحو الشمس التي تشرق من بعيد.
في فيلم ليست فيه وجوه تتسم بالوسامة من الممثلين، ولا يمثل فيه النجوم المزيفون دائما دور الولد "الفِتِك" أو البنت ساحرة الجمال، ودون تنميط في الأداء أو افتعال الكوميديا الساذجة أو "الأكشن" الأبله، وبإيقاع بالغ الهدوء وحبكة شديدة البساطة، وباستخدام لأقصى ما في مواقع التصوير الحقيقية من إمكانات درامية دون تعمد لأن تكون اللقطات سياحية، تحدث فيلم إسرائيلي عادي تماما عن السياسة دون كلمة سياسية مباشرة واحدة. هل تدري ما الذي سوف يبقى في ذهن المتفرج، الذي لا يعرف عن القضية الفلسطينية شيئا؟ إن إسرائيل هي "مصنع الخبز"، الذي يحمله البطل أينما رحل ليهديه للجميع، فكأن إسرائيل هي صانعة الحياة، وأنت تعلم جيدا أنها تصنع الموت، لكن من يعلم ذلك غيرى وغيرك ياعزيزي القارئ؟!!

Wednesday, June 15, 2011

المخرج المصري محمد خان يبحث عن وطن



هناك تعبير يجري على ألسنة صناع الأفلام المصرية، وعلى صفحات الصحافة السينمائية، يقول أن "القاهرة هي هوليوود الشرق". وبرغم ما في هذا التعبير من بريق، فإنه ليس دقيقا تماما، خاصة فيما يتعلق بادعاء البعض أن مصر تتسم بأنها "كوزموبوليتانية"، وهو يقصدون بذلك أنها تضم كل متناقضات العالم جنبا إلى جنب، حيث تتجاور العناصر دون أن تتصارع. لكن الحقيقة يا عزيزي القارئ – كما سوف نرى – مختلفة تماما.
ليس هذا جدالا نظريا، وإنما ذكرنا به ما تم نشره على موقع "فيسبوك" منذ أيام، من مناشدات العديد من السينمائيين المصريين أن تقوم السلطات المختصة بالموافقة على منح المخرج "المصري" محمد خان الجنسية المصرية!! وإذا كان هناك في الجملة السابقة ما يبدو أنه تناقض، دعنا نفسر الأمر في البداية: محمد خان ولد في القاهرة في عام 1942 لأب باكستاني يحمل الجنسية الإنجليزية، وبرغم أن محمد خان عاش طوال عمره في مصر، وصنع كل أفلامه فيها، تلك الأفلام التي لا يمكن أن تصفها إلا بأنها "مصرية جدا"، وقال النقاد أنها تسجل لروح المكان في مصر على نحو أقوى من كل الأفلام المصرية الأخرى، برغم ذلك جميعه لم ينجح محمد خان في الحصول على الجنسية المصرية حتى الآن!!
ماذا إذن عن "هوليوود الشرق"؟! هوليوود منذ بدايتها لم تعرف لنفسها جنسية أو قومية، واستضافت الفنانين من كل بلاد العالم، ولعل أكبر موجات الهجرة إليها كانت أيام صعود التيار النازي في أوربا، وآنذاك نزح عشرات الفنانين السينمائيين من كل التخصصات إلى هوليوود، ليس لأن هوليوود تؤمن بروح ثورية ما، وترحب بالمطرودين من أوطانهم لأسباب سياسية، وإنما لأنها "صناعة" كل ما يهمها هو الكسب المادي والمعنوي، وهي ما تزال حتى الآن "تستورد" الفنانين من كل أنحاء العالم عندما تجد أنهم سوف يضيفون إليها دماء جديدة. لكن تأمل كيف أن ذلك تحول إلى نزعة مناقضة تماما خلال الفترة الماكارئية في بداية الخمسينيات، حين بدأت سلسلة تحقيقات مع الفنانين المتهمين بنشاطات "معادية لأمريكا"، أدت إلى نزوح في الاتجاه المضاد.
وهذا هو الفرق بين مصر وهوليوود، والحضارة والكوزموبوليتانية، فمصر كانت وستظل دائما تضم البشر القادمين إليها من كل بلاد العالم، شرطها الوحيد أن يصبح هؤلاء "مصريين"، ليس بالأوراق الرسمية وإنما بالثقافة الإنسانية بالمعنى الواسع للكلمة. وليس غريبا أن تجد أسماء عائلات مصرية تدل على جذور من هنا أو هناك، مثل المغربي أو العراقي أو الموصلي أو الكردي أو الطرابلسي أو التونسي أو الجزايرالي أو التلمساني ... إنها ألقاب قد تشير إلى الجهة التي نزح منها الجدود، لكن لا يترتب عليها أبدا تفرقة من أي نوع بين مصري وآخر.
تلك هي "البوتقة" التي انصهرت فيها عوامل ثقافية عديدة في السينما المصرية على سبيل المثال، فمنذ البدايات الأولى لهذه الصناعة كان الإيطاليون المتمصرون هم الرواد، وتلاهم الشوام الذين كانوا يعملون في المسرح. وسوف تجد اسم ألفيزي أورفانيللي (الإيطالي) مصورا للعديد من الأفلام المصرية حتى بداية الستينات، وهو الذي عرف – وغيره من الإيطاليين العاملين في السينما المصرية آنذاك - أن اكتساب جمهور للأفلام يعتمد على وجود ممثلين مصريين وعرب، مثل فوزي الجزايرلي (واسمه يدل عليه) في "مدام لوريتا" (1919)، أو علي الكسار في "الخالة الأمريكانية" (1920)، أو فوزي منيب في "خاتم سليمان" (1922)، وجميعها أفلام قصيرة تسبق حتى التاريخ الرسمي لميلاد السينما المصرية.
وسوف توضع اللبنات الأولى لهذه السينما من خلال جهود التركي وداد عرفي، والأخوين ابراهيم وبدر لاما الفلسطينيين المهاجرين إلى شيلي في أمريكا اللاتينية. لكن إذا كان جهود هؤلاء متناثرة أو منسية أرجو أن تتأمل دور الفنانة آسيا، التي جاءت إلى مصر في عام 1923ولحقت بها ابنة شقيقتها ماري كويني، ولكل منهما إسهامات أساسية في السينما المصرية، لأنهما أثبتا القاعدة التي تقول أن الجنسية المصرية ليست منحة بل اختيارا من الشخص ذاته. لقد قررتا أن وطنهما هو مصر، وقامتا بتطوير مفاهيمهما عن السينما وتطوير السينما المصرية ذاتها، والتفاعل مع الظروف الاقتصادية، وتحولتا من التمثيل إلى إنتاج بعض من أهم الأفلام المصرية، مثل "رد قلبي" (1956) و"الناصر صلاح الدين" (1963) و"يوميات نائب في الأرياف" (1968).
يمكنك أن تعدد عشرات الأسماء في هذا السياق، لتكتشف أن العديد منها ليس من جذور مصرية خالصة لكنها مع ذلك مصرية مائة في المائة، بل إتك تستطيع أن تقول أنه بدون هذه الأسماء لم يكن للسينما المصرية – والفن المصري بشكل عام – أن يبلغ من النضج والتأثير ما استطاع تحقيقه. تأمل مثلا استيفان روستي، الإيطالي المجري (وفي بعض الأقوال النمساوي!!)، لكنه مصري حتى النخاع، ولن تجد من ينطق العامية المصرية بتلك الروح الساخرة التي كان متميزا بها. وسوف أذكرك هنا بأسماء أخرى دون أن أقول لك جذورها، إثباتا فقط لفكرة أن مصر لم يكن يعنيها أبدا من أين أتى هذا أو ذاك، ما دام قد اختار مصر وطنا وثقافة: نجيب الريحاني، ماري منيب، أنور وجدي، فريد الأطرش، أسمهان، هنري بركات، أحمد بدرخان، ليلى مراد، نور الهدى، فايزة أحمد، وعشرات غيرهم.
لم نسأل أبدا عن جذور أي من هؤلاء، فلماذا اليوم نتوقف عند محمد خان الذي ينتظر أوراقا مصرية تثيت هويته؟! لماذا التقاعس عن منحه إياها، وإن كان الأدق التشرف بمنحه إياها؟ يستطيع المرء أن يفهم ذلك الشعور الذي ينتاب محمد خان، وصرح به منذ ثلاث سنوات لكاتب هذه السطور خلال إعداد كتاب عنه: "يراودني في أغلب فترات حياتي شعور بعدم الأمان، حتى لو لم أجد لذلك أسبابا قوية ... ريما يكون السبب انحداري من "خليط" من الجنسيات، لكنه إحساس ينبع أحيانا من أن البعض يرغمونك على أن تشعر بنوع من "الغربة" إلى درجة المهانة. إنني أتساءل عن مصيري إذا تغيرت الظروف السياسية لسبب أو آخر، وصدرت قرارات بترحيل كل "الإنجليز"، ترى إلى أين أذهب؟ وماذا أفعل هناك؟ وهل يجب عليّ عندئذ أن أترك الوطن لأعيش في المنفى؟!".
محمد خان اختار مصر لتكون "الوطن"، بينما عبر عن انجلترا التي يحمل أوراقها بأنها "المنفى"!! ومع ذلك فإننا نتردد في أن نمنحه أوراقا لن تغير من الحقيقة الجوهرية القائلة بأنه مصري أصيل. ومنذ فيلمه القصير "البطيخة" في منتصف السبعينات، للموظف المصري العائد من عمله حاملا "البطيخة"، تدرك أن محمد خان عين مصرية خالصة، وهو الذي قام في أول أفلامه الروائية الطويلة "ضربة شمس" (1980) بتسجيل شوارع القاهرة خلال أوقات النهار والليل، وما تزال اللقطة الأخيرة لميدان التحرير عند الفجر توحي لك بقلب هذه المدينة، التي تتصور أنها نائمة لكنها تبقي عينيها مفتوحتين، تماما كما تفتح ذراعيها للجميع من أبناء البشر، الذين يرتضون بها أما رؤوما. وإذا كان المثل السائر يقول أن "مصر أم الدنيا"، فلا يجب أن نحرم هذه الأم من أبنائها، خاصة عندما يكونون بقدر مكانة وحب ومصرية محمد خان.