Saturday, August 06, 2011

مسلسل "دوران شبرا" عن دراما التشابه والاختلاف


من الرموز الشائعة في عالم السرد الروائي والدرامي في مصر في الفترة الأخيرة رمز "العمارة"، أو البناية التي تضم قطاعات مختلفة من الناس، حتى أنها تصبح تجسيدا لوطن كامل في لحظة معينة. ولعل شهرة رواية علاء الأسواني "عمارة يعقوبيان" كانت دافعا لظهور مزيد من هذه الأعمال، وإن لم تكن "يعقوبيان" هي الأولى في هذا المجال، وربما لا يتذكر المتفرج مثلا فيلم جلال الشرقاوي في النصف الثاني من الستينيات "الناس اللي جوه"، الذي كان بدوره نوعا من المحاكاة لمسرحيتي نعمان عاشور "الناس اللي تحت" و"الناس اللي فوق". ومنذ سنوات قليلة ظهرت رواية نعيم صبري "شبرا"، لتعرض في نسيج رقيق كيف أن المصريين المسلمين والمسيحيين يتعايشون معا عبر الأجيال.
وإذا بدا لك للوهلة الأولى أن هناك تشابها بين هذه الرواية ومسلسل "دوران شبرا"، الذي كان اسمه "شبرا" فقط قبل أن يغير صناعه اسمه حتى لا تثبت شبهة التشابه، فإن هذا لا يبخس المسلسل حقه أبدا، فهو بكتابة عمرو الدالي، وإخراج خالد الحجر، يدرك جيدا ما هي صنعة الدراما، التي تبدأ بخلق شخصيات من لحم ودم، لا تقع في الإطار النمطي للأخيار والأشرار، وهي تتلاقى وتتباعد، تتحالف وتتصارع، وتغير من مواقفها مع تغيرات الأحداث، وبذلك فإنها تظل تشد المتلقي إليها دائما، وهي سمة من النادر أن تتحقق في الآونة الأخيرة في الدراما المصرية، التي فقدت للأسف أهم الأبجديات الدرامية.
دعنا في البداية نتوقف قليلا عند "جغرافية" العمارة القديمة في حي شبرا القاهري: هناك بدروم تسكن فيه عائلة من يحرسون العمارة، وفي القلب منها المرأة الشابة عزة (حورية فرغلي) التي سوف نعرف على الفور أنها تحملت عشر سنوات من غياب زوجها ناصر (هيثم زكي) في السجن، ظلت خلالها تعمل خادمة لدى سكان العمارة، لتربي أيضا الفتى يوسف شقيق زوجها الذي أصبح الآن صبيا يافعا، ولتتلقى دائما تبكيت أمها مبروكة (حنان يوسف)، التي تبيع الخضار أمام باب العمارة. أما في الطابق الأول فهناك شقتان متجاورتان، لامرأتين تقتربان من خريف العمر، الأولى هي المسيحية لولا (دلال عبدالعزيز)، زوجة عزيز (سامي العدل) صاحب محل العطور، وأم ابنها الوحيد أشرف (أحمد عزمي) الذي يتلقى منها التدليل على الدوام. أما الشقة الثانية فتسكنها المسلمة أم سامي (عفاف شعيب)، وأولادها سامي الذي يعمل في إحدى دول الخليج وعاد لتوه منها خاوي الوفاض، وهاني موظف البنك الذي يجتهد للبحث عن شقة ليتزوج من زميلته، وعماد (محمد رمضان) الذي يبدو عابثا لكنه في الحقيقة يبحث لنفسه عن مكان تحت الشمس التي لا يكاد يراها، لأنه يعمل عملا ليليا في "سوبرماركت"، بمرتب لا يكفي نزواته العابرة، ويحلم بالسفر ليحقق الحرية التي يحلم بها. وإلى جانب هاتين العائلتين هناك رفعت (بطرس غالي)، الأرستقراطي العجوز الذي يعيش وحيدا، حتى تأتيه في الأجازة حفيدته نورا لتقضي الصيف معه. وفي الأعلى يقيم المدرس زيدان (زكي فطين)، الأعزب الذي يخفي عن جيرانه استقباله في منتصف الليل بعض فتيات الشوارع.
برغم الاختلاف بين أفراد هذه "الشريحة" من المجتمع المصري، سواء في الطبقة أو الديانة أو العمر أو حتى النظام الأخلاقي، فإنهم جميعا يكونون نسيجا واحدا، وهو ما يعبر عنه المسلسل بالعديد من الطرق. تأمل مثلا كيف أن صلاة الصبح تربط الشخصيات معا في لقطات تنتقل بينهم كأنها لقطة واحدة متصلة، لا فرق بين أبناء دين وآخر، أو قارن كيف أن أغنية تنطلق من المذياع تربط بين أحد المشاهد والمشهد التالي له حتى لو تغيرت الشخصيات. وربما سوف تتكرر كثيرا تلك العادة في المجتمعات المصرية التقليدية (وحي شبرا من أهم هذه المجتمعات) عندما تنفتح البيوت على بعضها في الأتراح والأفراح.
تمضي الأحداث بتلقائية ونعومة لأنها أحداث الحياة اليومية، المعتادة منها والاستثنائية. يخرج ناصر من السجن مثلا، وهو الذي كان شقيا "بلطجيا" لكنه قرر التوبة خلال سجنه، إنه يحلم بحياة كريمة يكسب فيها رزقه بعرق جبينه، لكن الواقع لا يتركه في حاله، ليجد نفسه ممزقا من ناحية بين سلطة يجسدها ضابط المباحث عمر (أحمد كمال)، الذي يريد أن يعمل ناصر لديه مرشدا، مع تهديد أمين الشرطة رضا الذي يحمل ثأرا قديما لأن ناصر ضربه "علقة" قبل أن يدخل السجن، ومن ناحية أخرى هناك حسن ماريكا، زميل ناصر القديم الذي يريد أن يعود لمشاركته طريق الخروج على القانون. اختيار صعب يعيشه ناصر، ولا يجد من يحميه سوى الجماعات الدينية التي لا يعرف هدفها الحقيقي، لكنها تتيح له على الأقل ما يكفيه لكي يعيش حياة كريمة.
قصة ناصر تلك تمثل نموذجا للدراما المكتوبة والمنفذة بشكل جيد، فالصراع بداخل الشخصية وخارجها معا، وسوف يحملها المسلسل (كما سوف تحمل المسلسل) إلى مستويات جديدة من الصراع، حين يقرر ناصر أن يخوض التجربة المريرة والخطيرة للتلاعب بأطراف الصراع. كما أن قصة الشاب أشرف بدورها تمثل نواة درامية أخرى: إن أباه عزيز سوف يلفظ أنفاسه الأخيرة في صباح عادي من الأيام العادية، بينما هو يضحك على نكتة ألقاها عليه صبي المقهى، وهو الموت الذي سوف يجعل الابن أشرف يواجه الحياة بجدية ربما للمرة الأولى في حياته، ليكتشف أن أباه مدين بمبلغ كبير للبنك، فيقرر أن يحول محل العطور لنادٍ إلكتروني بإيعاز من ماجدة، الشابة التي تغريه بالزواج منها واحتوائه بما يجعل أمه – لولا – تشعر بالأسى من هذا المصير.
إنك لا تستطيع أن تلوم الأم لولا على مشاعرها، لكنك أيضا لا تستطيع أن تلوم الابن أشرف على تصرفه، بل إنك لا تشعر بالكراهية تجاه ماجدة، فهي شخصيات درامية كاملة، وكل منها لديها دوافعها التي لا يساورك الإحساس بالشك في صدقها. إن هذا يمتد أيضا لعائلة أم سامي وأبنائها الثلاثة، الذين سوف يتواجهون في لحظة صراع قاسية على الشقة، التي يبدو بيعها للجميع كأنه الحل الوحيد لمشاكلهم أو أنها سبب مشاكلهم، ومن المشاهد عميقة التأثير في المسلسل ذلك المشهد الذي تلجأ فيه أم سامي للمسجد، وتبحث جارتها لولا عنها فيه حتى تجدها، لتبدو لك المرأتان وجهين لعملة واحدة، فليس هناك في الحقيقة أي اختلاف بينهما على عكس ما يبدو على السطح: نفس السعادة، ونفس الشقاء.
التشابه والاختلاف في آن هو سر حيوية مسلسل "دوران شبرا"، ففيهما يتحقق الصراع الدرامي بشكل راقٍ. كما أن المسلسل يحتفظ ببعض الشخصيات التي تبدو ثانوية، حتى يأتي أوان استخدامها بشكل أكثر درامية، فتكتشف أنها في الحقيقة شخصيات رئيسية على نحو ما، ولعل شخصية سمية، شقيقة عزة الأصغر، تجسد هذا الدور، فهي تظهر في الحلقات الأولى بشكل عابر، لكنها تصبح محور بعض اللحظات والصراعات، إنها تحاول التلاعب بطريقتها بمراهقي الحي، الذين يغازلونها ولا تصدهم ربما سعيا إلى هدية تافهة أو نزهة عابرة، لكن ذلك قد يجر الأحداث إلى صراع أعمق وأكثر شراسة وعنفا. وبنفس القدر تلعب نورا، حفيدة رفعت الزائرة من فرنسا، دورا مهما في حياة الصبي يوسف (شقيق ناصر)، لكن صداقتهما البريئة تشعل نارا بين الفرقاء، كما تثير لدى المتفرج أسئلة جوهرية حول ما يجمع أو يفرق بين أبناء الوطن الواحد.
بين المستوى الواقعي لمسلسل "دوران شبرا"، والمستوى الرمزي له، علاقة وثيقة، والعمارة هنا هي الوطن، في لحظة فارقة من حياته، حيث الكل في مفترق طرق، تبدو مسالكهم متباعدة مشتتة، لكنها في الحقيقة طريق واحدة، لكن إداركها يعتمد على قدرتنا على فهم أن ما يوحدنا أعمق ألف مرة مما يبدو أن يفرِّق بيننا.