Wednesday, October 05, 2011

فيلم "حتى المطر" إنهم يسرقون منا سر الحياة!!


"حتى المطر"، عبارة يمكنك أن تنطقها بطرق عديدة، بشكل تقريري، أو استفهامي، أو استنكاري، وهذا هو المقصود تماما في الفيلم الإسباني "حتى المطر"، الذي يدور حول مهزلة ومأساة تعيشها الطبقات الفقيرة، في دول تسيطر عليها حكومات عميلة، ففي بوليفيا في بداية القرن الواحد والعشرين، اتفقت الحكومة مع شركات متعددة الجنسية على فكرة شيطانية، بأن يبيعوا للمزارعين الفقراء مياه المطر، وهو ما يذكرك بمشروع مماثل كانت تفكر فيه الحكومة المصرية ببيع مياه الري للفلاحين، ولا أدري إن كانت الفكرة ما تزال قائمة، فلا تملك إلا أن تصرخ: "حتى المطر؟!!".
يأتي هذا الفيلم الإسباني في سياق مراجعة راديكالية من جانب بعض المثقفين في أسبانيا الآن، للسياسات الغربية التي حملت تناقضات الرأسمالية بكل شراهتها للمال، على حساب أي شيء وكل شيء. إنها المراجعة التي تنظر إلى الماضي في أسى وغضب معا، كأن الحضارة الغربية تسأل نفسها: "ماذا فعلتُ للإنسانية وبها، بذلك المشروع الاستعماري من عصر النهضة حتى الآن؟". ونحن – أهل الشرق – تعودنا بدورنا ألا نثق في هذه المراجعات، بينما لا نفعل شيئا في الحقيقة سوى الاستهجان، أو إصدار أحكام متعجلة تصل إلى درجة الرعونة، وهو ما يذكرني بقول البعض أن فيلما سابقا للمخرج الأمريكي تيرانس ماليك، هو "العالم الجديد"، يكرر الدعاوى العنصرية حول اكتشاف الأمريكتين، بينما كان الفيلم في جوهره هجاء لمصطلح "العالم الجديد" ذاته، فهذا العالم كان موجودا قبل أن يعرفه الأوربيون، وله حضارته الراسخة، لكن بعضنا يحلو له الإطاحة حتى بمن يقفون في صفوفنا، أو قل بالأحرى صفوف الإنسانية بمعناها الشامل.
وفيلم "حتى المطر" ليس بعيدا عن إعادة اكتشاف لتيمة استكشاف هذا "العالم الجديد"، وسوف تجد بداخله فيلما عن كريستوفر كولومبس وهو يرسو على شاطئ البلاد التي تصورها بشكل خاطئ على أنها الهند، وأطلق على أهلها "الهنود الحمر"، وقال إنه يضم هذه البلاد للإمبراطورية الإسبانية، وفي الوقت الذي رفع شعار التبشير بالمسيحية، و"هداية" أهل البلاد للجنة والنار، ليرفع عنهم الخطيئة، كان يمارس أبشع الخطايا الإنسانية، فقد كان جل همه هو أن يجمع له كل فرد منهم قدرا من الذهب كل يوم، ومن يفشل تُقطع يده، بينما هو يحرق المتمردين منهم أحياء!!
كتب المؤرخ الأمريكي البارز "هوارد زين" عن ذلك أن الغربيين أعطوا الإنجيل إلى الهنود الحمر، وأخذوا منهم أرضهم مقابله، وياليتهم تركوا لهم الأرض ولم يقوموا بهذه الصفقة الظالمة!! وسوف تقرأ إهداء في بداية فيلم "حتى المطر" إلى هوارد زين، الذي تأثر به صناع الفيلم كثيرا. لكن الفيلم ليس في جوهره عن رحلة كولومبس في حد ذاتها، فتلك المشاهد التي رويتها لك ليست في الحقيقة إلا فيلما داخل الفيلم، فالحبكة الرئيسية تدور حول فريق من السينمائيين يذهب إلى بوليفيا ليصور هذا الفيلم، وبرغم أن بوليفيا لم تكن الأرض الأولى التي رسا فوقها كولومبس، فقد تم اختيارها لأنها فقيرة، حيث يمكن تأجير فرد "الكومبارس" بدولارين كل يوم، لا ليمثل فقط وإنما لكي يقوم بالأعمال اليدوية أيضا، ومصدر المفارقة الساخرة المريرة هنا هو أن صناع الفيلم يصنعون فيلما عن الاستعباد الذي قام به كولومبس، لكنهم هم ذاتهم يمارسونه!!
أرجو أن تلاحظ هذه اللمسة الساخرة من الذات في كل ثنايا الفيلم، الذي يستخدم حبكة "الفيلم داخل الفيلم" ليصنع توازيات واختلافات بين الواقع والفن، لكن دعنا نبدأ من البداية. نحن مع المخرج سيباستيان (جايل جارسيا ماركيز) الحالم منذ سنوات بتفيذ هذا المشروع الناقد لكولومبس، وهو يأتي إلى هنا بصحبة المنتج المنفذ كوستا (لويس توسار) الذي لا يهتم إلا بتوفير أكبر قدر من المال، وهو ما يبدو على الفور مع مشهد اختيار كومبارس من أهل البلد الفقراء، المصطفين في طابور طويل انتظارا للقرار، لكنهم يصدمون عندما يعرفون أنه ليست هناك حاجة إليهم، ليثور من بينهم رجل يصطحب ابنته، وبينما يتعاطف معه المخرج فإن المنتج يرى في ذلك تضييعا للوقت، لكن حماس الرجل، ووجهه المنحوت كأنه تمثال هندي أحمر قديم، يقنعان المخرج بأن يسند دور زعيم المتمردين إليه.
بدءا من هنا يبدأ نوع من التداخل بين الإطار الخارجي (صناعة الفيلم حول كولومبس) وفيلم كولومبس بالداخل، ليس فقط من أجل محاولة خلق توازٍ بين هذا وذاك، على العكس فإن الخطين يتلاقيان أحيانا لكنهما يتباعدان في أكثر الأحيان، خاصة أن مساعدة المخرج تصور أحيانا لقطات بكاميرتها لفريق العمل, ونرى هذه اللقطات على الشاشة، وهكذا تكون لديك ثلاث مستويات للسرد: فيلم عن المخرج وحلمه بأن يصنع فيلما، ومشاهد من الفيلم الذي يصنعه، وثالث تصوره مساعدته يجعلك تصدق أن ما تراه من الفيلمين السابقين حقيقي تماما.
يجتمع الممثلون لكي يجروا "بروفات" القراءة، وهنا نتعرف على الممثل الذي يقوم بدور كولومبس، إنه العجوز أنطون (كارا إليخالدي) الذي تشعر أنه يحمل على كتفيه سنوات مثقلة بالأمال المحبطة، حتى أنه يغرق في شرب الخمر، لكن المثير هو أنه يرفض تماما النزعات اللا إنسانية عند كولومبس الذي يجسده، لكنه في أول مشهد يظهر فيه يبدو مندمجا تماما في الشخصية، إنه يقف في مطعم الفندق يتلو بعض سطور من دوره، ويعلن عن أنه نزل إلى هذه الأرض التي أصبحت ملكا لملكة إسبانيا ولله (!!)، ويتوجه إلى عاملة المطعم التي يتعامل معها على أنها هندية حمراء، ويلاحظ القرط الذهبي في أذنها فيخلعه ويحمله في يده ويسألها في انبهار وقسوة من أين أتت بهذا الذهب، وهي لا تجيب بالطبع لأنها لا تعرف ما يدور، ليفيق في النهاية من انماجه في الشخصية ويعتذر لها.
وبقدر حماس الممثل الذي يقوم بدور كولومبوس للهنود الحمر، نرى موقفا معاكسا من الممثل ألبيرتو (كارلوس سانتوس) الذي يجسد دور القس لاس كاساس، هذا القس الذي أدرك المظالم التي يعاني منها الهنود باسم المسيح، فالممثل يبدو لا مباليا بمضمون دوره، أو يتصرف أحيانا على عكس هذا المضمون. وهذا الانقلاب للأدوار يبدو أوضح ما يكون مع المخرج سيباستيان الذي يبدأ متعاطفا، والمنتج كوستا الذي يبدأ استغلاليا، فكل منهما سوف ينتهي عكس ما بدأ، وهذا التحول يؤكد على "الدراما" المطلوب وجودها في أي فيلم جيد، لأنها تتوقف عند المشاعر والأفكار المرهفة وتغيراتها، بما يجعل المتفرج أقرب للتفاعل والتوحد. أما الشخصية الوحيدة في الفيلم التي سوف ينطبق وجودها في الواقع وفي الفيلم داخل الفيلم فهو دانييل (خوان كارلوس أدوفيري)، الهندي الأحمر المتمرد، سواء في بوليفيا المعاصرة، أو في دور "آتوي" زعيم التمرد في الفيلم عن كولومبس.
مصدر التصادم والتعارض والتلاقي بين الواقع والفن هو ما يحدث في هذه القرية البوليفية الآن، حيث السلطات تمنع أهل البلاد من حفر الآبار بحثا عن مياه المطر، لأنها تنوي أن تبيع لهم هذه المياه عن طريق شركة أمريكية. وهنا يتزعم دانييل اعتراض أهل القرية ضد السلطات، إنه يذهب إلى المدينة حيث يقود المظاهرات، بما يعرضه للضرب المبرح من رجال الشرطة والجروح التي تصيب وجهه. وما يهم المنتج كوستا في ذلك كله ليس معاناة الأهالي أو القمع الذي يتعرضون له، فكل ما يهتم به هو الخسارة المالية التي سوف يتعرض لها الفيلم، إن لم يستطع دانييل إكمال دوره بعد أن قطعوا شوطا في التصوير، فكأنه الوجه المعاصر لاستغلال كولومبس، برغم أن يصنع فيلما انتقاديا لاستغلال كولومبس.
يبرز هذا النقد الذاتي في أفلام إسبانية عديدة معاصرة، لعل من أهمها الفيلم القصير عن "المطاردة"، والذي يبدأ وسط أدغال أفريقية، حيث تجار العبيد الأوربيون ينزلون على الشواطئ، ويطاردون الزنوج على نحو دموي شرس، ومن يتم القبض عليه يُشحن على السفن إلى أوربا، وفجأة تنتقل المطاردة إلى الغابات الأوربية في الزمن المعاصر، للقبض على الأفريقيين المتسللين إلى أوربا وإعادتهم إلى بلادهم، فكأن هذا الفيلم القصير يقدم رؤية لا تخلو من مرارة تجاه الذات، من الحضارة الأوربية التي كانت في الماضي تخطف الأفارقة وتأخذهم كعبيد، بينما هي الآن تمنع عليهم أن يبحثوا عن لقمة عيش في البلدان التي كان أجدادهم عبيدا فيها!!
تلك هي المرارة الذاتية التي تبدو في العديد من مشاهد "حتى المطر"، مرارة لا تخلو من حزن وأسى، سواء في الفيلم داخل الفيلم، حيث الهندي الأحمر يساعد رفاقه الذين وقعوا أسرى في أيدي رجال كولومبس، أو في الإطار الخارجي في بوليفيا المعاصرة، حيث القتال الشرس بين المدنيين العزل المدافعين عن حقهم المشروع في مياه المطر، وفرق مكافحة الشغب التي تستخدم العنف المفرط. إنه نفس النضال، والحاضر يكرر الماضي، بين من يمارسون الاضطهاد ومن يعانون منه، بين الأغنياء والفقراء، بين من يرفعون لواء الحضارة وهم يتصرفون بوحشية، وأناس يبدو بسطاء في حياتهم لكنهم هم جوهر كل حضارة إنسانية حقيقية.
في أحد مشاهد الفيلم المهمة – وأرجو ألا يتوقع مني القارئ أن أذكر له كل المشاهد – تقوم الكلاب بمطاردة الهنود الحمر في زمن كولومبس، ويقترب كلب متوحش من الكاميرا في مواجهتنا تماما كأننا بدورنا سوف نقع ضحية الافتراس، وسوف نعرف أنه حدث في التاريخ أن نساء القيبلة قررن ألا تتركن أطفالهن الرضع لتنهشهم الكلاب، فقررن إغراقهن في النهر!! يالقسوة الحقيقة، التي تصبح أكثر قسوة هنا، لأن المخرجة الإسبانية إيثار بولين أدركت بحس المرأة وطأة الموقف، فقررت أن تتوقف عنده بالتأمل. إن مخرجنا يريد تصوير هذا المشهد، باستخدام خداع المونتاج بالطبع، وعبثا يحاول إقناع نساء القرية المعاصرة بإعادة تمثيله، فتلك الحقيقة التاريخية المرعبة تتجاوز أي قدرة على تمثيلها من جديد.
وبينما كان أهل المدينة يعيشون حالة من الرعب بسبب القمع على يد الشرطة، كان الموظفون الرسميون في الحكومة يقيمون حفل استقبال لفريق عمل الفيلم، إنك تسمع الصرخات وأصوات طلقات الرصاص في الخارج، بينما "المثقفون" يناقشون بهدوء في الداخل سر "الأزمة" بين الفقراء والأغنياء، يختلفون في الرأي وهم يقارعون الكئوس، بما يذكرك بأحوال بعض البلدان العربية التي تشهد ثورة شعبية، و"سفسطة" سياسية، تنتهي بإدانة الجميع للجميع، ومصافحة الجميع للجميع!! إن أنطون (ممثل شخصية كولومبوس) ينتقد الحكومة البوليفية لأنها لا تدرك أهمية الماء لأهل البلاد، وتتعامل معهم بنظرية ماري أنطوانيت، فما حاجتهم للمياه إذا كانت الخمر موجودة؟!! لكن الموظف الرسمي يجيبه بأن فريق عمل الفيلم لا يختلف كثيرا عن الحكومة في استغلاله فقر الكومبارس، فيبتسم الجميع!!
سوف يلعب المنتج كوستا على حث الهندي الأحمر دانييل على البحث عن خلاصه الفردي وحده، فلماذا يربط نفسه بأقرانه إذا كان يستطيع أن يحصل على مال أكثر من الفيلم، يمكنه من شراء ما يريده من مياه؟ فيجيبه الرجل: "الماء هو الحياة، وأنت لن تفهم ذلك". لكن كوستا في الفيلم لا يبدو أبدا ذلك المنتج الشرير الذي يدوس على كل شيء من أجل تحقيق المال، وهو "إنسان" بالمعنى الدرامي وليس نمطا لشخصة في فيلم، خاصة مع أداء الممثل لويس كوسار أحد أشهر الممثلين الإسبان حاليا، وهو أيضا بطل فيلم "الزنزانة 211" الذي تنافس مع "حتى المطر" للوصول إلى الأوسكار في بداية هذا العام، والذي قد نتوقف عنده في مقال قادم. إنك تشعر أن لكوستا عالما خفيا، وحياة ليست سعيدة بأية حال، برغم أن عليه أن يصبح "الأب" بالنسبة للجميع، يشجعهم ويطيب خاطرهم لكنه هو نفسه لا يجد التشجيع من أحد، وهذا ما يمهد لتحوله في الجزء الأخير، حيث يكون عليه أن يختار بين أن يهرب بمشروع الفيلم من هذا المكان المضطرب، أو أن يخوض رحلة بين النيران والرصاص لكي يصل بابنة دانييل للمستشفى لعلاجها من جرح خطير.
لا يعود كوستا من رحلة فيلمه إلا بهدية دقيقة الحجم من دانييل، يفتحها فيجد زجاجة مياه صغيرة، وينطق اسمها بلغة أهل البلاد: "ياكو"، فقد عرف الكلمة ومعناها. وهذا هو ما يرجوه منك فيلم "حتى المطر"، أن تدرك أهمية هذه القضايا الحيوية للبسطاء، ملح الأرض وصانعي مجدها الحقيقيين، الذين توقفت عندهم كاميرا الفيلم طويلا في لقطات تسجيلية حميمة، تضبف بعدا آخر للدراما، التي امتزجت فيها طبقات من الأساليب، تلتقي جميعا معا في الرغبة في منح الفيلم طاقة حيوية وصدقا عميقا، وهو يتحدث عن هؤلاء الناس الذين يجب أن نصنع الأفلام عنهم، ومن أجلهم، لأنهم هم الذين يصنعون الحياة.