Sunday, December 16, 2012

"عبده موتة"، وخرافة النجاح

حقق فيلم "عبده موتة" أرقاما كبيرة في موسم عيد الأضحى الماضي، وثارت حوله بعض الاحتجاجات من أطراف رأت فيه انتهاكا في استخدام أغنية شعبية دينية من أجل الرقص، فاغتنم منتج الفيلم وبطله هذه الفرصة، وانتشرا على العديد من القنوات الفضائية ليعددا مزايا فيلمهما، في نوع من الدعاية المجانية، وسارت الصحافة الفنية في الركب فأخذ البعض يشيد بالفيلم، واعتباره تعبيرا عن سياق اجتماعي وسياسي كامل، مجسدا في شخصية "عبده موتة"، الذي قام بتمثيله الممثل الجديد محمد رمضان. وربما لم يحدث هذا اللغط حول شخصية سينمائية منذ عشر سنوات أو يزيد، عندما ظهرت شخصية "ليمبي" كما قدمها محمد سعد، وحينها تصاعد الجدل حول إذا ما كان لهذه الشخصية دلالة اجتماعية إيجابية أو سلبية. وفي حين رأى البعض فيها تعبيرا عن الجانب السيء من الشخصية المصرية المعاصرة، وتكريسها لما يعتريها من أمراض سلوكية، فقد اشتد الحماس بالبعض الآخر حتى رأوا أن الفيلم والشخصية يحملان دلالة على نحو لم يتح للسينما المصرية أن تقوم به منذ فيلم "العزيمة"!! من المفيد دائما أن يعود الناقد بين الحين والآخر لمراجعة مثل هذه الظواهر، ففيها إشارة لما سوف تؤول إليه ظواهر معاصرة أيضا. وإذا كان "ليمبي" لم يجد فرصة للحياة إلا سنوات معدودة، واختفى فلم يفتقد الجمهور شيئا، ولأن صناع فيلم "ليمبي" لم يحققوا بعده نجاحا فنيا أو جماهيريا، فإن ذلك كله يدل على أنها كانت ظاهرة عابرة، وأن النجاح التجاري للفيلم أتى من خارجه، أي من سياق جعل الجمهور يسعى لنسيان متاعب حياته في هذر وهزل رخيصين، ثم انصرف عن الفيلم وعن الشخصية بحثا عن "مخدر" جديد. لعل هذا هو حال "عبده موتة" أيضا، الذي ذهبت إليه جماهير سينما العيد بحثا عن "جرعة" من الفرجة الصاخبة، ولأن معظم الكتابات حوله توقفت فقط عند الشخصية كما ظهرت في الفيلم، بينما لم تعطِ الجانب السينمائي التفاتا، فسوف نتأمل معا اللغة السينمائية للفيلم في فقرة تالية، ليس من أجل إجراء عملية "تشريح" نقدي، ولكن من أجل البحث عن الطريقة التي تركت فيها هذه اللغة تأثيرا حسيا ونفسيا على المتفرج. سوف يفاجئك فيلم "عبده موتة" من الوهلة الأولى، وبقدر قليل من التأمل، بأنه لا جديد فيه على الإطلاق، فهو يتألف من شذرات أفلام قديمة، يجمعها خط يشبه إلى حد كبير نمط التمثيليات الإذاعية التي تجمع كل مصائب الدنيا في نصف ساعة!! أنت في البداية مع مطاردة، من المطارِد ومن المطارَد؟ لسنا ندري!! وتلك بالضبط بداية فيلم "ابراهيم الأبيض" من بطولة أحمد السقا، وبرغم استمرار المشهد أطول مما ينبغي بينما لا تعرف أطرافه، فإن صناع الفيلم (محمد سمير هارون كاتبا للسيناريو، واسماعيل فاروق مخرجا) يقعان في نفس الخطأ، فأنت لا تستطيع أن تطلب من المتفرج أن يتعاطف أو يتوحد مع أي شخصية بينما أنت لم تقدمها له بعد، لكنها للأسف غواية "الأكشن" التي تسلطت على صناع السينما المصرية في الآونة الأخيرة، لينتهي المشهد بأن يلقي الهارب بنفسه في النيل، هذه المرة على طريقة أحمد السقا في "أفريكانو"!! لا يكاد هذا المشهد أن ينتهي حتى تدرك أنه بلا ضرورة على الإطلاق، فقد نجحت الشرطة (التي تقوم بالمطاردة) في القبض على "البطل"، الذي هو عبده موتة أو محمد رمضان، وكان من الممكن أن يبدأ الفيلم هنا، لكي نعرف أن هذا الـ"عبده" سجين لمدة شهور، لأنه يعمل لصالح المعلم مختار تاجر المخدرات، الذي يستخدم صبيانه كما يحلو له، ويشي بهم أو حتى يقتلهم كيفما يشاء، بينما نحن في الحقيقة لا نرى سببا واحدا لهذه السطوة. لكن الفيلم يريد (كما فعل "ابراهيم الأبيض" أيضا) أن يصنع من هذا المعلم غريما للبطل في كل شيء كما سوف نرى، لعل هذا الصراع يبعث بعض الحيوية في الفيلم، وإن كان ذلك عبثا لأننا نعرف في كل لحظة تصرفات طرفي الصراع، فكلما ظهرا في أي مشهد معا تبادلا نفس النظرات، وعلت على شريط الصوت نفس الموسيقى. ولأنك سوف تتوه في التواءات وانعطافات الفيلم، الذي لا يعرف معنى كلمة "بناء درامي"، والذي تتوالى مشاهده دون أي منطق، فسوف أحاول هنا أن أحدد لك معالمه: عبده هذا ابن حي عشوائي من تلك الأحياء التي تبيعها السينما المصرية مؤخرا، ونحن لا نقول "تبيعها" لأننا نرفض تصويرها بمنطق عدم نشر غسيلنا القذر على الملأ، ولكن لأن أفلامنا تستخدمها للفرجة مثل "كروت البوستال" (هذه المرة للفرجة على الجانب السيء)، دون ذرة تعاطف أو فهم حقيقي واحدة، فهذا تعاطف زائف، تلوكه بعض سطور الحوار هنا وهناك، لكن التأثير النهائي لهذه الأفلام لا يكون "كيف يعيش هؤلاء الفقراء هذه الحياة بالغة الصعوبة ويظلون على قيد الحياة؟"، وأنما "أليس من الأفضل أن نتخلص من هذه الكائنات المتوحشة؟"!! على سبيل المثال لن يثير عبده تعاطفي أبدا، بل سوف يثير اشمئزازي، وهو يطرد فتاة كان السبب في حملها (كما في فيلم "حين ميسرة")، كما سوف يثير اشمئزازي فيما بعد عندما يقتل صديقه الذي كان سببا في حمل أخته (رحاب الجمل)!! هذا إذن عالم من الوحوش، وعبده البلطجي يقف في منتصفه، تتنافس على حبه امرأتان: ابنة خالته بائعة الفول أنغام (حورية فرغلي)، التي تذكرك بشخصية البطلة في فيلم "شمس الزناتي"، والعاهرة ربيعة (دينا) التي تنتقل بينه وبين معلمه دون أن نعرف لها مشاعر محددة (في تنويع مشوه على "اللص والكلاب" و"الهروب")، لكن الفيلم لن يفوت الفرصة بالطبع، وسوف يتيح الفرجة على وصلة "ردح" وخناقة نسائية بين المرأتين، لأن نار الغيرة تأكلهما، ونحن لا نعرف لماذا تقع امرأة في مثل هذه الظروف الطاحنة في هوى فتى لا يكاد يخرج من السجن حتى يدخله. تتنهي هذه الخيوط بالطبع بـ"عبده" وقد قتل عددا لا يحصى من الأصدقاء والأعداء، ويساق إلى السجن بملابس الإعدام الحمراء كما فعلت من قبل يسرا في فيلم "امرأة آيلة للسقوط"، مع "مونولوج" مفتعل يقول فيه البطل أنه كان يريد أن "يعيش"، لكننا لم نرَ على ذلك أمارة واحدة. ما يهمنا هنا إذن هو "السينما"، فأنت لا تستطيع أن تطلق على أي شريط سينمائي تعبير "فيلم" بعد أن بلغت اللغة السينمائية درجة من البلاعة لا يمكن الجهل بها، وأنت في النهاية أمام شريط يضع جنبا إلى جنب مشاهد الخناقات، والنساء، وتدخين المخدرات، والصراخ، والغناء والرقص الهيستيري (أنت أمام "كاباريه" حقيقي في هذا الحي العشوائي!!)، وخيوط ميلودرامية زاعقة (لا ينسى الفيلم وجود أخ متخلف عقليا للبطل عبده، على طريقة مسلسل "شيخ العرب همام"). وإذا أردت مثالا على اختيار مثل هذه المشاهد، وطريقة تنفيذها، والغرض منها، تأمل مشهد وضع شخصية دينا لزينتها (بالتصوير البطيء!!)، انتظارا لقدوم المعلم، ومشهد مماثل تماما لشخصية رحاب الجمل وهي تتزين وترقص وحدها أمام المرآة، فليس لهذين المشهدين أي ضرورة في الحدث، لكن هدفهما بالطبع هو حشد المزيد من عناصر "الفرجة" للمتفرج. تأمل أيضا رسم شخصية عبده، الذي يحاكي شخصية الممثل الأمريكي صامويل جاكسون في فيلم "فحيح الثعبان الأسود"، بنصف جسده العلوي العاري، والثعبان الملتف حول رقبته أو وسطه، فهي صورة "ذكورية" منحطة تخاطب الغرائز حتى بشكل غير واعٍ، تماما كما أن الكاميرا المحمولة المهتزة طوال الفيلم، مع المونتاج بالغ السرعة بدون أي ضرورة فنية، يهدفان إلى إغراق المتفرج في "رسائل" حسية تؤدي في النهاية إلى عدم قدرته على تمييز ما يستقبل، ولذلك عند صناع الفيلم هدفان: الأول إخفاء الضعف الفني الذي يدفعهم إلى هذا الأسلوب في كل المشاهد، فلا يصبح مطلوبا منهم التفكير في أي تقنيات أو جماليات ملائمة لكل مشهد، أما الثاني فهو أن يصبح المتفرج "مخدرا" بالمعنى العصبي للكلمة، ولعل هذا هو السبب الرئيسي في جماهيرية الفيلم، في سياق مشحون بالمتاعب حتى أنه يدفع الناس للهروب منه أحيانا والبحث عن مخدر. أما عن أن شخصية "عبده موتة" قد حققت نجاحا فنيا، أو أنها جسدت سياقا اجتماعيا، فذلك كله حديث هازل، وربما كانت أيضا علامة النهاية للممثل محمد رمضان، الذى يتصور أنه أصبح نجما، فالنجم هو من يحلم الجمهور أن يصبح مثله، أو يرى فيه نفسه، وإذا كان البعض قد ذكر أن الصبية كانوا يخرجون من قاعة العرض ليقلدوا الشخصية، فهذا ليس من تأثير السينما، لكنه تأثير مخدرات السينما، الذي سرعان ما يزول، ليفيق الناس على حقائق الحياة الأكثر إيلاما من كل تلك الأفلام المفتعلة.

Tuesday, November 13, 2012

الرقابة في عصر السماوات المفتوحة

أصبحت الرقابة في الفترة الأخيرة تحتل مساحة شبه ثابتة على صفحات الصحافة الفنية في مصر، حيث ساد جو من التوجس المتبادل بين الطرفين: الفنانين من جانب، والجهات الرقابية من جانب آخر، فكلاهما يشعر أن الظروف العامة في حالة سائلة من التغير، ومن الصعب تحديد خطوط واضحة لأي شيء، لذلك بات الفنانون يصنعون أعمالا فنية تلقى نوعا من العنت غير المبرر أحيانا، لأن الرقباء – الذين تغيروا لأسباب غامضة – يتحسسون رؤوسهم أيضا، فأصبح شعارهم "المنع أولى من المنح"!! ليس من الغريب في هذه الأجواء أن تثار قضايا ضد عادل إمام من مجهولين، على أفلام قدمها منذ عشرين عاما، بحجة الإساءة للإسلام، برغم أنه ممثل وليس مؤلفا أو مخرجا، ولأنه الأشهر بالطبع فسوف يصبح عبرة لمن هم أقل شهرة، فكأنما ينطبق عليه القول "إضرب المربوط يخاف السايب"، كما أصبحت الممثلة إلهام شاهين محورا لمجادلات تتسم بعنف القول والفعل من جانب بعض من يقولون أنهم ينتمون للدعوة الدينية. وهذا كله لا يشير فقط إلى حالة فوضى الآراء التي تسود مصر الآن، بل تؤكد – على عكس ما نتصور – هزال جهاز الرقابة، فإذا كان هذا الجهاز يتسم حقا بالصرامة التي يبدو عليها في التعامل مع الفنانين، فكان من الأوجب بعد الحصول على التصريح الرقابي ألا يوجه للفنان أي اتهام، وأن تتحمل الرقابة عبء الدفاع عنه. لكننا دائما نأخذ من الأشياء أسماءها وليس معناها أو وظيفتها، ففي كل بلاد العالم المتقدمة والديموقراطية نشأ جهاز الرقابة في البداية لكي يحمي المجتمع من الأعمال الفنية التي قد تمثل انتهاكا ما، قد يكون مثلا تعديا على التقاليد الراسخة، أو يحمل في طياته نوعا من الابتذال المتضمن جنسا فاضحا أو عنفا دمويا، وكانت الرقابة في بادئ الأمر تتمثل في عشرات من المؤسسات والجمعيات الأهلية التي يهتم كل منها بجانب اجتماعي معين. لكن سرعان ما تم اكتشاف أن هذا النوع من الرقابة سوف يخنق الفن والفنان خنقا، لذلك أسرعت على سبيل المثال صناعة السينما في هوليوود إلى إنشاء مكتب بداخلها، يقوم بالرقابة الذاتية على الأفلام قبل صنعها، وهو المنوط به الدفاع عنها وعن صانعيها بعد ذلك، لو قرر البعض رفع دعاوى قضائية ضد الفيلم. ليس في مصر حتى الآن مثل هذا المفهوم الناضج للرقابة ودورها، ولم تفكر أي جهة سينمائية في تبنيه، سواء كانت غرفة صناعة السينما أو نقابة السينمائيين، لذلك يظل السينمائي في مصر معرضا لأنواع عديدة من الرقابة قبل وبعد صنع فيلمه، تبدأ بالرقابة الرسمية التابعة لوزارة الثقافة، وإن كانت ترجع أحيانا لجهات أخرى للاستشارة مثل الأزهر أو وزارة الدفاع أو الداخلية، وبعد أن يتصور الفنان أنه قد نجح في خوض هذه الرحلة العسيرة، يجد نفسه أمام ما يمكن أن نسميه تجاوزا الرقابة الشعبية، حتى بعد سنوات طويلة، حيث تتم ملاحقته من كل من يرى أن الفيلم قد تعارض مع رأيه!! يعكس ذلك كله فوضى حقيقية قد يكون لها خطرها العاجل أو الآجل على الفن في مصر، خاصة في ظل سلطة جديدة ترى أن من حقها أن تغير من وجه مصر الثقافي، وترفع شعار الدين أو الأخلاق في كل شيء، وكأنه ليس هناك تصور لهما إلا الصورة التي تريدها هذه السلطة. لكن من الواجب الإشارة إلى أنه إذا كان العمل الفني الراقي يهذب الأخلاق بالضرورة، فإنه ليس حتميا أن يصنع رجل أخلاقي عملا فنيا راقيا، وإلا كان رجال الدين هم الأصلح لممارسة الفن. بكلمات أخرى، فإن للفن رجاله، والعالم الفني يحتاج إلى الحرية والرحابة، يحتاج إلى الهواء الطلق ليتنفس، بينما قد يعاني الاختناق من القيود. وقد يصح هنا القول بأنه يجب في كل الأحوال مراعاة "الأخلاق"، وأنه لا حرية بلا قيود أخلاقية، لكن يجب علينا أيضا أن نحدد معنى الأخلاق، التي لا تنحصر أبدا في بعد واحد من أبعاد الحياة، مثل ممارسة الطقوس الدينية، بل يجب أن تمتد إلى كل الأبعاد الاجتماعية، حيث قيم العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص وحقوق الإنسان من جوهر الأخلاق. وتلك النظرة الأحادية للأخلاق – كما يحدث في مصر خلال الشهور الأخيرة – لن تؤدي إلا لمزيد من الازدواجية الساخرة والمريرة معا، فبرغم المناخ الخانق الذي تفرضه الرقابة على أعمال جادة، لأنها تمس قضايا حساسة ومهمة في مجتمعنا، فإن هناك أفلاما تستطيع أن تفلت من قيود هذه الرقابة لأنها تبدو على السطح كأنها تدعو إلى الأخلاق. ففي أفلام عيد الأضحى التي تعرض حاليا نال فيلم "عبده موتة" نجاحا جماهيريا ساحقا، ويقول صناعه أنه فيلم أخلاقي لأنه انتهى بالحكم على بطله المجرم "البلطجي" بالإعدام، ولكنهم يتناسون عمدا أن هذه البكرة الأخيرة من الفيلم جاءت بعد تسع بكرات كاملة من العنف المفرط، والتلميحات الجنسية الغليظة!! لم يكن "عبده موتة" استثناء في هذا السياق، ففي العام الماضي، ووسط غليان الأحداث السياسية في مصر، حصل على نفس النجاح التجاري فيلم "شارع الهرم"، الذي احتوى على فقرات كاملة من ليلة في نادٍ ليلي في هذا الشارع الشهير، بينما كانت الصيحات السائدة تتحدث عن "العودة" إلى القيم الأخلاقية!! هذه النماذج ليست في الحقيقة إلا برهانا على أن تجاهل أذواق الجماهير على المستوى الرسمي سوف يكون نوعا من دفن الرؤوس في الرمال، بينما تبقى على السطح رغبة ملايين الناس في فنون تلهيهم وتسليهم وتعزيهم عن مشكلات حياتهم اليومية. والحديث عن فن "أخلاقي" هو حديث يجهل طبيعة الفن ذاته، الذي يجمع وظائف عديدة، وهو ليس حاملا للقيم بقدر ما هو دافع إلى الأخذ بهذه القيم بشكل غير مباشر في أغلب الأحيان، فعندما يهدف العمل الفني إلى التسلية والترفيه والترويح عن النفس، فإنه يجعل المتلقي قادرا على مواصلة الحياة من جديد، وعندما يقرر العمل الفني أن يشتبك مع الواقع وقضاياه الملحة، فإنه يأخذ على عاتقه الإجابة عن أسئلة ملحة تؤرق المجتمع، وأيضا عندما يكون العمل الفني رؤية خاصة بالفنان فإنه يدعو المتلقي لارتياد عوالم جديدة لم يطأ أرضها من قبل. إن ذلك كله يؤكد قصر نظر مؤسسات الرقابة الرسمية وتوابعها الشعبية، بل قصر نظر المؤسسات التي تقف وراءها وتدعمها، من جانب لأن ذلك لن يؤدي في نهاية المطاف إلا لفن ضعيف ذي لون واحد باهت، عاجز عن أن يقوم بدور إيجابي حقيقي، ومن جانب آخر فإن الجمهور سوف يبحث عن حاجاته واحتياجاته في مكان آخر. وفي عصر السماوات المفتوحة يصبح من الهزل الحديث عن أي شكل من أشكال الرقابة الصارمة الجامدة، فإذا قررت السلطة الحاكمة أن تفرض عليك لونا فأمامك الأقمار الصناعية مختلفة الألوان، وإذا عنّ لهذه السلطة أن تمنع الأقمار الأخرى فكيف لها أن تمنع بث قمر يقف على نفس الزاوية من قمرها كما هو الحادث الآن؟!! ليس الحل أبدا هو أن تفرض الجوع على الجماهير، لكي يلتهموا الطبق الوحيد الذي تقدمه لهم، بل الحل أن تقدم لهم وجبة بل وجبات حقيقية ومتنوعة من الفن، ولن تملك سلطة أن تجعل من وطن كامل سجنا لكي تفرض أفكارا وفنا خاصا بها، فالتكنولوجيا جعلت من العالم وطنا فنيا وإعلاميا واحدا. كيف فشلت الرقابة في امتحان الرقابة؟! برغم إدراك الجميع أن الأجهزة الرقابية على المصنفات الفنية، بالشكل المعمول به في مصر الآن، لم تعد بأية حال تساير متغيرات العصر التكنولوجية، فإن هذه الأجهزة ما تزال تمارس نفس الدور الذي عفى عليه الزمن، تراقب السيناريوهات قبل صنع الفيلم، وتحذف بعض اللقطات بعد الانتهاء منه، وتصنع مشكلات تحتشد بها صفحات الصحافة الفنية طويلا، بينما السماوات المفتوحة وأقمارها الاصطناعية تتيح للجميع الوصول إلى ما يريدونه دون رقيب. وفي الحقيقة أن هذا الفشل في مثل هذا الدور للرقابة قديم قدم وجودها ذاته، هذا الوجود الذي ينطوي على مفارقة ساخرة، إذ أن المطلوب منها "حماية النظام العام"، فما المقصود بهذه العبارة؟ وما هو هذا النظام؟ ولكي نوضح تلك المفارقة دعنا نتأمل ما يحدث اليوم، فمنذ شهور قليلة مضت، كانت الرقابة بالغة الحذر في أن تكون هناك في الأفلام أي سمات إيجابية لشخصية تنتمي إلى التيارات الإسلامية خاصة المتشددة، وكانت مثل هذه الشخصيات تظهر باعتبارها تجسيدا للتطرف أو حتى للإرهاب، مثل فيلم "الآخر" ليوسف شاهين، أو لضيق الأفق في أفضل الأحوال مثل فيلم "الإرهاب والكباب"، بينما نفس الرقابة لا تسمح أبدا الآن بمثل تلك الصورة، لأن "النظام" تغير، وهي دائما تسير في ركب النظام! وما دامت الرقابة ذراعا من أذرعة أي نظام حاكم، فمن الشطط القول أنها يمكن أن تعمل بأية حال لمصلحة المجتمع، أو لصالح الفن، فدورها ينحصر إذن في الإبقاء على "الوضع السائد" أيا كان، ومنع أي بوادر للتمرد أو التفكير في الثورة، وهي إن سمحت هنا أو هناك ببعض هذه اللمحات فلأنها تعتقد أنها نوع من تفريغ الطاقة المكبوتة. يمكنك إذن باختصار أن تقول أن الرقابة بشكلها الحالي تقوم بدور رجعي، وحتى عندما نراجع أداءها في هذا الدور عبر تاريخ السينما القريب سوف نكتشف أنها قد فشلت فيه بامتياز. هناك محاذير ثلاثة دائمة أمام أي "موظف رقابي": إبحث عما يمس السياسة، أو الدين، أو الجنس! تأتي إذن السياسة في المرتبة الأولى، وقبل ثورة 1952 بشهور قليلة، تم حظر عرض فيلمين فيهما مشاعر متقدة مضادة للاستعمار، هما "مصطفى كامل" و"مسمار جحا"، لكن هذا المنع لم يقف بالطبع حائلا أمام قيام الثورة. وبلغت السخرية حدا كبيرا مع فيلم "شمشون ولبلب"، الذي كان حكاية رمزية شعبية بالغة الطرافة، تتحدث عن مغتصب أجنبي يصل إلى الحارة، وضرورة مقاومته، في إشارة للصراع العربي الإسرائيلي، إذ قررت الرقابة حذف اسم "شمشون" ووضعت مكانه اسم "عنتر"، سواء في العنوان أو بالحذف من حوار الفيلم، لكن كلمة "شمشون" أفلتت من الدوبلاج مرة أو مرتين!! وبرغم أن الستينيات كانت في رأي كاتب هذه السطور العصر الذهبي للسينما المصرية، فإن الرقابة لم تكن على نفس مستوى الإبداع الفني، مرة أخرى بسبب روح الموظف الحكومي لدى القائمين عليها. فشهد فيلم صلاح أبو سيف "القضية 68" تعنتا رقابيا كبيرا، لأنه أشار إلى أن هناك خطأ سياسيا "داخليا" كان السبب في الشرخ في جدار العمارة (كانت تلك هي سنوات النكسة)، لكن المنع الرقابي لم يمنع مظاهرات الطلبة، ليأتي بعدها قرار الزعيم عبد الناصر إجراء إصلاحات شاملة. كما أن فيلم حسين كمال "شيء من الخوف" أثار رعبا لدى موظفي الرقابة، لأنه يتناول عمدة قاسيا ظالما تثور القرية ضده، بينما قال عبد الناصر ذاته بعد أن شاهد الفيلم أن رجال الثورة يستحقون مصير العمدة لو كانوا مثله، وسمح بعرض الفيلم. وكانت معظم أفلام توفيق صالح تبعث القلق لدى الرقباء، لأنها حتى لو كانت تدور في الماضي فإنها تشير إلى الواقع الراهن، ففيلمه "يوميات نائب في الأرياف" يتحدث عن أن الانتخابات يتم تزويرها، لتصبح كلمات مثل "الشعب" و"الحرية" بلا معنى، وهو الأمر الذي ما يزال حقيقيا حتى الآن. وفي السبعينيات مالت السينما المصرية – بعد أن عادت سيادة القطاع الخاص – إلى أن تصرف النظر عن السياسة ومتاعبها، وفضلت أفلاما تتناول قصص الحب بين أناس لا يعرف المتفرج أين يعيشون وماذا يعملون لكسب قوتهم، أو قل ثرواتهم وقصورهم. وعندما ظهرت أفلام قليلة مثل "زائر الفجر"، تتناول الهم السياسي، كانت تتعرض لمذبحة رقابية بالمعنى الحرفي للكلمة، إذ يعمل الرقيب فيها مقصه بالحذف إلى أن تنتهي إلى قصاصات لا يكاد المتفرج أن يجد لها معنى، ومع ذلك فإن هذه الرقابة لم تمنع قيام انتفاضة 18 و19يناير 1977 بعد عامين فقط من الفيلم. تماما كما حدث في منتصف الثمانينيات نوع من الرعب الرقابي بسبب فيلم وحيد حامد وعاطف الطيب "البريء"، الذي يحكي عن جندي أمن مركزي يثور على قادته، عندما أدرك الخداع والهوان اللذين تعرض لهما، ولم يتم السماح بعرض الفيلم إلا بعد عرضه على قادة القوات المسلحة (!!)، وحذف لقطة ثورة الجندي، ومع ذلك قام تمرد جنود الأمن المركزي بعدها بعامين فقط. تحتل السياسة إذن الاهتمام الأول لدى الرقباء، بينما يأتي بعدها الدين، وهو أمر بطبيعته شائك حتى أن الفنانين يفضلون عدم المساس به إلا من خلال النظرة السائدة، فيما عدا محاولات قليلة أتت مؤخرا من جانب كتاب سيناريو مسيحيين، في "باأحب السيما" من تأليف هاني فوزي وإخراج أسامة فوزي، الذي يتناول وجهة نظر طفل مسيحي لنرى كيف يتحول المرء إلى كائن خائف، ليس لأن أفكاره الميتافيزيقية تدفعه لذلك بل بسبب أوضاع اجتماعية خاطئة، أو كما في "واحد-صفر" من تأليف مريم نعوم وإخراج كاملة أبو ذكري، وفي أحد خطوطه الدرامية قصة امرأة مسيحية تسعى للطلاق من زوج لا تحبه، بينما قوانين الكنيسة لا تتيح لها ذلك، وفي الفيلمين وقفت الرقابة متعنتة في البداية، لتوافق على العرض أخيرا دون أن يؤدي ذلك إلى اضطرابات اجتماعية. وعلى عكس ما نتصور أحيانا من أن الرقابة تهتم بحظر الجنس، وهي قد تفعل ذلك بالفعل إذا ما كان الفيلم صريحا غليظا في تناوله، لكنها تغض الطرف عن كثير من هذه النوعية من المشاهد أو حتى الأفلام، وإذا أردت مثالا فهناك فيلم "أحاسيس"، الذي تدور خيوطه الدرامية الثلاثة حول تنويعات من علاقات جنسية غير سوية، ويقول مخرجه هاني جرجس فوزي أن هدفه هو علاج المشكلات التي تتسبب فيها مثل هذه العلاقات، ومرة أخرى فإنه يتبع القاعدة التجارية المعروفة في هوليوود منذ سيسيل بي دي ميل: "تسع بكرات من الجنس، وبكرة عاشرة في النهاية من الكتاب المقدس"!! تلك هي القاعدة التي تتبعها بعض الأفلام ذات التوليفة الواحدة التي ظهرت مؤخرا، منذ "كاباريه" ومرورا بأفلام "الفرح" و"شارع الهرم" و"البار": مجموعة متنافرة من الشخصيات تضطرها الظروف للقاء في مكان واحد، لكنها شخصيات مصنوعة من أجل "الفرجة" بمعناها الفج، فليست لها حياة أو ملامح داخلية، وهي جميعا لا تتوقف عن الصراخ بجمل حوارها، لكن الأهم أنه تربطها سلسلة من مشاهد الرقص والغناء، في عرض ليست له علاقة بأي فن سينمائي، وهكذا تتيح الرقابة لمتفرج السينما أن يرتاد "الكاباريه" دون أن يدفع تكاليف مثل هذا النوع من الترفيه. هنا يجب علينا أن نتساءل: ما هو إذن الدور الفعلي الذي تقوم به الرقابة، خاصة أنها رقابة "رسمية" ويدفع الشعب تكاليفها من ضرائبه؟ وإذا كانت الرقابة غير معنية بالمستوى الفني للفيلم، ولا تمانع في عرض الابتذال ما دام في رأيها "لا يضر النظام العام"، وإذا كان العنف الدموي المفرط لأفلام مثل "ابراهيم الابيض" أو "عبده موتة" لا يضر بهذا "النظام العام"، فإن دور الرقابة الحقيقي الذي يجب أن تعلن عنه هو أنها تقوم بدور "المخبر" أو "المرشد"، الذي يراقب المشبوهين ويبلغ عنهم السلطات، ويغض الطرف أحيانا عن مجرم بينما يودي ببريء وراء القضبان، فالمهم عنده أنه كما يتصور يحمي النظام العام، بينما حماية النظام العام تقتضي "نظاما" اجتماعيا عادلا وحرا وديموقراطيا، فذلك وحده هو النظام القادر على حماية نفسه.

Sunday, November 11, 2012

ثنائيات سينمائية 1

عندما يجد المخرج في الممثل صورته السينمائية
السينما فن جماعي، تلك هي الحقيقة التي أصبحت عنوانا لعصر جديد من الفنون، فبعد تيار الرومانسية الذي نادى بأن الفن يجب أن يعبر عن روح فردية خالصة، أتت السينما لتشير إلى أن هناك فنونا لا يمكن إنتاجها إلا بطريقة التجميع الآلي، كأنك تصنع سيارة على سبيل المثال، فمن النادر تماما أن يقوم فرد واحد بصنع فيلمه، دون أن يلجأ لمجهودات شخص آخر أو أشخاص آخرين، فقد يضطر صانع الفيلم إلى الاستعانة بمصور أو بمونتير، لكن من المؤكد أنه سوف يكون عليه في الأغلب الاستعانة بممثلين. وربما كانت هناك حالات استثنائية لأن يقوم شخص واحد بصنع فيلمه، وهو الأمر الذي يقتصر على الأفلام الطليعية والتجريبية، بينما أصبحت القاعدة أن تصبح عملية صنع الفيلم عملية صناعية من الألف إلى الياء، خاصة في النموذج الهوليوودي، حتى أن المخرج في بعض الحالات قد لا يعرف من سوف يقوم بمونتاج فيلمه أو لا تأتي له فرصة للقائه. ومع ذلك فإن هذه العملية الصناعية أدت في الكثير من الحالات إلى تكوين "فريق" يلتقي أفراده فيلما بعد الآخر، خاصة في حالة النجاح، وهناك في تاريخ السينما حالات عديدة من التعاون المستمر بين مخرج ومدير تصوير، أو مونتير، أو مؤلف موسيقي. لكن الحالات الأشهر على الإطلاق هي تعاون المخرج مع ممثل أو ممثلة. لماذا يحب المخرج أن يختار ممثلا أم ممثلة بعينهما لبطولة سلسلة من أفلامه؟ هناك إجابات عديدة على السؤال، فقد يجد المخرج قدرا من الراحة في هذا التعاون، أو أنه يبحث مرة بعد أخرى عن صورة في ذهنه لبطله أو بطلته، أو أن يكون الممثل أو الممثلة هما التجسيد الكامل لرؤية المخرج الفنية. وربما كان أشهر ثنائي فني بين ممثل ومخرج هو ما صنعه المخرج الفرنسي فرانسوا تروفو مع الممثل جان بيير لو، فمنذ أن كان هذا الأخير صبيا صغيرا وجد فيه المخرج صورة طفولته، ليصنع فيلمه الأول "400 ضربة" عن نشأته في ملجأ للأطفال وهروبه منه، لتعقب الفيلم سلسلة طويلة من أفلام السيرة الذاتية كان فيها الممثل ذاته هو صورة المخرج في مراحل ومواقف مختلفة من حياته. لعل هذا هو السبب ذاته لقيام الممثل روبرت دي نيرو ببطولة العديد من أفلام مارتين سكورسيزي، بدءا من "سائق التاكسي" حتى "الرفاق الطيبون"، فجذورهما الإيطالية، وتربيتهما المشتركة في شوارع نيويورك الفقيرة في حيها الإيطالي، كانت سببا في أن يصبح الممثل هو الصورة السينمائية المجسدة للمخرج، خاصة أن دي نيرو يجيد تماما ضبط أوتاره كممثل، حتى أنه يصدر أكثر النغمات حدة دون اضطرار للمبالغة أو الضجيج، وكان في هذا امتدادا لمدرسة "استوديو الممثل" التي تخرج منها مارلون براندو، الذي قام أيضا ببطولة عدد من أفلام المخرج إيليا كازان مثل "عربة اسمها الرغبة"، و"على رصيف الميناء". وقد يكون الرقم القياسي للتعاون بين ممثل ومخرج هو بين جون وين وجون فورد، وهو واحد وعشرون فيلما، فالمخرج فورد هو أفضل من صنع أفلام "الويسترن" في تاريخ السينما الأمريكية، ووجد في جون وين نموذجا لهذا البطل "الشجيع"، ليس فقط في بنائه الجسدي الضخم، ولكن الأهم هي تلك الملامح النفسية لرجل وحيد يواجه العالم المتوحش وحده، وحتى بعد انتصاره فإنه يمضي وحده، كأنه في مهمة أو رسالة ليس لها من نهاية، مترفعا عن كل المتع الإنسانية الصغيرة من أجل متعة لا يشعر بها غيره: إعادة النظام والقانون إلى العالم. هناك عشرات الأمثلة في السينما العالمية لمثل هذا التعاون، مثلا بين الممثل كاري جرانت والمخرج ألفريد هيتشكوك، وجاك ليمون وبيللي وايلدر، وهمفري بوجارت وجون هيوستون. لكن أقساها كان بين الممثل الألماني كلاوس كينسكي والمخرج فيرنر هيرتزوج، فهذا الأخير يعشق الشخصيات التي تقف على حافة العالم، كما في أفلام مثل "غضب الرب" أو "فيتزكارالدو"، ووجد في كينسكي ضالته، لأنه بدوره شخصية فنية يستحوذ عليها الذهاب إلى آخر المدى، لكن صنعهما للأفلام كان عذابا أليما بالنسبة لهما معا، حتى أن هيرتزوج صنع فيلما تسجيليا عن كينسكي باسم "عفريتي المفضل"!! وفي تاريخ السينما المصرية أيضا أمثلة عديدة على التعاون بين مخرج وممثل أو ممثلة، وكثيرا ما يحمل هذا التعاون دلالات فنية مهمة. قامت الممثلة فاتن حمامة في بداية حياتها الفنية بالعديد من بطولة أفلام لكل من حسن الإمام وعز الدين ذو الفقار، وقد تجد بعض التشابه في صورتها عند كليهما، لكن الأهم هو الاختلاف. ففي أفلام "قلوب الناس" و"الملاك الظالم" كانت فاتن تجسيدا لرؤية حسن الإمام الميلودرامية للعالم، إنها نقطة الضوء الصغيرة الوحيدة التي تكاد أن تغرق في بحر من الظلام الدامس، بينما كانت فاتن عند عز الدين في أفلام مثل "موعد مع الحياة" و"موعد مع السعادة" و"بين الأطلال" صورته عن الرومانسية الخالصة التي قد لا تجد لنفسها مكانا في عالم لا يعرف للمشاعرالرقيقة والمرهفة وزنا. وبينما كانت فاتن عند حسن الإمام تجسيدا للبراءة، فقد تعاون على النقيض مع هند رستم ليقدم الجانب الشهواني من رؤيته للعالم، في "بنات الليل" و"الجسد"، ثم تدور الأيام لتكون بطلته الأثيرة هي سعاد حسني في "خللي بالك من زوزو" و"أميرة حبي أنا"، ليعبر بها في كهولته عن فتاة أكثر واقعية تبحث لنفسها عن مكان تحت شمس الحياة، قد تواجه العالم بقدر كبير من الحيوية والتفاؤل، لكنها تعاني من خيبة الآمال والتوقعات. وبالمثل فإن شادية قد عاشت شخصيات مختلفة مع مخرجين مختلفين، ففي تعاونها مع فطين عبد الوهاب في "الزوجة 13" و"مراتي مدير عام" و"عفريت مراتي" وجد فيها صورة كوميدية رقيقة للمرأة المصرية، بينما وجد كمال الشيخ في "اللص والكلاب" و"ميرامار" ممثلة بالمعنى الكامل للكلمة. وقد يعبر مثل هذا التعاون عن ارتياح النجم أو النجمة للعمل مع مخرج معين، لهذا كانت كل أفلام أم كلثوم من إخراج أحمد بدرخان، وكانت كل أفلام محمد عبد الوهاب من إخراج محمد كريم، كما قام بدرخان بإخراج العديد من أفلام فريد الأطرش، ولعلك تلاحظ أنهم جميعا نجوم مطربون قد لا يجيدون التمثيل، وهم يحتاجون لمخرج يفهم ويدرك ويقدر حدود إمكاناتهم ويحسن استغلالها بأقل قدر من الجهد. على النقيض يمكنك أن ترى في أفلام السيرة الذاتية عند يوسف شاهين قسوة شديدة من المخرج على الممثل، حتى يأتي على صورته، كما فعل مع محسن محيي الدين بدءا من "اسكندرية ليه". لكن هناك حالات إيجابية من التعاون، فأفضل أفلام عادل إمام هي التي أخرجها له شريف عرفة، مثل "اللعب مع الكبار" والإرهاب والكباب"، وأعمق أفلام نور الشريف من صنع عاطف الطيب، مثل "سواق الأوتوبيس" وليلة ساخنة"، والأداء اللامع للممثل أحمد زكي يصل إلى ذروته في أفلام محمد خان مثل "موعد على العشاء" و"زوجة رجل مهم" و"أحلام هند وكاميليا". سوف تبحث عبثا عن نماذج لهذا التعاون في السينما المصرية المعاصرة، ليس لغياب المواهب التمثيلية، وإنما لأن أغلب المخرجين الآن أصبحوا بلا رؤية متفردة للفن والعالم، فهم جزء من "سوق" سينمائية عشوائية ومرتجلة. وحتى نموذج علي عبد الخالق مع نبيلة عبيد، أو نادر جلال مع نادية الجندي، أصبح اليوم مفتقدا، ولم يعد هناك مكان لصنع الأفلام التجارية على نحو متمهل ومدروس، وهو ما يؤذن بأزمة حقيقية في "صناعة" و"تجارة" السينما المصرية، التي يغيب عنها الآن مفهوم إتقان السلعة حتى يشتريها "الزبون".... وهذا هو السبب والنتيجة معا في اختفاء ظاهرة ثنائية الممثل والمخرج في السينما المصرية.

ثنائيات سينمائية 2

رفاق وأصدقاء على الطريق
من أنجح الأنماط الفيلمية في كل أنحاء العالم تلك الأفلام التي تتحدث عن الصداقة بين أبناء الجنس الواحد، بين رجلين يشتركان معا في رحلة نجاح أو فشل، لكن الصداقة لا تفرق بينهما أبدا، أو بين امرأتين تحاولان الصمود في الحياة وسط أنوائها القاسية. تنجح هذه الأفلام لأنها تخاطب في المتفرج مشاعر عميقة من البحث عن رفاق الطريق، ليس يربطهم إلا الود الخالص بلا مصالح ضيقة أو ضعائن مزعجة، وقد يعتري علاقة الصداقة أحيانا توتر عابر، لكنه ما يلبث أن ينقشع كسحابة صيف. لكن بالإضافة إلى هذه المشاعر هناك ما يطلق عليه في السينما "الكيمياء" بين الممثلين، أي قابلية تصديق المتفرج لأن الممثلين أو الممثلتين اللذين يراهما على الشاشة تربطهما الصداقة بالفعل، ولا يعني ذلك ضرورة التشابه أو التطابق بينهما، على العكس فإن قوانين الكيمياء ذاتها تتطلب الاختلاف بين العناصر الداخلة في التفاعل، لكن الشرط الوحيد هو قدرتهما على صنع مركب جديد منهما معا. إن أردت مثالا شهيرا على ذلك فهو سلسلة أفلام "السلاح الفتاك"، من بطولة ميل جيبسون وداني جلوفر في دوري ضابطي الشرطة المتلازمين، فالأول هو الشاب الأبيض الذي لا تخلو طباعه من النزق، وربما يكون دافعه إلى ذلك الرغبة العميقة في الانتقام ممن حرموه حياة عاطفية مستقرة، لذلك يبدو أقرب لنزعة انتحارية في مواجهته للأشرار. أما الثاني فهو كهل زنجي على مشارف التقاعد، يريد فقط أن يكمل أيامه الباقية في الشرطة في سلام، لأنه رجل أسرة يحمل على كاهله عبء رعايتها. ومن هذا الثنائي تمضي سلسلة الأفلام في مغامرات عنيفة وطريفة في وقت واحد، ليظل هذان البطلان من علامات الثنائيات السينمائية عبر الأجيال. شهدت السينما العالمية هذه الثنائيات كثيرا طوال تاريخها، وفي تنويعات شديدة الاختلاف، لتعبر عن أنواع عديدة من الأفلام ومن وجهات النظر أيضا. هناك على سبيل المثال روبرت ريدفورد وبول نيومان، بطلا فيلمي "باتش كاسيدي وصندانس كيد" ثم "اللدغة"، وهما هنا نموذج للشباب المتمرد في فترات التقلبات الاجتماعية والسياسية، حتى أنهما قد يخرجان على القانون، لكن القانون الحقيقي الذي يجمعهما هو الصداقة والوفاء، في زمن لم تعد هناك لهذه القيم معنى أو حتى وجود. في تنويع آخر على هذا الثنائي ذاته قدم المخرج غريب الأطوار كوينتين تارانتينو فيلم "قصة شعبية رخيصة"، وفيه يقوم صامويل جاكسون وجون ترافولتا بدوري قاتلين مأجورين، يتم تكليفهما بمهمة التخلص من ضحايا لا تربطهم بهما صلة، وبدلا من أن يبدو هذان القاتلان في صورة تقليدية، يظهران باعتبارهما فيلسوفين يتبادلان الأفكار العميقة والاقتباسات الوقورة قبل أن يفرغا رصاصاتهما في أجساد الضحايا!! كانت تلك العبثية في تصوير هذا الثنائي سببا في أن المتفرج احتفظ بهما في ذاكرته، كما أدى هذا الدور بترافولتا إلى عودة قوية للسينما بعد فترة غير قصيرة من الأفول، وهو هنا يعكس ذكاء عمليا برضاه عن مشاركة ممثل عتيد في هذا الثنائي، لكي "يسنده" في الدخول إلى دائرة الضوء من جديد. وفي الحقيقة أن السينما الأمريكية بشكل خاص تتعامل بحرفية عالية مع الممثلين، وتكون منهم "فرقا" تحقق نجاحا في شباك التذاكر، وليس هناك وجود لتعبيرات فارغة من المعنى مثل "البطولة المطلقة" التي تنتشر في صحافتنا السينمائية، فالبطولة للعمل الفني وليس أبدا لأحد الممثلين. لذلك تجد في السينما الأمريكية ثنائيات عديدة، ففي عالم الكوميديا هناك لوريل وهاردي، وأبوت وكاستيللو، والأفلام العديدة التي قام ببطولتها جيري لويس مع دين مارتين، ولا يمكن أن ننسى بالطبع توم وجيري في عالم أفلام التحريك!! لكن هناك أيضا نجوما مشهورين لم يترددوا لحظة واحدة في الدخول إلى هذه الثنائيات السينمائية، مثل توني كيرتس وجاك ليمون في "البعض يفضلونها ساخنة"، حين اضطرا للتنكر في ثياب نسائية للحصول على فرصة عمل في فرقة موسيقية، أو جاك ليمون مع التر ماتاو في سلسلة أفلام "رجال مكشرين"، حين تقدم بهما العمر ولم يعد أمامهما – وهما الصديقان القديمان – إلا تدبير المقالب لبعضهما، كذلك مورجان فريمان وتيم روبنز في "الهرب من سجن شوشانك" الذي تقاسما فيه أياما قاسية. لعلك لاحظت أن كل الأمثلة السابقة لثنائيات من الممثلين الرجال، وفي الحقيقة أن الثنائيات النسائية قليلة في السينما العالمية والمصرية على السواء، ليس لندرة الصداقة بين النساء، وإنما لأن النجمات ترفضن في الأغلب هذا المبدأ من المشاركة. لكنك مع ذلك لن تعدم أن تجد بعض النماذج القليلة، مثل بيتي ديفيز وجوان كراوفورد في "ماذا حدث للصغيرة جين؟"، الذي لعبت فيه الأولى دور الشخصية الطاغية وكانت الثانية هي الضحية، لكن المثال الأشهر هو "ثيلما ولويز" من بطولة جينا ديفيز وسوزان ساراندون، وهو فيلم كان علامة في سينما تحاول التعبير عن رفض المرأة الأمريكية للقمع الذكوري. وعلى نفس المستوى من الندرة سوف تجد أفلاما قليلة من بطولة فاتن حمامة وشادية في بداية حياتهما الفنية، مثل "موعد مع الحياة"، أو فاتن مع ماجدة في "لحن الخلود"، أو الدورين المهمين لنجلاء فتحي وعايدة رياض في "أحلام هند وكاميليا"، أو المحاولة الكوميدية العابرة لاشتراك سهير البابلي وإسعاد يونس في "بكيزة وزغلول"، وأخيرا الأفلام من بطولة عبلة كامل، بمشاركة منى زكى تارة في "خالتي فرنسا"، أو منة شلبي تارة أخرى في "كلم ماما". تكاد الثنائيات السينمائية بين الرجال في السينما المصرية أن تنحصر في الأدوار الثانية، ولعل أهمها هي تلك الأفلام التي أخرجها نيازي مصطفى عن عالم الفتوات على الطريقة المصرية، حين كان المتفرجون ينتظرون بفارع الصبر المعركة الحاسمة الفاصلة بين البطل الطيب فريد شوقي وغريمه الشرير محمود المليجي، كما في "فتوات الحسينية" و"سواق نص الليل"، أو بين فريد شوقي وزكي رستم في "رصيف نمرة خمسة" ثم "الفتوة" (هذا الفيلم الأخير من إخراج صلاح أبو سيف). ومن تلك المرحلة الذهبية من تاريخ السينما المصرية هناك أيضا ثنائي اسماعيل يس ورياض القصبجي، حين كان هذا الأخير يقوم بدور "الشاويش" قاسي الطباع مع الجندي، لكنه سرعان ما يبدي قلبا أبيض كاللبن الحليب، أو ثنائي اسماعيل يس وعبد السلام النابلسي، حين كان الصديق يقدم للبطل حلولا تبدو براقة لكنها كثيرا ما تؤدي إلى ورطة مضحكة، وقد قام اسماعيل برد الجميل لصديقه النابلسي حين شاركه بطولة فيلم "حلاق السيدات". في ذلك الزمن لم يكن غريبا أن يتشارك أحمد رمزي مع اسماعيل ياسين في "ابن حميدو"، و"اسماعيل ياسين في الأسطول"، و"اسماعيل ياسين في دمشق"، كما كان من المعتاد أن يقوم الممثل القدير حسين رياض بأدوار ثانئية مع عبد الحليم حافظ منذ "لحن الوفاء" وحتى "شارع الحب"، وفي هذا الفيلم الأخير كان النابلسي أيضا شريكا للمطرب الشهير، مثلما كان معه في "يوم من عمري" أو "فتى أحلامي". وفي فترة الثمانينيات شهدت السينما المصرية ثنائيا طريفا آخر، بين عادل إمام وسعيد صالح، كان يعبر عن صداقة حقيقية من جانب صالح الذي ارتضى ذلك المركز الثاني، وظل كذلك حتى "زهايمر" في الفترة اللاحقة. وفي تجربة يبدو أنها لن تتكرر قام عمر الشريف بمشاركة عادل إمام في "حسن ومرقص"، وهو الفيلم الذي لم يترك أثرا كبيرا بسبب فتور السيناريو والإخراج. ربما لن تجد في السينما المصرية الحديثة صورة لهذا الثنائي بين رجلين صديقين إلا نموذجا في أفلام أحمد زكي ومحمود حميدة، مثل "الإمبراطور" أو "الرجل الثالث"، أو في تجربة عابرة بين محمد هنيدي وأشرف عبد الباقي في "صاحب صاحبه". إن تلك الندرة لا تعكس أبدا أزمة في العلاقات الحميمة الواقعية بين الأصدقاء، بل تعبر عن أزمة في الفكر السينمائي في صناعة السينما المصرية، فالنجوم (أو الذين يفترض أنهم كذلك) لا يرضون بأن يتنازلوا قيد أنملة عن الانفراد بالبطولة من أول مشهد حتى المشهد الأخير، ولولا أن الإنتاج السينمائي المصري لم يعد يتيح الكثير من الأفلام ما كان لأحمد عز مثلا أن يشارك أحمد السقا في بطولة فيلم "المصلحة"، لذلك أتى هذا الفيلم استثناء يؤكد القاعدة، ولو أن تلك القاعدة في كل صناعات السينما العالمية تؤكد أنه لا بطولة لأي من الممثلين، فالبطولة الحقيقية هي دائما للفيلم ذاته.

ثنائيات سينمائية 3

كيمياء الرومانسية
تعيش الصحافة السينمائية أحيانا على الشائعات حول علاقة عاطفية بين النجم فلان والنجمة فلانة، وقد يكون هناك في تلك الأخبار بعض الصحة، لكن في الأغلب يكون مصدرها والسبب فيها هو اشتراك النجمين في فيلم حقق نجاحا كبيرا، بما يجعل المتفرجين يصدقون أن قصة الحب التي رأوها على الشاشة فيها ظل من الحقيقة. الغريب أن "كواليس" صناعة الفيلم ربما تكون قد شهدت في بعض الحالات خلافات بين النجمين، لأنهما لا يكادان أن يتفقا على شيء واحد، ناهيك عن الغيرة الفنية بينهما، لكن "صورتهما" على الشاشة توحي بتوافق عجيب، وذلك هو ما يطلقون عليه "الكيمياء" بين الممثلين! عاشت صناعات السينما وما تزال تعيش على هذه الكيمياء، وبمجرد اكتشاف حالة منها بين ممثل وممثلة تتدفق عليهما العروض، ليكوّنا معا ثنائيا فنيا، وتاريخ السينما يحفل بتلك الثنائيات الرومانسية في مختلف الأنماط الفيلمية، وليس الأفلام العاطفية فقط. ففي النصف الثاني من أربعينيات القرن العشرين ظهر نمط يدعى "الفيلم نوار"، أى السينما القاتمة، كانت أجواؤه تعبر عن حالة عامة من التشاؤم بعد الحرب العالمية الثانية، ومن أحد أبطال هذا النمط كان همفري بوجارت، الذي يجسد دائما شخصية رجل في منتصف العمر، مترفع عن إقامة علاقات حميمة لأنه فقد الثقة في البشر، لكن الظروف تدفعه للتورط في الكشف عن جريمة تؤكد له صدق حدسه، غير أنه في تلك الرحلة يمر بتجربة عاطفية عاصفة، وهنا تبرز بطلتان لنوعين من الثنائيات مع بوجارت، الأولى هي إنجريد بيرجمان بملامحها البريئة ومشاعرها النبيلة، والثانية هي لورين باكول بجمالها الفاتن وغموضها الآسر، وفي الحالتين حقق الثنائي نجاحا نقديا وتجاريا كبيرا. في تلك المرحلة ذاتها ظهر الفيلم الملحمي "ذهب مع الريح"، ليظهر ثنائي فيفيان لي وكلارك جيبل، وليعيشا قصة حب وسط بحر الحرب الأهلية متلاطمة الأمواج. وعلى النقيض يأتي ثنائي دوريس داي وروك هدسون، ليجسدا الكوميديا الرومانسية في معناها الكلاسيكي: البطل يقابل البطلة ويدركان أن هناك مشاعر حب تولد في قلبيهما، لكن سوء تفاهم تقليديا يباعد بينهما، غير أن الحب يكون من القوة بحيث ينتصر في النهاية. وفي تنويع الأفلام التاريخية، يأتي فيلم "كليوباترا" مثالا على كيمياء الرومانسية بين إليزابيث تيلور وريتشارد بيرتون. من الثنائيات الأحدث لا يمكن للمتفرج أن ينسى مثلا قصة الحب بين كيت وينسليت وليوناردو ديكابريو في فيلم "تايتانيك"، إنه البطل الفقير ذو المشاعر الرقيقة، وهي البطلة المساقة إلى الزواج من رجل ثري على الرغم منها، لتجمع بينهما الرحلة على السفينة، وتفرقهما الكارثة التي تنجو هي وحدها منها لتظل وفية لذكراه، وتحكي للأحفاد قصة حبهما. وهناك من النجمات من توحي ملامحه بالرومانسية على الفور، ولعل الأشهر في هذا السياق ميج رايان، التي صنعت ثنائيات عديدة مع نجوم من الرجال، ذات تنويعات مختلفة، فهي مع توم هانكس في "المؤرق في سياتيل" تعيش قصة حب على البعد، حتى يجمع بينهما اللقاء على سطح بناية "إمباير ستيت" في نهاية الفيلم، وهي مع بيللي كريستال في "عندما تقابل هاري مع سالي" صديقان لا يفكران في إقامة علاقة غرامية، غير أنهما يكتشفان في النهاية أنهما مقدران لبعضهما، وهي مع نيكولاس كيدج في "مدينة الملائكة"، تجسد الطبيبة الرقيقة التي أحبها الملاك وتمنى لو كان بشرا ليعيش معها الحياة حتى لو كانت فانية، لكن تلك العلاقة الرومانسية تخبو مع راسيل كرو في فيلم "برهان الحياة"، لأنه لا توجد كيمياء بين بطل يجسد جفاف المقاتل وبطلة تتعطش لحب يرويها. هناك ثنائيات عديدة أخرى، نذكر منها جوليا روبرتس وريتشارد جير في "امرأة جميلة"، وجولي ديلبي وإيثان هوك في "قبل الشروق" ثم "قبل الغروب"، ونيكول كيدمان وإيوان ماكريجور في "مولان روج". لكنك تستطيع أيضا أن تعثر على تنويعات غريبة على هذه الثنائيات، مثل دايان كيتون ووودي ألين في عدة أفلام كوميدية تعكس التوتر الوجودي للبطل في أفلام ألين، أو ثنائي فاي دوناواي ووارين بيتي في "بوني وكلايد"، ذلك الفيلم الذي عبّر عن تمرد الشباب في الستينيات من خلال قصة حب بين شاب وشابة خارجين على القانون، ويعيشان رحلة هروب تنتهي بموتهما، وأخيرا الثنائي الرهيب بين جودي فوستر وأنطوني هوبكنز في "صمت الحملان"، فهي البطلة المحققة الشابة وهو المجرم عالم النفس وآكل لحوم البشر!! قد تجد في السينما المصرية معادلا لتلك الثنائيات الغريبة، فمعظم الأفلام التي تشارك فيها أحمد مظهر وسعاد حسني تظهر علاقة حادة أحيانا، أو حتى غير سوية أحيانا أخرى، مثل "ليلة الزفاف" و"غصن الزيتون" و"القاهرة 30". لكن الأغلب الأعم من ثنائيات السينما المصرية تأتي في سياق رومانسي، خاصة في الأفلام الغنائية القديمة، مثلما ظهر فريد الأطرش مع صباح في "بلبل أفندي" و"لحن حبي"، أو مع سامية جمال في "عفريتة هانم" و"آخر كدبة"، حيث البطلة الأولى أكثر براءة بينما الثانية أكثر "شقاوة". وعاشت ليلى مراد ثانئيات لا تنسى تارة مع أنور وجدي في "قلبي دليلي" أو "حبيب الروح"، وأخرى مع حسين صدقي في "شاطئ الغرام" و"الحبيب المجهول"، وتارة ثالثة مع محمد فوزي في "ورد الغرام"، الذي تظل أغنيته "شحات الغرام" تنويعا مصريا بالغ الطرافة والرقة على مشهد الشرفة من "روميو وجولييت"! وفي الفترة الكلاسيكية من تاريخ السينما المصرية ظهرت ثنائيات عديدة، كانت فاتن حمامة عنصرا أساسيا في بعضها، فهي مع عماد حمدي في "لا أنام" و"بين الأطلال"، مع تأكيد صريح أو مستتر على صعوبة أو حتى استحالة العلاقة بينهما لفارق السن أو للقرابة المحرمة، بينما هي مع عمر الشريف تكوّن ثنائيا مثاليا منذ "صراع في الوادي" و"أيامنا الحلوة" و"صراع في الميناء" و"نهر الحب". ويأتي ثنائي شادية وكمال الشناوي أكثر مرحا وخفة ظل في "ليلة الحنة" و"في الهوا سوا"، لكنها تصنع مع صلاح ذو الفقار في مرحلة تالية ثنائيا أكثر رومانسية في "أغلى من حياتي"، يتحول إلى زواج يحفل بلحظات كوميدية بالغة السخرية في "مراتي مدير عام" و"عفريت مراتي". وتكون هدى سلطان مع فريد شوقي ثنائيا شعبيا في أفلام "الأسطى حسن" وحتى "جعلوني مجرما"، بينما ثنائي شويكار وفؤاد المهندس يحتل شاشات السينما في النصف الثاني من الستينات مع أفلام من نوعية "شنبو في المصيدة" و"أخطر رجل في العالم"! لكن الرومانسية تكتسب مذاقا خاصا مع أطرف ثنائي يمكن تصوره: زينات صدقي وعبد السلام النابلسي في "شارع الحب". لا يمكن أن ننسى أيضا ثنائيات تكونت في عقود تالية، من بينها سعاد حسني مع أحمد زكي في "شفيقة ومتولي" و"موعد على العشاء" و"الدرجة الثالثة" و"الراعي والنساء"، أما يسرا فتشارك عادل إمام في العديد من الأفلام، منذ "الأفوكاتو" وحتى "بوبوس"، لكنها تصنع ثنائيا آخر مع أحمد زكي في "البداية" و"الراعي والنساء" و"نزوة". لكن السينما المصرية الراهنة فقدت إلى حد كبير ذلك المذاق الخاص في تكوين الثنائيات، فأحمد السقا مثلا قد صنع ثنائيا مع منى زكي في "تيمور وشفيقة" و"عن العشق والهوى" و"مافيا" و"أفريكانو"، أو مع هند صبري في "الجزيرة" و"ابراهيم الأبيض"، ومع ذلك يظل فيلمه الأكثر رومانسية مع نور في "شورت وفانلة وكاب". وتصنع نور ثنائيا مع أحمد حلمي في "مطب صناعي" و"ظرف طارئ"، لكنه يصنع ثنائيا آخر مع ياسمين عبد العزيز في "صايع بحر" و"زكي شان"، بينما هي تشارك مصطفى قمر في "حريم كريم" و"عصابة الدكتور عمر"، وتأتي سلسلة أفلام "عمر وسلمى" الثلاثة للثنائي تامر حسني ومي عز الدين، لكنها لا تترك أي أثر بعد انتهاء عرضها التجاري. هل تعاني السينما المصرية أيضا من أزمة في "النجوم"؟ ربما الأدق أن نقول أن هؤلاء جميعا ليسوا نجوما بالمعنى الدقيق للكلمة، حتى لو صدم ذلك بعض المعجبين، فأنت تفتقد النجم إذا اختفى لفترة، أو أن النجم أو النجمة يتركان بصمتهما الخاصة على أدوراهما، لكنك لا تشعر بافتقاد من يختفي منهم (حلا شيحة أو حنان ترك مثلا، ومرور موسمين أو أكثر دون أفلام لهاني سلامة)، والأهم هو أن أيا منهم يمكن أن يقوم بدور الآخر دون فرق يذكر، فيمكنك مثلا أن تضع منى زكي أو ياسمين عبد العزيز أو أي ممثلة أخرى في موقع الطرف الآخر من الثنائي، ويبدو أن السينما المصرية الآن تفتقد حرارة الكيمياء، تلك الكيمياء التي تتوهج بها الأعمال الفنية، وبدونها يسود الفتور.

Thursday, August 02, 2012

مسلسل "فرقة ناجي عطا الله" ولعبة خلط كل الأوراق


الاقتباس في حد ذاته ليس عيبا، فقد كانت مسرحيات كتاب الإغريق القدامى – التى قامت الدراما بنوعيها الكوميدي والمأساوي على أساسها – تنويعات على أفكار وأساطير وملاحم مكررة، كما أن مسرحيات شكسبير العظيمة ليست إلا صياغة جديدة لقصص قديمة عن بلوتارك وبوكاشيو، ولوحات الفن التشكيلي التي يفخر بها تاريخ الحضارة الإنسانية تدور حول "التيمات" ذاتها، لأن الفن ليس هو "الموضوع"، بل هو الشكل الجديد الذي يريد به الفنان أن يقول جديدا حول موضوع قديم. ليس عيبا إذن أن يبدو مسلسل عادل إمام الأخير "فرقة ناجي عطا الله" مقتبسا، يقول البعض أنه عن أفلام مثل "العظماء السبعة"، لكن الحقيقة أنه مقتبس عن فيلم "عصابة أوشان" بجزأيه، حتى أن هناك لقطات "مسروقة" مباشرة من هذا الفيلم الأخير، مثل لقطة أشعة الليزر وهي تغطي تماما مكانا يفترض التسلل إليه. نكرر أن الاقتباس ليس هو القضية، وإنما هي ما الذي يدفعك لهذا الاقتباس، هل لديك معالجة جديدة تضيف بها للفن الدرامي، السينمائي منه والتليفزيوني، أم أن المسألة وراءها دافع آخر؟! دعنا في البداية نسترجع القليل عن "عصابة أوشان"، التي تحكي عن لص خرج من السجن لتوه، بعد أن دخله بسبب وشاية لص منافس، لينجح هذا الأخير في اعتلاء عرش صالات القمار في لاس فيجاس، كما يسرق لنفسه حبيبة البطل السابقة بعد إيهامها أن حبيبها لا يستحق حبها. يخرج إذن "بطلنا" لينتقم، وهو لا يريد أن يستعيد محبوبته فقط، لكنه يسعى أيضا لسرقة كل أموال منافسه الموضوعة في خزانة محكمة بنظام أمان خارق، فيلجأ إلى تكوين "عصابة"، مؤلفة من أناس ذوي مواهب مختلفة، فمنهم المتخصص في المتفجرات، أو صاحب القوة البدنية الخاصة، أو عبقري الكومبيوتر، أو البارع في تقمص الشخصيات، ومن هذا الفريق يمضي البطل نحو هدفه، يقترب منه أحيانا ويبتعد أحيانا أخرى. إذا تأملت الطريقة التي تم بها تنفيذ فيلم "عصابة أوشان"، لأدركت أنه لم يكن بالنسبة لصناعه إلا استمتاعا بلعبة أرادوا إشراك الجمهور فيها، وبرغم أن الفيلم يحمل اسم البطل الذي قام بدوره جورج كلوني، فإنه كان موجودا على قدم المساواة مع كل الممثلين الآخرين (منهم براد بيت ومات ديمون)، كما أن المخرج ستيفن سوديربيرج استخدم علامته المميزة، في الكاميرا الحرة المحمولة على اليد، والمونتاج السريع، ليضفي حيوية على المعالجة. وإذا كان لك أن تصرف النظر عن كون "البطل" لصا ظريفا يُفترض أن نتوحد معه ضد لص آخر شرير (والمجرمون أحيانا أبطال في السينما الأمريكية)، فإن مثل هذه التيمة لا يمكن "زرعها" في سياق خاص بنا، لكن كان لعادل إمام رأي آخر. لعلك لاحظت أننا ننسب المسلسل لعادل إمام وليس لمؤلفه يوسف معاطي ومخرجه رامي إمام، وأعتقد أنك لابد تعرف السبب، فحتى لو كان معاطي هو الذي اقترح على عادل إمام اقتباس هذه التيمة، فقد كان عامل جذبه الرئيسي هو تلك الصورة التي تخيلها لنفسه حتى قبل بداية التنفيذ: إنه "الزعيم" الذي يناديه الجميع بلقب "باشا"، وهو الآمر الناهي وسط مجموعة من الرجال، وهو ذو الدم الخفيف الذي يسترسل أحيانا في إلقاء النكات، لكنه العبقري الذي يرسم الخطط المذهلة لحل أصعب المشكلات. رأى عادل إمام إذن أن التيمة تحقق له "البرواز" الأضخم من الواقع الذي يريده لنفسه، لكن "ما زاد وغطى" كما يقول المصريون هو أن يجعل ساحة الجريمة وهدفها هي .... بنك إسرائيلي!!! لماذا؟ لأنه يريد لهذه التيمة التي لا تتلاءم مع العقلية العربية أن تختفي وراء ستار من نزعة وطنية مزيفة!! تبدأ الحلقات إذن بعادل إمام، الذي يحمل اسم ناجي عطا الله، وهو يعمل ملحقا إداريا في سفارة مصر في تل أبيب، وليست لهذه الشخصية أي تاريخ سوى جملتين أو ثلاث في الحوار فقط، ولن تجد لها أثرا في الدراما: إنه ضابط جيش متقاعد، وصاحب علاقات واسعة حتى في إسرائيل، وهنا يزرع لنا المسلسل شخصية مناقضة لكي يبين لنا فلسفة البطل ناجي: هناك موظف مصري جديد يحمل اسم جمال عبد الناصر، كاره لانتقاله إلى دولة العدو، لكن بطلنا – ابن عصر السلام الاسترتيجي المزعوم – ينصحه بالتروي والحكمة لأنه أمر مفروض علينا، ويعرض له طرفا من طريقته في النضال، أن يلقي النكات الساخرة من اليهود على أصدقائه من الإسرائيليين فينفجروا ضاحكين!! لا أدري إن كان عادل إمام وصناع المسلسل يعرفون أنه أمام كل نكتة ساخرة من اليهود، لابد أن لديهم عشر نكات ساخرة من العرب، ناهيك عن أن معركتنا لم تكن ولن تكون مع اليهود، بل مع الصهاينة سارقي الأرض العربية. وفي مزيد من الافتعال وادعاء العمق، يقول لك المسلسل أيضا أن اليهود الشرقيين والغربيين يكرهون بعضهم البعض، لكن ما لا يقوله أن العرب وحدهم هم الذين يدفعون ثمن هذه الكراهية!! بعد هذه المقدمة "الوطنية" الزائفة، تبدأ تيمة "عصابة أوشان"، إن بنكا إسرائيليا على أعلى مستوى من درجات الأمان يحتجز رصيد البطل ناجي، فما العمل؟ سرقة البنك كله!!! كيف؟ بتجميع فريق عصابي من ستة أفراد، كل منهم له تخصصه (وإن كان الأب عادل يحتجز لابنه محمد نصيب الشاب خفيف الظل، دون جدوى!)، وهنا تأتي المسلسل فرصة المط والتطويل، فيتوقف مع كل شخصية حلقة كاملة، دون أن يكون لذلك أدنى حاجة، فإليك هذه الشخصيات في سطور قليلة: محمد عادل إمام خريج الدراسات العبرية والذي يستخف دمه مع أي فتاة يقابلها، وأحمد السعدني بطل الوثب الطويل الذي سوف يكون عليه القفز بين سطحي عمارتين، ومحمود البزاوي متخصص المتفجرات الذي سوف يصنع قنبلة صوتية لإلهاء الشرطة عن التسلل للبنك، ونضال الشافعي البارع في كسر القضبان الحديدية، وأحمد التهامي العملاق حامل الأثقال، وأخيرا عمرو رمزي أخصائي الشفرات الكومبيوترية. في سطحية ونمطية هائلتين ليستا غريبتين عليه يرسم يوسف معاطي الشخصيات، كما يبدو إخراج رامي إمام كسولا رتيبا إلى درجة الملل، وهناك موسيقى لا تتوقف، وبلادة في أداء الممثلين، وبطء غير عادي في الإيقاع برغم ما يفترض من تشويق التيمة الأصلية. نحن مثلا إذا انتقلت هذه الشخصيات من مكان إلى مكان، نركب معهم السيارة، ونظل معهم في رحلة يمكن – بل لابد من – حذفها، لأنها تعبر عن زمن درامي ضعيف، لكن مثل هذه القواعد البدهية في الدراما لا اعتبار لها، إذا كان الهدف الأساسي هو أن تصنع ثلاثين حلقة لعادل إمام في موضوع لا يستحق أقل من الساعتين، حتى يمكنك أن تجذب قدرا أكبر من أموال الإعلانات والمعلنين. قد تستطيع أن تغفر أي شيء في الأعمال الفنية التي تهدف إلى الربح قبل أي شيء، لكن ما لا يمكنك غفرانه هو أن تخلط أوراق التسلية والهزل بالقضايا الوطنية. لقد أصبحت فلسطين في هذا المسلسل مجرد خلفية باهتة زائفة، ومحض عبارات مكررة كادت من فرط تكرارها أن تخلو من المعنى. هل من المصادفات مثلا أن يصبح موضوع الخلاف بين فتح وحماس مصدرا "لإفيهات" عادل إمام؟ وهل من غير المقصود إظهار هذا البطل أكثر خفة ظل ولماحية وفطنة من أي شخص فلسطيني؟ أيها الفنانون المصريون من جيل أصبح أقرب للإفلاس، لأنه توقف بإرادته عن الإبداع: اقتبسوا ما تشاءون، لكن لا تخلطوا الأوراق على هذا النحو الفادح الفاضح، وإن كنا نعجز الآن عن اتخاذ موقف وطني قوي، فلا داعي لأن نتحول بهذا الموقف إلى الهزل والهزال!!

Friday, July 13, 2012

الله حى ... لكن هل يدرك المتأسلمون ذلك حقا؟!


مازلت أتذكر أمى عندما كانت منذ سنوات طويلة تطهو "العاشورة" فى العاشر من محرم من كل عام، وعندما كبرت قليلا لم أفهم العلاقة بين الحلوى والطعام وبين أحداث كربلاء الدامية ومقتل سيدنا الإمام الحسين بن على، تماما كما لم أكن أفهم على وجه اليقين العلاقة بين شم النسيم والحلبة والترمس، ومازلت أتذكر أبى وهو يحمل لنا حلاوة المولد فى مولد النبى أو ذكرى الإسراء والمعراج، ويشترى "النقل" فى العيدين الصغير والكبير. كان أبى وأمى من ملايين المصريين البسطاء، الذين يعرفون الله من أعماق قلوبهم، لكنهم بالرغم من ذلك ـ وأقول اليوم : لكنهم بسبب ذلك ـ يحبون الحياة ويقدسونها ويحتفون بها حتى فى ـ أو على الأخص فى ـ الأعياد الدينية، ولم أكن أعرف لذلك سببا يقينيا. قيل لنا عبر سنوات طويلة أن المصريين يقدسون الموت لذلك فإنهم متدينون، وقرأت كثيرا عن ذلك الوهم الذى يتحدث عن أن الموت يسرى فى الحضارة المصرية القديمة بدليل أن المصريين القدماء كانوا يحنطون موتاهم، وقيل أن هذا الموت مايزال يلقى بظله الثقيل حتى اليوم على كل ما نعتقد فيه أو نمارسه، لكننى أدركت من خلال قراءات أخرى لا أدرى لماذا لا يعاد اكتشافها ـ وعلى رأسها "فجر الضمير" لبريستيد ـ أن ملايين المصريين العاديين فى مصر القديمة لم يكونوا يملكون القدرة على التحنيط مثل الأثرياء من الحكام والنبلاء والكهنة، بل إن المصرى العادى لم تكن لديه رغبة أصلا فى التحنيط ، لأنه أدرك أن الديانات الشمسية لعبادة رع أو آمون أو آتون أيا كان اسمه هى ديانة طبقية يحتكرها الأثرياء، الذين تصوروا أنهم من خلال التحنيط والطقوس الدينية الغامضة قد احتكروا الآخرة بأموالهم التى نهبوها فى الحياة الدنيا، لذلك كانت لدى المصرى البسيط ديانة أخرى أكثر بساطة، ولم يكن يهتم بالصراع الدائر "فوق" فى السماء بين آمون وآتون، أو فى دوائر الحكام والكهان حول هذا الإله أو ذاك، فديانة المصرى الحقيقية ليست فى الشمس أو السماء، بل هى "هنا والآن"، على الأرض وفى باطنها، حيث تجف البذرة فتتصور أنها ماتت فى تابوتها الخشبى ـ مثلما دخل أوزوريس إلى التابوت ـ لكنك إذا دفنتها عادت إلى الحياة من جديد فى دورة أبدية لا تنتهى، فأين ومن هو ذلك الموت الذى نخاف منه لكى نقدسه؟! "الله حى"، تلك هى الصيحة التى يزفر بها المصرى من أعماق قلبه حين يهيم وجدا بحب الله ورسوله وآل البيت وأولياء الله الصالحين، وبعد تلك الزفرة تأتى شهقة كأنها محاولة لاحتواء العالم كله داخل صدره الصغير، وفى صيحة "الله حى" ومعناها، كما فى دورة الشهيق والزفير، يتجلى الإيمان البسيط العميق لدى المصرى بقيمة الحياة التى يعشقها حتى النخاع، ولأنه يؤمن بها لكل اليشر وبأنها تتجاوز وجوده الفردى فإنه يهبها راضيا إذا ما استدعت الضرورة من أجل أن يحيا أبناؤه من بعده فى كرامة. وليس غريبا أن تكون "الثقافة المصرية" ـ بالمعنى الأشمل للكلمة ـ شبيهة بألحان "بوليفونية" عديدة، قد تبدو للوهلة الأولى كأنه لا علاقة بين بعضها البعض، لكنها تتآلف فى هارمونية عجيبة ليس لها مثيل فى الثقافات الأخرى، فليس هناك إلا التناغم الشفاف، الرائق الراقى، بين الله والإنسان، والدين والدنيا، وليس غريبا أيضا أن تجمع هذه "الثقافة المصرية" بين الأعراق والديانات والحضارات فى مزيج لا يمكنك أبدا أن تفصل بين عناصره التى كونته، وليس غريبا مرة أخرى أن نطلق على خوارق أولياء الله تعبير "الكرامات"، أو أن نطلق على مواسم الاحتفال والاحتفاء بهم كلمة "مولد"، لا فرق فى ذلك بين السيد البدوى ومارى جرجس، ففى الكلمتين "الكرامة" و "المولد" جذور المعنى الدينى الأصيل، حيث الحياة كما يجب أن تكون، الحياة التى نؤمن أنها مثل البئر التى قد تجف أو تغيض، لكن لابد لها يوما من أن تفيض مرة أخرى، إن لم يكن غدا فبعد غد. ربما كان هذا الإيمان البسيط العميق بالحياة هو السبب فى أن المصرى تعلم الصبر على البلوى لأنه يعلم ـ مثل أيوب المصرى ـ أنه لابد أن تزول البلاوى يوما وإن طال الزمن، كما أن هذا الإيمان هو السبب فى أن المصرى قد اختار عبر تاريخه الطويل شخصيات جمع فيهم بعضا من الحقيقة وبعضا من الخيال، وجعل منهم أبطالا يقتدى بهم، وهم ليسوا أبطالا لأنهم يتجاوزون قدرات البشر ـ باعتبار أن لهم أبعادا دينية ـ وإنما لأنهم يضربون لنا مثلا كيف يمكن لقدرات إنسان عادى أن تتسامى وتحقق ما يبدو لنا من الوهلة الأولى مستحيلا بالوقوف فى وجه الطغيان، فالدين فى مصر يصبح قوة فاعلة ومؤثرة للتمسك بالحياة والدفاع عنها، ومن يملك هذه القدرات يستطيع أن يبدى "الكرامة" التى تعنى الاعتزاز بالنفس بقدر ما تعنى السماحة فى العطاء، وتعنى أخيرا الأمر الخارق للعادة يأتيه أهله إذا ما امتلكوا الإرادة. من كل هذه المعانى المتشابكة فى لحن الثقافة المصرية وإيقاعها تتولد كثافة الشعور بآل البيت وأولياء الله الصالحين، كما تستطيع أن تفسر لماذا يحتفل أهل العراق بذكرى "مقتل" الحسين فى عاشوراء بطقوس فيها الكثير من الألم والحزن، بينما يصبح "مولد" الحسين فى مصر احتفاء يستمر أياما طويلة حتى الليلة الكبيرة "والعالم كتيرة" وفيه كل مظاهر الفرحة والبهجة. ولسيدنا الحسين عند المصريين موقع خاص فى النفوس، ليس فقط لأنه "إبن بنت النبى" وابن الإمام الشهيد على، ولكن لأن للحسين "مقام" الأب أو الأخ الأكبر، تذهب إلى مقامه وترتكن عليه أو تجلس فى رحابه فكأنك قد عدت طفلا لا يحمل للحياة هما لأنك فى حمى الأب ورعايته، ومهما بلغ بك العمر أو عانى الأب من الكروب وويلات الزمن فإنه يبقى لك أبا وحاميا وملاذا. لا يبدأ المصريون مع سيدنا الحسين أبدا من حادثة استشهاده المفجعة على يد رجال يزيد ابن معاوية، فبرغم دلالة هذه الحادثة فإن الأهم عند المصرى العادى أن هذا الأب الحامى الحانى ـ سيدنا الحسين ـ كانت له خلال حياته وقبل استشهاده شخصية نفتخر بالانتساب لها والارتكان إليها، فهو الذى نشأ فى أحضان رسول الله ورعايته وكان له ـ مع أخيه الحسن ـ حبا وحبيبا، وهو الذى تفقه على يد أبيه الإمام على وتعلم منه السماحة والتقوى والصلابة فى الحق معا، وهو الذى وقف فى وجه معاوية عندما أراد أن يحول دين الإسلام ودنياه إلى توريث للسلطة والثروة، لأن الحسين تعلم من حكمة رسول الله وخليفته الإمام على، كما تعلم من نضالهما، أنه "لا وارث إلا الله"، وأن "الفقراء أحباب الله"، ودفع من أجل ذلك ثمنا باهظا عندما قتله عسكر وريث الحاكم المغتصب ورفعوا رأسه المقطوع فوق أسنة الرماح، وطافوا بها تمثيلا وتحذيرا لمن يسير على دربه، لكننا نعرف اليوم أن من ساروا على درب معاوية ويزيد لم يكونوا على مر التاريخ إلا نفرا قليلا، بينما كان مئات الملايين من المستذلين المهانين هم أصحاب الحسسين وأتباعه الذين يستنجدون به وقت الشدة :"ومدد ياحسين". ربما كان صحيحا أن رأس الحسين قد تم دفنها فى مصر فى المشهد الحسينى وبنى عليها مسجده كما نعرفه الآن، وربما كانت تلك مجرد أسطورة، لكن من المؤكد أن الحسين يسكن فى قلوب المصريين على مر العصور، وأن من حول قبر رأسه ـ سواء كان ذلك حقيقة أم خيالا ـ قد نشات حياة كاملة تحتشد بشتى النشاطات والحرف، وهو مثل أوزوريس بالنسبة للمصريين لم يمت أبدا، فهم يخاطبونه كأنه ما يزال حيا : "ياسيدنا الحسين، آن الأوان ياأبو العينين... واقفين على بابك وطالبين نظرة من عينك، ياقلبى أصبر مادام الكل بايعينك.."....نعم، نظرة ياحسين، فالمصريون الصابرون يؤمنون أنك تعلم بحالهم وتراه، حالهم الذى يصعب على الكافر، فكيف الحال بك ياابن بنت النبى الذى علمنا أن الحياة بدون كرامة هى الموت الحقيقى، وأن الموت من أجل الحق هو أسمى أشكال الحياة. .................................................................................................................نشر هذا المقال فى جريدة "الكرامة" فى أكتوبر 2005

Tuesday, July 03, 2012

المسلسلات التركية المدبلجة وأسباب النجاح


يكاد "الدوبلاج" أن يكون هو التقنية الشائعة في أوربا وبقية دول العالم، فالجمهور السينمائي والتليفزيوني في معظم أنحاء العالم لا يفضل في العادة أن يقرأ الترجمة على الشريط كما يحدث في العالم العربي، بينما يشعر المتفرج العربي بالغربة الشديدة أمام طريقة "الدوبلاج"، وهو يظل مشغولا طوال الوقت عن متابعة الأحداث الدرامية بالتأكد من عدم مطابقة الكلمات المنطوقة لحركات الشفاة، وهو ما يعكس في الحقيقة حساسية خاصة لدينا تجاه اللغة، فهي ليست مجرد أصوات تتجمع في مفردات، لكنها كيان حي بكل ما تحمل كلمة الحياة من معنى، أو بكلمات أخرى فإن اللغة تصبح في أحيان كثيرة عند العربي غاية في حد ذاتها، لا وسيلة وأداة للتعبير. وبقدر ما في ذلك من خصوصية تعكس الاعتزاز باللغة، فإن غياب تقنية "الدوبلاج" أدى إلى نوع من انغلاق الفنون الدرامية العربية على نفسها، ليس فقط في عدم تذوق الأعمال الأجنبية التي تم تنفيذها بهذه التقنية مما قلل من انتشارها، وأعاق التأثر الفني بالنواحي الإيجابية فيها، ولكنه أدى أيضا إلى عدم قدرة الفنون الدرامية العربية على الوصول إلى جمهور واسع في أنحاء العالم. وربما لم تشذ عن هذه القاعدة إلا فترة قصيرة في الثمانينات شهدت عرض ما عرف وقتها بـ"المسلسلات المكسيكية"، وإن كانت في الحقيقة تنتمي إلى دول عديدة من أمريكا اللاتينية، غير أن ظاهرة "المسلسلات التركية" التي يشهدها الجمهور العربي الآن على نطاق واسع – برغم اعتمادها على تقنية "الدوبلاج" – تجعلنا نبحث عن الأسباب وراء نجاح هذه الأعمال لدى جمهورنا. وفي الحقيقة أن هذه الأسباب تشير إلى عوامل مهمة في صنع الدراما التليفزيونية الشعبية، وهي العوامل التي أصبحنا نفتقدها بسبب اهتمامنا بالكم دون الكيف، فمع انتشار الفضائيات العربية أصبح من المطلوب ملء ذلك "الفضاء" من وقت المتفرج بالعديد من المواد، بصرف النظر عن جودتها، ولهذا السبب – وأسباب أخرى - دخل إلى هذا المجال كل "من هب ودب"، وليس مهما أن يمتلك الموهبة أو الحرفة، وأصبحنا نرى مؤلفين وممثلين لا علاقة حقيقية لهم بهذا الفن سوى أنه وسيلة لكسب المال والشهرة، كما غاب النقد بمعناه الدقيق، وباتت الصفحات الفنية أقرب إلى العلاقات العامة، فلا تبحث بعد ذلك عن أبجديات الفن، أو الرغبة الحقيقية من الفنان في التأثير في المتفرج. على العكس تماما تبدو المسلسلات التركية تجسيدا لهذين الشرطين المهمين: إجادة الاحتراف، والوعي بأن الهدف هو التأثير في المتفرج. وكانت الإجابة السحرية التي تحقق هذين الشرطين هي: "إعادة خلق الواقع وقد أصبح نقيا مصفى"، الواقع ليس كما هو كائن، وإنما كما يحلم المتفرج أن يكون، واضح المعالم في خيره وشره، وآلامه وآماله، ولأن الواقع قد يجعل التناقضات مشوشة معقدة في الكثير من الأحيان، فإن فضل الفن الشعبي في هذا المجال (خاصة في الميلودراما) هو أن يجعل هذه التناقضات صارخة، كالأبيض والأسود بلا رماديات أو ظلال. ولكي يتحقق ذلك في الميلودراما (وربما في الفن بشكل عام) فلابد أن يكون للعمل الفني بعدان، كأنهما وجها العملة الواحدة: الوجه الأول هو التشابه مع الواقع، والثاني هو الذهاب بهذا الواقع إلى مستوى الحلم، وهذا ما يتحقق تماما في المسلسلات التركية المدبلجة التي شاهدناها مؤخرا على شاشات فضائياتنا، والتي سوف نلقي أولا عليها نظرة عامة قبل أن نضرب أمثلة محددة عليها. هناك في البداية الواقع الخارجي، الذي يتجسد في الشخصيات أو الأماكن التي تدور فيها الأحداث. أرجو أن تتأمل ملامح معظم الممثلين والممثلات في هذه المسلسلات، فلن تجد فيها تلك الرغبة في مسلسلاتنا في البحث عن أي جمال صارخ، إنهم أناس يشبهوننا إلى حد كبير، عاديون في ملامحهم الخارجية، لا يستخدمون أبدا أي "ماكياج" ثقيل، كما يميل الأداء إلى أكبر قدر من البساطة والبعد عن الافتعال. أما عن الأماكن فإنها تعكس ذكاءً إنتاجيا من صناع هذه المسلسلات، فهي تجمع "توليفة" بارعة من الشقق العادية التي يسكن فيها أبناء الطبقة المتوسطة، والقصور الفاخرة، وأحيانا منازل متواضعة للفقراء، وفيها جميعا لا تشعر بتعمد "الغرابة" كما قد تشعر مع معظم ديكورات مسلسلاتنا. من جانب آخر تتفوق المسلسلات التركية في "التصوير الخارجي"، إنها بفضل الكاميرات الخفيفة وأدوات الإضاءة المحمولة تذهب بك إلى المناظر الطبيعية الساحرة، وتأخذك إلى المواقع الحديثة والتقليدية في تركيا، فكأنها تريك الجديد والقديم في "سياحة" تبدو في الخلفية كأنها غير مقصودة، وإن كانت واعية تماما. أما عن الواقع الدرامي، فالأغلب الأعم من هذه المسلسلات تدور في عالم من القضايا الإجتماعية (والسياسية أحيانا)، لكن عرض القضية لا يتم أبدا على نحو تقريري أو مباشر، وليست هناك خطب أو مواعظ، لكن القضية تتجسد من خلال شخصيات درامية وشبكة من العلاقات، وهي تضم الأغنياء والفقراء، والأخيار والأشرار، ودائما هناك أجيال تمتد من الأجداد إلى الأحفاد، ليستطيع المتفرج من خلال هذه التنويعة من الشخصيات أن يجد من يتوحد ويتعاطف معه. وكما في كل الميلودرامات الجماهيرية يتم في النهاية التأكيد على أن الخير سوف ينتصر على الشر، وأن المستقبل للقيم الأخلاقية والتقدمية، وهذه الروح المتفائلة بعد الأحداث الميلودرامية العاصفة هي الأقرب دائما لقلب المتفرج، لأنها تقول له أنه إذا كان في الواقع ظلم فادح، فإن الفن يحمل إمكانية تحقيق نوع من "العدالة الشاعرية" التي تساعد الإنسان على الاستمرار في النضال مع الحياة. أخيرا يأتي المستوى التقني، وسوف أشير في البداية إلى الجهد الأصيل والناجح في "دوبلاج" هذه المسلسلات، وأرجو أن تلاحظ مثلا اختيار أصوات الممثلين والممثلات من العالم العربي، فهي توحي بأنها أصيلة تماما، كما أن اختيار أن تكون لهجة الحوار بالعامية أضفى مصداقية على ما تراه على الشاشة. وفي الحقيقة أن ذلك "الدوبلاج" لم يكن ينجح لولا أن صناع المسلسل انتبهوا إلى استخدام أسلوب مونتاجي شديد الذكاء، يحقق عدة نتائج من خلال تقنية واحدة: ألا تستمر اللقطة أكثر من خمس ثوان. إنها تقنية تضفي حيوية فائقة على إيقاع الأحداث كأنك تشاهد فيلما سينمائيا، ولتقارن ذلك باللقطات الحوارية في بعض مسلسلاتنا التي تمتد عدة دقائق دون أي قطع، أو بأسلوب القطع الممل بين من يلقون سطور حوارهم! من جانب آخر فإن هذا القطع السريع لا يعطي المتفرج الفرصة لإدراك عدم التزامن بين نطق الكلمات وحركة الشفاة، وذلك ذكاء فني يجب الالتفات إليه واستيعابه. أستطيع أن أضرب لك العديد من الأمثلة من المسلسلات التركية التي سبق لك مشاهدتها، لكني على يقين من أنك تستطيع الآن أن تدرك مواطن القوة فيها. هناك على سبيل المثال لا الحصر مسلسل "نور"، هل لاحظت مثلا أن البطلة التي يحمل المسلسل اسمها ليست فائقة الجمال؟ أو ذلك الجو الرومانسي الذي يشيع في عالم من تشابك العلاقات داخل عائلة كبيرة تجمع في صراعاتها بين العديد من المستويات: الخير والشر، والحب والكراهية، والقديم والجديد؟ وهذه المستويات تجدها أيضا في "الحلم الضائع"، ففي مركز العمل تكمن علاقات الحب بين الطبقات والأجيال، وأحلام الشباب في الحياة المعاصرة برغم القيود التي تكبله، وهو حلم "أوروبي" على نحو ما وإن لم يتخل عن الروح الشرقية الخاصة. وأخيرا في "صرخة حجر" تلك البراعة في مزج الميلودراما بالقضية السياسية الفلسطينية (هل يوجد مسلسل مصري واحد حاول أن يتحدث بصدق عن هذه القضية التي هي قضية كل العرب؟!)، وبقدر ما تشيع في المسلسل روح الشجن العاطفي، فإن هذا الشجن يمتد إلى البعد الوطني والقومي، إذ يتشابك الظلم على الأفراد والشعوب معا. ليست هذه محاول للتقييم أو التحليل النقدي للمسلسلات التركية المدبلجة، لكنها الرغبة في الإجابة عن التساؤل حول أسباب نجاحها لدى جمهورنا، وقدر أكبر من الرغبة في أن تستفيد أعمالنا الدرامية من هذا النجاح، بدلا من ذلك التقوقع المريض على الذات، والتصور الوهمي بأننا نصنع فنا، بينما الحقيقة أننا "نعيد تدوير" أفكارنا وأساليبنا، لنبقى "محلك سر"، وربما نعود أيضا إلى الوراء، لأننا لا نتعلم من تجارب الآخرين، ونظل دائما نبدأ تجاربنا من نقطة الصفر! متشور فى يونيو 2010

Tuesday, May 22, 2012

المذكر والمؤنث في السينما


من النمر التي باتت وسيلة سهلة لانتزاع ضحكات مغتصبة من جمهور السينما العربية، حيلة تنكر امرأة في ثياب رجل، وإن كان من الواضح أن الأكثر إثارة للضحك هو العكس: أن يتنكر رجل في ثياب امرأة، ولم يعد الأمر مقتصرا على مجرد نمرة عابرة، بل قد يصبح ذلك هو الجزء الأساسي من الفيلم، كما في الفيلم الذي تعرضه الشاشات هذه الأيام "بنات العم"، وهو بدءا من العنوان يبدو سخرية من عنوان فيلم "ولاد العم" وإن لم تكن هناك صلة بين الموضوعين على الإطلاق، فالحكاية هنا تنطلق من خيال كان منتشرا في أفلام الفيديو خلال الثمانينيات، حين تحدث حادثة ما بلا سبب على الإطلاق، لكنها تقلب الدراما رأسا على عقب، وهي هنا عن ثلاثة بنات يتحولن بين غمضة عين وانتباهتها إلى أولاد، لكنهن تمارسن حياتهن النسوية وهن في هذا الجسد الرجولي. عبثا تحاول أن تسأل نفسك وتجد إجابة: ماذا يريد هذا الفيلم أن يقول؟ فكل ما فيه هو ضحكات مستمدة من الفرجة على رجل يتصرف تصرفات أنثوية!! وذلك بالضبط جوهر إحدى نقاط الضعف في السينما المصرية: البحث عن الأسهل حتى لو كان مبتذلا! ولعلك تذكر محاولات من أسموا أنفسهم "المضحكون الجدد"، حين جلبوا نمرهم المسرحية البدائية إلى السينما، مثل أحمد آدم في "ولا في النية"، أو محمد هنيدي في العديد من أفلامه، عندما يتنكر "البطل" (!) في ثياب امرأة، ويظل يتلوى ويتراقص متصورا أن ذلك سبب كافٍ لضحك من القلب، وإن كان علاء ولي الدين حاول اقتفاء أثر النجم الأمريكي إيدي ميرفي بأن يقوم بأداء أدوار عائلة بأكملها، من بينها الأم، في فيلمه "الناظر". قد يبدو الأمر بالنسبة للكثيرين مستهجنا كمجرد فكرة، لكني أرجو أن نتأمل كيف أن "التوظيف" هو الأهم دائما، لأنه عندئذ يتجاوز السطح ويمضي إلى أعماق غير مرئية ... لك أن تتذكر مثلا كيف أن هذه الفكرة قد استخدمت من قديم في أدبنا الشعبي العربي، ففي سيرة "علي الزيبق" يكون البطل واسع الحيلة قد وصل عند إحدى نقاط الصراع إلى موقف يكاد أن يلقى فيه مصرعه، وفجأة يظهر فارس مغوار ملثم، يحارب بكل ما يملك من قوة ومهارة، حتى إذا انقشع الغبار وخلع الفارس لثامه بان وجهه فإذا به فاطمة أم علي الزيبق!! فكأن السيرة الشعبية هنا تستخدم حيلة التنكر في هيئة الجنس الآخر لتعيد إلى الذاكرة معنى "الأم" الحامية التي تظهر وقت الملمات والشدائد. لكن الاستخدام الأوسع لهذه الحيلة الدرامية جاء مع ما يسمى "المسرحية متقنة الصنع"، والتي تقوم على سلسلة من مواقف سوء التفاهم التي تزداد تعقيدا وتشويقا، ولعل أشهر مثال على هذه المسرحيات "العمة تشارلي"، التي تحكي عن شابين عاشقين يقنعان صديقا لهما بانتحال شخصية عمتهما، واستقبال الفتاتين المحبوبتين لإقناعهما بالزواج من الشابين، وبالطبع سوف يظهر رجل عجوز من أقارب الفتاتين، يخشى الجميع من أن يكتشف الخدعة، لكنه يكون أكثر من يقع فيها حتى أنه يطلب الزواج من "العمة تشارلي"!! ظهرت اقتباسات عديدة عن هذه المسرحية في السينما الأمريكية والعالمية، كما ظهرت في السينما المصرية عدة مرات من أشهرها "سكر هانم" من أداء عبد المنعم ابراهيم. هناك العديد من تنويعات حيلة التنكر في السينما العالمية، سوف نحاول أن نتذكر معا بعضها، ففي "البعض يفضلونها ساخنة" يهرب البطلان توني كيرتس وجاك ليمون من عصابة تطاردهما، ويتنكران في ثياب نساء وينضمان لفرقة موسيقية مؤلفة من فتيات فقط، وهو فيلم يقوم على سلسلة من مواقف سوء التفاهم، ويعتمد على خفة ظل بطليه اللذين كانا شابين آنذاك، ناهيك عن قيام مارلين مونرو بالبطولة النسائية، لكن السينما المصرية تقرر اقتباسه "بالمسطرة"، ودون أي جهد إبداعي، ليقوم بالبطولة ماجد المصري وهاني رمزي، وتحل "ممثلة" تدعى أميرة فتحي مكان مارلين مونرو!! على النقيض تماما يأتي "سايكو" لهيتشكوك، حيث البطل المعقد نفسيا أنطوني بيركنز، إنه فقد أمه التي كانت كل سنده في العالم وتركته وحيدا، وهو ينتقم لنفسه بأن يقتل الشابات الصغيرات اللاتي تقمن في الفندق الصغير الذي يملكه على الطريق، وهو لا يرتكب جريمة القتل الغادرة إلا وهو يرتدي ثياب أمه!! أما في "توتسي" يبحث البطل الممثل الشاب داستين هوفمان عن فرصة عمل، فلا يجدها إلا في دور نسائي بمسلسل تليفزيوني، فيتنكر بدقة في هيئة ممثلة ويحصل على الدور ويحرز فيه نجاحا، حتى أن يصبح محاصرا فيه ولا يستطيع بسهوله منه فكاكا. وفي "مسز داوتفاير" هناك مأساة مغلفة برومانسية رقيقة، فالأب روبين ويليامز فاشل في تحقيق النجاح في العمل الذي يريده لنفسه، لذلك تحصل زوجته على الطلاق وتخطط للزواج مرة أخرى من رجل "ناجح" (إنه الهوس الأمريكي بمعنى النجاح)، فلا يجد الأب وسيلة لكي يكون قريبا من أبنائه الصغار إلا أن يتنكر في ثياب مربية عجوز تدعى "مسز داوتفاير"، ليسدي بهذه الطريقة أيضا النصيحة لزوجته حول اختياراتها. يبدو هذا الفيلم الأخير بالذات تساؤلا مريرا حول هوية "الرجولة" في المجتمع الأمريكي المعاصر، لذلك فإن وسيلة التنكر فيه تصبح مدعاة للرثاء وليس الضحك. لكنك نادرا ما تحصل على هذا العمق في فيلم مصري، فالأغلب الأعم ينتمي إلى دائرة الهزل (أو التعسف في الجدية الزائفة)، ففي "المعلم بلبل" تضطر الراقصة هاجر حمدى للتنكر في هيئة جزار قاسٍ وإن كانت لا تتوقف عن التدلل طوال الوقت، ويرقص اسماعيل ياسين في زي راقصة إسبانية مع عبد السلام النابلسي في "اسماعيل يس بوليس سري" لكي يهربا من عصابة تطاردهما، وهي النمرة التي كررها حرفيا محمد سعد وأحمد حلمي في "55 إسعاف"، وتتنكر نادية الجندي في ثياب رجل في "بونو بونو" كما يتنكر هاني رمزي في ثياب امرأة في "أبو العربي"، ويظل محمد سعد يعيد ويزيد في هذه النمرة في معظم أفلامه. سوف أتوقف معك قليلا عند بعض المحاولات الجادة وتلك التي تبدو جادة، فمن هذا النوع الأخير يمكنك أن تتذكر "حرب الفراولة"، وكيف أن البطلين محمود حميدة وسامي العدل تنكرا في هيئة نساء "بحثا عن السعادة" كما يقول الفيلم، وإن كان يمكنك أن تحذف هذا الجزء تماما لأنه يقوم على تضخيم الفكرة بطريقة تبعدها عن أية ملامح واقعية، وهو الأمر الذي ينطبق أيضا على "هستيريا"، فبرغم نسيجه الأقرب للشاعرية التي يحلو للبعض تسميتها "الواقعية السحرية" تشبها بأمريكا اللاتينية، فإن السيناريو يمضي إلى ذلك التضخيم في صورة الشقيق شريف منير، الذي يتنكر في ثياب وهيئة النساء ويخرج في الليل ليوقع في حبائله بعض الزبائن الذين يهاجمهم ويسرقهم. ولعل ذلك بعض أثر من "السادة الرجال"، وأفكار مختلطة مشوشة عن الفانتازيا، ممزوجة برؤية سوداوية لكل ما في العالم، فالبطلة معالي زايد تقرر التحول إلى عالم الرجولة، الذي يختزله الفيلم للأسف إلى ممارسات أقرب إلى الهزل منها إلى الجد، وإن كانت تؤكد أن "مفيش فايدة" من أن يكون الإنسان رجلا أو امرأة!! الفيلمان الوحيدان اللذان عالجا حيلة التنكر بذكاء حقيقي جاءا من منطلق فكرة ثورية: ليس هناك فرق جوهري بين الرجل والمرأة فيما يتعلق بالقدرة على العطاء في المجتمع. أحد هذين الفيلمين هو "للرجال فقط" حيث البطلتان سعاد حسني ونادية لطفي تقرران التنكر في هيئة شابين، لتحصلا على عمل في موقع للكشف عن النفط قاصر على الرجال فقط. أما الفيلم الآخر فهو (ولا تستغرب!!) "الآنسة حنفي"، فهو يقوم في جوهره على البطل اسماعيل يس الذي يفرض أوامره ونواهيه – لمجرد أنه رجل – على البطلة ماجدة، وفجأة يصاب البطل بمغص ويكتشف الأطباء أنه لابد من إجراء عملية جراحية تحوله إلى امرأة، ليقضي بقية حياته سجينا وراء قضبان الأوامر والنواهي التي سبق له أن فرضها ... يضعك الفيلم في جوهر السؤال الذي يطرحه أي عمل فني جاد: "ماذ لو...؟"، والسؤال هنا: ماذا لو استيقظت من نومك فوجدت نفسك قد تحولت إلى امرأة؟ هل تُبقي على نفس أفكارك عن العالم؟ أم أن عليك أن تغيرها من الآن؟ ومرة أخرى نتأكد أن الحيلة الفنية ليست هي الهدف، وليست هي حكم القيمة على العمل، إنها مجرد وسيلة، قل لي كيف تستخدمها أقل لك كيف سيصبح عملك الفني.

Thursday, May 10, 2012

السينما التسجيلية، تلك السينما المظلومة!!


بين الحين والآخر، يعود على استحياء الحديث في صحافتنا السينمائية عن السينما التسجيلية، التي تبدو شبه غائبة عن الوجود لدينا، وتتراوح إجابات البحث عن أسباب هذا الغياب من جانب إلى آخر، دون أن تتطرق أبدا لجذور المشكلة. هل السينما التسجيلية مشروع خاسر كما يقول بعض النقاد؟ على العكس تماما، فوجود قنوات تليفزيونية وفضائية متخصصة في عرض هذه الأفلام على مدار اليوم يؤكد أن للسينما التسجيلية سوقا رائجة في كل بلدان العالم. هل السبب هو اختفاء ما كنا نعرفه باسم "الجريدة السينمائية" من دور العرض؟ لا، فالحقيقة أن نشرات الأخبار التليفزيونية أصبحت تتفوق اليوم على أية جريدة سينمائية. إذن فلنلق باللوم على ذوق الجمهور المصري والعربي، الذي يقال أنه يفضل الأفلام الروائية، غير أن التجربة تثبت أن هذا الجمهور ذاته ينتظر على أحر من الجمر بعض البرامج التسجيلية التليفزيونية، مثل أفلام الرحلات أو حتى حياة الحيوانات، وهي الأفلام التي تتمتع بالتشويق في تصويرها أو التعليق عليها. أين المشكلة إذن؟! فلنبدأ من جوهر السينما، التي ورثت عن أسلافها السابقين من الفنون قدرة على تسجيل ما يدور أمام الكاميرا، وكان هذا الجانب "الفوتوغرافي" هو سبب افتتان الجمهور بالأفلام عند مولد السينما، هذا الجمهور الذي كان يتجمع في المقاهي حيث تعرض الأفلام آنذاك ليرى أفلاما قصيرة تحمل عناوين "خروج العمال من المصنع" أو "وصول القطار إلى المحطة". وسرعان ما أدركت السينما أن جزءا مهما من قوتها يكمن في أن تحمل المتفرج إلى بلاد بعيدة غريبة، وهكذا أرسل الأخوان لوميير بعثات لتصور أفلاما قصيرة من بلدان الشرق الساحرة. ومع حلول عشرينيات القرن العشرين، ظهر اتجاه قوي لصنع أفلام تسجيلية عن مناطق بعيدة في الزمان أو المكان. كانت تلك هي أفلام روبرت فلاهيرتي على نحو خاص، الذي كان مفتونا بفكرة صمود الإنسان أمام قسوة الطبيعة، ليذهب مثلا إلى القطب الشمالي حيث يصور رجال الإسكيمو في فيلمه "نانوك من الشمال"، أو يرحل إلى الشواطئ الاسكتلندية النائية ليصور "رجل من آران". الغريب في هذه الأفلام أنها لم تكن تسجيلية بالمعنى الدقيق للكلمة، فقد كان فلاهيرتي يغير من بعض الحقائق لكي يؤكد على فكرته، ففي هذا الفيلم الأخير على سبيل المثال جعل أهالي "آران" يتعلمون حرفة صيد أسماك القرش التي كانوا قد توقفوا عنها، لكي يستطيع تصوير مشهد النضال الإنساني مع الطبيعة. وإذا كانت هذه النزعة متهمة بنوع من تزييف الحقائق بما يبعدها عن كونها "تسجيلية" تماما، فهذا بالضبط هو ما جعل منها فنا، فأنت لا تضع الكاميرا فقط أمام الواقع لتحصل على فيلم تسجيلي، بل إنك تتدخل في صياغة هذا الواقع على نحو ما لكي تؤكد فيه على فكرة تتجاوز سطحه الظاهر. وتلك الحرية الإبداعية التي اكتسبتها السينما التسجيلية هي ما صنعت اتجاهات جديدة عديدة، خاصة مع ما يسمى "سيمفونيات المدن"، التي كانت تسجل الوقائع اليومية لمدينة ما، لكن إعادة تنظيم المادة المصورة في المونتاج تحول هذه الوقائع إلى إيقاع ساحر، يبدأ في الصباح الباكر وينتهي مع سكون الليل، على نحو ما صنع والتر روتمان مثلا في "سيمفونية برلين". ثم جاء الاكتشاف الأهم في تاريخ السينما التسجيلية، وهي قدرتها التي بلا حدود على بث الدعاية السياسية بطرق بالغة الرهافة، على نحو ما بدا في فيلم المخرجة الألمانية الشهيرة ليني ريفينشتال التي صنعت فيلما عن دورة برلين للألعاب الأوليمبية في عام 1936، كان يحمل اسم "أوليمبيا"، لكن الفيلم كان في القلب منه دعاية خبيثة ومتوارية لألمانيا النازية، وللفكرة العنصرية القائلة بتفوق الجنس الأوربي الأبيض!! من جانب آخر استخدمت أمريكا السينما التسجيلية خلال الحرب العالمية الثانية، لتصنع سلسلة طويلة من الأفلام التي تبرر بها دخولها الحرب إلى جانب الحلفاء. لكن التأثير الأكبر للسينما التسجيلية باعتبارها فنا جاء في أعقاب الحرب، عندما عانت إيطاليا من فقر إمكاناتها السينمائية على نحو خطير، لكن ذلك كان بمثابة دافع قوي لبدء تيار "الواقعية الجديدة"، الذي يعتمد على التصوير في الشوارع وبممثلين غير محترفين ومن خلال الإضاءة الطبيعية، وهو ما أدى لظهور مجموعة مهمة من الأفلام التي ما تزال حتى اليوم علامات في تاريخ السينما، مثل "سارقو الدراجات". وبدءا من تلك الفترة كادت الخطوط الفاصلة بين ما هو روائي وما هو تسجيلي أن تتلاشى. وحين ظهرت الأفلام التسجيلية في السينما المصرية كانت شبه قاصرة على أفلام الدعاية التجارية أو الاقتصادية، مثل صنع أفلام عن "بنك مصر"، لكن ثورة 1952 أدركت منذ وقت مبكر أهمية هذا النوع من السينما في خلق رأي عام يواكب المشروع القومي، وهو ما ظهر على سبيل المثال في عشرات ومئات الأفلام التي سجلت للمراحل المختلفة من بناء السد العالي، وكان من أشهرها السلسلة التي صنعها صلاح التهامي. كانت تلك أفلاما تقليدية بالمعنى العام للكلمة، فهي تكتفي من الحقائق بسطحها الظاهر، كما أن التعليق المصاحب يحمل دائما وجهة النظر "الرسمية"، وهو الأمر الذي دفع بعض السينمائيين الشبان آنذاك للثورة على هذا الأسلوب في صناعة الأفلام، وهي الثورة التي يمكن أن نلخصها في اتجاهين رئيسيين، الأول هو الاتجاه الواقعي بالغ الرهافة في الإمساك بعوالم الطبقات الفقيرة، كما تجلى في فيلم عطيات الأبنودي "حصان الطين" عن العاملين في صناعة الطوب، والاتجاه الثاني شاعري، يتجسد في أفلام هاشم النحاس التي تحول الواقع إلى قصيدة سينمائية، مثل فيلمه "النيل أرزاق". ظهر عشرات السينمائيين التسجيليين في هذين الاتجاهين خلال السبعينيات بشكل خاص، وكان هذا ناتجا في جوهره عن اهتمام السينمائي الرائد شادي عبد السلام بإنشاء وحدة للأفلام التسجيلية، نشأ فيها جيل كامل من شباب المخرجين. تأمل على سبيل المثال بدايات خيري بشارة آنذاك، في صنع الأفلام التسجيلية التي تركت فيه أثرا قويا حتى عندما تحول إلى صنع الأفلام الروائية، كما يبدو مثلا في فيلمه "العوامة 70" الذي يحكي عن اكتشاف جريمة في مصنع بفضل شريط تسجيلي، أو ذلك المشهد المشحون بالشجن في "آيس كريم في جليم" بينما تطوف الكاميرا في شوارع القاهرة. وهذا ما بدا أيضا في بدايات المخرج داود عبد السيد، الذي كان يستخدم السينما التسجيلية للتجريب، كما في فيلمه "وصية رجل حكيم"، حيث يتناقض تماما – عكس المألوف – شريطا الصوت والصورة!! كادت السينما التسجيلية في مصر أن تتحول في الفترة الأخيرة إلى شرائط ليس فيها من المغامرة الفنية إلا القليل، وأصبح لها "قالب" تليفزيوني ممل ينتقل بشكل عشوائي من الحوارات إلى الأغنيات (!!)، برغم أن هناك محاولات جادة شابة – وإن كانت قليلة متناثرة - لسبر أغوار الواقع المصري، كما في أفلام حنان راضي مثل "أهل الرضا" عن فقراء الشعب المصري وكفاحهم اليومي للبقاء على قيد الحياة، أو فيلم فوزي صالح "جلد حي"، الذي يستدعي إلى الذاكرة محاولات عطيات الأبنودي، عندما يذهب ليسجل وقائع حياة الأطفال في صناعة دباغة الجلود شديدة القسوة. المفارقة الساخرة والمريرة معا تكمن في أن هناك جيلا جديدا يرغب في صناعة سينما تسجيلية مصرية قوية، وأن إمكانات صنع فيلم تسجيلي أصبحت أسهل بما لا يقارن مع أي وقت مضى، مع تقدم تقنيات التصوير والمونتاج. أين المشكلة إذن؟ المشكلة في بناء صناعة السينما المصرية ذاتها، التي ما تزال قاصرة في مفهومها عن "الفيلم"، الذي ينحصر فقط عندها في الأفلام الروائية الطويلة، وهو ما يتأكد مع غياب كامل لأشكال سينمائية مثل سينما التحريك (الكارتون) على سبيل المثال. والمشكلة أيضا في سياق لا يريد كشف الحقائق، وليست فيه الحدود الدنيا لحرية تداول المعلومات، وما تزال هناك قوانين متعسفة تمنع السينمائي المصري من التصوير في أماكن عامة إلا بتصريح خاص، لذلك فإن مشكلات السينما التسجيلية في مصر لا تتعلق باعتبارات تجارية أو بذوق الجمهور، فالمشكلة أعمق وأبعد أثرا، وإن كان التطور التقني سوف يجبر هذا السياق على أن يمنح السينما التسجيلية فرصة الحياة، والتطور.

Saturday, April 28, 2012

نجيب محفوظ قلب الثائر وعقل الصوفى (نشرت فى سبتمبر 2006)


من روايته الملحمية الفريدة "الحرافيش"، تقرأ للأديب نجيب محفوظ هاتين الفقرتين، فى الأولى: "تنساب عربة الزمن مكللة بالزهو والحياء، صلصة عجلاتها المدوية لا يسمعها أحد، الأذن لا تسمع إلا ما ترغب فى سماعه. يتوهم الفحل أنه اقترن بالدنيا قران دوام، ولكن العربة لا تتوقف، والدنيا زوج خئون". فى هذه الفقرة تتدافع الصور البلاغية وتتدفق الواحدة وراء الأخرى، لتلخص حكمة من ينظر إلى الحياة من بعيد، بالكلمات والمعانى التى يصعب – ولا نقول يستحيل – نقلها إلى صورة سينمائية، لكن فلنتأمل فقرة أخرى من نفس الرواية الملحمية: "راحت الكارو تتقدم والظلام يخف، تذوب الظلمة فى ماء وردى شفاف فتكشف عوالم فى السماوات والأرض، تنساب منها ألوان عجيبة متداخلة حتى اصطبغ الأفق بحمرة نقية متباهية، تلاشت أطرافها فى زرقة القبة السماوية الصافية، وأطل من وراء ذلك أول شعاع مغسول بالندى، وتراءى الجبل شاهقاً رزيناً، صامتاً، لا مبالياً...". إنك لا تملك وأنت تقرأ هذه الكلمات إلا أن تسأل نفسك: أى صورة سينمائية عبقرية تلك التى كتبها نجيب محفوظ، صورة تنتظر فناناً سينمائياً يضع يده على ما فيها من جمال تصويرى خالص، لا يخلو – بالإضافة إلى جانبه الحسى – من حالة وجدانية آسية، وفكرة ميتافيزيقية رفيعة؟! هذا هو نجيب محفوظ، الذى نعرف جميعاً أنه أقرب الأدباء العرب على الإطلاق فى علاقته الحميمة بالسينما، ليس فقط من حيث عدد رواياته التى تحولت إلى أفلام، وإنما أيضاً من خلال قيامه بكتابة السيناريو مباشرة للسينما لعشرات الأفلام. لقد كان نجيب محفوظ بلا شك من أغزر أدباء الكلمة والصورة إنتاجاً من ناحيتى الكم والكيف معاً، وبقدر ما عرف الأديب الكبير من "روتينية" فى حياته اليومية، وهو الذى قضى الجانب الأكبر من حياته "موظفاً حكومياً منضبطاً"، مما انعكس حتى على حياته الإبداعية والشخصية من التزام صارم فى مواعيد الكتابة أو التوقف عنها، أو حتى جلساته الدورية مع أصدقائه من "الحرافيش"، فإن ذلك فيما يبدو كان وسيلته للتحكم الواعى (والجمالى إن شئت الدقة) فى وجدانه الذى تضطرم فيه الأفكار والعواطف، بين الإنكار واليقين، أو بين اليمين واليسار، أو بين الانغماس المادى فى الحياة والترفع الصوفى عنها. إن هذا الوجدان الثرى – الجدير بفنان مبدع أصيل – يتجلى فى صور عديدة فى أعماله الأدبية، التى سارت فى "الطريق" الصاعد نحو المعرفة. بدأ طريق نجيب محفوظ الأدبى بروايات تاريخية تحاول أن تفهم الماضى من أجل فهم الحاضر، هذا الحاضر الذى وجد تجسيده الرفيع فى رويات "واقعية" مثل "الثلاثية" وغيرها من روايات اتخذت لعناوينها أماكن بعينها فى قلب "القاهرة القديمة"، فهى فى الحقيقة واقعية على طريقة بلزاك الذى كان يلجأ لما يقترب من "تسجيل" الواقع الهارب قبل أن يصبح ماضياً انقطعت الصلة به. (تأمل على سبيل المثال صورة شاعر الربابة الذى يسامر زبائن المقهى، ثم تنحدر به الأيام فينزوى حين يعتلى المذياع مكاناً عالياً ليصبح شاعر الربابة تاريخاً ذاوياً ذابلاً) . لكن نجيب محفوظ لم يتوقف أبداً عند السطح الخارجى للواقع، فهو يتأمل أيضاً "القاهرة الجديدة" ليضيف إلى "التسجيل" نوعاً من "التعليق الاجتماعى" على الفساد الذى يولد فى أحضان الديكتاتورية والفقر. كما أن أكثر رواياته اقتراباً من النزعة الواقعية تلتقط أيضاً بعض الرموز الكونية فيما يشبه النزعة الصوفية (مثل ذلك الدرويش العجوز فى "الثلاثية"، يختفى ويظهر كما هو رغم تعاقب الأجيال، هرماً لا تدرى إن كانت السنون هى التى تأكله أم أنه الذى يجتر السنين). إن هذا الامتزاج بين الروحى فى قلب المادى، والمادى فى قلب الروحى، يميز معظم أعمال نجيب محفوظ الأدبية، وهذا ما يجعلها جديرة بأن نطلق عليها أدب السينما، أو سينما الأدب. فالصورة البلاغية عنده تمد جذورها فى الواقع المادى، والواقع المادى يحمل دلالات معنوية سامقة فى روحانيتها. وفى كثير من أعمال نجيب الأدبية، تجد مستويات عديدة لقراءة العمل، فإذا كان بطل "السمان والخريف" يجد نفسه وقد تجاوزه الواقع السياسى حيث يضطر للتأمل من "على حافة العالم"، فإن بطل "الشحاذ" يعانى من نفس الأزمة، لكنهما كليهما ينظران للعالم نظرة "صوفية" لا تدرى إن كانت صوفيتها اختياراً أم اضطراراً. وهكذا فإن واقعاً سياسياً محدداً لا يطرح فقط أسئلة سياسية، لكنه يجعلك تسأل أسئلة وجودية عاصفة. ليس غريباً إذن أن تمتزج فى أعمال نجيب محفوظ عناصر تبدو للوهلة الأولى متناقضة، ففيها جميعاً تنصهر السياسة والجنس والميتافيزيقا، لا فرق فى ذلك بين "السراب" الذى ينظر إليها البعض بإعتبارها تتناول الكبت والحرمان الجنسى، أو "القاهرة الجديدة" التى تبدو للوهلة الأولى تعليقاً سياسياً لاذعاً ومريراً على فترة من الفساد السياسى فى تاريخ مصر. ولكن من الغريب – والفريد أيضاً – أن هذا الامتزاج بين عناصر متناقضة، والذى ينبع من رؤية شاملة للتاريخ والحياة الإنسانيين، كان يمثل أيضاً "توليفة" شديدة الجاذبية للمتلقى، فكأن نجيب محفوظ قد اكتشف أن الأسئلة الحقيقية عن "الوضع الإنسانى" – وهو اسم رواية لبلزاك- هى ذاتها عناصر فنية قريبة إلى قلب المتلقى وعقله. إن هذا يلتقى فى حقيقة الأمر مع رؤية الناقد الكبير الدكتور على الراعى فى تقييمه للميلودراما، فإذا كان البعض ينظر إليها بإعتبارها فناً متواضعاً، فإنها فى جوهرها تلمس الأوتار الحساسة فى وجداننا. وليس بعيداً عن الحقيقة أن نقول أن نجيب محفوظ قد اكتشف – ربما بسبب عمله فى السينما - أن "الميلودراما" تحمل فى داخلها عناصر جذب جماهيرية، بالإضافة إلى كونها قادرة على أن تطرح العديد من الأسئلة الصحيحة. فى الكثير من أعمال نجيب محفوظ تتكرر – بالنص أحياناً، وبالمعنى أحياناً أخرى- عبارة "متى يتحقق العدل؟"، وهى فكرة تكمن فى قلب كل عمل ميلودرامى. ناهيك عن شخصيات وأفكار تعاود الظهور فى أعمال نجيب محفوظ: البطل الباحث عن خلاص، الأب المفقود، الأم ذات الماضى غير النقى، الشيخ، العاهرة الفاضلة، الفتوة، المرأة الفاتنة الغاوية، المحبوبة التى تمثل النقاء، المخبر ممثل السلطة، وإلى جانب ذلك كله الرحلة من الفقر إلى الثراء ثم العودة إلى الفقر من جديد، ولقاء الشباب بالكهولة، وصراع دائم لا ينتهى بين الخير والشر، وحيرة لا تزول بين الاختيار والجبر، وانتظار مرير للحظة تقرير المصير. وإذا كنا نتحفظ فى إطلاق أحكام عامة على أعمال نجيب محفوظ، فإن من الأقرب للصواب أن نذكر أن هذا المزيج من الأدب الرفيع، والصورة السينمائية، والنظرة الصوفية، والعناصر الميلودرامية، وتعدد مستويات الدلالة التى تتيح قراءات مختلفة لنفس العمل (تصبح هذه المستويات أكثر غزارة مع أعمال لنجيب محفوظ التى تقترب من النزعة"التفكيكية"، بدءاً من "ميرمار و "المرايا"، وانتهاء بأكثر هذه الأعمال صعوبة مثل "حديث الصباح والمساء" ففيها يترك نجيب محفوظ قارئه لكى يختار "الطريق" الذى يقرأ به الرواية ويفهمها)، نقول أن هذا المزيج قد تحقق على نحو رفيع فى أعمال مثل "الحرافيش" و "ليالى ألف ليلة"، بينما يبدو أقرب إلى "مسودات" لم تأخذ حقها فى النضج، وإن تفاوتت أيضاً بين كثافة "قلب الليل" وتواضع – وربما سذاجة – أعمال مثل "الجريمة" و"الكرنك". إن هذا التفاوت ليس أمراً غريبا فى رحلة أديب بقامة وحجم نجيب محفوظ، كانت الثورة عنده صوفية، والصوفية ثورة، فقد يصل أحياناً إلى اليقين وقد يخطئه أحياناً أخرى، لكن جدوى الرحلة لا يأتى دائماً من بلوغ القصد، وإنما من تصميم دؤوب على السير فى "الطريق".

Wednesday, April 25, 2012

مقالة قديمة عن الأيام الخوالى...... عن أبى وعبد الحليم وعبد الناصر

كان أبى رحمه الله إنساناً بسيطاً، فى عمله وحياته وملبسه ومأكله ومشربه، وعندما يخلو إلى نفسه بعد عناء يوم طويل يجلس إلى جوار المذياع، لا يسمع فيه إلا تلاوة القرآن ونشرة الأخبار وأم كلثوم، ولم تكن له علاقة مباشرة بالسياسة، لكننى أدركت من حرصه على سماع النشرة اهتماماً عفوياً وأصيلاً بأحوال البلاد فى تلك الفترة من بدابة الخمسينات. مازالت أذكر ذلك اليوم، وأنا أراه يستمع إلى خبر عن نجاح الضباط الأحرار فى توقيع اتفاقية الجلاء "بدون قيد أو شرط"، فى تلك اللحظة نظر تجاهى وابتسامة الفرحة تنطلق على شفتيه اللتين كان من النادر أن تزايلهما الصرامة، وفى عينيه التماعة الفخر، وهو يقول لى بينما يشير إلى المذياع: "سامع؟! بدون قيد أو شرط". لا أدرى إن كنت قد فهمت حينئذ معنى الكلمات، لكن من المؤكد أن فرحة أبى وفخره تسللا إلى وجدانى، فى ذلك الزمن الذى غنى فيه محمد قنديل "ع الدوار، راديو بلدنا يجيب أخبار"، وصدح كارم محمود: "أمجاد ياعرب أمجاد، فى بلادنا كرام أسياد" التى صارت شارة وأشارة على الإذاعة التى أطلقها عبد الناصر، وحملت اسم "صوت العرب". كان عبد الحليم حافظ جزءاً من ذلك المناخ، الذى كانت فيه مشاعر "الوطنية" تتخلل كل نواحى حياتنا، ببساطة بالغة ودون زعيق أو افتعال، على عكس ما يردده البعض من اتهامات للأغنيات الوطنية لثورة يوليو بالصراخ والافتعال، لكن السمة الحقيقية لها فى تلك الفترة كانت الصدق فى التعبير، لأن "الوطنية" لم تكن – كما أصبحت فيما بعد – تجارة وشطارة، بل مشروع حياة تسودها العدالة الاجتماعية، لذلك لم يكن غريباً أبداً أن يغنى عبد الحليم حافظ فى بداية حياته بلسان العامل، بكلمات عبد الفتاح مصطفى وألحان عبد الحميد توفيق زكى :"بدلتى الزرقة لايقة فوق جسمى، فى جمال لونها مركزى واسمى، بدلتى الزرقا من نسيج إيدى، لبسها يزينى حتى يوم عيدى"، فكأن تلك الفترة كانت - بعد موجة 1919 وسيد درويش – الموجة الثانية للأغنيات التى تنطق باسم "تحالف قوى الشعب العاملة" الذى ألغاه دستور الاستفتاء، وفى بساطة تلك الكلمات والألحان والأداء عرفت من هو الشعب بالمعنى الحقيقى للكلمة. أقول "عرفت" لأنه لم يكن من بين أفراد عائلتى عامل يرتدى "بدلة زرقا"، لكننى توحدت تماماً مع عبد الحليم حافظ عندما غنى أغنية تحمل عنوان "ذات ليلة" فى عام 1959. كنت عندئذ فى الثانية عشرة من عمرى، وكنت قد أدركت كم عانى أبى من أجل تعليم أخواتى الكبار، وكأنه يناضل لكى يجد لهم مكاناً تحت الشمس، بينما استطاع أن يلقى العبء عن كاهله بتعليمى وإخواتى الأصغر فى ظل "مجانية التعليم" التى أتاحته الثورة له ولكل أفراد الشعب. كانت أغنية عبد الحليم من كلمات مرسى جميل عزيز وألحان كمال الطويل، وتحكى عن طالب يسهر الليالى لكى يشق طريقه لكن الصعوبات الاقتصادية تقف فى وجهه حتى تأتى الثورة فتفتح الأبواب للجميع، كل ذلك بكلمات غاية فى البساطة وألحان تقترب من حافة الدراما وأداء بالغ الصدق: "ذات ليلة وأنا والأوراق والأقلام فى عناق، نقطع الأزمان والأبعاد وثباً فى اشتياق.. ذات ليلة هبت الريح وهزت فى عناد بابيا، أطفأت أمن حياتى أطفأت مصباحيا.....لم أجد ناراً لدى، لم أجد فى البيت شى، غير أم هى لا تملك إلا الدعوات، وأب لم يؤت غيرى للسنين الباقيات، والنهايات السعيدة، أصبحت عنى بعيدة، ذات ليلة وأنا رهن الظنون المجدبة، دقت قلوب طيبة، قالت انهض وتقدم لا تبالى، بالليالى وتصاريف الليالى... قم فباب العلم رحب فى انتظارك، قم وشارك وابن بالعلم الوطن، قلت من أين أتـى هذا الشعاع، قالت الأصداء من قلب شجاع. إنه قلب جمال". بالطبع كان هو جمال عبد الناصر، وليس أى جمال زائف مصطنع، ومع الأغنية كان صوت عبد الحليم يأخذنى من الضياع إلى الأمل إلى الفرحة، لأدرك بحق مدى "النعمة" التى أنعم بها، وأسهر الليالى "وأنا والأوراق والأقلام فى عناق"، وأنظر إلى أبى وهو يسبح بحمد الله. ذهب ذلك كله أدراج الرياح، وأصبحت كلمات مثل "الوطنية" أو "مجانية التعليم" تثير إما الحسرة أو السخرية، وألغيت "المكاسب الاشتراكية" وحلت محلها "البيئة" فى الدستور، وكأنه "دستور بيئة"، واجتمع اللاصقون العرب فى كراسى السلطة لكى يقدموا لإسرائيل عربون محبة تحت اسم "المبادرة العربية" وهم يعلمون أن إسرئيل لن ترضى إلا بالرضوخ الكامل، ولا يعلمون أن اعترافهم بكيان استعمارى أقيم بذريعة دينية يفتح أبواب جهنم أمام كل التيارات السياسية الدينية التى يتصورون أنهم سدوا الطريق فى وجهها بنص دستورى. لذلك كله أحن إلى صوت عبد الحليم، وزمن عبد الناصر، وتلك النظرة من الفرحة والزهو والكبرياء التى رأيتها فى عينى أبى عندما عرف أنه جلاء "بدون قيد أو شرط"، وكم أتمنى قبل أن أموت أن تعرف تلك النظرة طريقها إلى عينى، "ذات ليلة". (نشرت فى أبريل 2007 فى جريدة العربى القاهرية)

Sunday, April 08, 2012

أحزان رمضانية!! نشر هذا المقال فى 21 أغسطس 2011

يأتى شهر رمضان هذا العام بطعم مختلف ... منذ ثلاثين عاما أو يزيد تعود المصريون أن ينظروا إلى هذا الشهر على أنه شهر التليفزيون، وأصبحت الأجيال تُنسب إلى "فوازيرها"، فذاك جيل فطوطة أو نيللى، وهذا جيل شيريهان، وفجأة انقطعت الأجيال أو تمييزها على الأقل بهذه الطريقة، فقد باخت الفوازير إلى درجة أن أحدا لن يتذكر مثلا أنه قد ظهرت فى العام الماضى "واحدة" تدعى ... (نسيت اسمها للحظة ثم تذكرته: مريم فارس)، قدمت فوازير ليست فوازير، ورقصا أشبه بارتعاشات الصرع، وأغنيات أقرب إلى الزار. كان السبب فى فقدان بهجة الفوازير هو أن الحياة اليومية باتت فزورة كبرى، كان خاتمتها الانتخابات التشريعية "بتاعة" أحمد عز، التى فاق التزوير والفُجر العلنى فيها كل تصور، ثم جاءت فزورة "خليهم يتسلوا"، أو بكلمات أخرى: "فيلشربوا من البحر، أو يخبطوا رأسهم فى الحيط"، وكان أن خبطنا رؤوسنا بالفعل، ولكن فى رأس النظام، الذى تهاوى بعد أن خاض دور شطرنج طويلا مع الشعب. نتصور أحيانا أننا قد انتصرنا فى هذه المباراة، والحقيقة أن "الطابية" قد تدخلت بما بدا للحظة أنه لصالحنا، لكن بعد استراحة قصيرة من توتر اللعب أدركنا الحقيقة المرة: الطابية تريد أن تصبح الملك!! لذلك يأتى رمضان هذا العام بطعم مختلف. فى كل صباح رمضانى هناك فرصة أمام ربات البيوت بشكل خاص أن ترين المسلسلات والبرامج التى لم تتمكن من رؤيتها فى الليلة السابقة، لكن فى اليوم الرابع عشر من رمضاننا هذا كانت المحطات تذيع محاكمة حبيب العادلى "المدنية" بتهمة قتل الثوار، فى "شو" إعلامى لطيف يجلس فيه الرجل كأنه فى نزهة قصيرة. فى الوقت ذاته كان هناك حدث مهم يجرى دون أن يدرى به أحد، لأن التليفزيون لم يهتم به حتى كخبر قصير، وهو تحويل أسماء محفوظ للنيابة "العسكرية"، ولأنها غير مشهورة بالمعنى التليفزيونى، ولا يراد أن تكون مشهورة، فقد قامت وسائل الإعلام بأن "كفت على الخبر ماجور"!! من هى أسماء محفوظ؟! فتاة مصرية تشبه أخواتنا وبناتنا، كانت من بين شباب مصر الذى خرج فى يوم 25 يناير، وقامت على أكتافه كل الأمجاد المزعومة التى تشدقت بها فصائل عديدة، مثل حديث عصام العريان عن "خطط" الإخوان المسلمين" للثورة منذ زمن طويل، وهم الذين انتهزوا ومايزالون ينتهزون أى انتصار يحرزه غيرهم. لماذا تم تحويل أسماء للنيابة العسكرية؟ لأنها نبهت إلى أن المجلس العسكرى يرتكب خطأ فادحا بتصرفاته التى يحار فى فهمها كل لبيب، وحذرت من أن سياسة المجلس إياه سوف تؤدى إلى تيارات من العنف. النكتة الأولى هنا هو اتهام الفتاة البريئة بالدعوة إلى العنف، وهى التى بح صوتها ورفاقها من أبناء الشعب المصرى بالهتاف: "سلمية سلمية"، بينما كانوا يلاقون أبشع وسائل العنف على أيدى رجال العادلى، الذى كان يبتسم فى قفص محاكمته فى يوم التحقيق مع أسماء. النكتة الثانية هى أن جلسة محاكمة العادلى "المدنية" انتهت بينما استمر التحقيق "العسكرى" مع أسماء ساعات عديدة. عبثا حاولت أن تقنع المحققين بجدية تحذيرها، الذى لا يعنى أبدا أنها شخصيا سوف تلجأ للعنف، وإنما أن المجلس العسكرى يمارس مرة أخرى سياسة "خليهم يتسلوا"، بما سوف يعيد الدائرة إلى بدايتها (أنظر أعلاه!!)، أو لأن هذه السياسة التى تلعب لعبة خطيرة هى التى تستخدم قوى العنف والإرهاب لتضرب قوى الثورة، وما تزال مظاهرات السلفيين فى الأذهان، ورفعهم صور بن لادن ورايات تنظيم القاعدة وأعلام السعودية، ولم يتم التحقيق مع أحدهم أبدا برغم ارتكابهم ما يرقى إلى الخيانة العظمى، كما لم يتم التحقيق مع ما يسمونهم "البلطجية"، الذين اعتدوا على الثوار تحت سمع وبصر المجلس العسكرى مرتين، مرة فى "الجمل" وأخرى فى "العباسية"، بينما يتم التحقيق مع أسماء لأنها أطلقت نداء على "تويتر"!! أُفرج عن أسماء بكفالة عشرين ألف جنيه فى النيابة العسكرية، فى الوقت الذى كانوا قد أفرجوا عن عائشة عبد الهادى فى النيابة المدنية بنصف هذا المبلغ لاشتراكها فى "معركة الجمل"!! ولم تظهر هيئة سياسية واحدة تعرض دفع الكفالة فقام الشباب بجمعها من بعضهم، وقد فات عليهم – لأنهم مشغولون بالثورة – أن يشاهدوا مسابقة "بيبسى" المحمومة على شاشات التليفزيون، التى تعرض جوائز تكفى للإفراج عن العديد منهم أمام النيابة "العسكرية"، وربما تفادى الثوار أن يستعينوا بـ"بيبسى" حتى لا تثبت التهمة التى أطلقها "واحد" يقال أنه مطرب وملحن، اسمه عمرو مصطفى، ظهر فى العديد من البرامج التليفزيونية الرمضانية هذا العام، ليقول إن هذا البيبسى خطط للثورة تحت شعار "اشرب وعبّر" أو "اتكلم واشرب"، لست أدرى على وجه اليقين، وأن بيبسى حين ذكر احتفاله بمرور 125 عاما على انطلاقه كان يعطى إشارة بدء الثورة لأتباعه فى اليوم 25 من الشهر 1!! جاء ذلك فى أحد البرامج التليفزيونية، بينما كان موقع "يوتيوب" يبث شريطا قصير يؤكد فيه أن كلمة "بيبسى" تعنى "ادفع كل قرش لتنقذ اسرائيل"، مع أن اسم هذا المشروب يعود إلى "إنزيم" يدعى "بيبسين"، كما أنه ظهر قبل أن يكون لكلمة "إسرائيل" أى معنى غير الإشارة لنبى الله يعقوب، ولكى يزداد الأمر "لخبطة" فقد كان هذا الشريط الهزلى لمرشح الرئاسة عن السلفيين حازم أبو اسماعيل، الذى كان "الوحيد" – حتى كتابة هذه السطور – الذى أدان بكلمات بالغة الحدة والوضوح تحويل الشباب الثائر للمحاكمات العسكرية!! حد فاهم حاجة؟!! فى هذا الواقع المضطرب أتى رمضان هذا العام، وكنت لسذاجتى قد توقعت أن يكون رمضان ساخنا، يتحول فيه "الميدان" إلى ساحة للاحتفال السياسى والكرنفالى فى وقت واحد، فإذا بنا نقرر أن نأخذ "أجازة" من السياسة فى رمضان لنجلس أمام شاشات التليفزيون، فى الوقت الذى قرر فيه المجلس العسكرى "احتلال" الميدان، مع أول يوم من الشهر، وأن يُجلى عنه قوات "الأعداء" الذين جاءوا للإفطار فيه، بينما احتلت قوات الثورة المضادة شاشات التليفزيون. جلسنا أمام الشاشات نتلقى برامج غسيل الدماغ، التى تعبث فى عقول ملايين المتفرجين، الذين باتوا أقرب لعدم فهم ما يجرى بسبب التباس المواقف، هل ما حدث ثورة؟ هل قامت الثورة بهدف إقصاء مبارك أو حتى محاكمته، لكى يجلس مكانه "جنرال" من نظامه، لتصدق "نبوءة" عمر سليمان عن الانقلاب العسكرى، ليكون ذلك هو أول انقلاب عسكرى يُعلن عنه قبل وقوعه؟ هل المسألة مجرد تغيير فى الوجوه بينما يبقى الوضع على ما هو عليه، هذا الوضع الذى يعنى أن تظل مصر دولة تابعة، وأن يقوم اقتصادها على الطفيلية التى من توابعها أقصى درجات الظلم الاجتماعى؟ وهل بدأت الديكاتورية حقا مع نظام عبد الناصر الذى يقع ضمن "الستين عاما" التى يذكرونها دائما عندما يتحدثون عن "الماضى"، لتزول الفروق الجوهرية بين نظام ناصر الذى لا يفرق بين الديموقراطية السياسية والاجتماعية، ونظامى السادات ومبارك الذين يقومان على تكوين عصابات النهب المنظم للأوطان؟ وسط هذه "اللخبطة" ظهرت برامج رمضانية تكائرت كأنها الخميرة التى كانت نائمة ثم استيقظت فجأة، وأنا أعترف للقارئ بعجزى عن معرفة إذا ما كانت تلك مصادفة أم تخطيطا منظما، أن يظهر مثلا تامر أمين فى العديد من الشاشات على مدى أيام متناثرة، ليقول أنه وزملاءه فى "البيت بيتك" هم الذين أشغلوا فتيل الثورة، أو أن نرى أسامة سرايا يشرح فلسفته فى الدفاع عن الحزب الوطنى، أو حسام البدراوى يحكى بالتفصيل الممل عن "نضاله" لكى يعود مبارك إلى صوابه، ناهيك عن طلعت زكريا، أو تامر الآخر (حسنى). ولست ضد أن يظهر هؤلاء وغيرهم ليدافعوا عن مواقفهم، لكن ما دام التليفزيون قد قرر أن يأتى هذا العام ببرامج "سياسية" فى قالب ترفيهى، فلماذا لم يستخدم ذلك فى تصحيح بعض المفاهيم بدلا من زيادة تشويهها على طريقة "الليبرالية يعنى أن أمك تقلع الحجاب" (!!!)، ولماذا لا يهدف للتنوير بدلا من ضرب كل الكراسى فى "الكلوبات" بالسخرية الجامحة من أى حديث سياسى جاد، فى عشرات البرامج التى تحاكى بشكل هزلى برامج "التوك شو"، حين يقال لنا مثلا أن الحرية اشتقت اسمها من "الحر"، أى من الجو الحار؟!! من جانب آخر هناك برامج تغذى النزعة العدوانية فى نفوس المشاهدين (ما هى ناقصة!!)، برامج تقول للمتفرج أن يضحك وهو يرى شخصا فى مأزق رهيب، وكأنها فى الحقيقة نوعا من تعويد الناس على العنف الذى استشرى فى الآونة الأخيرة منذ ما أُسمى "الانفلات الأمنى"، وهو اسم الدلع للتفريط الأمنى المتعمد، من السلطات القائمة على شئون البلاد، السلطات السابقة واللاحقة، التى تستخدم هذه الفوضى لتأسيس سلطتها والحاجة للاستعانة بها. ولست أدرى فى الحقيقة أين ذهبت "الدولة"، فالثورة لم تتوجه للحظة لتقويض الدولة أبدا، بل للنظام، فكانت النتيجة أن اختفت الدولة وبقى النظام!! ما الذى يحدث؟ إننى أنظر إلى شاشات التليفزيون وأحاول القراءة، فلا أرى سوى إعادة إنتاج للمرحلة السابقة، كل ما حدث أن مبارك وولديه وراء القضبان، بشكل مؤقت أو دائم؟ حقيقة أم تمثيلية؟ لا يهم، فالمهم ألا يتغير شىء، بل ربما يصير أسوأ، حين تصبح المحاكمات العسكرية هى "العادية"، فخلف كل قيصر يموت قيصر جديد كما قال الرائع الراحل أمل دنقل، لكن هل لن تبقى وراء شهدائنا إلا دمعة سدى؟ هل نصوم طويلا عن السياسة؟ هل نعود إلى الحظيرة؟ تساؤلات تجعل لرمضان هذا العام طعما آخر، كأنها الهزيمة بنكهة الانتصار، وياليتها لا تكون!!