Friday, July 13, 2012

الله حى ... لكن هل يدرك المتأسلمون ذلك حقا؟!


مازلت أتذكر أمى عندما كانت منذ سنوات طويلة تطهو "العاشورة" فى العاشر من محرم من كل عام، وعندما كبرت قليلا لم أفهم العلاقة بين الحلوى والطعام وبين أحداث كربلاء الدامية ومقتل سيدنا الإمام الحسين بن على، تماما كما لم أكن أفهم على وجه اليقين العلاقة بين شم النسيم والحلبة والترمس، ومازلت أتذكر أبى وهو يحمل لنا حلاوة المولد فى مولد النبى أو ذكرى الإسراء والمعراج، ويشترى "النقل" فى العيدين الصغير والكبير. كان أبى وأمى من ملايين المصريين البسطاء، الذين يعرفون الله من أعماق قلوبهم، لكنهم بالرغم من ذلك ـ وأقول اليوم : لكنهم بسبب ذلك ـ يحبون الحياة ويقدسونها ويحتفون بها حتى فى ـ أو على الأخص فى ـ الأعياد الدينية، ولم أكن أعرف لذلك سببا يقينيا. قيل لنا عبر سنوات طويلة أن المصريين يقدسون الموت لذلك فإنهم متدينون، وقرأت كثيرا عن ذلك الوهم الذى يتحدث عن أن الموت يسرى فى الحضارة المصرية القديمة بدليل أن المصريين القدماء كانوا يحنطون موتاهم، وقيل أن هذا الموت مايزال يلقى بظله الثقيل حتى اليوم على كل ما نعتقد فيه أو نمارسه، لكننى أدركت من خلال قراءات أخرى لا أدرى لماذا لا يعاد اكتشافها ـ وعلى رأسها "فجر الضمير" لبريستيد ـ أن ملايين المصريين العاديين فى مصر القديمة لم يكونوا يملكون القدرة على التحنيط مثل الأثرياء من الحكام والنبلاء والكهنة، بل إن المصرى العادى لم تكن لديه رغبة أصلا فى التحنيط ، لأنه أدرك أن الديانات الشمسية لعبادة رع أو آمون أو آتون أيا كان اسمه هى ديانة طبقية يحتكرها الأثرياء، الذين تصوروا أنهم من خلال التحنيط والطقوس الدينية الغامضة قد احتكروا الآخرة بأموالهم التى نهبوها فى الحياة الدنيا، لذلك كانت لدى المصرى البسيط ديانة أخرى أكثر بساطة، ولم يكن يهتم بالصراع الدائر "فوق" فى السماء بين آمون وآتون، أو فى دوائر الحكام والكهان حول هذا الإله أو ذاك، فديانة المصرى الحقيقية ليست فى الشمس أو السماء، بل هى "هنا والآن"، على الأرض وفى باطنها، حيث تجف البذرة فتتصور أنها ماتت فى تابوتها الخشبى ـ مثلما دخل أوزوريس إلى التابوت ـ لكنك إذا دفنتها عادت إلى الحياة من جديد فى دورة أبدية لا تنتهى، فأين ومن هو ذلك الموت الذى نخاف منه لكى نقدسه؟! "الله حى"، تلك هى الصيحة التى يزفر بها المصرى من أعماق قلبه حين يهيم وجدا بحب الله ورسوله وآل البيت وأولياء الله الصالحين، وبعد تلك الزفرة تأتى شهقة كأنها محاولة لاحتواء العالم كله داخل صدره الصغير، وفى صيحة "الله حى" ومعناها، كما فى دورة الشهيق والزفير، يتجلى الإيمان البسيط العميق لدى المصرى بقيمة الحياة التى يعشقها حتى النخاع، ولأنه يؤمن بها لكل اليشر وبأنها تتجاوز وجوده الفردى فإنه يهبها راضيا إذا ما استدعت الضرورة من أجل أن يحيا أبناؤه من بعده فى كرامة. وليس غريبا أن تكون "الثقافة المصرية" ـ بالمعنى الأشمل للكلمة ـ شبيهة بألحان "بوليفونية" عديدة، قد تبدو للوهلة الأولى كأنه لا علاقة بين بعضها البعض، لكنها تتآلف فى هارمونية عجيبة ليس لها مثيل فى الثقافات الأخرى، فليس هناك إلا التناغم الشفاف، الرائق الراقى، بين الله والإنسان، والدين والدنيا، وليس غريبا أيضا أن تجمع هذه "الثقافة المصرية" بين الأعراق والديانات والحضارات فى مزيج لا يمكنك أبدا أن تفصل بين عناصره التى كونته، وليس غريبا مرة أخرى أن نطلق على خوارق أولياء الله تعبير "الكرامات"، أو أن نطلق على مواسم الاحتفال والاحتفاء بهم كلمة "مولد"، لا فرق فى ذلك بين السيد البدوى ومارى جرجس، ففى الكلمتين "الكرامة" و "المولد" جذور المعنى الدينى الأصيل، حيث الحياة كما يجب أن تكون، الحياة التى نؤمن أنها مثل البئر التى قد تجف أو تغيض، لكن لابد لها يوما من أن تفيض مرة أخرى، إن لم يكن غدا فبعد غد. ربما كان هذا الإيمان البسيط العميق بالحياة هو السبب فى أن المصرى تعلم الصبر على البلوى لأنه يعلم ـ مثل أيوب المصرى ـ أنه لابد أن تزول البلاوى يوما وإن طال الزمن، كما أن هذا الإيمان هو السبب فى أن المصرى قد اختار عبر تاريخه الطويل شخصيات جمع فيهم بعضا من الحقيقة وبعضا من الخيال، وجعل منهم أبطالا يقتدى بهم، وهم ليسوا أبطالا لأنهم يتجاوزون قدرات البشر ـ باعتبار أن لهم أبعادا دينية ـ وإنما لأنهم يضربون لنا مثلا كيف يمكن لقدرات إنسان عادى أن تتسامى وتحقق ما يبدو لنا من الوهلة الأولى مستحيلا بالوقوف فى وجه الطغيان، فالدين فى مصر يصبح قوة فاعلة ومؤثرة للتمسك بالحياة والدفاع عنها، ومن يملك هذه القدرات يستطيع أن يبدى "الكرامة" التى تعنى الاعتزاز بالنفس بقدر ما تعنى السماحة فى العطاء، وتعنى أخيرا الأمر الخارق للعادة يأتيه أهله إذا ما امتلكوا الإرادة. من كل هذه المعانى المتشابكة فى لحن الثقافة المصرية وإيقاعها تتولد كثافة الشعور بآل البيت وأولياء الله الصالحين، كما تستطيع أن تفسر لماذا يحتفل أهل العراق بذكرى "مقتل" الحسين فى عاشوراء بطقوس فيها الكثير من الألم والحزن، بينما يصبح "مولد" الحسين فى مصر احتفاء يستمر أياما طويلة حتى الليلة الكبيرة "والعالم كتيرة" وفيه كل مظاهر الفرحة والبهجة. ولسيدنا الحسين عند المصريين موقع خاص فى النفوس، ليس فقط لأنه "إبن بنت النبى" وابن الإمام الشهيد على، ولكن لأن للحسين "مقام" الأب أو الأخ الأكبر، تذهب إلى مقامه وترتكن عليه أو تجلس فى رحابه فكأنك قد عدت طفلا لا يحمل للحياة هما لأنك فى حمى الأب ورعايته، ومهما بلغ بك العمر أو عانى الأب من الكروب وويلات الزمن فإنه يبقى لك أبا وحاميا وملاذا. لا يبدأ المصريون مع سيدنا الحسين أبدا من حادثة استشهاده المفجعة على يد رجال يزيد ابن معاوية، فبرغم دلالة هذه الحادثة فإن الأهم عند المصرى العادى أن هذا الأب الحامى الحانى ـ سيدنا الحسين ـ كانت له خلال حياته وقبل استشهاده شخصية نفتخر بالانتساب لها والارتكان إليها، فهو الذى نشأ فى أحضان رسول الله ورعايته وكان له ـ مع أخيه الحسن ـ حبا وحبيبا، وهو الذى تفقه على يد أبيه الإمام على وتعلم منه السماحة والتقوى والصلابة فى الحق معا، وهو الذى وقف فى وجه معاوية عندما أراد أن يحول دين الإسلام ودنياه إلى توريث للسلطة والثروة، لأن الحسين تعلم من حكمة رسول الله وخليفته الإمام على، كما تعلم من نضالهما، أنه "لا وارث إلا الله"، وأن "الفقراء أحباب الله"، ودفع من أجل ذلك ثمنا باهظا عندما قتله عسكر وريث الحاكم المغتصب ورفعوا رأسه المقطوع فوق أسنة الرماح، وطافوا بها تمثيلا وتحذيرا لمن يسير على دربه، لكننا نعرف اليوم أن من ساروا على درب معاوية ويزيد لم يكونوا على مر التاريخ إلا نفرا قليلا، بينما كان مئات الملايين من المستذلين المهانين هم أصحاب الحسسين وأتباعه الذين يستنجدون به وقت الشدة :"ومدد ياحسين". ربما كان صحيحا أن رأس الحسين قد تم دفنها فى مصر فى المشهد الحسينى وبنى عليها مسجده كما نعرفه الآن، وربما كانت تلك مجرد أسطورة، لكن من المؤكد أن الحسين يسكن فى قلوب المصريين على مر العصور، وأن من حول قبر رأسه ـ سواء كان ذلك حقيقة أم خيالا ـ قد نشات حياة كاملة تحتشد بشتى النشاطات والحرف، وهو مثل أوزوريس بالنسبة للمصريين لم يمت أبدا، فهم يخاطبونه كأنه ما يزال حيا : "ياسيدنا الحسين، آن الأوان ياأبو العينين... واقفين على بابك وطالبين نظرة من عينك، ياقلبى أصبر مادام الكل بايعينك.."....نعم، نظرة ياحسين، فالمصريون الصابرون يؤمنون أنك تعلم بحالهم وتراه، حالهم الذى يصعب على الكافر، فكيف الحال بك ياابن بنت النبى الذى علمنا أن الحياة بدون كرامة هى الموت الحقيقى، وأن الموت من أجل الحق هو أسمى أشكال الحياة. .................................................................................................................نشر هذا المقال فى جريدة "الكرامة" فى أكتوبر 2005