Tuesday, November 13, 2012

الرقابة في عصر السماوات المفتوحة

أصبحت الرقابة في الفترة الأخيرة تحتل مساحة شبه ثابتة على صفحات الصحافة الفنية في مصر، حيث ساد جو من التوجس المتبادل بين الطرفين: الفنانين من جانب، والجهات الرقابية من جانب آخر، فكلاهما يشعر أن الظروف العامة في حالة سائلة من التغير، ومن الصعب تحديد خطوط واضحة لأي شيء، لذلك بات الفنانون يصنعون أعمالا فنية تلقى نوعا من العنت غير المبرر أحيانا، لأن الرقباء – الذين تغيروا لأسباب غامضة – يتحسسون رؤوسهم أيضا، فأصبح شعارهم "المنع أولى من المنح"!! ليس من الغريب في هذه الأجواء أن تثار قضايا ضد عادل إمام من مجهولين، على أفلام قدمها منذ عشرين عاما، بحجة الإساءة للإسلام، برغم أنه ممثل وليس مؤلفا أو مخرجا، ولأنه الأشهر بالطبع فسوف يصبح عبرة لمن هم أقل شهرة، فكأنما ينطبق عليه القول "إضرب المربوط يخاف السايب"، كما أصبحت الممثلة إلهام شاهين محورا لمجادلات تتسم بعنف القول والفعل من جانب بعض من يقولون أنهم ينتمون للدعوة الدينية. وهذا كله لا يشير فقط إلى حالة فوضى الآراء التي تسود مصر الآن، بل تؤكد – على عكس ما نتصور – هزال جهاز الرقابة، فإذا كان هذا الجهاز يتسم حقا بالصرامة التي يبدو عليها في التعامل مع الفنانين، فكان من الأوجب بعد الحصول على التصريح الرقابي ألا يوجه للفنان أي اتهام، وأن تتحمل الرقابة عبء الدفاع عنه. لكننا دائما نأخذ من الأشياء أسماءها وليس معناها أو وظيفتها، ففي كل بلاد العالم المتقدمة والديموقراطية نشأ جهاز الرقابة في البداية لكي يحمي المجتمع من الأعمال الفنية التي قد تمثل انتهاكا ما، قد يكون مثلا تعديا على التقاليد الراسخة، أو يحمل في طياته نوعا من الابتذال المتضمن جنسا فاضحا أو عنفا دمويا، وكانت الرقابة في بادئ الأمر تتمثل في عشرات من المؤسسات والجمعيات الأهلية التي يهتم كل منها بجانب اجتماعي معين. لكن سرعان ما تم اكتشاف أن هذا النوع من الرقابة سوف يخنق الفن والفنان خنقا، لذلك أسرعت على سبيل المثال صناعة السينما في هوليوود إلى إنشاء مكتب بداخلها، يقوم بالرقابة الذاتية على الأفلام قبل صنعها، وهو المنوط به الدفاع عنها وعن صانعيها بعد ذلك، لو قرر البعض رفع دعاوى قضائية ضد الفيلم. ليس في مصر حتى الآن مثل هذا المفهوم الناضج للرقابة ودورها، ولم تفكر أي جهة سينمائية في تبنيه، سواء كانت غرفة صناعة السينما أو نقابة السينمائيين، لذلك يظل السينمائي في مصر معرضا لأنواع عديدة من الرقابة قبل وبعد صنع فيلمه، تبدأ بالرقابة الرسمية التابعة لوزارة الثقافة، وإن كانت ترجع أحيانا لجهات أخرى للاستشارة مثل الأزهر أو وزارة الدفاع أو الداخلية، وبعد أن يتصور الفنان أنه قد نجح في خوض هذه الرحلة العسيرة، يجد نفسه أمام ما يمكن أن نسميه تجاوزا الرقابة الشعبية، حتى بعد سنوات طويلة، حيث تتم ملاحقته من كل من يرى أن الفيلم قد تعارض مع رأيه!! يعكس ذلك كله فوضى حقيقية قد يكون لها خطرها العاجل أو الآجل على الفن في مصر، خاصة في ظل سلطة جديدة ترى أن من حقها أن تغير من وجه مصر الثقافي، وترفع شعار الدين أو الأخلاق في كل شيء، وكأنه ليس هناك تصور لهما إلا الصورة التي تريدها هذه السلطة. لكن من الواجب الإشارة إلى أنه إذا كان العمل الفني الراقي يهذب الأخلاق بالضرورة، فإنه ليس حتميا أن يصنع رجل أخلاقي عملا فنيا راقيا، وإلا كان رجال الدين هم الأصلح لممارسة الفن. بكلمات أخرى، فإن للفن رجاله، والعالم الفني يحتاج إلى الحرية والرحابة، يحتاج إلى الهواء الطلق ليتنفس، بينما قد يعاني الاختناق من القيود. وقد يصح هنا القول بأنه يجب في كل الأحوال مراعاة "الأخلاق"، وأنه لا حرية بلا قيود أخلاقية، لكن يجب علينا أيضا أن نحدد معنى الأخلاق، التي لا تنحصر أبدا في بعد واحد من أبعاد الحياة، مثل ممارسة الطقوس الدينية، بل يجب أن تمتد إلى كل الأبعاد الاجتماعية، حيث قيم العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص وحقوق الإنسان من جوهر الأخلاق. وتلك النظرة الأحادية للأخلاق – كما يحدث في مصر خلال الشهور الأخيرة – لن تؤدي إلا لمزيد من الازدواجية الساخرة والمريرة معا، فبرغم المناخ الخانق الذي تفرضه الرقابة على أعمال جادة، لأنها تمس قضايا حساسة ومهمة في مجتمعنا، فإن هناك أفلاما تستطيع أن تفلت من قيود هذه الرقابة لأنها تبدو على السطح كأنها تدعو إلى الأخلاق. ففي أفلام عيد الأضحى التي تعرض حاليا نال فيلم "عبده موتة" نجاحا جماهيريا ساحقا، ويقول صناعه أنه فيلم أخلاقي لأنه انتهى بالحكم على بطله المجرم "البلطجي" بالإعدام، ولكنهم يتناسون عمدا أن هذه البكرة الأخيرة من الفيلم جاءت بعد تسع بكرات كاملة من العنف المفرط، والتلميحات الجنسية الغليظة!! لم يكن "عبده موتة" استثناء في هذا السياق، ففي العام الماضي، ووسط غليان الأحداث السياسية في مصر، حصل على نفس النجاح التجاري فيلم "شارع الهرم"، الذي احتوى على فقرات كاملة من ليلة في نادٍ ليلي في هذا الشارع الشهير، بينما كانت الصيحات السائدة تتحدث عن "العودة" إلى القيم الأخلاقية!! هذه النماذج ليست في الحقيقة إلا برهانا على أن تجاهل أذواق الجماهير على المستوى الرسمي سوف يكون نوعا من دفن الرؤوس في الرمال، بينما تبقى على السطح رغبة ملايين الناس في فنون تلهيهم وتسليهم وتعزيهم عن مشكلات حياتهم اليومية. والحديث عن فن "أخلاقي" هو حديث يجهل طبيعة الفن ذاته، الذي يجمع وظائف عديدة، وهو ليس حاملا للقيم بقدر ما هو دافع إلى الأخذ بهذه القيم بشكل غير مباشر في أغلب الأحيان، فعندما يهدف العمل الفني إلى التسلية والترفيه والترويح عن النفس، فإنه يجعل المتلقي قادرا على مواصلة الحياة من جديد، وعندما يقرر العمل الفني أن يشتبك مع الواقع وقضاياه الملحة، فإنه يأخذ على عاتقه الإجابة عن أسئلة ملحة تؤرق المجتمع، وأيضا عندما يكون العمل الفني رؤية خاصة بالفنان فإنه يدعو المتلقي لارتياد عوالم جديدة لم يطأ أرضها من قبل. إن ذلك كله يؤكد قصر نظر مؤسسات الرقابة الرسمية وتوابعها الشعبية، بل قصر نظر المؤسسات التي تقف وراءها وتدعمها، من جانب لأن ذلك لن يؤدي في نهاية المطاف إلا لفن ضعيف ذي لون واحد باهت، عاجز عن أن يقوم بدور إيجابي حقيقي، ومن جانب آخر فإن الجمهور سوف يبحث عن حاجاته واحتياجاته في مكان آخر. وفي عصر السماوات المفتوحة يصبح من الهزل الحديث عن أي شكل من أشكال الرقابة الصارمة الجامدة، فإذا قررت السلطة الحاكمة أن تفرض عليك لونا فأمامك الأقمار الصناعية مختلفة الألوان، وإذا عنّ لهذه السلطة أن تمنع الأقمار الأخرى فكيف لها أن تمنع بث قمر يقف على نفس الزاوية من قمرها كما هو الحادث الآن؟!! ليس الحل أبدا هو أن تفرض الجوع على الجماهير، لكي يلتهموا الطبق الوحيد الذي تقدمه لهم، بل الحل أن تقدم لهم وجبة بل وجبات حقيقية ومتنوعة من الفن، ولن تملك سلطة أن تجعل من وطن كامل سجنا لكي تفرض أفكارا وفنا خاصا بها، فالتكنولوجيا جعلت من العالم وطنا فنيا وإعلاميا واحدا. كيف فشلت الرقابة في امتحان الرقابة؟! برغم إدراك الجميع أن الأجهزة الرقابية على المصنفات الفنية، بالشكل المعمول به في مصر الآن، لم تعد بأية حال تساير متغيرات العصر التكنولوجية، فإن هذه الأجهزة ما تزال تمارس نفس الدور الذي عفى عليه الزمن، تراقب السيناريوهات قبل صنع الفيلم، وتحذف بعض اللقطات بعد الانتهاء منه، وتصنع مشكلات تحتشد بها صفحات الصحافة الفنية طويلا، بينما السماوات المفتوحة وأقمارها الاصطناعية تتيح للجميع الوصول إلى ما يريدونه دون رقيب. وفي الحقيقة أن هذا الفشل في مثل هذا الدور للرقابة قديم قدم وجودها ذاته، هذا الوجود الذي ينطوي على مفارقة ساخرة، إذ أن المطلوب منها "حماية النظام العام"، فما المقصود بهذه العبارة؟ وما هو هذا النظام؟ ولكي نوضح تلك المفارقة دعنا نتأمل ما يحدث اليوم، فمنذ شهور قليلة مضت، كانت الرقابة بالغة الحذر في أن تكون هناك في الأفلام أي سمات إيجابية لشخصية تنتمي إلى التيارات الإسلامية خاصة المتشددة، وكانت مثل هذه الشخصيات تظهر باعتبارها تجسيدا للتطرف أو حتى للإرهاب، مثل فيلم "الآخر" ليوسف شاهين، أو لضيق الأفق في أفضل الأحوال مثل فيلم "الإرهاب والكباب"، بينما نفس الرقابة لا تسمح أبدا الآن بمثل تلك الصورة، لأن "النظام" تغير، وهي دائما تسير في ركب النظام! وما دامت الرقابة ذراعا من أذرعة أي نظام حاكم، فمن الشطط القول أنها يمكن أن تعمل بأية حال لمصلحة المجتمع، أو لصالح الفن، فدورها ينحصر إذن في الإبقاء على "الوضع السائد" أيا كان، ومنع أي بوادر للتمرد أو التفكير في الثورة، وهي إن سمحت هنا أو هناك ببعض هذه اللمحات فلأنها تعتقد أنها نوع من تفريغ الطاقة المكبوتة. يمكنك إذن باختصار أن تقول أن الرقابة بشكلها الحالي تقوم بدور رجعي، وحتى عندما نراجع أداءها في هذا الدور عبر تاريخ السينما القريب سوف نكتشف أنها قد فشلت فيه بامتياز. هناك محاذير ثلاثة دائمة أمام أي "موظف رقابي": إبحث عما يمس السياسة، أو الدين، أو الجنس! تأتي إذن السياسة في المرتبة الأولى، وقبل ثورة 1952 بشهور قليلة، تم حظر عرض فيلمين فيهما مشاعر متقدة مضادة للاستعمار، هما "مصطفى كامل" و"مسمار جحا"، لكن هذا المنع لم يقف بالطبع حائلا أمام قيام الثورة. وبلغت السخرية حدا كبيرا مع فيلم "شمشون ولبلب"، الذي كان حكاية رمزية شعبية بالغة الطرافة، تتحدث عن مغتصب أجنبي يصل إلى الحارة، وضرورة مقاومته، في إشارة للصراع العربي الإسرائيلي، إذ قررت الرقابة حذف اسم "شمشون" ووضعت مكانه اسم "عنتر"، سواء في العنوان أو بالحذف من حوار الفيلم، لكن كلمة "شمشون" أفلتت من الدوبلاج مرة أو مرتين!! وبرغم أن الستينيات كانت في رأي كاتب هذه السطور العصر الذهبي للسينما المصرية، فإن الرقابة لم تكن على نفس مستوى الإبداع الفني، مرة أخرى بسبب روح الموظف الحكومي لدى القائمين عليها. فشهد فيلم صلاح أبو سيف "القضية 68" تعنتا رقابيا كبيرا، لأنه أشار إلى أن هناك خطأ سياسيا "داخليا" كان السبب في الشرخ في جدار العمارة (كانت تلك هي سنوات النكسة)، لكن المنع الرقابي لم يمنع مظاهرات الطلبة، ليأتي بعدها قرار الزعيم عبد الناصر إجراء إصلاحات شاملة. كما أن فيلم حسين كمال "شيء من الخوف" أثار رعبا لدى موظفي الرقابة، لأنه يتناول عمدة قاسيا ظالما تثور القرية ضده، بينما قال عبد الناصر ذاته بعد أن شاهد الفيلم أن رجال الثورة يستحقون مصير العمدة لو كانوا مثله، وسمح بعرض الفيلم. وكانت معظم أفلام توفيق صالح تبعث القلق لدى الرقباء، لأنها حتى لو كانت تدور في الماضي فإنها تشير إلى الواقع الراهن، ففيلمه "يوميات نائب في الأرياف" يتحدث عن أن الانتخابات يتم تزويرها، لتصبح كلمات مثل "الشعب" و"الحرية" بلا معنى، وهو الأمر الذي ما يزال حقيقيا حتى الآن. وفي السبعينيات مالت السينما المصرية – بعد أن عادت سيادة القطاع الخاص – إلى أن تصرف النظر عن السياسة ومتاعبها، وفضلت أفلاما تتناول قصص الحب بين أناس لا يعرف المتفرج أين يعيشون وماذا يعملون لكسب قوتهم، أو قل ثرواتهم وقصورهم. وعندما ظهرت أفلام قليلة مثل "زائر الفجر"، تتناول الهم السياسي، كانت تتعرض لمذبحة رقابية بالمعنى الحرفي للكلمة، إذ يعمل الرقيب فيها مقصه بالحذف إلى أن تنتهي إلى قصاصات لا يكاد المتفرج أن يجد لها معنى، ومع ذلك فإن هذه الرقابة لم تمنع قيام انتفاضة 18 و19يناير 1977 بعد عامين فقط من الفيلم. تماما كما حدث في منتصف الثمانينيات نوع من الرعب الرقابي بسبب فيلم وحيد حامد وعاطف الطيب "البريء"، الذي يحكي عن جندي أمن مركزي يثور على قادته، عندما أدرك الخداع والهوان اللذين تعرض لهما، ولم يتم السماح بعرض الفيلم إلا بعد عرضه على قادة القوات المسلحة (!!)، وحذف لقطة ثورة الجندي، ومع ذلك قام تمرد جنود الأمن المركزي بعدها بعامين فقط. تحتل السياسة إذن الاهتمام الأول لدى الرقباء، بينما يأتي بعدها الدين، وهو أمر بطبيعته شائك حتى أن الفنانين يفضلون عدم المساس به إلا من خلال النظرة السائدة، فيما عدا محاولات قليلة أتت مؤخرا من جانب كتاب سيناريو مسيحيين، في "باأحب السيما" من تأليف هاني فوزي وإخراج أسامة فوزي، الذي يتناول وجهة نظر طفل مسيحي لنرى كيف يتحول المرء إلى كائن خائف، ليس لأن أفكاره الميتافيزيقية تدفعه لذلك بل بسبب أوضاع اجتماعية خاطئة، أو كما في "واحد-صفر" من تأليف مريم نعوم وإخراج كاملة أبو ذكري، وفي أحد خطوطه الدرامية قصة امرأة مسيحية تسعى للطلاق من زوج لا تحبه، بينما قوانين الكنيسة لا تتيح لها ذلك، وفي الفيلمين وقفت الرقابة متعنتة في البداية، لتوافق على العرض أخيرا دون أن يؤدي ذلك إلى اضطرابات اجتماعية. وعلى عكس ما نتصور أحيانا من أن الرقابة تهتم بحظر الجنس، وهي قد تفعل ذلك بالفعل إذا ما كان الفيلم صريحا غليظا في تناوله، لكنها تغض الطرف عن كثير من هذه النوعية من المشاهد أو حتى الأفلام، وإذا أردت مثالا فهناك فيلم "أحاسيس"، الذي تدور خيوطه الدرامية الثلاثة حول تنويعات من علاقات جنسية غير سوية، ويقول مخرجه هاني جرجس فوزي أن هدفه هو علاج المشكلات التي تتسبب فيها مثل هذه العلاقات، ومرة أخرى فإنه يتبع القاعدة التجارية المعروفة في هوليوود منذ سيسيل بي دي ميل: "تسع بكرات من الجنس، وبكرة عاشرة في النهاية من الكتاب المقدس"!! تلك هي القاعدة التي تتبعها بعض الأفلام ذات التوليفة الواحدة التي ظهرت مؤخرا، منذ "كاباريه" ومرورا بأفلام "الفرح" و"شارع الهرم" و"البار": مجموعة متنافرة من الشخصيات تضطرها الظروف للقاء في مكان واحد، لكنها شخصيات مصنوعة من أجل "الفرجة" بمعناها الفج، فليست لها حياة أو ملامح داخلية، وهي جميعا لا تتوقف عن الصراخ بجمل حوارها، لكن الأهم أنه تربطها سلسلة من مشاهد الرقص والغناء، في عرض ليست له علاقة بأي فن سينمائي، وهكذا تتيح الرقابة لمتفرج السينما أن يرتاد "الكاباريه" دون أن يدفع تكاليف مثل هذا النوع من الترفيه. هنا يجب علينا أن نتساءل: ما هو إذن الدور الفعلي الذي تقوم به الرقابة، خاصة أنها رقابة "رسمية" ويدفع الشعب تكاليفها من ضرائبه؟ وإذا كانت الرقابة غير معنية بالمستوى الفني للفيلم، ولا تمانع في عرض الابتذال ما دام في رأيها "لا يضر النظام العام"، وإذا كان العنف الدموي المفرط لأفلام مثل "ابراهيم الابيض" أو "عبده موتة" لا يضر بهذا "النظام العام"، فإن دور الرقابة الحقيقي الذي يجب أن تعلن عنه هو أنها تقوم بدور "المخبر" أو "المرشد"، الذي يراقب المشبوهين ويبلغ عنهم السلطات، ويغض الطرف أحيانا عن مجرم بينما يودي ببريء وراء القضبان، فالمهم عنده أنه كما يتصور يحمي النظام العام، بينما حماية النظام العام تقتضي "نظاما" اجتماعيا عادلا وحرا وديموقراطيا، فذلك وحده هو النظام القادر على حماية نفسه.

Sunday, November 11, 2012

ثنائيات سينمائية 1

عندما يجد المخرج في الممثل صورته السينمائية
السينما فن جماعي، تلك هي الحقيقة التي أصبحت عنوانا لعصر جديد من الفنون، فبعد تيار الرومانسية الذي نادى بأن الفن يجب أن يعبر عن روح فردية خالصة، أتت السينما لتشير إلى أن هناك فنونا لا يمكن إنتاجها إلا بطريقة التجميع الآلي، كأنك تصنع سيارة على سبيل المثال، فمن النادر تماما أن يقوم فرد واحد بصنع فيلمه، دون أن يلجأ لمجهودات شخص آخر أو أشخاص آخرين، فقد يضطر صانع الفيلم إلى الاستعانة بمصور أو بمونتير، لكن من المؤكد أنه سوف يكون عليه في الأغلب الاستعانة بممثلين. وربما كانت هناك حالات استثنائية لأن يقوم شخص واحد بصنع فيلمه، وهو الأمر الذي يقتصر على الأفلام الطليعية والتجريبية، بينما أصبحت القاعدة أن تصبح عملية صنع الفيلم عملية صناعية من الألف إلى الياء، خاصة في النموذج الهوليوودي، حتى أن المخرج في بعض الحالات قد لا يعرف من سوف يقوم بمونتاج فيلمه أو لا تأتي له فرصة للقائه. ومع ذلك فإن هذه العملية الصناعية أدت في الكثير من الحالات إلى تكوين "فريق" يلتقي أفراده فيلما بعد الآخر، خاصة في حالة النجاح، وهناك في تاريخ السينما حالات عديدة من التعاون المستمر بين مخرج ومدير تصوير، أو مونتير، أو مؤلف موسيقي. لكن الحالات الأشهر على الإطلاق هي تعاون المخرج مع ممثل أو ممثلة. لماذا يحب المخرج أن يختار ممثلا أم ممثلة بعينهما لبطولة سلسلة من أفلامه؟ هناك إجابات عديدة على السؤال، فقد يجد المخرج قدرا من الراحة في هذا التعاون، أو أنه يبحث مرة بعد أخرى عن صورة في ذهنه لبطله أو بطلته، أو أن يكون الممثل أو الممثلة هما التجسيد الكامل لرؤية المخرج الفنية. وربما كان أشهر ثنائي فني بين ممثل ومخرج هو ما صنعه المخرج الفرنسي فرانسوا تروفو مع الممثل جان بيير لو، فمنذ أن كان هذا الأخير صبيا صغيرا وجد فيه المخرج صورة طفولته، ليصنع فيلمه الأول "400 ضربة" عن نشأته في ملجأ للأطفال وهروبه منه، لتعقب الفيلم سلسلة طويلة من أفلام السيرة الذاتية كان فيها الممثل ذاته هو صورة المخرج في مراحل ومواقف مختلفة من حياته. لعل هذا هو السبب ذاته لقيام الممثل روبرت دي نيرو ببطولة العديد من أفلام مارتين سكورسيزي، بدءا من "سائق التاكسي" حتى "الرفاق الطيبون"، فجذورهما الإيطالية، وتربيتهما المشتركة في شوارع نيويورك الفقيرة في حيها الإيطالي، كانت سببا في أن يصبح الممثل هو الصورة السينمائية المجسدة للمخرج، خاصة أن دي نيرو يجيد تماما ضبط أوتاره كممثل، حتى أنه يصدر أكثر النغمات حدة دون اضطرار للمبالغة أو الضجيج، وكان في هذا امتدادا لمدرسة "استوديو الممثل" التي تخرج منها مارلون براندو، الذي قام أيضا ببطولة عدد من أفلام المخرج إيليا كازان مثل "عربة اسمها الرغبة"، و"على رصيف الميناء". وقد يكون الرقم القياسي للتعاون بين ممثل ومخرج هو بين جون وين وجون فورد، وهو واحد وعشرون فيلما، فالمخرج فورد هو أفضل من صنع أفلام "الويسترن" في تاريخ السينما الأمريكية، ووجد في جون وين نموذجا لهذا البطل "الشجيع"، ليس فقط في بنائه الجسدي الضخم، ولكن الأهم هي تلك الملامح النفسية لرجل وحيد يواجه العالم المتوحش وحده، وحتى بعد انتصاره فإنه يمضي وحده، كأنه في مهمة أو رسالة ليس لها من نهاية، مترفعا عن كل المتع الإنسانية الصغيرة من أجل متعة لا يشعر بها غيره: إعادة النظام والقانون إلى العالم. هناك عشرات الأمثلة في السينما العالمية لمثل هذا التعاون، مثلا بين الممثل كاري جرانت والمخرج ألفريد هيتشكوك، وجاك ليمون وبيللي وايلدر، وهمفري بوجارت وجون هيوستون. لكن أقساها كان بين الممثل الألماني كلاوس كينسكي والمخرج فيرنر هيرتزوج، فهذا الأخير يعشق الشخصيات التي تقف على حافة العالم، كما في أفلام مثل "غضب الرب" أو "فيتزكارالدو"، ووجد في كينسكي ضالته، لأنه بدوره شخصية فنية يستحوذ عليها الذهاب إلى آخر المدى، لكن صنعهما للأفلام كان عذابا أليما بالنسبة لهما معا، حتى أن هيرتزوج صنع فيلما تسجيليا عن كينسكي باسم "عفريتي المفضل"!! وفي تاريخ السينما المصرية أيضا أمثلة عديدة على التعاون بين مخرج وممثل أو ممثلة، وكثيرا ما يحمل هذا التعاون دلالات فنية مهمة. قامت الممثلة فاتن حمامة في بداية حياتها الفنية بالعديد من بطولة أفلام لكل من حسن الإمام وعز الدين ذو الفقار، وقد تجد بعض التشابه في صورتها عند كليهما، لكن الأهم هو الاختلاف. ففي أفلام "قلوب الناس" و"الملاك الظالم" كانت فاتن تجسيدا لرؤية حسن الإمام الميلودرامية للعالم، إنها نقطة الضوء الصغيرة الوحيدة التي تكاد أن تغرق في بحر من الظلام الدامس، بينما كانت فاتن عند عز الدين في أفلام مثل "موعد مع الحياة" و"موعد مع السعادة" و"بين الأطلال" صورته عن الرومانسية الخالصة التي قد لا تجد لنفسها مكانا في عالم لا يعرف للمشاعرالرقيقة والمرهفة وزنا. وبينما كانت فاتن عند حسن الإمام تجسيدا للبراءة، فقد تعاون على النقيض مع هند رستم ليقدم الجانب الشهواني من رؤيته للعالم، في "بنات الليل" و"الجسد"، ثم تدور الأيام لتكون بطلته الأثيرة هي سعاد حسني في "خللي بالك من زوزو" و"أميرة حبي أنا"، ليعبر بها في كهولته عن فتاة أكثر واقعية تبحث لنفسها عن مكان تحت شمس الحياة، قد تواجه العالم بقدر كبير من الحيوية والتفاؤل، لكنها تعاني من خيبة الآمال والتوقعات. وبالمثل فإن شادية قد عاشت شخصيات مختلفة مع مخرجين مختلفين، ففي تعاونها مع فطين عبد الوهاب في "الزوجة 13" و"مراتي مدير عام" و"عفريت مراتي" وجد فيها صورة كوميدية رقيقة للمرأة المصرية، بينما وجد كمال الشيخ في "اللص والكلاب" و"ميرامار" ممثلة بالمعنى الكامل للكلمة. وقد يعبر مثل هذا التعاون عن ارتياح النجم أو النجمة للعمل مع مخرج معين، لهذا كانت كل أفلام أم كلثوم من إخراج أحمد بدرخان، وكانت كل أفلام محمد عبد الوهاب من إخراج محمد كريم، كما قام بدرخان بإخراج العديد من أفلام فريد الأطرش، ولعلك تلاحظ أنهم جميعا نجوم مطربون قد لا يجيدون التمثيل، وهم يحتاجون لمخرج يفهم ويدرك ويقدر حدود إمكاناتهم ويحسن استغلالها بأقل قدر من الجهد. على النقيض يمكنك أن ترى في أفلام السيرة الذاتية عند يوسف شاهين قسوة شديدة من المخرج على الممثل، حتى يأتي على صورته، كما فعل مع محسن محيي الدين بدءا من "اسكندرية ليه". لكن هناك حالات إيجابية من التعاون، فأفضل أفلام عادل إمام هي التي أخرجها له شريف عرفة، مثل "اللعب مع الكبار" والإرهاب والكباب"، وأعمق أفلام نور الشريف من صنع عاطف الطيب، مثل "سواق الأوتوبيس" وليلة ساخنة"، والأداء اللامع للممثل أحمد زكي يصل إلى ذروته في أفلام محمد خان مثل "موعد على العشاء" و"زوجة رجل مهم" و"أحلام هند وكاميليا". سوف تبحث عبثا عن نماذج لهذا التعاون في السينما المصرية المعاصرة، ليس لغياب المواهب التمثيلية، وإنما لأن أغلب المخرجين الآن أصبحوا بلا رؤية متفردة للفن والعالم، فهم جزء من "سوق" سينمائية عشوائية ومرتجلة. وحتى نموذج علي عبد الخالق مع نبيلة عبيد، أو نادر جلال مع نادية الجندي، أصبح اليوم مفتقدا، ولم يعد هناك مكان لصنع الأفلام التجارية على نحو متمهل ومدروس، وهو ما يؤذن بأزمة حقيقية في "صناعة" و"تجارة" السينما المصرية، التي يغيب عنها الآن مفهوم إتقان السلعة حتى يشتريها "الزبون".... وهذا هو السبب والنتيجة معا في اختفاء ظاهرة ثنائية الممثل والمخرج في السينما المصرية.

ثنائيات سينمائية 2

رفاق وأصدقاء على الطريق
من أنجح الأنماط الفيلمية في كل أنحاء العالم تلك الأفلام التي تتحدث عن الصداقة بين أبناء الجنس الواحد، بين رجلين يشتركان معا في رحلة نجاح أو فشل، لكن الصداقة لا تفرق بينهما أبدا، أو بين امرأتين تحاولان الصمود في الحياة وسط أنوائها القاسية. تنجح هذه الأفلام لأنها تخاطب في المتفرج مشاعر عميقة من البحث عن رفاق الطريق، ليس يربطهم إلا الود الخالص بلا مصالح ضيقة أو ضعائن مزعجة، وقد يعتري علاقة الصداقة أحيانا توتر عابر، لكنه ما يلبث أن ينقشع كسحابة صيف. لكن بالإضافة إلى هذه المشاعر هناك ما يطلق عليه في السينما "الكيمياء" بين الممثلين، أي قابلية تصديق المتفرج لأن الممثلين أو الممثلتين اللذين يراهما على الشاشة تربطهما الصداقة بالفعل، ولا يعني ذلك ضرورة التشابه أو التطابق بينهما، على العكس فإن قوانين الكيمياء ذاتها تتطلب الاختلاف بين العناصر الداخلة في التفاعل، لكن الشرط الوحيد هو قدرتهما على صنع مركب جديد منهما معا. إن أردت مثالا شهيرا على ذلك فهو سلسلة أفلام "السلاح الفتاك"، من بطولة ميل جيبسون وداني جلوفر في دوري ضابطي الشرطة المتلازمين، فالأول هو الشاب الأبيض الذي لا تخلو طباعه من النزق، وربما يكون دافعه إلى ذلك الرغبة العميقة في الانتقام ممن حرموه حياة عاطفية مستقرة، لذلك يبدو أقرب لنزعة انتحارية في مواجهته للأشرار. أما الثاني فهو كهل زنجي على مشارف التقاعد، يريد فقط أن يكمل أيامه الباقية في الشرطة في سلام، لأنه رجل أسرة يحمل على كاهله عبء رعايتها. ومن هذا الثنائي تمضي سلسلة الأفلام في مغامرات عنيفة وطريفة في وقت واحد، ليظل هذان البطلان من علامات الثنائيات السينمائية عبر الأجيال. شهدت السينما العالمية هذه الثنائيات كثيرا طوال تاريخها، وفي تنويعات شديدة الاختلاف، لتعبر عن أنواع عديدة من الأفلام ومن وجهات النظر أيضا. هناك على سبيل المثال روبرت ريدفورد وبول نيومان، بطلا فيلمي "باتش كاسيدي وصندانس كيد" ثم "اللدغة"، وهما هنا نموذج للشباب المتمرد في فترات التقلبات الاجتماعية والسياسية، حتى أنهما قد يخرجان على القانون، لكن القانون الحقيقي الذي يجمعهما هو الصداقة والوفاء، في زمن لم تعد هناك لهذه القيم معنى أو حتى وجود. في تنويع آخر على هذا الثنائي ذاته قدم المخرج غريب الأطوار كوينتين تارانتينو فيلم "قصة شعبية رخيصة"، وفيه يقوم صامويل جاكسون وجون ترافولتا بدوري قاتلين مأجورين، يتم تكليفهما بمهمة التخلص من ضحايا لا تربطهم بهما صلة، وبدلا من أن يبدو هذان القاتلان في صورة تقليدية، يظهران باعتبارهما فيلسوفين يتبادلان الأفكار العميقة والاقتباسات الوقورة قبل أن يفرغا رصاصاتهما في أجساد الضحايا!! كانت تلك العبثية في تصوير هذا الثنائي سببا في أن المتفرج احتفظ بهما في ذاكرته، كما أدى هذا الدور بترافولتا إلى عودة قوية للسينما بعد فترة غير قصيرة من الأفول، وهو هنا يعكس ذكاء عمليا برضاه عن مشاركة ممثل عتيد في هذا الثنائي، لكي "يسنده" في الدخول إلى دائرة الضوء من جديد. وفي الحقيقة أن السينما الأمريكية بشكل خاص تتعامل بحرفية عالية مع الممثلين، وتكون منهم "فرقا" تحقق نجاحا في شباك التذاكر، وليس هناك وجود لتعبيرات فارغة من المعنى مثل "البطولة المطلقة" التي تنتشر في صحافتنا السينمائية، فالبطولة للعمل الفني وليس أبدا لأحد الممثلين. لذلك تجد في السينما الأمريكية ثنائيات عديدة، ففي عالم الكوميديا هناك لوريل وهاردي، وأبوت وكاستيللو، والأفلام العديدة التي قام ببطولتها جيري لويس مع دين مارتين، ولا يمكن أن ننسى بالطبع توم وجيري في عالم أفلام التحريك!! لكن هناك أيضا نجوما مشهورين لم يترددوا لحظة واحدة في الدخول إلى هذه الثنائيات السينمائية، مثل توني كيرتس وجاك ليمون في "البعض يفضلونها ساخنة"، حين اضطرا للتنكر في ثياب نسائية للحصول على فرصة عمل في فرقة موسيقية، أو جاك ليمون مع التر ماتاو في سلسلة أفلام "رجال مكشرين"، حين تقدم بهما العمر ولم يعد أمامهما – وهما الصديقان القديمان – إلا تدبير المقالب لبعضهما، كذلك مورجان فريمان وتيم روبنز في "الهرب من سجن شوشانك" الذي تقاسما فيه أياما قاسية. لعلك لاحظت أن كل الأمثلة السابقة لثنائيات من الممثلين الرجال، وفي الحقيقة أن الثنائيات النسائية قليلة في السينما العالمية والمصرية على السواء، ليس لندرة الصداقة بين النساء، وإنما لأن النجمات ترفضن في الأغلب هذا المبدأ من المشاركة. لكنك مع ذلك لن تعدم أن تجد بعض النماذج القليلة، مثل بيتي ديفيز وجوان كراوفورد في "ماذا حدث للصغيرة جين؟"، الذي لعبت فيه الأولى دور الشخصية الطاغية وكانت الثانية هي الضحية، لكن المثال الأشهر هو "ثيلما ولويز" من بطولة جينا ديفيز وسوزان ساراندون، وهو فيلم كان علامة في سينما تحاول التعبير عن رفض المرأة الأمريكية للقمع الذكوري. وعلى نفس المستوى من الندرة سوف تجد أفلاما قليلة من بطولة فاتن حمامة وشادية في بداية حياتهما الفنية، مثل "موعد مع الحياة"، أو فاتن مع ماجدة في "لحن الخلود"، أو الدورين المهمين لنجلاء فتحي وعايدة رياض في "أحلام هند وكاميليا"، أو المحاولة الكوميدية العابرة لاشتراك سهير البابلي وإسعاد يونس في "بكيزة وزغلول"، وأخيرا الأفلام من بطولة عبلة كامل، بمشاركة منى زكى تارة في "خالتي فرنسا"، أو منة شلبي تارة أخرى في "كلم ماما". تكاد الثنائيات السينمائية بين الرجال في السينما المصرية أن تنحصر في الأدوار الثانية، ولعل أهمها هي تلك الأفلام التي أخرجها نيازي مصطفى عن عالم الفتوات على الطريقة المصرية، حين كان المتفرجون ينتظرون بفارع الصبر المعركة الحاسمة الفاصلة بين البطل الطيب فريد شوقي وغريمه الشرير محمود المليجي، كما في "فتوات الحسينية" و"سواق نص الليل"، أو بين فريد شوقي وزكي رستم في "رصيف نمرة خمسة" ثم "الفتوة" (هذا الفيلم الأخير من إخراج صلاح أبو سيف). ومن تلك المرحلة الذهبية من تاريخ السينما المصرية هناك أيضا ثنائي اسماعيل يس ورياض القصبجي، حين كان هذا الأخير يقوم بدور "الشاويش" قاسي الطباع مع الجندي، لكنه سرعان ما يبدي قلبا أبيض كاللبن الحليب، أو ثنائي اسماعيل يس وعبد السلام النابلسي، حين كان الصديق يقدم للبطل حلولا تبدو براقة لكنها كثيرا ما تؤدي إلى ورطة مضحكة، وقد قام اسماعيل برد الجميل لصديقه النابلسي حين شاركه بطولة فيلم "حلاق السيدات". في ذلك الزمن لم يكن غريبا أن يتشارك أحمد رمزي مع اسماعيل ياسين في "ابن حميدو"، و"اسماعيل ياسين في الأسطول"، و"اسماعيل ياسين في دمشق"، كما كان من المعتاد أن يقوم الممثل القدير حسين رياض بأدوار ثانئية مع عبد الحليم حافظ منذ "لحن الوفاء" وحتى "شارع الحب"، وفي هذا الفيلم الأخير كان النابلسي أيضا شريكا للمطرب الشهير، مثلما كان معه في "يوم من عمري" أو "فتى أحلامي". وفي فترة الثمانينيات شهدت السينما المصرية ثنائيا طريفا آخر، بين عادل إمام وسعيد صالح، كان يعبر عن صداقة حقيقية من جانب صالح الذي ارتضى ذلك المركز الثاني، وظل كذلك حتى "زهايمر" في الفترة اللاحقة. وفي تجربة يبدو أنها لن تتكرر قام عمر الشريف بمشاركة عادل إمام في "حسن ومرقص"، وهو الفيلم الذي لم يترك أثرا كبيرا بسبب فتور السيناريو والإخراج. ربما لن تجد في السينما المصرية الحديثة صورة لهذا الثنائي بين رجلين صديقين إلا نموذجا في أفلام أحمد زكي ومحمود حميدة، مثل "الإمبراطور" أو "الرجل الثالث"، أو في تجربة عابرة بين محمد هنيدي وأشرف عبد الباقي في "صاحب صاحبه". إن تلك الندرة لا تعكس أبدا أزمة في العلاقات الحميمة الواقعية بين الأصدقاء، بل تعبر عن أزمة في الفكر السينمائي في صناعة السينما المصرية، فالنجوم (أو الذين يفترض أنهم كذلك) لا يرضون بأن يتنازلوا قيد أنملة عن الانفراد بالبطولة من أول مشهد حتى المشهد الأخير، ولولا أن الإنتاج السينمائي المصري لم يعد يتيح الكثير من الأفلام ما كان لأحمد عز مثلا أن يشارك أحمد السقا في بطولة فيلم "المصلحة"، لذلك أتى هذا الفيلم استثناء يؤكد القاعدة، ولو أن تلك القاعدة في كل صناعات السينما العالمية تؤكد أنه لا بطولة لأي من الممثلين، فالبطولة الحقيقية هي دائما للفيلم ذاته.

ثنائيات سينمائية 3

كيمياء الرومانسية
تعيش الصحافة السينمائية أحيانا على الشائعات حول علاقة عاطفية بين النجم فلان والنجمة فلانة، وقد يكون هناك في تلك الأخبار بعض الصحة، لكن في الأغلب يكون مصدرها والسبب فيها هو اشتراك النجمين في فيلم حقق نجاحا كبيرا، بما يجعل المتفرجين يصدقون أن قصة الحب التي رأوها على الشاشة فيها ظل من الحقيقة. الغريب أن "كواليس" صناعة الفيلم ربما تكون قد شهدت في بعض الحالات خلافات بين النجمين، لأنهما لا يكادان أن يتفقا على شيء واحد، ناهيك عن الغيرة الفنية بينهما، لكن "صورتهما" على الشاشة توحي بتوافق عجيب، وذلك هو ما يطلقون عليه "الكيمياء" بين الممثلين! عاشت صناعات السينما وما تزال تعيش على هذه الكيمياء، وبمجرد اكتشاف حالة منها بين ممثل وممثلة تتدفق عليهما العروض، ليكوّنا معا ثنائيا فنيا، وتاريخ السينما يحفل بتلك الثنائيات الرومانسية في مختلف الأنماط الفيلمية، وليس الأفلام العاطفية فقط. ففي النصف الثاني من أربعينيات القرن العشرين ظهر نمط يدعى "الفيلم نوار"، أى السينما القاتمة، كانت أجواؤه تعبر عن حالة عامة من التشاؤم بعد الحرب العالمية الثانية، ومن أحد أبطال هذا النمط كان همفري بوجارت، الذي يجسد دائما شخصية رجل في منتصف العمر، مترفع عن إقامة علاقات حميمة لأنه فقد الثقة في البشر، لكن الظروف تدفعه للتورط في الكشف عن جريمة تؤكد له صدق حدسه، غير أنه في تلك الرحلة يمر بتجربة عاطفية عاصفة، وهنا تبرز بطلتان لنوعين من الثنائيات مع بوجارت، الأولى هي إنجريد بيرجمان بملامحها البريئة ومشاعرها النبيلة، والثانية هي لورين باكول بجمالها الفاتن وغموضها الآسر، وفي الحالتين حقق الثنائي نجاحا نقديا وتجاريا كبيرا. في تلك المرحلة ذاتها ظهر الفيلم الملحمي "ذهب مع الريح"، ليظهر ثنائي فيفيان لي وكلارك جيبل، وليعيشا قصة حب وسط بحر الحرب الأهلية متلاطمة الأمواج. وعلى النقيض يأتي ثنائي دوريس داي وروك هدسون، ليجسدا الكوميديا الرومانسية في معناها الكلاسيكي: البطل يقابل البطلة ويدركان أن هناك مشاعر حب تولد في قلبيهما، لكن سوء تفاهم تقليديا يباعد بينهما، غير أن الحب يكون من القوة بحيث ينتصر في النهاية. وفي تنويع الأفلام التاريخية، يأتي فيلم "كليوباترا" مثالا على كيمياء الرومانسية بين إليزابيث تيلور وريتشارد بيرتون. من الثنائيات الأحدث لا يمكن للمتفرج أن ينسى مثلا قصة الحب بين كيت وينسليت وليوناردو ديكابريو في فيلم "تايتانيك"، إنه البطل الفقير ذو المشاعر الرقيقة، وهي البطلة المساقة إلى الزواج من رجل ثري على الرغم منها، لتجمع بينهما الرحلة على السفينة، وتفرقهما الكارثة التي تنجو هي وحدها منها لتظل وفية لذكراه، وتحكي للأحفاد قصة حبهما. وهناك من النجمات من توحي ملامحه بالرومانسية على الفور، ولعل الأشهر في هذا السياق ميج رايان، التي صنعت ثنائيات عديدة مع نجوم من الرجال، ذات تنويعات مختلفة، فهي مع توم هانكس في "المؤرق في سياتيل" تعيش قصة حب على البعد، حتى يجمع بينهما اللقاء على سطح بناية "إمباير ستيت" في نهاية الفيلم، وهي مع بيللي كريستال في "عندما تقابل هاري مع سالي" صديقان لا يفكران في إقامة علاقة غرامية، غير أنهما يكتشفان في النهاية أنهما مقدران لبعضهما، وهي مع نيكولاس كيدج في "مدينة الملائكة"، تجسد الطبيبة الرقيقة التي أحبها الملاك وتمنى لو كان بشرا ليعيش معها الحياة حتى لو كانت فانية، لكن تلك العلاقة الرومانسية تخبو مع راسيل كرو في فيلم "برهان الحياة"، لأنه لا توجد كيمياء بين بطل يجسد جفاف المقاتل وبطلة تتعطش لحب يرويها. هناك ثنائيات عديدة أخرى، نذكر منها جوليا روبرتس وريتشارد جير في "امرأة جميلة"، وجولي ديلبي وإيثان هوك في "قبل الشروق" ثم "قبل الغروب"، ونيكول كيدمان وإيوان ماكريجور في "مولان روج". لكنك تستطيع أيضا أن تعثر على تنويعات غريبة على هذه الثنائيات، مثل دايان كيتون ووودي ألين في عدة أفلام كوميدية تعكس التوتر الوجودي للبطل في أفلام ألين، أو ثنائي فاي دوناواي ووارين بيتي في "بوني وكلايد"، ذلك الفيلم الذي عبّر عن تمرد الشباب في الستينيات من خلال قصة حب بين شاب وشابة خارجين على القانون، ويعيشان رحلة هروب تنتهي بموتهما، وأخيرا الثنائي الرهيب بين جودي فوستر وأنطوني هوبكنز في "صمت الحملان"، فهي البطلة المحققة الشابة وهو المجرم عالم النفس وآكل لحوم البشر!! قد تجد في السينما المصرية معادلا لتلك الثنائيات الغريبة، فمعظم الأفلام التي تشارك فيها أحمد مظهر وسعاد حسني تظهر علاقة حادة أحيانا، أو حتى غير سوية أحيانا أخرى، مثل "ليلة الزفاف" و"غصن الزيتون" و"القاهرة 30". لكن الأغلب الأعم من ثنائيات السينما المصرية تأتي في سياق رومانسي، خاصة في الأفلام الغنائية القديمة، مثلما ظهر فريد الأطرش مع صباح في "بلبل أفندي" و"لحن حبي"، أو مع سامية جمال في "عفريتة هانم" و"آخر كدبة"، حيث البطلة الأولى أكثر براءة بينما الثانية أكثر "شقاوة". وعاشت ليلى مراد ثانئيات لا تنسى تارة مع أنور وجدي في "قلبي دليلي" أو "حبيب الروح"، وأخرى مع حسين صدقي في "شاطئ الغرام" و"الحبيب المجهول"، وتارة ثالثة مع محمد فوزي في "ورد الغرام"، الذي تظل أغنيته "شحات الغرام" تنويعا مصريا بالغ الطرافة والرقة على مشهد الشرفة من "روميو وجولييت"! وفي الفترة الكلاسيكية من تاريخ السينما المصرية ظهرت ثنائيات عديدة، كانت فاتن حمامة عنصرا أساسيا في بعضها، فهي مع عماد حمدي في "لا أنام" و"بين الأطلال"، مع تأكيد صريح أو مستتر على صعوبة أو حتى استحالة العلاقة بينهما لفارق السن أو للقرابة المحرمة، بينما هي مع عمر الشريف تكوّن ثنائيا مثاليا منذ "صراع في الوادي" و"أيامنا الحلوة" و"صراع في الميناء" و"نهر الحب". ويأتي ثنائي شادية وكمال الشناوي أكثر مرحا وخفة ظل في "ليلة الحنة" و"في الهوا سوا"، لكنها تصنع مع صلاح ذو الفقار في مرحلة تالية ثنائيا أكثر رومانسية في "أغلى من حياتي"، يتحول إلى زواج يحفل بلحظات كوميدية بالغة السخرية في "مراتي مدير عام" و"عفريت مراتي". وتكون هدى سلطان مع فريد شوقي ثنائيا شعبيا في أفلام "الأسطى حسن" وحتى "جعلوني مجرما"، بينما ثنائي شويكار وفؤاد المهندس يحتل شاشات السينما في النصف الثاني من الستينات مع أفلام من نوعية "شنبو في المصيدة" و"أخطر رجل في العالم"! لكن الرومانسية تكتسب مذاقا خاصا مع أطرف ثنائي يمكن تصوره: زينات صدقي وعبد السلام النابلسي في "شارع الحب". لا يمكن أن ننسى أيضا ثنائيات تكونت في عقود تالية، من بينها سعاد حسني مع أحمد زكي في "شفيقة ومتولي" و"موعد على العشاء" و"الدرجة الثالثة" و"الراعي والنساء"، أما يسرا فتشارك عادل إمام في العديد من الأفلام، منذ "الأفوكاتو" وحتى "بوبوس"، لكنها تصنع ثنائيا آخر مع أحمد زكي في "البداية" و"الراعي والنساء" و"نزوة". لكن السينما المصرية الراهنة فقدت إلى حد كبير ذلك المذاق الخاص في تكوين الثنائيات، فأحمد السقا مثلا قد صنع ثنائيا مع منى زكي في "تيمور وشفيقة" و"عن العشق والهوى" و"مافيا" و"أفريكانو"، أو مع هند صبري في "الجزيرة" و"ابراهيم الأبيض"، ومع ذلك يظل فيلمه الأكثر رومانسية مع نور في "شورت وفانلة وكاب". وتصنع نور ثنائيا مع أحمد حلمي في "مطب صناعي" و"ظرف طارئ"، لكنه يصنع ثنائيا آخر مع ياسمين عبد العزيز في "صايع بحر" و"زكي شان"، بينما هي تشارك مصطفى قمر في "حريم كريم" و"عصابة الدكتور عمر"، وتأتي سلسلة أفلام "عمر وسلمى" الثلاثة للثنائي تامر حسني ومي عز الدين، لكنها لا تترك أي أثر بعد انتهاء عرضها التجاري. هل تعاني السينما المصرية أيضا من أزمة في "النجوم"؟ ربما الأدق أن نقول أن هؤلاء جميعا ليسوا نجوما بالمعنى الدقيق للكلمة، حتى لو صدم ذلك بعض المعجبين، فأنت تفتقد النجم إذا اختفى لفترة، أو أن النجم أو النجمة يتركان بصمتهما الخاصة على أدوراهما، لكنك لا تشعر بافتقاد من يختفي منهم (حلا شيحة أو حنان ترك مثلا، ومرور موسمين أو أكثر دون أفلام لهاني سلامة)، والأهم هو أن أيا منهم يمكن أن يقوم بدور الآخر دون فرق يذكر، فيمكنك مثلا أن تضع منى زكي أو ياسمين عبد العزيز أو أي ممثلة أخرى في موقع الطرف الآخر من الثنائي، ويبدو أن السينما المصرية الآن تفتقد حرارة الكيمياء، تلك الكيمياء التي تتوهج بها الأعمال الفنية، وبدونها يسود الفتور.