Sunday, December 22, 2013

"زوجة رجل مهم"... يكفى عنوان الفيلم


من أجمل وأعمق الأفكار التى قرأتها لناقد سينمائى كانت إجابة على سؤال من قارئ, موجة إلى روجر إيبرت الناقد السينمائى الأمريكى الأشهر, حين سأله القارئ: "لماذا تكتب نقداً للأفلام؟", فأجابه إيبرت ـ وهو من هو بين النقاد الأمريكيين ـ إجابة على قدر كبير من البساطة والعمق: "إننى أكتب نقداً للأفلام لكى أفهمها", وهذا حقيقى تماماً بالنسبة للناقد الجاد الذى لا ينصب نفسه أبداً "قاضياً وجلاداً" على العمل الفنى, ولا يقوم بعميله "تشريح" الفيلم وبالطبع فإنه لا يستطيع أن يقوم بذلك إلا بعد أن يقوم "بقتل" الفيلم وتحويله إلى جثة هامدة يمكن تشريحها. العمل الفنى يا قارئي العزيز كائن حى, تستطيع أن تحبه أو تكرهه دون أن يلومك أحد, فهكذا نتعامل نحن جميعاً مع الحياة, كل من وجهة نظره، ولكن أرجوك ألا تصدر حكماً أخلاقياً قاطعاً مانعا، أبديا وأزليا،ً على أى عمل فنى, ونحن نحب ـ الحب بمعناه الحقيقى ـ من خلال "التفاصيل العادية", ولعل هذا يذكرنى بجزء من حوار على لسان الشخصية التى يقوم بها روبين ويليامز فى فيلم "ويل هانتينج الطيب", بأنك تكتشف أحياناً عمق حبك لامرأة برغم- بل الأحرى بسبب- كل التفاصيل الصغيرة التى قد يراها الآخرون نقائص. تداعت هذه الأفكار إلى ذهنى وأنا أشاهد الآن فيلم "زوجة رجل مهم" بعد حوالى عقدين من عرضه الأول, شاهدته من قبل مرات عديدة لكن فات علىَّ إدراكى الكامل العديد من التفاصيل, لكن الآن وأنا أنوى الكتابة عنه بدأت فى "فهمه" على نحو أكثر عمقاً, وتذكرت ـ لأننى لم أكتب عنه فى وقت عرضه, فحينها لم يكن هناك أمامى مجال للنشرـ كيف تعرض هذا الفيلم للظلم مرتين: الأولى حين تم التعامل معه باعتباره "حدوتة" (وهذه للأسف سمة لصيقة بالأغلب الأعم من الكتابات النقدية فى مصر), انتهى فيها معظم النقاد إلى أن الفيلم يرفع عن "النظام" تهمة إساءة السلطة أحياناً, بينما الفيلم على العكس تماماً يدين النظام فى هذا المجال على نحو أكثر قوة وعمقاً بكثير إذا ما قارنته بأفلام معاصرة مثل "هى فوضى" و"حين ميسرة" و"خارج على القانون" و"الجزيرة", والتى تأتى فى موجة تبدو للوهلة الأولى نقداً للأجهزة الأمنية, لكنه النقد الذى يبدو سطحياً تماماً إذا دخلت إلى عمق "حدوتة" فيلم "زوجة رجل مهم". أما الظلم الثانى الذى تعرض له الفيلم أن القليل جداً من الكتابات هى التى تناولت تقنياته وجماليته, التى يمكن اعتبارها النموذج الأرقى للأسلوب السينمائى الخاص بمحمد خان, الذى يعتمد على البلاغة السينمائية التى تقوم عنده على عنصرين مهمين: المجاز البصرى metaphor , والحذف البلاغى Ellipsis. وقد يندهش القارئ أن يقرأ الآن أننى لم أقابل محمد خان طوال حياتى- حتى كتابة هذه السطور- إلا مرات قليلة عابرة (جداً!!), لم نتبادل فيها إلا كلمات قليلة (جداً!!), بل ربما لم يتذكرنى هو فى بعض هذه المرات, ومع ذلك فقد حدثت مصادفة غريبة- لا أدرى ظروفها, وربما سقطت هى الآن من ذاكرته- حين فاجأنى محمد خان بالاتصال بى عبر الهاتف (لماذا أنا بالتحديد؟ ومن أين جاء برقم هاتفى الذى لا يعرفه إلا قليلون يعدون على أصابع اليدين؟ لا أدرى!!), كان صوت محمد خان غاضباً من قراءة مقال لأحد النقاد المشهورين (جداً), وكان المقال عن فيلم "مستر كاراتيه", وشكا لى خان قول الناقد أن "المونتيرة أحسنت صنعاً عندما حذفت المشهد الفلانى..", ليتساءل خان من أين للناقد أن يعرف أن المونتيرة هى التى "حذفت", وأن ما رآه الناقد على الشاشة هو "البناء الفيلمى" ذاته, وساعتها خشيت أن أقول لخان أن معظم من يمارسون النقد ليست لديهم دراية كافية بالتقنيات والجماليات وأساليب السرد السينمائية, وحاولت أن ألتمس للناقد الكبير العذر بأنها ربما كانت جملة من "كليشيهات" النقد لدينا, على طريقة "أبدع المصور", و"تفوق الممثل على نفسه", و"المونتاج ذكى وبارع". لماذا هذه المقدمة الطويلة قبل الدخول إلى عالم فيلم "زوجة رجل مهم"؟ أصارحك القول ياقارئى العزيز أنها بسبب النشوة الحقيقية التى شعرت بها وأنا أشاهد المشهد الافتتاحى للفيلم, والذى أعدت مشاهدته مرات عديدة وكأننى "سَّميع" شعر "بالسلطنة" لتجويد المطرب فوجد نفسه يصيح: "الله! أعد يا سيدى والنبى!". أرجو أن تتأمل وتشاهد معى هذا المشهد شديد البلاغة والمشحون بقدر هائل من الشجن: عنوان على الشاشة: شتاء 1962, واللقطات الأولى تبدو وكأنه قد نزع عنها الألوان de-saturated حتى كادت أن تكون بالأبيض والأسود, لتبدأ الألوان فى التزايد تدريجياً مع تقدم المشهد, فتاة صغيرة (جيهان نصر فى براءة لم تظهر بها على هذا النحو فى أى فيلم آخر), إنها بملابس المدرسة, تحتضن الكتب فى صدرها, وتسرع نحو دار للعرض السينمائى لتشاهد فيلم "بنات اليوم" مع زميلاتها والجمهور, بينما يجلس عامل العرض يقرأ فى جريدة تحمل فى "المانشيت" الرئيسى لها اسم عبد الناصر, وكعادة دور الدرجة الثانية أو الثالثة ينقطع شريط الفيلم فيصفر الجمهور (مثلما حدث فى "أحلام هند وكاميليا"), ليسرع العامل بإصلاح العطل, وتذوب فتاتنا فى مشهد قراءة عبد الحليم للأغنية التى كتبتها ماجدة: "أهواك", ويبدأ حليم فى عزفها على البيانو وغنائها بصوته الشاب, بينما تسقط دمعة على خد الفتاة, وعندما يصل لحن الأغنية إلى اللازمة الموسيقية التى تنتقل إلى درجة موسيقية أعلى وشجن أعمق, يٌستكمل الغناء على حليم فى التليفزيون, وعنوان مكتوب على الشاشة: "ربيع 1975", والفتاة أصبحت الآن أكبر وأنضج (ميرفت أمين فى قمة بهائها، باستخدام فلاتر التصوير والإضاءة, وأرجو أن تقارن هذا البهاء الذى كانت عليه فى بداية الفيلم بانطفائها فى نهايته، لكن إذا دققت قليلا فسوف تجد الإثنى عشر عاما أكثر مما ينبغى كزمن حقيقى). إن هذه "النقلة" ليست فقط حيلة فنية للانتقال الزمنى, لكن اختيار محمد خان للمقطع الذى يحدث فيه الانتقال يعبر عن إحساس موسيقى بالغ الرهافة يشعر ـ حتى لو لم يكن عليماً بتفاصيل اللغة الموسيقية ـ بمعنى النقلات المقامية واللحنية. إن المشهد لا ينتهى فالفتاة التى تحمل اسم منى (وليبحث القارئ عن دلالة الاسم, الذى تكرر فى فترة مقاربة فى فيلم "الصعاليك" لداود عبد السيد) تخشى أن ينتهى الشريط الذى تسجل عليه الأغنية قبل استكمالها, فتجرى إلى المحل المفتوح المقابل لتشترى بعض الشرائط, وهناك يراها ضابط المباحث هشام (أحمد زكى, وأرجو أن تلاحظ الفارق الكبير جداً بين أدائه هنا وأدائه فى نفس العام فى "أحلام هند وكاميليا", وهو مالا يعبر فقط عن "موهبة" أحمد زكى, وإنما أيضاً قدرة محمد خان على إدارة الممثلين), ويسأل هشام- بطريقة تحقيقات رجل المباحث- صاحب المحل عن الفتاة, فيعرف أنها ابنة مهندس الرى الذى انتقل حديثاً إلى المنيا. هل كانت "المونتيرة" وراء هذا الحذف البلاغى؟! أترك الإجابة للقارئ, لندخل قليلاً فى "الحدوتة" وتفاصيلها السينمائية, التى قد تبدو للوهلة الأولى غريبة على أبطال وبطلات محمد خان, لكننا فى النهاية سوف ندرك أنها تدور حول نفس البطل (وإن يكن هنا فى تنويع مختلف) ونفس "التيمة" المحورية التى تؤرق هذا البطل, ولعلها تؤرق محمد خان ذاته. وعندما تكتمل لك ملامح الشخصيتين الرئيستين (منى وهشام) كلما تقدمت بك الأحداث, وتجمعت لديك معلومات نثرها خان وكاتب السيناريو رؤوف توفيق، سوف تعرف أن الفتاة ولدت ونشأت وشاهدت أفلام عبد الحليم الأولى فى المنصورة, لذلك فهى تحمل قدراً من الرهافة والرومانسية (لعل هذا تحيز لمسقط رأسى ومرتع طفولتى حتى شبابى المبكر فالبطلة قد ولدت فى نفس زمان ومكان ولادتى) خاصة بين أبناء الطبقة المتوسطة, بينما جاء هشام من بين فلاحى الصعيد الذين يعيشون على بضع أفدنة, لكنه بمجرد أن أصبح ضابطاً تنكر لأصوله وانسلخ عن طبقته, لأنه- وهذه هى القراءة المباشرة للفيلم ـ أصبح من "السلطة". لكن القراءة المتأملة لشخصية هشام تقول أنه ذلك البطل الذى لا يشغله سوى عمله- كمعظم أبطال خان الآخرين ـ حتى أنه لا تصبح لديه حياة شخصية حميمة, وتفانيه فى عمله كضابط مباحث ناجح جعله يحمل فى كل حركاته وسكناته ملامح "المحقق" الذى يضع الآخرين فى موقع الفريسة التى يطاردها حتى يمسك بها, وهذا ما فعله مع منى ذاتها, يستعرض أمامها قدراته على الأمر والنهى, فبمجرد إشارة من إصبعه يظهر "مخبر" لكى يتغير لها ولأسرتها طبق اللحم النيئ, ويظهر على الفور رجال "البلدية" يرصفون الشارع الذى يسكنون فيه, ويذهب مع مدير الأمر شخصياً (عثمان عبد المنعم, ولتتأمل وتتعجب من مقارنة دوره هنا مع دوره فى "أحلام هند وكاميليا" أو العديد من أفلام خان الأخرى!) لخطبة منى كأنه "أمر" موجه إلى الأب (على الغندور). فى بداية مشهد الخطبة لفتة عابرة لا أدرى إن كانت عفوية أو مقصودة, لكنها تجسد الحس "التسجيلى" عند خان، هذا الحس الذى سوف يتخلل معظم مشاهد "زوجة رجل مهم" والعديد من أفلامه (على سبيل المثال وليس الحصر: سوق الحمام فى "عودة مواطن"), إن المشهد يبدأ بطائرة ورقية تسبح فى الفضاء, لتتحرك الكاميرا حركة بانورامية إلى الأب والأم جالسين فى "غرفة الجلوس" مع مدير الأمن الذى جاء بصحبة هشام, وإنى استبعد أن يطلب محمد خان من فريق الإنتاج تحضير هذه الطائرة الورقية لتضمينها فى المشهد, والأقرب إلى الاحتمال هو أنه "اقتنصها" بعينه الفاحصة المتأملة اللاقطة للتفاصيل فى موقع التصوير, سواء انطلاق الطائرة الورقية فى عنان السماء فى تلك المرحلة من التطور الدرامى, فى مجاز للانطلاق العفوى عند الفتاة منى, كما تتبدى هذه التفاصيل فى لقطة قريبة لأذنها وقرط متواضع يزينها وهى تسمع كلمات هشام المعسولة, لتقارنها فى مشاهد لاحقة فى الفيلم بلقطة قريبة لأذنها فى قرط ثمين, وهو يداعبها ويسألها عن زملاء الجامعة, لنعرف فيما بعد أنه كان يستنطق منها ـ دون أن تدرى ـ معلومات تمكنه من القبض على من يتصور ـ أو يصورهم ـ أنهم "ضد النظام". عشرات التفاصيل الأخرى ربما سوف تجد بعضها فى هذا الكتاب فى الجزء الخاص بمحاولة البحث عن ملامح عامة لمجمل أعمال محمد خان, لكن ما يهمنا هنا هو أن البطل هشام سوف ينتقل من المنيا إلى القاهرة مكافأة له على إتقانه لعمله, وسوف يأخذ منى معه إلى شقة أعدها مسبقاً لتكون مسكن الزوجية حتى قبل أن يختار لنفسه عروساً, ويؤكد لمنى فى حسم: "أنا متأكد أنها ها تعجبك", عندما نراها نجد أن اللون الأبيض يغلب عليها تماماً حتى أنها تكاد أن تخلو من روح الحياة, بينما تتوزع المرايا فى كل مكان التى يرى فيها هشام نفسه كأنه طاووس معجب بجماله (أو بالأحرى سلطته), وفى تطور العلاقة بينهما سوف تمر منى بتجربة الإجهاض (إنه زواج عقيم لا ينجب علاقة حميمة), وتشعر يوماً بعد الآخر أنها فى سجن, خاصة عندما تقارن نفسها بجارتها سميحة (زيزى مصطفى) التى تحكى فى طرافة حقيقية عن قدرتها فى أية لحظة على تغيير أثاث بيتها, حتى أن زوجها رجل الأعمال صفوت (خيرى بشارة- مرة أخرى فى دور فيه بعض ظلال "الغلاسة", على الأقل من وجهة نظر هشام!) عاد ذات يوم من عمله فلم يجد أثاث الشقة فصرخ "اتسرقنا"! إن السجن يضيق على منى عندما تجد نفسها أيضاً "أداة" فى يد هشام لكى تتقرب إلى زوجة رئيسه فى العمل العميد يسرى (حسن حسنى), أو عندما يجبرها على حضور حفلات رجال الأعمال وأعضاء مجلس الشعب فى الوقت ذاته, وهم يتحدثون فى سخرية عن السد العالى وإنجازات عبد الناصر, بينما يتشدقون بمزايا "الانفتاح" والاستثمار وتصفية القطاع العام, وهنا نشير لمن انتقد الفيلم باعتباره يبرئ "النظام" بتصوير هشام على أنه شخص "منحرف" وحالة فردية, نشير إلى أن الفيلم يقدم "السياق" الاقتصادى والاجتماعى الذى تكاد ملامحه وآثارة تمتد حتى "هنا والآن", كما أن "النظرية الأمنية" التى يتفوه بها هشام هى ذاتها التى زالت سارية المفعول حتى كتابة هذه السطور, إنها نظرية "حماية البلد", والتى ينقدها الفيلم على لسان الكاتب الصحفى مجدى عز العرب (محمد دردير) المتهم بخيانة النظام والكتابة فى صحف خارجية (فى الحقيقة أنه ممنوع من الكتابة فى مصر, بتعليمات شفهية كما يحدث دائماً), إن الرجل يواجه هشام- كأنه يواجه أصحاب النظرية الأمنية جميعاً: "مين اللى فهمك أصلاً أنك أكتر وطنية منى اللى قبضت عليهم, الحرب اللى أنت بتتكلم عليها مش موجودة إلا فى تفكيرك وتفكير اللى زيك, اخترعتوها عشان توقعوا الناس فى بعض وتلخبطوا الحاكم وتشغلوا الناس بأعداء وهميين", وهى كلمات تختفى وراء حدوث دراما الفيلم فى السبعينات, لكن المتفرج عندما يراها الآن يدرك أنها ما تزال تنسحب على اللحظة الراهنة, تماماً كتجاوز جهات أمنية فى إجراءات القبض على مشتبه بهم, ليس مهماً أن يكون بعضهم خارج البلاد أو يعملون "مرشدين" لدى الأمن ذاته (!!), أو مثل الإعلام: "مش عايزين الناس تفكر فى اللى حصل", كما قالت الجارة سميحة تعليقاً على إذاعة مسرحية "مدرسة المشاغبين" فى نفس وقت حظر التجول فى أعقاب مظاهرات 18و 19 يناير 1977. وإذا كان الفيلم يمضى إلى قيام السلطات بفصل العميد يسرى وهشام على تجاوزاتهما, فإنه لا ينفى أيضاً فى هذه التفاصيل العديدة عن "النظام" كله نوعاً من الانحراف عن "خدمة الشعب" لمصلحة "السلطة", تلك السلطة التى هى محور أزمة هشام, فعندما ضاعت منه بدأ كأن وجوده كله قد ضاع, ليدخل فى "تمثيلية" يقنع بها منى- ونفسه أحياناً- أنه مايزال يملك القوة على الأمر والنهى, لكن "الزمن تغير" به (وليس بالوطن), وهنا نرى أزمة بطل محمد خان: الزمن!! فالزمن هو التيمة المحورية خلف كل تلك "الحدوتة", فقيام منى بتسجيل أغنيات عبد الحليم بتنويه بصوتها بمكان وزمان تسجيلها هو نوع من الحفاظ على "الذاكرة": "كل أغنية مرتبطة بمكان اتنقلت فيه, بمناسبة خاصة بيًّا", وعندما يموت حليم فى ربيع 1977ـ بعد شهور قليلة من أحداث يناير وفصل هشام من الخدمة ـ تسمع أغنية "أنا لك على طول خليك ليًّا" لكنها تدرك أن الزمن الحاضر يهرب دائماً ليصبح ماضياً, على عكس هشام الذى يريد "تثبيت"fixation الماضى, يريد الحفاظ على سطوته وحب منى له حتى أن ممارسة الجنس معها تشبه الاغتصاب, ويذكرها بالأيام الخوالى عندما كانت كل الأبواب تفتح له بإشارة منه وإعجابها بذلك: "مش إنتى اللى كنتى بتقولى كده؟", فترد فى لقطة قريبة على شفتى كل منهما (وكأنه تأكيد على هذه التيمة المحورية): "كنت عيلة", يقول هشام: "وعايزك تفضلى دائماً عيلة", لكن منى: "أنا كل يوم بااكبر وباافهم". هشام إذن فى حقيقته "دون كيشوت" آخر من بين "دون كيشوتات" عديدين فى أفلام محمد خان, ذلك "المجنون" الذى يعيش فى "فروسية" الماضى, ولا يعترف بحقائق الحاضر الجديدة فيمضى نحو النهاية المأساوية, وكل الفرق فى بطل "زوجة رجل مهم" هو إن محمد خان جعل بطله هذه المرة "فارساً" من فرسان السلطة, بدلاً من أن ينتمى إلى حضيض المجتمع أو أحراش عالم رجال الأعمال, وانتماء هشام إلى السلطة ورجال المباحث والشرطة والأمن هو الذى جعل معظم الكتابات النقدية لا تلمس أنه ليس إلا تنويعاً- بمعنى من المعانى- على بطل محمد خان الدائم, فى حربه ضد الزمن. وسوف يدهشك فى أفلام محمد خان الأخيرة- كما سوف ترى- مثل "بنات وسط البلد" و"فى شقة مصر الجديدة" أن بطل محمد خان قد تغير (هل خان نفسه هو الذى تغير؟!), فأصبح هذا البطل أقرب إلى الامتثال وليس التمرد, تاركاً نفسه يسبح مع الزمن وتغيراته, لا ينظر إلى الماضى (إن بطل "فى شقة مصر الجديدة" لم يحاول أبداً أن يعرف محتويات الشقة, بل إنه يتصور أن فيها- فى الماضى؟!- "عفاريت"!!), كما أن البطل الذى لا يلتفت إلا على عمله تاركاً المرأة والعائلة والاستقرار تأتى فى المرتبة الثانية تحول إلى البحث عن هذا الاستقرار, فالمرأة بدورها أصبحت أكثر قوة حتى فى ضعفها, ولم يكن غريباً أن يعمل بطل "بنات وسط البلد" فى مهنته" الشيف", ليقوم هو "بالطبيخ" بينما حبيبته تدخن سيجارة! ليس غريباً أيضاً أن يكون إهداء الفيلم إلى "زمن" عبد الحليم, كأفلام أخرى مهداة إلى "أزمنة" أخرى, وكل أفلام خان- أو معظمها- تشبه شرائط منى التى تسجل عليها مكان وزمان الأغنية, وفى كل فيلم لخان تستطيع أن تجد هذا الزمن, الذى يستطيع- كفنان- أن يقوم باقناصه وتثبيته على شريط السليولويد, تاركاً فيه أيضاً بعضاً من روحه وذكرياته الخاصة وقت صناعة الفيلم, لكنه- كفنان أيضاً- يستطيع أن يتجاوز هذا الزمن إلى زمن آخر, قافزاً بحرية بين الماضى والمستقبل, لكنه- مثل بطله - يبدو أن عشقه الأول لعمله, لفنه, وقد يحمل له ذلك قدراً من الإشباع والسعادة والمتعة, لكن هل يمكنك أن تنكر أن فى القلب من معظم أعماله تسرى روح من التشاؤم والسخرية المرة... وهل نقول أيضاً: الاكتئاب؟!

Thursday, December 05, 2013

السينما المصرية بين الأعراض الحادة والأمراض المزمنة


ينتاب السينمائيون المصريون بين الحين والآخر أعراض قلق جارفة، حين تبدو صناعة السينما وكأنها وصلت إلى ما يبدو أنه طريق مسدودة، بسبب عوامل تختلف من فترة إلى أخرى، فيرتفع صياحهم الصاخب مطالبين "الدولة" بأن تتدخل لحمايتهم ومساعدتهم، وبجرد أن تزول الأزمة، يعودون إلى الشكوى من أن الدولة تتدخل بطريقة تعوق حرية إنتاجهم، ويطلبون منها أن ترفع أيديها عنهم!! حدث هذا عدة مرات، ويحدث الآن، بعدما وصلت صناعة السينما إلى درجة توقف الكثير من الاستوديوهات والعاملين فيها عن العمل، وسوف تنعقد المؤتمرات، وتتوالى الاقتراحات، وربما تحدث انفراجة على نحو ما، لكن ذلك كله سوف ينتهي إلى استمرار الصناعة في مسارها السابق، حتى تطل الأزمة برأسها من جديد. والسبب؟ هو أن هناك نقاط ضعف جوهرية في بنية السينما المصرية ذاتها، صناعة وفنا، وتلك للأسف هي النقاط التي لا تتم مواجهتها ومعالجتها أيا كانت تكاليف هذا العلاج، لكن أي ثمن سوف يكون ضئيلا أمام منح هذه السينما فرصة حياة متجددة. وسوف يظل التاريخ يذكر كيف أن السينمائيين المصريين عانوا في بداية الستينيات، بسبب بعض الظروف السياسية التي أدت إلى شبه مقاطعة للأفلام المصرية، وعندما لجأوا إلى الدولة، واجتمعوا مع الزعيم جمال عبد الناصر نفسه، قرر القائد تأسيس قطاع عام يرعى أعمالهم إنتاجا وتوزيعا، وكانت تلك من أكثر فترات تاريخ السينما المصري ازدهارا، لكن بمجرد أن تراجعت الأزمة، اعترض هؤلاء السينمائيون أنفسهم وقوفهم على وجود القطاع العام وتدخل الدولة، ليعاودوا صنع أفلام السبعينيات التي كانت من أسوأ فترات هذه الصناعة وأكثرها رداءة!! ومن هذه التجربة في القطاع العام – التي لم تنجح في خلق بنية صناعية راسخة لأسباب بيروقراطية، ولأنها أديرت من خلال بعض العاملين في القطاع الخاص ذاته – يمكنك أن تتأكد أن معظم السينمائيين المصريين لا يسعون إلى تأسيس صناعة حقيقية، وإنما مجرد خلق فرص للكسب السريع، بأي شروط ممكنة في المدى القصير. وإذا اقتربنا من أزمة السينما المصرية في الآونة الأخيرة، فإن معظم شكاوى صناعها جاءت مركزة على "القرصنة" التي لا تتيح لهم كسب ما يعوضون به تكاليف الإنتاج، أو رداءة دور العرض بما لا يشجع قطاعا كبيرا ومهما من الجمهور للذهاب إلى مشاهدة الأفلام.... لكن لم يتحدث أحد مثلا عن ارتفاع أجور النجوم بشكل مفرط، بحيث تبتلع جزءا كبيرا من ميزانيات الإنتاج، دون أن ينعكس ذلك على جودة الإنتاج ذاته، كما لم يتحدثوا عن "الاحتكار"، الذي يجعل معظم دور العرض مملوكة لموزعي الأفلام أنفسهم، مما يعطيهم سلطة مطلقة على اختيار أفلام وإهمال أفلام أخرى. لم يتحدث صناع السينما عن هاتين النقطتين وغيرهما، لأن مواجهتها بواسطة الدولة سوف تحرم الكبار منهم من مزايا لا يرضون بالتنازل عنها لصالح السينما! وفي الحقيقة أن تلك النقاط وحدها ليست أيضا سبب الأزمة، فيمكنك أن تتعقب أسبابا أخرى قد تبدو بعيدة، لكنها ذات تأثير كبير. وربما كان أولاها هو تقلص ميزانية الأسرة المصرية التي تخصصها للإنفاق على الترفيه، وهو ما يجعل هذه الأسرة تنتظر حتى عرض الأفلام في التليفزيون. وقد تجد سببا آخر في تدني مستوى الأفلام وظروف عرضها في معظم دور العرض، حتى أن هذه الأخيرة أصبحت تندرج تحت "سينما الترسو" بصرف النظر عن مظهرها، ومرة أخرى سوف تحجم الأسر من الطبقة الوسطى عن الانخراط في هذه الأجواء. وقد ترتب على ذلك أن الأفلام ذاتها باتت تتوجه إلى "جمهور الترسو" فقط، وأصبح من سمات الفيلم المصري وجود مشاهد ثابتة تنتقل من فيلم إلى آخر، مثل نمر الأغاني الصاخبة والأفراح الشعبية، التي تشترك هذه النوعية من الجمهور في الصخب معها خلال العرض! ولأننا نعشق اختراع العجلة من جديد، فإننا لا نتعلم من تجارب صناعات السينما التي عاشت ظروفا مماثلة وواجهتها، لتصبح من أقوى صناعات السينما في العالم وأكثرها رسوخا. فقد كانت دور العرض الأمريكية في الفترة المبكرة تقتصر على درجة "الترسو"، فيما سمي آنذاك باسم "النيكلوديون" (أي دار العرض التي تدخلها بنيكل واحد)، وتدخلت الدولة بإغلاق هذه الدور واحدة بعد الأخرى، لتقوم الصناعة بتحسين مستوى دور العرض، التي تحولت خلال عقد واحد إلى ما أطلق عليه "قصور السينما الفاخرة"، التي جذبت جماهير الطبقة الوسطى فتدفقت عليها بأعداد هائلة، أعادت الانتعاش للصناعة من جديد. وفي واحدة من أشهر القضايا الأمريكية، أقامت الدولة ذاتها دعوى قضائية عرفت باسم "قضية باراماونت"، ومضى سير القضية أعواما حتى صدر الحكم فيها في الأربعينيات، وكانت القضية متعلقة بإلزام الشركات التي تنتج الأفلام بعدم امتلاك سلاسل توزيع أو دور عرض، لأن ذلك يمنحها سلطة احتكار تعوق الصناعة ولا تشجعها. فهل يقبل السينمائيون المصريون بمثل هذه الحلول من جانب الدولة: أن تفرض الدولة شروطا معينة لدور العرض وظروف المشاهدة، وأن تنكسر الحلقات الاحتكارية التي تكاد أن تخنق السينما المصرية؟ ذلك جانب مهم من القضية، أن يقبل صناع السينما أنفسهم بتنظيم الصناعة وليس مجرد تسهيل أمورهم، فقد كانت الرؤى قصيرة النظر، التي تسعى للربح السريع وحده، وراء الأزمة دائما. وهذه الرؤى هي التي تجعل البعض يأتون من خارج صناعة السينما ليجربوا حظهم في اغتنام الأرباح، وعندما تتقلص هذه الأرباح يهربون إلى صناعة أو تجارة أخرى، وهو ما يبدو لك واضحا إذا ما تتبعت أسماء العاملين في إنتاج الأفلام المصرية، فنادرا ما تجد شركة تستمر أكثر من عشر سنوات، أو أن تجد لها أسلوبا فنيا تتميز به، ليكون قدر السينما المصرية أن تبدأ دائما المرة بعد الأخرى مع مغامرين جدد، يستحوذون على الإنتاج ودور العرض، لتعاود الأزمة دورتها. لقد كان السعي إلى الربح السريع وحده وراء تناقص هائل في عدد دور العرض، فأغلق العديد منها أبوابه أو هدم لبناء أنشطة أخرى، بينما كان من المفترض أن تزيد مع تزايد عدد السكان، وأن تنتشر مع اتساع رقعة العمران. كما أنه السبب في ظاهرة "المواسم" السينمائية المحدودة، بدلا من تغطية العام كله بأفلام تناسب ذوق الجمهور مع اختلاف الزمان والمكان، ولعلك تتذكر كيف أن مفهوم "أفلام الصيف" كان مسيطرا على الصناعة تجارة وفنا، وكيف ظهرت ظاهرة أطلق عليها أيامها "المضحكون الجدد"، الذين اختفوا أو كادوا مع انحسار هذا الموسم بسبب انتقال شهر رمضان إليه، لتقتصر السينما المصرية الآن على موسمي عيد الفطر وعيد الأضحى، بأفلام هي في أغلبها لا تحقق للمتفرج سوى أن يذهب إلى "الملاهي" عندما يشاهد أحد هذه الأفلام. تلك هي بعض مظاهر الأزمة، التي هي في جوهرها انعكاس لمفهوم "السوق" الذي يفهم منه صناع أفلامنا أكثر وجوهه بدائية، متمثلا في الكسب السريع، لكن عندما تأتي إلى ما يجب صنعه إزاء ضبط هذه السوق فسوف يظهرون أنيابهم. هذه هي الأزمة الحقيقية، أننا نأخذ من الأنظمة (في الاقتصاد أو السياسة على السواء) جوانب انتقائية من هنا وهناك، دون أن نأخذ جوهرها أو نتعلم من تجاربها السلبية والإيجابية. وبداية الخروج من هذه الأزمة هو الإجابة عن سؤال بسيط وصعب في آن: لمن نصنع الأفلام؟ ولماذا؟ قد يبدو أن السينما المصرية قد عرفت لمن تصنع الأفلام، ولماذا، لكن هل كان ذلك حقيقيا؟ للأسف سوف تكون الإجابة بالنفي، ليس لأن هذه الصناعة كانت تفشل دائما في العثور على إجابات، فقد شهدت فترات ساطعة من النجاح، ولكن لأنها لم تكن مرنة بما يكفي لكي تتفاعل مع الظروف المتغيرة من فترة إلى آخرى، ولأنها لم تكن في الأغلب مستعدة لدفع تكاليف هذا التغير، وكان هذا وراء ظاهرة عدم استمرار شركات إنتاجية سينمائية مصرية عبر مرحلة طويلة من الزمن. تُصنع الأفلام لجمهور، لكن جمهور الأربعينيات على سبيل المثال كان في العالم العربي يمتد من المحيط إلى الخليج، لذلك كانت الأفلام المصرية تتوجه إلى هذا الجمهور العريض، ولعلك تذكر كيف أن معظم هذه الأفلام كانت تتضمن "استعراضا" يطوف البلدان العربية المختلفة. وفي الستينيات، أصبح للعديد من الشعوب العربية أفلامها التي تنتجها بأنفسها، كما شهدت صناعة السينما المصرية بعض القيود في توزيعها، لذلك كاد الجمهور أن يقتصر على الطبقة الوسطى المصرية، لكن اتساع هذه الطبقة آنذاك ساعد على استمرار الصناعة قوية راسخة. أما لماذا تُصنع الأفلام، فقد تتراوح بين الدعوة إلى قيم ثقافية حديثة تتخلص من أسر الماضي، كما حدث للسينما المصرية في بداياتها، أو الدعاية لشكل اجتماعي جديد، سواء كان اشتراكيا في الستينيات أو انفتاحيا استهلاكيا في السبعينيات.... وأخيرا: كيف تُصنع الأفلام؟ إما عبر منتجي القطاع الخاص الذين قد يعرفون حجم مسئولياتهم أو قد لا يعرفونها، أو عبر القطاع العام، أو بين خليط من هذا وذاك. لكن ما الذي يجعل الأمر يبدو اليوم وقد وصل إلى حافة أزمة خطيرة؟ وهل يعكس إنتاج السينما المصرية هذه الأزمة حقا؟ ولنبدأ بهذا السؤال الأخير، فقد وصل إنتاج هذه السينما في العام 2013 إلى حوالي ثلاثين فيلما، وهو رقم أفضل بكثير مما كانت تنتجه في أواخر القرن العشرين بمتوسط خمسة عشر فيلما، لكنه بالطبع أقل من الستين الذي بلغته خلال الستينيات عندما كان جمهورها من الطبقة الوسطى، وأقل من المائة الذي بلغته في الثمانينيات في ذروة فترات ازدهار شرائط الفيديو. وما تزال السينما المصرية تصنع غالبا أفلاما كوميدية، مثل "على جثتي" و"سمير أبو النيل" ونظرية عمتي"، والقليل من الأفلام البوليسية التي عادت على استحياء مثل "مصور قتيل" و"الحفلة"، وبعض أفلام "الفنانتازيا" على الطريقة المصرية (التي تجعل الخيال مساويا لعدم وجود أي منطق فني) كما في "فبراير الأسود" أو "هاتولي راجل"، ناهيك بالطبع عن أفلام توليفة الرقص والغناء (وهي التوليفة التي لا يكاد فيلم مصري أن يخلو منها حاليا) مثل "8 في المائة" أو "عش البلبل"، وأخيرا أفلام البلطجية التي تحصد أغلب الإيرادت مثل "قلب الأسد" و"القشاش". وإلى جانب ذلك كله، تتوارى أفلام تسمي نفسها "مستقلة" وإن كانت التسمية الدقيقة أنه "مختلفة"، مثل "الشتا اللي فات" و"هرج ومرج" و"عشم" و"فرش وغطا". وإذا كانت تلك النظرة السريعة على إنتاج السينما المصرية مؤخرا يشير إلى رقم ليس سيئا، وإلى تنوع ما حتى لو كان محدودا، فأين إذن تكمن الأعراض الحادة للأزمة؟ إنها في تناقص عدد الجمهور بشكل عام، خاصة بالنسبة لمن يصنع أفلاما لا تتوجه إلى جمهور "الترسو" الحالي. وإذا كانت أيضا تلك هي الأعراض، فما هو الأفق الذي ينتظر السينما المصرية إن لم تعالج أسباب هذه الأعراض؟ ولا يمكنك أن تنكر أولا أن الحالة السياسية المضطربة في الآونة الأخيرة لا تشجع قطاعا كبيرا من الجمهور على الذهاب إلى دور العرض، خاصة أن هناك عددا هائلا من القنوات التليفزيونية الفضائية أصبحت تتيح عرض الأفلام بعد عام أو عامين من عرضها التجاري، ناهيك عن ظروف اقتصادية واجتماعية أخرى، مثل صعوبة الانتقال إلى السينما أو ارتفاع أسعار التذاكر. والحل مرة أخرى يكمن في مدى مرونة صناعة السينما المصرية، وقدرتها على الاستجابة لهذه الظروف. ولعل من أهم مظاهر هذه المرونة هو تخفيض ميزانيات الأفلام وأجور نجومها، والاستعداد لكسر حلقات الاحتكار التي تقيد المنتجين الصغار وتمنعهم من المنافسة، والتفكير الجاد في بناء دور عرض في الأحياء تكون قريبة من سكانها، حتى وإن كانت بسعات صغيرة، وتخفيض سعر التذكرة حتى يصبح ممكنا للعائلة أن تذهب للفرجة دون تكاليف باهظة، والأهم من ذلك كله، وهذا هو الأمر الذي تجاهلته السينما المصرية طويلا، هو تقديم نوع من الفرجة السينمائية التي لا يتيحها التليفزيون. لقد كان هذا هو التحدي الذي واجهته السينما الأمريكية مثلا في الخمسينيات، فأدخلت تقنيات الشاشة العريضة والألوان والصوت المجسم، وصنعت أفلاما لا يظهر بهاؤها إلا على الشاشة الكبيرة، لكن السينما المصرية لا تبدو راغبة في أن تدفع "تكاليف" تأسيس صناعة قوية، وإنما حصد أكبر قدر من الأرباح السريعة من الصناعة الراهنة. بل إن ذلك المنافس القوي، التليفزيون، قد يكون سبب الأزمة والطريق إلى حلها في آن، وعلى شركات الإنتاج السينمائي أن تدخل في شراكة قوية مع الشبكات التليفزيونية، يتم بمقتضاها وضع جدول يرتب فترات العرض بين الشاشتين الكبيرة والصغيرة، وسوف يدهشك أن أهم الأفلام العالمية الآن تُصنع بالاشتراك مع شبكات تليفزيونية (مثل آرتيه الفرنسية، أو زد دي إف الألمانية، أو تي في إي الإسبانية)، وهو أمر ليس هناك مبرر لغيابه عن وعي منتجي السينما والتليفزيون معا. وإذا كان ذلك هو المطلوب من صناع الأفلام ومنتجيها، فإن هناك دورا مهما للدولة في تنظيم ذلك كله، وليس مجرد مساعدة المنتجين على حصد أرباح أكثر. ورغم ادعاء البعض بأن "القرصنة" سبب أساسي في تدهور صناعتنا السينمائية، ومطالبة الدولة بإيقافها، فذلك مستحيل في الواقع العملي، وحتى الأفلام الأمريكية تتعرض جميعها للقرصنة بمجرد طرح قرص "الدي في دي" في الأسواق، لكن هوليوود تحافظ على هذه السوق الأخيرة بأن يتضمن القرص موادا إضافية تشجع المستهلك على اقتنائه، مثل اللقاءات الفنية المهمة مع الممثلين والمخرجين وكتاب السيناريو، وأرجو أن تقارن ذلك باللقاءات التي تتم مع فنانينا في برامج التليفزيون، والتي تفتقر إلى الحد الأدنى من الجدية والعمق. وعودا على بدء، فإن دور الدولة هو أن تقوم بما لا يمكن للقطاع الخاص وحده أن يقوم به، فمن الأمور الفاضحة الفادحة غياب أي مطبوعة سينمائية جادة لنشر هذه الثقافة بين عدد كبير من الناس، وكانت مثل هذه المطبوعات موجودة حتى عشر سنوات مضت، ولم يستطع القطاع الخاص تحمل خسائرها، بينما كانت الدولة تصدر العديد منها حتى منتصف السبعينيات. ومن الأمور التي تحمل مفارقة مريرة وجود العديد من المهرجانات السينمائية، دون هدف سينمائي ثقافي واضح، لذلك تنتهي إلى أن تكون أقرب إلى "الموالد"، التي تقام وتنفض دون أثر يذكر. ناهيك عن المستوى المتواضع الذي انتهت إليه المؤسسات التعليمية السينمائية، بينما كانت هناك برامج جادة لتبادل الخبرات، ترسل فيها البعثات إلى الخارج، ويأتي الخبراء لنقل خبراتهم إلى الأجيال الجديدة من السينمائيين المصريين. أخيرا قد يكمن جانب من الحل بعيدا عن كل تلك المسارات التقليدية، وهذا ما يتم تطبيقه على سبيل المثال في البرازيل، التي عاشت السينما فيها أزمة مماثلة منذ عقد من الزمن، وتحملت "وزارة التعاون الدولي" الجانب الأكبر من المواجهة، وقامت باتصالاتها لتجمع ميزانيات الأفلام من دول عديدة، في نوع راقٍ من الإنتاج المشترك. لكن المعيار في ذلك ليس أن تجمع ميزانية كبيرة لصنع فيلم واحد، وإنما ميزانيات صغيرة لعشرات الأفلام، وإذا كان الأمر سوف يتم على نحو ما انتهى إليه فيلم "المسافر"، الذي أنتجته الدولة، وتكلف أكثر من عشرين مليون جنيه، ليحقق فشلا فنيا وتجاريا ذريعا وغير مسبوق، لمجرد تحقيق نزوة بصنع فيلم ذي مقاييس "عالمية"، فسوف تتكرر المأساة، لأننا في التحليل الأخير لم نعرف لمن ولماذا نصنع الأفلام!

Monday, December 02, 2013

لماذا يغيب الزعماء عن السينما المصرية؟


في كل صناعات السينما الراسخة، تشكل حياة الزعماء السياسيين مادة خصبة للأفلام، ليس فقط لأن الاهتمام بهم يعكس اهتماما بالتاريخ، وإنما أيضا لأن السينما تستطيع أن تصنع من هذه المادة التي تبدو جافة قصصا "مسلية" وأعمالا ترفيهية، ولأن "الأبطال" – من كل الأنواع – هم مركز التوحد الإيجابي أو السلبي للمتفرج مع الفيلم، وبالطبع سوف يتعمق هذا التوحد مع بطل يستمد وجوده من حقيقة تاريخية. وربما اختلف تناول حياة هؤلاء الزعماء في السينما تبعا للهدف الكامن وراء صنع الفيلم. ولعل المثال الصارخ على ذلك هو أن يعود ميل جيبسون إلى حقبة تاريخية بعيدة، لنضال الاسكتلنديين ضد الانجليز، في الملحمة السينمائية التي نالت نجاحا جماهيريا كبيرا "القلب الشجاع"، وكان هدف جيبسون – أسترالي الأصل – هو تصوير النزعة الاستعمارية الانجليزية، التي خنقت إلى حد كبير وجود هوية أصيلة للبلاد التي استعمروها، بما في ذلك أستراليا. بينما جاء فيلم "لينكولن" من إخراج ستيفن سبيلبيرج، وهو الفيلم الذي حصد جوائز أوسكار عن عام 2012، ليحيي من جديد ذكرى مؤسس الأمة الأمريكية، بتفاصيل عديدة ما تزال أمريكا تحاول الإبقاء عليها حتى اليوم. وقد تكون حياة زعيم سياسي ما مادة لصنع ملحمة مأساوية، على نحو قصة آخر أباطرة الصين في فيلم بيرناردو بيرتولوتشي "الإمبراطور الأخير"، أو لعل هذه الحياة تمثل قصة مفرطة في العاطفة الجياشة مثلما هو الحال في فيلم ألان باركر "إيفيتا"، عن حياة إيفا بيرون، زوجة الزعيم الأرجنتيني خوان بيرون. كما تبرز في هذا السياق أفلام ملحمية أخرى، نالت نجاحا نقديا وجماهيريا كبيرا، مثل فيلم ريتشارد أتينبرو "غاندي"، عن حياة الزعيم الهندي الذي ترك أثرا عميقا في النضال السياسي السلمي، ودفع حياته ثمنا لذلك، بينما دفع جيفارا حياته على النقيض ثمنا للنضال العسكري ضد أمريكا، وجاءت عنه أفلام عديدة كان آخرها فيلم ستيفن سوديربيرج "تشي". من جانب آخر قد تكون سيرة حياة السياسي مثار انتقاد بالغ المرارة، كما في فيلم أوليفر ستون "نيكسون"، عن الرئيس الأمريكي الذي انتهك القانون في فضيحة ووترجيت، وفيلم ستون الآخر "دابليو" عن الرئيس الأمريكي السابق جورج دابليو بوش" ونزواته السياسية والعسكرية، أو كما في "آخر ملوك اسكتلندا" من إخراج كيفين ماكدونالد، عن رئيس جمهورية أفريقيا الوسطى الأسبق عيدي أمين، المعروف عنه قسوته المفرطة في التعامل مع الخصوم. لكن المخرج الزنجي الأشهر سبايك لي يخلد ذكرى واحد من أهم زعماء حركة تحرير الزنوج في أمريكا، في فيلم "مالكولم إكس"، ليكون هذا الفيلم دراسة عميقة لفترة مهمة من نضال حركات الحصول على الحقوق المدنية والسياسية في أمريكا، وهو نضال لم يخلُ من آثار دامية، في بلد يرفع شعار الديموقراطية، ويزعم الرغبة في بسطها بالقوة العسكرية على العالم كله!! أرجو ألا تشعر بالصدمة عندما نتذكر معا أفلام نادية الجندي، وكيف ظهر فيها الزعماء السياسيون كمجرد "كومبارس"، مثل أنور السادات في فيلمي "الجاسوسة حكمت فهمي" أو "امرأة هزت عرش مصر"، فليس أمثال السادات (من وجهة نظر نادية الجندي) هم من صنعوا جانبا مهما من تاريخ مصر الحديث، وإنما بطلات نادية الجندي ونضالهن بمفاتنهن و"كيد النسا"!! لكن من الغريب أن يكون هذا هو حال بعض أفلام السينما الجادة أيضا، مثل "اسكندرية ليه"، حيث يظهر من يمثلون بعض أعضاء حركة "الضباط الأحرار" – الذين سوف يقومون بثورة 1952 فيما بعد – في خلفية الأحداث، باعتبارهم مجموعة من مراهقي السياسة، التي يمارسونها في نضال هو أقرب إلى "البلطجة"!! وفي زمن السينما المصرية المبكر، لم تطرق الأفلام سيرة حياة الزعماء التاريخيين إلا نادرا، وهي تذهب للماضي البعيد تارة في "شجرة الدر"، ليس لدراسة الفترة التاريخية ذاتها وإنما لتكرار بعض المفاهيم الشعبية الرائجة، عن تلك المرأة التي مارست السياسة بالدهاء وسط العديد من الرجال. لكن السينما المصرية لم تتناول قبل ثورة 1952 حياة زعيم سياسي واحد إلا في فيلم "مصطفى كامل"، الذي ظل حبيس العلب فترة طويلة، لأن سلطات الاحتلال رأت فيه خطرا، وإن جاء الفيلم مبالغا في النزعة الخطابية، التي تجعل البطل التاريخي "أكبر من الواقع" كثيرا، مما قد يبعد المتفرج عن التوحد معه. وربما كان حظ هؤلاء الزعماء في السينما أفضل قليلا بعد الثورة، لكنه أتى خاليا من الصدق إلى حد ما، وإن عمد إلى شكل من أشكال الإبهار الملحمي. وهكذا جاء "رد قلبي" على سبيل المثال، بالشاشة العريضة والألوان في بداية الخمسينيات، في فترة كانت هذه التقنيات جديدة حتى في هوليوود، لكن الفيلم لا يسمي أبطالا بأسمائهم الحقيقية، ويلجأ إلى رواية يوسف السباعي المفرطة في ميلودراميتها العاطفية، عن الحب الذي اشتعل لهيبه بين ابنة الباشا الجميلة، وابن "الجنايني" الذي سوف يكون أحد أعضاء جماعة الضباط الأحرار، ويبدو كأنه قد اشترك في الثورة لكي يفوز بقلب حبيبته سليلة العائلة الأرستقراطية! وفي هذا السياق أيضا يأتي "الناصر صلاح الدين"، بذات الإمكانات الإنتاجية المبهرة، لكنه خلا من الصدق التاريخي، ليبدو كأنه إسقاط فيه بعض الاصطناع على شخصية الزعيم جمال عبد الناصر. وهكذا اختارت السينما المصرية طريقا بدت ملتوية للحديث عن الزعماء السياسيين، وحتى الآن لا يعرف المتفرج ما هي الأسماء الحقيقية لأبطال أفلام مثل "في بيتنا رجل" أو "لا وقت للحب"، وهي أفلام أكثر نضجا بالتأكيد من سابقاتها، لكنك لا تدري أبدا لماذا أخفت أسماء هؤلاء الأبطال. وفي حالات نادرة، كانت السينما المصرية تتناول أبطالا عربا من خارج مصر، ولم يكن ذلك إلا في مرحلة ازدهرت فيها النزعة القومية، ليأتي فيلم "جميلة"، عن تلك البطلة الجزائرية التي أصبحت أيقونة للمقاومة ضد المستعمر، أو فيلم "عمالقة البحار"، عن ضابط البحرية السوري جول جمال، الذي ضحى بحياته من أجل الدفاع عن مصر خلال العدوان الثلاثي. وفي فترة متأخرة جدا عادت السينما المصرية بفيلم عن عبد الناصر وآخر عن أنور السادات، وكان هذا الفيلم الأخير "أيام السادات" أقرب لاستعراض الممثل أحمد زكي لقدراته في "التقليد"، بينما لم يترك الفيلم ذاته أثرا حقيقيا على فهم المتفرج للرجل أو الرئيس، لأنه في مجمله كان من وجهة نظر السادات نفسه عن نفسه، وليس دراسة فنية أو سياسية للفترة ورجالها. ومن الغريب أن أحمد زكي كان قد سبق له تجسيد شخصية عبد الناصر في فيلم "ناصر 56" بقدر كبير من النجاح، وكان السبب في هذا النجاح هو سيناريو محفوظ عبد الرحمن، الذي ابتعد عن تصوير حياة هذا الزعيم "من الجلدة للجلدة"، بل اختار شهورا قليلة من حياته السياسية، منذ تأميم قناة السويس الذي أثار عدوانية القوى المستعمرة. إنك هنا أمام "بطل" بمعنى الكلمة، ليس لأنه أكبر من الواقع، وإنما لأنه جزء من هذا الواقع، يتفاعل معه بكل لحظات الألم والانتصار. ولن يغيب عن ذهن المتفرج مشاهد قلق الزعيم في وحدته، وحيرته بين أن يخوض الحرب أو يتراجع عن قرار التأميم، لتزوره أم ريفية عجوز، هي في الحقيقة من بنات خيال المؤلف، لكنها تجسد الكتلة الرئيسية من الشعب المصري، وتحثه على مواصلة النضال. لم يستمد فيلم "ناصر 56" قيمته من قامة الزعيم وحده، بل من التناول الفني الناضج لهذه الشخصية، ويمكنك أن تقارن هذا الفيلم بآخر تناول حياة الرجل في فيلم "جمال عبد الناصر"، للمخرج والمنتج أنور القوادري، الذي جند إمكانات هائلة لفيلمه، لكنه انتهى إلى شحوب الصورة، لأنه لم يتمتع بالصدق أو النضج. لكن ذلك العدد القليل جدا من الأفلام التي تناولت صورة الزعماء السياسيين على الشاشة المصرية، يشير مرة أخرى إلى أن صناع أفلامنا يرون هذا الفن مادة للتسلية وحدها، ولا يلتفتون إلى أهمية الرسالة التي تحملها هذه الأفلام، حتى أن بعض المؤلفين والمخرجين يسخرون من مجرد تعبير "الرسالة" في أحاديثهم الصحفية، وفي هذه السخرية ذاتها رسالة واضحة تماما بأن السينما المصرية ما تزال تعيش مرحلة الطفولة، ولا يبدو في الأفق أي طريق للنضج!!

Friday, November 22, 2013

"ضربة شمس"...البذور السينمائية لسينما محمد خان


عندما تتأمل الآن فيلم "ضربة شمس" بعد ما يزيد على ربع قرن من عرضه، وحوالى عشرين فيلماً لصانعه محمد خان، فإنه يمكنك أن تجد فيه البذرة الجنينية الأولى لعالم محمد خان، التى سوف ينبت منها ويتفرع عنها العديد من الأفلام. وفيلم "ضربة شمس" على بساطته الظاهرة يحتوى على عشرات التيمات والموتيفات التى سوف يولد منها أفلام مستقلة بذاتها، وإن أردت تلخيص "الحدوتة" ـ التى سوف تتجمع أمامك على الشاشة كأنها قطع اللغز المتناثرة التى لن تفصح عن الصورة الكاملة إلا فى النهاية ـ فهى أن شمس (نور الشريف) كان قد بدأ حياته مصوراً فى القسم الفنى فى صحيفة، وهو الآن يعمل فى قسم الحوادث، لذلك فإنه على علاقة وثيقة بالضابط مراد (حسين الشربينى) الذى "يستخدم" شمس أحياناً (دون علمه) فى بعض القضايا، مثلما يحدث عندما يرسله ـ بطريق غير مباشر ـ لتصوير أحد الأفراح حيث سوف تجتمع عصابة لتهريب الآثار. ولأن شمس يجرى دائماً وراء "الصورة" التى تمسك بلحظات تبدو عابرة، فإنه ينجح فى التقاط صورة لأحد أفراد العصابة جميل (توفيق الدقن) الذى تحول إلى مرشد، وهو يدس ورقة إلى الراقصة نوال (نجوى فؤاد) يخبرها فيها بموعد العملية القادمة للعصابة القاتلة. بعد انتهاء الفرح يلاحظ شمس أن جميل قد ركب سيارة مع سيدة فاتنة غامضة (ليلى فوزى)، وبعد ساعات يعلم مراد أن جميل مات منتحراً، وهو مما يثير اهتمام شمس وفضوله، ليحاول أن ينبه الضابط مراد إلى أن ما جرى لجميل هو عملية قتل، لكن مراد لا يسمع له مما يدفع شمس إلى قبول دخول المخاطرة التى وجد نفسه متورطاً فيها، ومن خلال هذه "المغامرة" التى تمزج بين نمط genre "فيلم الرحلة" ونمط فيلم التشويق البوليسى، يسبق شمس دائما كلاً من العصابة والشرطة بخطوة واحدة، لكنه يدفع ثمناً باهظاً يكاد أن يكلفه حياته وحياة حبيبته سلوى (نورا)، كما يسقط ضحايا خلال هذه الرحلة من بينهم فتحى (فاروق فلوكس) زميل شمس فى الجريدة الذى يقع صريعاً برصاصات كان المقصود بها شمس، تماماً كما حدث لعضو العصابة محسن (مجدى وهبه) الذى حاول أن يسمم شمس الذى أدرك الفخ فى اللحظة المناسبة ليشرب محسن الشراب المسموم. وهكذا تمضى المطاردة التى تكاد أن تدور فى كل أنحاء القاهرة من شمالها إلى جنوبها، حتى تنتهى عند الفجر بخروج شمس وسلوى مثخنين بالجراح، ناهيك عن أسى شمس من إدراكه أن الضابط مراد كان يستخدمه كمجرد أداة، وتكون آخر لقطات الفيلم لهما يسيران فوق جسر المشاة فى ميدان التحرير الذى يكاد أن يخلو من السيارات والمارة، وتنطلق صوت يشبه آلة "الفاجوت" الموسيقية بلحن الآذان، الذى يقطعه على نحو مفاجئ أصوات متداخلة مزعجة لنفير السيارات. كثيراً ما يصرح محمد خان فى حواراته الصحفية بإعجابه الهائل بفيلم "المغامرة" لمايكلانجلو أنطونيونى، لكن خان فى أول أفلامه الروائية "ضربة شمس" يبدو أكثر تأثراً بفيلم آخر لأنطونيونى هو "تكبير" (الذى نعرفه فى مصر أحياناً باسم "انفجار")، خاصة فيما يتعلق بما تستطيع الكاميرا أن تفعله من تسجيل الأحداث بشكل خاطف على نحو يسمح بالتدخل فى مسيرة هذه الأحداث ومصائر الشخصيات الفاعلة فيها. إن شمس يلتقط صورة لورقة المرشد جميل بينما تحرقها الراقصة نوال، وهو ما يصفه شمس مرات عديدة فى انبهار: "كلمة فى ورقة قبل ما تتحرق بجزء من الثانية"، أو أيضاً قدرة الكاميرا على "عشق التفاصيل والحاجات المستخبية ورا عيون الناس"، ولتلاحظ كلمة "التفاصيل"، فتلك التفاصيل سوف تكون أهم ملامح العالم الفنى لمجمل أفلام محمد خان، خاصة تفاصيل الحياة اليومية العادية. وفى الوقت الذى نرى فيه شمس كثيراً ممسكاً بالكاميرا كأنه يمسك ببندقية (بما يذكرك بأحد شعارات المخرج الفرنسى جودار)، فإن كاميرا سعيد شيمى، وخلفه محمد خان، تبدو بدورها مصوبة تجاه الواقع الذى قد يمر علينا دون أن نلحظ تفاصيله، وهى التفاصيل التى سوف تصبح جوهر سينما محمد خان، لتكشف عما تحت السطح الساكن للواقع. لذلك لم يكن غريباً أن تنطلق الكاميرا ـ على نحو غير مسبوق بهذه الكثافة فى السينما المصرية ـ فى الشوارع، حتى أنه يمكنك أن تعتبر فيلم "ضربة شمس"، مثل العديد من أفلام خان الأخرى، "وثيقة" للعصر الذى تم تصويرها فيه (ويمكنك أن تقارن فى هذا السياق أفلاماً مثل "يوم حار جداً")، شوارع "وسط البلد"، وميدانى باب اللوق والتحرير قبل أن تتغير ملامحهما، و"مترو حلوان" القديم (من الطريف أن يكون "الكمسارى" فى المترو كمسارياً حقيقياً، كان يعرفه كاتب هذه السطور لإقامته فى حلوان وركوبه المترو خلال فترة قريبة من صنع الفيلم!)، وركاب ساعات الصباح الأولى المستغرقين فى نومهم، والذين قد تجد فيهم مجازاً بصرياً ودرامياً عن غياب "الناس" عن الجريمة التى تحدث، ومن المفارقات ذات الدلالة أن يكون الراكب المستيقظ الوحيد "أعمى"! إن أردت أن تحصى عدد الأماكن التى يوثق لها فيلم "ضربة شمس" الذى تم تصويره فى نهاية السبعينات فسوف تحتاج لعشرات السطور، غير أن ما يهمنا الآن هو أن الفيلم "يوثق" للعديد من تيمات وموتيفات محمد خان فى الكثير من أفلامه التالية، وأهمها هنا هو البطل، اللامنتمى فى الظاهر، يعشق فتاته سلوى لكنه يتردد فى الارتباط بها لأنه لا يريد أن تسجنه قيود الأسرة، لكن عشقه الأكبر للكاميرا لأنه من خلالها تستطيع "العين تشوف وتلاقى حاجة جديدة"، بل إنه يصرح بأن الكاميرا بالنسبة له أهم من سلوى ذاتها، لكنه مثل معظم أبطال خان "يتورط" بإرادته، يدفعه إلى ذلك مزيج من النزعة الاحترافية وأخلاقيات تعلى من شأن الإنسان، وهذا البطل لا يختلف قيد أنملة عن محمد خان نفسه التى "تبدو" الكاميرا للوهلة الأولى عنده موضوعية محايدة، فإذا بها تريد أن تقترب من البشر بل أن تحتضنهم أيضاً، لأنها تكتشف عن "كل" متكامل، أو كما يقول شمس: "كنت باشوف حتة من الصورة بالكاميرا، أول مرة أشوفها كاملة، كنت باشوف العالم بشكل تانى، يظهر كنت غلطان"، وهو الاكتشاف الذى يقوده إلى "ما كنتش فاكر إن فيه مجرمين بالشكل ده"، فترد عليه سلوى: "لأنك ما كنتش بتشوفهم إلا بعد ما يتقبض عليهم"، أو بالأحرى فإن الكاميرا يجب أن تقوم بالإمساك بالعالم والقبض عليه (capture التى تعنى أيضاً الالتقاط) خلال حركة هذا العالم فى تغيره الدائم الذى لا يتوقف، وهى المهمة الجمالية (والسياسية بالمعنى الأشمل للكلمة) التى لم يتخل عنها خان فى معظم أفلامه. من جانب آخر فإن البطلة سلوى تمثل إلى حد كبير معظم بطلات محمد خان، الذى سوف تكتشف رحلتك مع أفلامه أنه من أكثر مخرجى السينما المصرية وصانعيها حباً وتعاطفاً وفهماً للمرأة، التى تظهر فى الأغلب الأعم من أفلامنا باعتبارها "موضوعاً" وليست "ذاتاً"، لكن معظم بطلات خان تبحثن عن تحقق هذه الذات، كما تقول سلوى: "عايزة أكون جنبك مش وراك"، وهى تصطدم بالقيود والقيم الذكورية (العادية والمعتادة) لكنها لا تتخلى عن رجلها وعن حبها، لتقوم بدور كبير فى رحلة البطل من اللاانتماء إلى الانتماء، لذلك لم يكن غريباً أن ينتهى فيلم "ضربة شمس" بسلوى وهى تسير جنباً إلى جنب شمس، بل أن تسنده أيضاً. وكما يوجد فى عالم محمد خان رجال ينتمون إلى معسكر "الأشرار"، فإنه هناك أيضاً نساء شريرات، تتمثلن هنا فى المرأة الفاتنة الغامضة (ليلى فوزى) التى لم تنطق طوال الفيلم بكلمة واحدة، لكنها تظهر دائماً وكأنها "أيقونة" ساحرة وفتاكة معاً، أو كأنها سليلة المرأة الفاتنة القاتلة femme fatale فى نمط "الفيلم نوار"، وفى اختيار الممثلة ليلى فوزى لهذا الدور إدراك من صانع الفيلم لما يمكن أن يمثله هذا الجمال الخارق، الذى لعب دور القدر الغاشم الملتف حول رقبة البطل كأنه ثعبان ماكر فى فيلم "من أجل امرأة" (1959) من إخراج كمال الشيخ، وهو الفيلم المأخوذ عن الفيلم نوار الأمريكى "تأمين مزدوج". هناك موتيفات عابرة سوف تعاود الظهور فى أفلام خان التالية، لعل أهمها موتيفة تحول الواقع اليومى العادى شيئاً فشيئاً إلى "كابوس"، أو كما تقول سلوى وهى تحذر شمس من المضى فى مخاطرته فى مطاردة العصابة: "أنا خايفة الحكاية تتقلب كابوس"، وهو ما يحدث بالفعل، أو موتيفة الحديث الخاطف عن أخت شمس المغتربة منذ زمن التى ربما سوف تشعر بالصدمة إذا عادت واكتشفت أن شمس باع شقة أبيهما وأمهما ليأخذ شقة أخرى، تلك الموتيفة التى سوف تصبح الموتيفة الرئيسية لفيلم "عودة مواطن"، أو قراءة خاطفة لصفحة الحوادث عن زوجة اعترفت بقتل زوجها بالسم انتقاماً لسبب لا نعلمه، وربما سوف نعلمه بالتفصيل فى فيلم "موعد على العشاء"! عشرات التفاصيل التى أعشقها فى هذا الفيلم وربما سوف تجد لها ذكراً فى فصل آخر من فصول هذا الكتاب الصغير، هى تفاصيل أضفت على الفيلم حيوية ودفئاً مصريين برغم غرابة وتغريب مادة الموضوع، التى استغرقت ـ ربما أكثر مما ينبغى أحياناً ـ فى تشويق المطاردات، بإغراء التصوير فى الأماكن الطبيعية خلال النهار أو الليل، وهو الإغراء الذى سوف يتحول لدى خان إلى عشق حقيقى، ساعده بدوره على أن ينتقل من الإعجاب بأنطونيونى أو جودار (هل أذكر أيضاً فيلم "على آخر نفس"؟) إلى الانتماء القريب من الاكتمال للواقع المصرى، بكل تفاصيله الخارجية وجوهره على السواء.

Wednesday, November 20, 2013

من مقدمة كتابى "محمد خان... ذاكرة تتحدى النسيان"


فى المشهد الأخير من آخر أفلام محمد خان ـ حتى كتابة هذه السطور ـ تظل البطلة نجوى (غادة عادل) تردد بينها وبين نفسها رقم هاتف الفتى يحيى (خالد أبو النجا) حتى لا تنساه، وأى لقاء قادم محتمل بينهما ـ ولعل فى قصتهما بقية آتية ـ يعتمد على ذاكرتها، تلك "الذاكرة" التى سعى محمد خان فى كل أفلامه إلى أن يحتفظ بها على شرائط سينمائية، ذاكرة للمكان والزمان والمجتمع والاقتصاد والثقافة، والأهم أنها ذاكرة للإنسان فى كل هذه السياقات، كيف يشعر الناس ويفكرون ويحلمون ويتصارعون، بل كيف يتحدثون ويستخدمون تعبيرات الجسد وإيماءاته فى التعبير عن ذلك كله. وبقدر أهمية الذاكرة فإن من المهم أيضاً أن تبقى هناك مساحة للنسيان، نعم النسيان، فبدونه سوف يتوقف الإنسان عن الحركة مع العالم الذى لا يتوقف عن التغير، وأرجو أن يتحملنى القارئ لو ذهبت للحظة قصيرة بعيداً عن أفلام محمد خان لكى نتمهل ونتأمل هذه الفكرة، التى جسدها على نحو رائع فيلم التحريك "البحث عن نيمو" الذى صنعته مجموعة شركة "بيكسار" الأمريكية، التى تتبنى ـ من وجهة نظرى ـ موقفاً "يسارياً" بالمعنى الواسع للكلمة، واليسارية هنا تعنى المحاولة الدائمة لتجاوز الواقع الراهن نحو مستقبل أكثر جمالاً وعدلاً. ففى فيلم "البحث عن نيمو" تجد السمكة الأب الذى فقد ابنه فى المحيط الواسع، ولأن "ذاكرة" الأب تجعله لا يستطيع أن ينسى أبداً آلامه عندما فقد زوجته وبقية أطفاله فى هجوم سمكة متوحشة، فإن بحثه عن الابن يصطدم دائماً بتلك الذكرى المؤلمة، حتى أنه يميل أحياناً إلى التراجع عن مهمته خوفاً أو يأساً. وهنا يظهر دور سمكة صديقة، يقابلها بالصدفة ليجدها تعانى من حالة فقدان جزئى للذاكرة، فهى سرعان ما تنسى ما حدث لها منذ دقائق معدودة أياً كان حجم الألم الذى عانت منه، لذلك فإنها تبدأ من جديد، بذاكرة بيضاء مستعدة للكتابة عليها مرة أخرى وثالثة وعاشرة، وفى كل مرة تنمحى الذاكرة وتبدو كأنها قد ولدت ثانية فى اللحظة الراهنة. وفى هذا الجمع بين الأب وصديقته، الذاكرة والنسيان، تأكيد شديد الذكاء من صناع الفيلم على أن رحلة "البحث عن نيمو" ما كان لها أن تكتمل لو كان كل منهما بمفرده، فالأب وحده سوف تعجزه الذاكرة المؤلمة الآتية من الماضى عن أن يمضى نحو المستقبل، والصديقة وحدها بنسيانها السريع سوف تسير على غير هدى وبلا هدف، لذلك فإن الذاكرة هى التى تضعنا على خريطة الماضى والحاضر والمستقبل، والنسيان هو الذى يجعلنا نحطم أسوار الماضى لنكمل طريقنا نحو المستقبل، أو فلتقل صنع حاضر جديد. إن هذا الجمع بين الذاكرة والنسيان، أو بالأحرى التفاعل والصراع بينهما، أراه جوهر رحلة محمد خان السينمائية، متجسداً فى العديد من أبطاله تارة، وفى قدرة خان أيضاً على أن "يولد من جديد" مع كل فيلم، حاملاً معه ذاكرة من أفلامه السابقة، لكنه يحمل أيضاً ذاكرة بيضاء جديدة قادرة على الدهشة واكتشاف التفاصيل ـ كأنه لم يرها من قبل ـ لكى يتمكن من اقتناصها و "طبعها" على شريط الذاكرة الجديدة. يروِّج بعض النقاد إلى فكرة أن محمد خان وأبناء جيله من المبدعين السينمائيين ينتمون إلى ما يسمى "الواقعية المصرية الجديدة"، وهو ما أراه تبسيطاً يتجاهل من جانب الفوارق الهائلة فى أسلوب كل منهم وطريقته فى استخدام التقنيات والجماليات، كما يتجاهل من جانب آخر دقة مصطلح "الواقعية" التى أصبحت كلمة فضفاضة منذ أن أطلق عليها جارودى "واقعية بلا ضفاف"، وإذا كان جارودى يقصد "الهدف السياسى" فإنه يبتعد عن "الهدف الجمالى"، فالسياسة فى الفن هى فى حقيقتها "سياسة الفن"، أو بكلمات أخرى أكثر وضوحاً "علاقة الفنان بمادة موضوعه" (مرة أخرى فهى ليست علاقة سياسية وإنما علاقة جمالية)، حيث على الفنان أن يحدد ـ عن وعى أحياناً، وأحياناً بشكل حدسى ـ مكانه (ولا أقول موقفه) من العالم الذى يقوم بتصويره. وإذا أخذت مثالاً يمكن أن يوضح هذه "العلاقة" على نحو أكثر اقتراباً من القارئ، فلتتصور روائياً يريد أن يحكى لنا عن شخصيات بعينها، إن "سياسة الفن" هنا هى التى سوف تحدد له إذا ما كان سوف يأخذ مكان الراوى المحايد، أو ما يطلقون عليه كلى الوجود كلى القدرة Omnipresent, Omnipotent ، فهو يعلم كل شئ عن الشخصيات مسبقاً، وكل ما يفعله هو أن يصفها لنا ويحكى لنا عن أفعالها وانفعالاتها وتفاعلها مع العالم من حولها (تأمل فى ذلك على سبيل المثال قصة تشيكوف القصيرة "موت موظف")، أو ربما يضع الكاتب نفسه مكان إحدى شخصيات الرواية ليتحدث بضمير المتكلم، ليجعلنا نرى العالم من خلال هذه الشخصية وحدها ( كما فى "زوربا اليونانى" لكانتزاكس)، أو قد يختار الكاتب أسلوب "تعدد الأصوات" لكى نسمع ونرى الأحداث ذاتها من وجهات نظر متعددة (كما فى رواية نجيب محفوظ "ميرامار")، أو ربما يجمع بين ذلك كله فى مزيج هارمونى متآلف (والنموذج الأشهر على الانتقالات فى أسلوب السرد والقفز بين الضمائر هو ثلاثية نجيب محفوظ) حتى يتشابك ضمير الغائب مع ضمير المتكلم فى سلاسة لا يكاد القارئ أن يشعر بها. نحن فى "سياسة الفن" لا نتحدث إذن عن "واقعية" فضفاضة (فكل المدارس الفنية واقعية بمعنى ما)، والهدف من هذا الكتاب الصغير هو محاولة تلمس المدرسة الأسلوبية التى يقف على أرضها محمد خان، لكننا بالطبع لا نريد أيضاً "سجن" خان داخل مدرسة أسلوبية بعينها من المدارس الفنية الموجودة فى الكتب، فقد يضع الفنان قدماً على أرض مدرسة فنية وقدماً أخرى على مدرسة ثانية أو ثالثة أو عاشرة، وبالمقارنة مع الرواية فإن تحديد المدرسة الأسلوبية يصبح أكثر صعوبة فى الفن السينمائى (على سبيل المثال، فإن الأفلام التى تتخذ "ضمير المتكلم" فى "كل" لقطاتها تكاد أن تعد فى تاريخ السينما كله على أصابع اليد الواحدة، بينما يحتل هذا الأسلوب مكاناً كبيراً فى فن الرواية)، وفى معظم الأحوال فإن فنان السينما ينتقل من مدرسة فنية إلى أخرى بحرِّية (إن كان ذلك يتم على نحو واعٍ فإنه يصنع أسلوباً متفرداً، أما إذا تم بشكل عشوائى فإنه لا ينتج إلا خليطاً مشوشاً)، بل ربما استعار الفنان السينمائى أساليب من الفن التشكيلى والمسرح والرواية، لذلك تصبح المهمة أكثر صعوبة لكى نحاول "وصف" المدرسة الأسلوبية التى يغلب طابعها على أفلام محمد خان، وإن كان هذا هو المسعى الحقيقى وراء كتابة سطور هذا الكتاب الصغير. وسوف يجد القارئ أننا اعتمدنا فى خوضنا هذه "الرحلة" مع أفلام خان (وكل فيلم لمحمد خان هو "رحلة" بمعنى من المعانى) على الأفلام الروائية الطويلة، لأنها أولاً أكثر اتساعاً فى أفقها بحيث تشتمل على العناصر التى تشكل عالم محمد خان الفنى، ولأن أفلامه الروائية القصيرة تأتى فى سياق "دعائى" لمؤسسة ما، برغم تأكيدنا على أنها لا تخلو من "لمحات" أصيلة من أسلوب محمد خان. كما لا يفوتنى الاعتذار للقارئ عما قد يجده من تكرار بعض الأفكار فى سياق تناولنا لفيلم بعد آخر، وهو التكرار الذى يعود إلى محاولة التأكيد على فكرة بعينها، بقدر ما يعود أيضاً إلى أن بعض أفلام خان تعتبر "تنويعات على لحن واحد"، وهو ما لا يقلل من شأنها أبداً، ولمن يشاء أن يدرك قدر "التنويعات" فى الفن أرجوه أن يعود إلى كل اللوحات التى اعتمدت عبر العصور على "تيمة" واحدة، مثل "صلب المسيح" أو طقوس العمل أو المشاهد العائلية الحميمة أو صور الزعماء والملوك، أو إن شاء فليستمع إلى مقطوعة يوهانس برامز العظيمة "تنويعات على لحن لهايدن". لكن الاعتذار الأهم الذى أعرف أهميته (الحقيقية أو المزعومة) عند مثقفينا ونقادنا السينمائيين هو أن من المؤكد أن كثيراً من الأفكار التى سوف ترد فى هذا الكتاب الصغير سوف يختلف معها البعض ، بينما الحقيقة أن هذا الاختلاف أمر شديد الحيوية فى الفن كما هو فى الحياة، وأى ناقد ليس إلا بشراً، له أفكاره ومواقفه ورؤيته للعمل الفنى، والتى لابد أن تختلف عن رؤية ناقد آخر لنفس العمل، بل إننى أضيف "المشاعر" أيضاً لهذه العوامل التى تتحكم فى "استقبال" الناقد للعمل الفنى، حتى أن بعض النقاد الأمريكيين يذكرون فى مراجعاتهم النقدية مكان وظروف مشاهدتهم للفيلم (لذلك فإننى على سبيل المثال لا أرى الأفلام فى العروض الخاصة التى تكون أقرب فى أجوائها لحفلات أعياد الميلاد والأفراح!)، ومشاهدة الفيلم فى سينما "أوديون" تختلف عن مشاهدة نفس الفيلم فى "سيتى ستارز"، بل إن من المؤكد أن مشاهدتى لفيلم بعد عشر سنوات سوف تختلف عن مشاهدتى الأولى له، لذلك كله، وإذا كنت أختلف مع نفسى، أرجو أن يقبل الآخرون احتمال اختلافى معهم. لقد تعودنا فى مراجعاتنا النقدية على طرق سهلة، إحداها هى أن ننتقد "حدوتة" الفيلم ذاتها، كأن نحكم مثلاً على رجل فى الفيلم تقدم للزواج من عروس ليست مناسبة له، أما الطريقة الثانية فهى الاستلطاف أو عدمه، فذلك فيلم خفيف الظل وآخر "دمه تقيل"، أما الطريقة الثالثة ـ وهى الأخطر من وجهة نظرى ـ فهى تلك التى تدعى "العلم" وتنادى بأن "الناقد قاضٍ" (يا نهار أسود! فكأن الفيلم وصاحبه متهمان ينتظران الحكم بالبراءة أو تحويل الأوراق إلى المفتى!)، وهى تتناول الفيلم بالتشريح بالمعنى الحرفى للكلمة، وتتكرر فيها عبارات بعينها مثل "أما التصوير ﻔ..."، و"أما المونتاج ﻓ..."، وأكاد أجزم بأن ممارسى هذه المدرسة لا يعلمون شيئاً حقيقياً ذا بال عن التصوير أو المونتاج أو قل أنهم أصلاً لا يحبون فن السينما! الحقيقة ـ أو هكذا أراها كذلك ـ هى أن أى عمل فنى هو "كائن حى"، ولكل كائن خصوصيته، وعلى الناقد ـ أو المتلقى بشكل عام ـ أن يتفاعل ويتحاور بحق مع هذا الكائن حتى "يفهمه" قبل أن يقول لنا "رأيه" فيه (قال لك أنا أعرف فلان، قال لك عاشرته؟ قال لك لأ.. يبقى ما تعرفوش)، وبالطبع فإن هذه "العِشرة" خبرة إنسانية، ويجب علينا فى تعاملنا مع العمل الفنى ألا "نقتله" حتى نضعه على منضدة التشريح النقدى، لذلك فإننى لا أرى هناك أى "وصفة" أو "فورمولا" جاهزة بعينها لكتابة مقالة نقدية، فكل مقالة تأخذ بناءها من العمل الفنى ذاته، و"السَّميع" الجيد من وجهة نظرى هو الذى يقول "الله!" عندما يصل إلى السلطنة، يقولها على نفس النغمة والمقام الموسيقيين اللذين يغنى بهما المطرب. ربما قد طالت هذه المقدمة أكثر من اللازم، لكننى سعيت فيها إلى أن "أُدَوْزِن" كما يقول "آلاتية" الفرقة الموسيقية، أى أن أعد نفسى للمقام الذى سوف يعزف عليه محمد خان أفلامه، لكننى أعيد القول بأننى أكدت بهذه المقدمة أيضاً حلمى بأن يتسع صدر القارئ للاختلاف، وإذا كان هذا الاختلاف عميقاً بينى وبينه فعليه أن يلجأ إلى "النسيان"، ويبدأ بنفسه من جديد رحلة البحث فى الذاكرة السينمائية عند محمد خان.

Tuesday, November 19, 2013

السينما المصرية والسياسة.... هل يحكمها المثل العامي: "إبعد عن الشر وغنِ له"؟


علاقة السينما المصرية بالسياسة علاقة معقدة رغم ما تبدو عليه من السطح، فحين يشتعل السياق السياسي بالتطورات العميقة، مثلما هو حادث هذه الأيام، تختفي السينما السياسية تماما كما يبدو في هذا الموسم الأخير! وإذا كانت السياسة تأخذ من اهتمامات الناس الحيز الكبير، فإن السينما تبرر هروبها بأن الجمهور بدوره يريد أن يهرب إلى تسلية تنسيه مشكلات الواقع المتشابكة. لكن هل هذه الحجة حقيقية؟ أم أنها يمكن أن تكون ذريعة لعدم مواجهة المواقف التي تتطلب حسما؟ ربما كان الأمر أكثر تعقيدا من هذين الاختيارين السابقين، ولعله يكمن في بناء السينما المصرية ذاتها، على نحو لا يمكن حتى للسينمائيين "المتمردين" أن يتخلصوا منه تماما. فمنذ ولادتها، أعلن أحد رواد مخرجيها الكبار – أحمد بدرخان – في أحد كتبه، أن السينما الجيدة تدور حول "صراع رجل وامرأتين، أو امرأة ورجلين"، لأن مثل هذا المثلث – الذي كانت له جذوره في حبكة المسرحيات متقنة الصنع في القرن قبل الماضي - يتيح لصانع الفيلم تجسيد تحولات ميلودرامية عاصفة، تجعل المتفرج مشدودا إلى الشاشة. ولم يكن إذن غريبا أن يأتي الفيلم المصري الوحيد، الذي تناول ثورة يناير وتقلباتها، وقد حمل في قلبه هذا الصراع ذاته، دون زيادة أو نقصان!! وكان ذلك هو فيلم "بعد الموقعة" للمخرج الذي اشتهر عنه صنع سينما مختلفة يسري نصر الله، لكنه عندما أراد أن يحكي عن هذا الحدث المهم لجأ إلى الحبكة ذاتها، حين تبحث البطلة الصحفية المثقفة، ابنة الشريحة العليا من الطبقة الوسطى (منة شلبي)، عن الذين اشتركوا فيما تعارفت الصحافة على تسميته "موقعة الجمل"، إذا بها تقع في هوى أحد أبناء الطبقة الفقيرة (باسم سمرة) ممن كانوا مخلب قط في المعركة، ليتحول الفيلم إلى قصة صراع حول الرجل، بين هذه البطلة وزوجة الرجل مهيضة الجناح (ناهد السباعي)، وليضيع أي أثر حقيقي للحدث السياسي، الذي ترك كل المساحة للحدث العاطفي الميلودرامي. ويحلو لبعض صناع السينما المصرية ونقادها أحيانا الاستشهاد بأفلام تتخذ من الصراع السياسي قلبا لها، وعلى رأس هذه القائمة فيلم المخرج خالد يوسف "هي فوضى؟"، الذي يشاع عنه أنه تنبأ بثورة يناير. وبعيدا عن فكرة "النبوءة"، التي لا تصمد أمام ما حدث لهذه الثورة ذاتها من تداعيات، فسوف تكتشف أن جوهر الحبكة يدور في فلك صراع الحبكة التقليدية ذاتها، مع محاولة لإضفاء بعد رمزي خشن، يقول لك أن البطلة الشابة اليافعة (منة شلبي أيضا) ترمز إلى مصر، التي يعشقها على نحو مريض أمين شرطة (خالد صالح)، الذي يرمز بدوره إلى السلطة، وهو حين يعجز عن امتلاكها كما يريد فإنه يحاول اغتصابها، لكن سوف ينقذها من براثنه وكيل النيابة الشاب (حسن الرداد)، الذي يرمز أيضا إلى القانون. كما يأتي فيلم "أولاد العم" ليقول أنه يتحدث عن "الصراع العربي الإسرائيلي"، ويلجأ إلى الحبكة ذاتها، فضابط المخابرات الإسرائيلي (شريف منير) يختطف المرأة المصرية (منى زكي)، بعد أن خدعها أعواما تحت زعم أنه مصري، وتزوجها وأنجب منها، وها هو بعد انتهاء مهمته في مصر يأخذها وأطفالها عنوة إلى "إسرائيل"، ليظهر ضابط المخابرات المصري (كريم عبد العزيز)، الذي يأتي بمعجزات خارقة تفتقر إلى أدنى حدود المنطق، ويخلص بطلتنا وأطفالها ويعود بهم إلى أرض الوطن. يمكنك في هذا الفيلم الأخير على سبيل المثال أن تجعل الإسرائيلي تاجر مخدرات عريقا في الإجرام، ويكون المصري ضابط شرطة، ولن تجد تغييرا في الحبكة على الإطلاق، وهو ما يعني أن "السياسة" بمعناها الحقيقي ليست إلا خلفية يمكنك أن تغيرها بأي خلفية أخرى. وهذا هو الأمر ذاته مع فيلم "أصحاب واللا بيزنيس"، الذي بدأ "تيمة" كواليس عالم الفضائيات، متجسدة في الصراع بين مذيعين مشهورين (مصطفى قمر وهاني سلامة)، مع بعض صراعات أخرى معتادة حول الحبيبات، ويجعل الفيلم نقطة التحول تأتي مع عملية انتحارية، يقوم بها فلسطيني شاب (عمرو واكد)، لكنك سوف تكتشف أنه حادث عارض وليس محوريا في الحبكة، ويمكنك أن تستبدل به أي حدث ميلودرامي آخر. إن هذه السطحية في تناول السياسة تصبح أقرب إلى الهزل الفج، مع فيلمين يندرجان للأسف تحت مسمى "السينما السياسية"، ويلجآن إلى نوع من "الفانتازيا" التي تزيد هذه الفجاجة. الأول هو "يا مهلبية يا" لكاتب السيناريو ماهر عواد والمخرج شريف عرفة، حيث يتلخص الكفاح الوطني المصري في مجموعة من بلطجية أحد "الكباريهات" (هكذا!!)، وفيه ترمز راقصته (ليلى علوي) إلى مصر، وإن أردت الإشارة إلى فلسطين فهي "الكباريه اللي جنبنا" كما جاء على لسان إحدى شخصيات الفيلم!! أما الفيلم الثاني فهو أكثر معاصرة، لكاتب السيناريو والمخرج محمد أمين، وهو "ليلة سقوط بغداد"، الذي يبدو على السطح صرخة لاسترداد حق الشعوب العربية في تقرير مصيرها، لكنه في حقيقته صرخة عواء وخواء جنسي، حين يعيد جذور كل الأشياء إلى حرية الجنس والمخدرات المقيدة عندنا!! ليس هذا في الحقيقة حكما أخلاقيا على مثل هذه الأفلام، بل هو حكم جمالي وفني، فإذا كان أي فيلم يزعم أنه يتناول موضوعا سياسيا، فإنك لا تستطيع أن تغفر له تسطيح "المضمون" لمجرد أن يطرح مثل هذا "الموضوع". وسوف تجد هذا التسطيح ذاته في العديد من أفلام نادية الجندي، التي لن يفيد شيئا أن نذكر كتابها ومخرجيها، فهي في واقع الأمر فيلم واحد بأسماء مختلفة، سواء كانت "48 ساعة في إسرائيل" أو "امرأة هزت عرش مصر" أو الجاسوسة حكمت فهمي"، وهنا أيضا لن يكون "الموضوع" السياسي إلا مبررا لتقديم بطلة خارقة في كل شيء، في الرقص والسياسة على السواء! لكن هناك أفلاما مصرية استطاعت أن تتلمس "المضمون" السياسي بقدر متفاوت من الوضوح والنجاح، لكنك سوف تلاحظ هنا أيضا أنها لم تستطع – أو تجرؤ – على تناول موضوعها بصراحة. تأمل على سبيل المثال فيلما نعتبره كوميديا، لكنه أراد أن يلمس قضية سياسية في فترة كان هذا الأمر محظورا، وهو ما أدى إلى أن الرقابة أن تغير اسم فيلم "شمشون ولبلب" إلى "عنتر ولبلب"، لأنها أدركت أنه يضع الصراع العربي الإسرائيلي في إطار قصة كوميدية شعبية، تدور حول الصراع بين ابن الحارة (شكوكو) والدخيل عليها (سراج منير). تتحول هذه الكوميديا إلى ميلودراما صارخة مع فيلم يوسف شاهين "عودة الابن الضال"، الذي يدور حول عائلة يسيطر عليها الابن الأكبر، بعد أن غاب الابن الأصغر في المعتقلات أعواما طويلة، وبعد أن يعود يبدو مهاودا مهادنا، لكن الصراع الدموي يتفجر في النهاية، في شكل أقرب إلى المذبحة التي لا تبقي ولا تذر. وهي الميلودراما ذاتها التي كان الكاتب أسامة أنور عكاشة والمخرج عاطف الطيب يعشقانها في أفلامهما معا، وعلى رأسها "كتيبة الإعدام"، حول البطل العائد من غيبة طويلة وراء القضبان، بحثا عن المجرم الحقيقي الذي سرق "حرب أكتوبر"، وأودى ببطلنا إلى السجن. سوف تجد ظلالا من هذه الرمزية السياسية في أفلام مثل "آيس كريم في جليم" لخيري بشارة، الذي يتحدث عن جيل التسعينيات الحائر في تحديد هويته، ويريد أن يتحرر من القيود التي يعتبرها تقليدية. أو فيلم "الدرجة الثالثة" لماهر عواد وشريف عرفة، عن الطبقة الفقيرة التي تصبح وقودا للمعارك، لكنها تظل منبوذة عند توزيع الغنائم. أو فيلم "طيور الظلام" لوحيد حامد وشريف عرفة، عن الصراع بين فساد السلطة وانتهازية التيارات التي تتمسح بالدين. وأخيرا فيلم صلاح أبو سيف "البداية"، الأكثر وضوحا في موقفه من نشأة الطبقة الرأسمالية، التي تستغل فقر الشعوب وجهلها، لتزيدها فقرا وجهلا. في مثل هذه الأفلام الأخيرة نجحت السينما المصرية – إلى حد كبير – في أن تعبر الهوة الفاصلة بين الجدية والترفيه، وهوة أخرى أعمق بين حرية التعبير ورقابة السلطة. وإذا كانت الأغلبية الساحقة من أفلام السينما المصرية لا تميل أصلا لتناول السياسة، فهذا ليس فقط من باب "إبعد عن الشر وغنِ له"، لكنه بسبب كسل وبلادة متأصلين، في قطاع كبير من هذه الصناعة، ما يزال ينظر إلى الدراما كلها باعتبارها "صراعا بين امرأتين ورجل، أوبين رجلين وامرأة"!!

Thursday, November 14, 2013

أزمة السينما ... كمان وكمان!!


من جديد تراجع عدد الأفلام المصرية فى هذا العام 2010 إلى أقل من ثلاثين فيلما، بينما كان قد ارتفع خلال السنوات الخمس الماضية إلى ما بين أربعين وخمسين فيلما، وبرغم أن ذلك الارتفاع ظل أدنى كثيرا مما كانت السينما المصرية تحققه فى نهاية الثمانينيات، فقد ظل أعلى مما هبطنا إليه عند نهاية التسعينيات (15 فيلما فى عام 1999!!)، لكن ما تزال هذه الأرقام تعكس الحالة المرضية التى تعيشها السينما المصرية منذ فترة طويلة، على مستوى الكم والكيف معا. ومع ذلك فإننا ننام ملء أجفاننا، نستيقظ أحيانا ونفتح عينا ونتفوه بكلمة، ثم نتثاءب ونعود للنوم ... هذا هو حالنا ليس فقط فى السياسة ولكن فى كافة النشاطات "الإنسانية"، ومنها السينما، التى قد يتصور البعض أحيانا أنها نشاط ترفيهى يمكن الاستغناء عنه إذا كانت الظروف لا تسمح بالرفاهية، وأنا أتفق معهم تماما إذا كنا نطبق بالفعل مفهوم "الأولويات" فى حياتنا، و"على قد لحافك مد رجليك"، لكن السفه الذى نشهده مثلا فى الإنفاق المجنون على التمثيليات التليفزيونية التافهة يجعلنا نسأل: ألم تكن السينما أولى ببعض من هذه الأموال التى تضيع فى الهواء؟ أعلم أن لكل ما سوف أطرحه الآن من أسئلة ردا جاهزا، هو فى الحقيقة اقرب إلى التبرير منه إلى التفسير. خذ مثلا هذا المثال الأخير: العلاقة بين السينما والتليفزيون، فالبعض سوف يقول لك: "واحنا مالنا؟ أصحاب وكالات الإعلان هم الذين يمولون هذه المسلسلات، وهم أحرار فى فلوسهم، فهل تريدنا أن نعود للعصر "الشمولى" ونفرض عليهم ما لا يريدون؟"، وهنا يثور على الفور الموضوع الشائك بين تلك الحرية المنفلتة باسم اقتصاد السوق، وحق "الدولة" (أى دولة) فى أن تضع الضوابط التى تنظم تعارض المصالح الذى يقع فى هذا المجال بين من يصنعون الفن ومن يستهلكونه، ودعنى ياقارئى العزيز أذكرك أن الجهات المسئولة عن الإعلام في الدول المتقدمة تضع ضوابط في هذا الشأن، فهي تحدد حدا أقصى للفترة الإعلانية كل ساعة، كما تلزم القنوات التليفزيونية بفترات محددة للإعلانات سواء فى ساعات الليل أو النهار، والأهم هو التشجيع على إيجاد مصادر أخرى للتمويل تستطيع أن تقلل من اعتماد هذه المحطات على الإعلانات، بل يذهب الأمر إلى أن يكون أحد أهم مصادر تمويل القنوات التليفزيونية هو الاشتراك فى إنتاج الأفلام السينمائية، وأرجو من يهمه الأمر أن يراجع العناوين الأخيرة فى أى فيلم سينمائى أوروبى أو لاتينى (أو حتى إسرائيلى)، ويعد كم محطة تليفزيونية اشتركت فى إنتاجه. أريد فى الحقيقة من مقالى هذا أن أشارك بجهد متواضع فى فض العديد من الاشتباكات حول مسألة السينما المصرية وما تعانيه، وأنا لا أزعم مطلقا أننى "جبت الديب من ديله"، بل على العكس أؤكد دائما أنه لا يجب علينا أن نخترع العجلة من جديد، وأن نتعلم من كل تجارب الآخرين، الأصدقاء منهم والأعداء، نتعلم منهم كيف ننجح، وكيف نحقق أهدافنا، وإن كان لزاما علىّ أن أعترف أيضا أن التفاؤل ليس كبيرا فى تحقيق أية أهداف فى المستقبل القريب، فقد وصلنا فى كل مجالات حياتنا إلى حالة من الشيخوخة الحقيقية والمعنوية، حالة من الاستسلام القدرى لما يصنعه الآخرون فينا وبنا، ولأن العزيمة تنقصنا – مع افتخارنا بفيلم مصرى قديم يدعى "العزيمة"! – فإننى أوجه كلماتى هذه إلى جيل جديد، لعل الخطوط المشتبكة، والقضايا الملتبسة، تنحل عقدتها، ليملك هذا الجيل يقينا مفقودا فلا يردد فى النهاية مقولة: "وأنا مالى؟ ياعم مفيش فايدة". 1- هل السينما ضرورة أم رفاهية؟ نتصور أحيانا أن السينما مجرد أفلام تُعرض، وجمهور يتفرج، وما دام ذلك يتحقق فى عشرات القنوات الفضائية فأين المشكلة إذن؟ أرجو هنا أن نعود لما كتبه رائد علم وسائط الاتصال مارشال ماكلوهان منذ أكثر من نصف قرن عن الفروق الجوهرية بين السينما والتتليفزيون، خاصة على مستوى التلقى، لقد أسمى التليفزيون وسيطا باردا بينما السينما وسيط ساخن، وبكلمات أخرى فإن السينما (المعروضة فى دار العرض) تخلق حالة من الكثافة الشعورية والذهنية (على مستوى الوعى واللاوعى على السواء) لا تتحقق فى التليفزيون، الذى نراه بشكل متقطع ودون تركيز كبير، وفى الأغلب ونحن فى حالة وحدة يزيدها التليفزيون شعورا بالعزلة واللامبالاة، على عكس السينما التى تخلق حالة من النشوة، سواء فى الأفلام الكوميدية أو المأساوية. إن أى فن فى الحقيقة "ظاهرة اجتماعية"، وعندما تغيب الديمموقراطية مثلا يختفى المسرح الحقيقى، وعندما يسود مبدأ "فلينجُ كل منكم بنفسه من الطوفان" يكون التليفزيون، وليس السينما، هو وسيلة الترفيه الوحيدة والسائدة. 2- هل يمكن للدولة أن تتدخل فى تنظيم علاقة السينما بالمتفرج؟ ليست الإجابة هى أن من "الممكن"، بل من "الواجب". ودعنى أتوقف معك هنا قليلا ياعزيزى القارئ وأسألك سؤالا قد يبدو ساذجا: ما هى الدولة؟ إنها ذلك الكيان الذى نصنعه أنا وأنت (إنها ليست مُنزَّلة من السماء كما قد توحى لك السلطة الديكتاتورية الدنيوية أو الدينية)، كيان نصنعه لكى يقوم بالنيابة عنا بما لا نستطيع أداؤه بمفردنا، سواء فى القضاء، أو التشريع، أو تصريف أمور الحياة الجماعية. بل أؤكد لك أن "عسكرى المرور" هو أحد مظاهر الدولة، أى دولة، فإذا قبل الرشوة كانت الدولة فاسدة، وإذا فرض نفسه بلطجيا يجمع الإتاوات كانت الدولة نظام جباية لا نظام حماية، وإذا اختفى كان هذا يعنى أنه لا وجود للدولة، وأن رجالها مشغولون باستغلال مواقعهم فى السلطة لتحقيق مصالح شخصية بدلا من القيام بتنظيم أمور حياتنا، وهكذا يختلط الحابل بالنابل فى الشارع، كما يصبح الاقتصاد "سداح مداح" كما أطلق عليه الراحل العظيم أحمد بهاء الدين. وأرجو ألا تصدق لحظة واحدة أكذوبة الاقتصاد الحر التى يروجون لها، فهى من جانب تسمح لرجال العصابات بالثراء الفاحش حتى من خلال بيع الوطن قطعة قطعة أو تأجيره مفروشا، ومن جانب آخر تجعلنا من الدول التابعة التى تأخذ أوامرها من صندوق النقد والبنك الدوليين (الذى نفتخر أن بعض مسئولينا ترقوا فيه دليلا على إذعانهم لأوامره على حسابنا)، فى الوقت الذى تنفذ فيه أعتى الدول الرأسمالية حماية على اقتصادياتها، وتنظيما للعلاقات بين المنتجين وبعضهم البعض، وبين المنتج والمستهلك. 3- كيف ينطبق ذلك على السينما؟ إنك لو ذكرت أو حتى لمَّحت إلى ضرورة تدخل الدولة فى تنظيم صناعة السينما لطاردتك على الفور فلول من يرددون أن تجربة "مؤسسة السينما" فى مصر كانت فاشلة، ولن أدخل هنا فى جدل حول هذا الأمر، وإن كنت أتمنى أن يعود هؤلاء إلى ذكريات مخرجنا الكبير توفيق صالح لعلهم يجدون فيها الإجابة. لكننى أقول أننى انتهيت لتوى من قراءة دراسة حول السينما البرازيلية، التى عانت فى النصف الأول من التسعينات من انتكاسة خطيرة حتى أنها لم تنتج فى عام 1992 إلا فيلمين فقط، وفى منتصف هذا العقد انتبهت الدولة إلى سن تشريعات (حقيقية ومدروسة ومطبقة وليست حبرا على ورق) أدت إلى نهضة سينمائية كبرى، وكان أهم هذه التشريعات ما يلى: أولا إنشاء بنك مهمته تمويل الجزء الأكبر من إنتاج السيناريوهات المتميزة، وثانيا مشاركة وزارة الثقافة بتقديم دعم مالى أو تقنى لهذه المشروعات، وثالثا تقديم كل التسهيلات للتوسع فى إنشاء دور العرض المتعددة الصغيرة (مالتيبليكس) فى كل ضواحى المدن الكبيرة والصغيرة، ورابعا إسهام وزارة التعاون الدولى فى خلق فرص للإنتاج المشترك مع دول وجهات أجنبية، وخامسا إقامة مهرجان قومى حقيقى (وليس صوريا) تُمنح فيه جوائز فى صورة دعم أكبر لإنتاج المشروعات القادمة للمخرج ذاته، ضمانا لاستمرار صانع الفيلم المتميز فى الإبداع ... وهناك إلى جانب تلك التشريعات قواعد أخرى قد لا يتسع المجال لحصرها. 4- من الذى سوف يقوم على تنفيذ تلك الخطط فى حال إقرارها؟ هنا سوف أجد نفسى مضطرا للدخول إلى منطقة ملغومة على نحو ما، فكلما تلفت حولى باحثا عن جهة ما مسئولة بالفعل عن السينما لم أجد وكأن السينما طفل لقيط بلا أب. إننى أؤكد منذ البداية أن "الحكومة" يجب أن تبتعد عن هذا الأمر تماما، فالتشريعات التى أتحدث عنها تقوم بسنها السلطة التشريعية فى الدولة (مجلس الشعب يعنى، لكن ليس من نوعية مجلسنا الموقر)، لتقوم "هيئة" مستقلة بتنفيذها، لا تأخذ أوامرها من الوزراء أو أى جهة أخرى فى السلطة التنفيذية، ولأضرب لك مثلا بأن هيئة الإذاعة البريطانية ليست تابعة لـ"الحكومة" وإنما للدولة، وبين الحكومة والدولة فرق كبير كما أتمنى أن تكون قد عرفت الآن، تماما كما أن "هيئة الأغذية والأدوية إف دى إيه" فى أمريكا ليست تابعة لوزارة الصحة. إذن من؟! غرفة صناعة السينما؟ نقابة السينمائيين؟ لجنة السينما بالمجلس الأعلى للثقافة؟ أنظر حولى فلا أجد إلا صحراء قاحلة، أناسا مشغولين إما بمصالحهم كأفراد، أو بمصالح فئوية ضيقة، أو مجموعة ممن لا يحلمون بأى غد فهم لا يعرفون إن كانت شمس الغد سوف تشرق عليهم. منذ أسابيع قليلة سمعنا أن هناك استعدادا لإقامة مؤتمر للمثقفين، ثم لا شىء، صمت مطبق، لا المثقفين استعدوا ولا وزارة الثقافة أعادت العرض، ولأنى متأكد أن وزارة الثقافة فى وضعها الحالى لا تعبأ كثيرا بمضمون حقيقى لمثل هذا المؤتمر، فقد كنت آمل فى أن يتلقف الفكرة مثقفو السينما – ربما من خلال نقابتهم – لصياغة مشروع متكامل الرؤية حول الوضع الراهن وسبل الخروج منه، ولكن "لا حس ولا خبر"، ومرة أخرى فإن ذلك يعود فى رأيى إلى حالة الشيخوخة الجسمانية والمعنوية التى نعانى منها، ولأن الشىء بالشىء يذكر أعترف أننى لم أكن أتصور أن لجنة السينما بالمجلس الأعلى للثقافة تضم عددا هائلا من "العواجيز"، تعطيهم مقابلا هزيلا لحضور اللجان، فكيف لك أن تنتظر منهم أن يدافعوا عن المستقبل؟ (للتوضيح فقط: لست عضوا فى أى من هذه اللجان، ولن أكون، فلست أقل شيخوخة ممن أتحدث عنهم). والحل: ربما ينتبه بعض من أبناء الأجيال الأصغر فى نقابة السينمائيين (بعد أن تصبح النقابة للسينمائيين بالفعل) إلى أن مسئولياتهم الحقيقية تفرض عليهم تكوين تيار ينادى بإصلاح السينما بحق، والتفكير بشكل جماعى، والاستعانة بنماذج من دول قريبة فى أوضاعها السياسية والاقتصادية والثقافية منا، ووضع مشروعات محددة الرؤية والهدف والوسائل، وسوف تبقى دائما فى مصر مشكلة اختيار الأشخاص القائمين على التنفيذ، وأرجو أن يبحث الشباب عمن يتولون من بينهم هذه المهمة داخل الهيئة المفترض وجودها، وأن يكون من حق أعضاء النقابة تغيير هؤلاء الأشخاص بشكل ديموقراطى إذا لم يفوا بالمأمول منهم من إصلاح. 5- ما دمنا قد تعرضنا لمسالة الديموقراطية فلابد من تنقية القوانين المتعلقة بالسينما من كل ما يعوق حرية التعبير التى تكفلها كل دساتير العالم ومواثيق حقوق الإنسان، لذلك لا ينبغى أن تكون "الرقابة" تابعة لوزارة الثقافة (الحكومة يعنى) كما سبق القول بشأن مثل هذه الهيئات، والجهة الرقابية فى أمريكا مثلا هيئة تابعة لرابطة منتجى السينما أنفسهم، وهى ليست منوطة بالمنع وإنما بالتصنيف، لكى تضمن فقط ألا تتعرض شريحة ما من الجمهور لما يُفضَّل ألا تتعرض له. إن ذلك سوف يفتح أفاقا لحرية التعبير بما يحقق حالة من التجدد فى السينما المصرية التى باتت على أبواب الخروج من التاريخ. وفى هذا السياق أذكر ذلك القانون الشاذ بمنع التصوير فى الشارع إلا بتصريح من وزارة الداخلية، بما يذكرك بتلك اللافتة الساذجة على جدار ما: "ممنوع الاقتراب والتصوير"!! يحدث ذلك بينما يستطيع أى إنسان أن يدخل على الإنترنيت ليرى صور الأقمار الاصطناعية للشارع الذى يسكن فيه، لكن ضريبة هذا القانون المتخلف والمجحف تقع على عاتق الفنان السينمائى الذى يمكن لأى عسكرى أن يصادر كاميرته أو حتى يكسرها، وهو ما يفسر لك على سبيل المثال كيف أن الفيلم التسجيلى والقصير ماتا فى مصر (أو على الأقل أصبحا كالمومياء المحنطة)، بينما هما فى حالة ازدهار فى العالم كله. 6- تقام المهرجانات السينمائية فى دول العالم الجادة (ودعك من تلك المهرجانات التهريجية فى دول لا تجد ما تفعله بأموالها، وعلى رأى المثل المصرى: "اللى معاه قرش محيره، يشترى حمام ويطيره")، أقول تقام المهرجانات من أجل تحقيق نهضة حقيقية للسينما، لكننا ما نزال نقيم المهرجانات المحلية والعالمية دون أن نجد لها أى أثر فى صناعتنا السينمائية، مرة أخرى لأن وزارة الثقافة وحدها هى التى تقيم هذه المهرجانات بروح الموظفين فى أغلب الأحوال، أو من وجدوا لأنفسهم دورا ووجاهة وسلطة بعد أن كانوا مجرد "سكرتارية" لا يعرفون عن السينما شيئا حقيقيا. لا أدرى بحق ما هى الفائدة التى تعود على السينما المصرية من مهرجان القاهرة السينمائى مثلا: فائدة فنية؟ سياحية؟ سياسية؟ أشك، فلا نحن نشاهد أفلاما يشاهدها العالم كله (أرجو من نقادنا فى نهاية كل عام أن يراجعوا قوائم النقاد العالميين لأفضل عشرة أفلام، ويسألوا أنفسهم كم شاهدوا منها)، وعلى المستوى السياحى فقد اختار مهرجان القاهرة هذا العام إقامة برنامج خاص عن "مصر فى عيون العالم" من خلال الأفلام، فجاءت معظم هذه الأفلام المختارة من نوعية إظهار المصريين فى صورة راكبى الجمال وساكنى الخيام وأعضاء عصابات التهريب، والكومبارس الذى يجب أن يموت لكى يعيش البطل الغربى! وعلى المستوى السياسى فقد حدثت فى الآونة الأخيرة نكتة سوداء سخيفة، إذ قيل أن مهرجان أبو ظبى قد دعا منتجة بريطانية يقال (تكرار المبنى للمجهول مقصود) أنها افتخرت فى مؤتمر صحفى بجنسيتها الإسرائيلية، وعلى طريقة "قالوا له" هاج البعض وماج دون أن يتأكد أحد منا من الواقعة. قارن ذلك بواقعتين حقيقيتين هذه المرة: المخرج البريطانى الشهير مايك لى قرر إلغاء ذهابه لإسرائيل اعتراضا على مشروع "قَسَم الولاء" الذى تحاول إسرائيل فرضه على كل "سكانها" باعتبارها "دولة يهودية"، مع العلم أن مايك لى يهودى. أما الواقعة الثانية فهى الحملة الشعواء التى يتعرض لها جان لوك جودار (وهو من هو فى تاريخ السينما) من جانب وسائل الإعلام الإسرائيلية، اعتراضا منها على منحه جائزة الأوسكار القادمة عن مجمل أعماله، بتهمة "عدائه للسامية"، وهى الترجمة الإسرائيلية لمناصرة القضية الفلسطينية. ومع ذلك فإن أحدا فى مهرجان القاهرة السينمائى لم يفكر فى دعوة أى من هذين السينمائيين الكبيرين. استيقظوا يرحمكم الله!! 7- أخيرا: هل من مستقبل؟ لا أجد هذا المستقبل إلا فى معهد السينما، الذى شاخ بدوره بعد أن أكل الدهر عليه وشرب، وقد تخلف كثيرا عن التطورات التقنية والجمالية للسينما فى العالم كله، وأصبح الالتحاق به مرهونا بعوامل ليس من بينها الموهبة والقدرة، مع أنهما الشرطان الأساسيان وربما الوحيدان للتقدم فى أى مجال على الإطلاق (ولعل ذلك يفسر لك التخلف الذى نعانيه الآن فى جميع المجالات). وليس هناك من حل إلا ثورة حقيقية فيه، ليس فقط على مستوى "العِدد والآلات" كما يتصور البعض، وإنما عن طريق مناهج دراسية نظرية وعملية متطورة بحق، وضرورة (أكرر: ضرورة) الاستعانة بكبار صناع السينما فى العالم، واستقدامهم كأساتذة يتولى كل منهم دفعة بأكملها منذ التحاقها وحتى تخرجها، مع إرسال بعثات جادة لمراكز صناعة وتدريس السينما فى البلدان المتقدمة فى هذا المجال. عزيزى القارئ، هناك الكثير لنصنعه فى هذا المجال، وقد لا يملك المسئولون الحاليون الإرادة أو حتى الرغبة فى تحقيق أى شىء، لكن كما فى كل أمور الحياة لابد أن يدافع أصحاب المصلحة عن مستقبلهم، فهذا الجيل الشائخ الشائه سوف يزول قريبا، ولا يجب أن نترك أمورنا فى أيدى ورثة هذا الجيل الذين سوف يجعلون هذه الشيخوخة المشوهة علامة على مصر فى أدنى مراحل تحللها فى التاريخ المعاصر. هل نريد سينما أفضل، ووطنا أكثر جمالا وعدلا؟ المشوار طويل نعم، لكن إما هذا أو الرضا بالموت ونحن على قيد الحياة!!

Wednesday, November 13, 2013

البلطجي بطلا... أزمة سينما أم أزمة مجتمع؟


في كل صناعات السينما في أنحاء العالم المختلفة، كانت سينما العنف تشكل رافدا مهما من الأفلام التجارية، وكان هذا يعود في الجانب الأكبر منه إلى أن هذا الفن يعتمد على الإيهام بحركة الصورة، فكلما كانت الحركة أوضح كان الفيلم أقوى تأثيرا، خاصة على المستوى "الفسيولوجي" للمتفرج، الذي ترتفع عنده نسبة "الأدرينالين" إلى حدود ربما لا تحدث في الحياة اليومية، وربما كان هذا يفسر كيف أن أفلام الحركة تصبح لدى البعض أقرب إلى "الإدمان"، لأن جسده قد اعتاد على إفراز هذا الهورمون، ويشتاق دائما لزيادته. لكن العنف قد يكون أيضا ناتجا عن تأثير اجتماعي، فهو قد يعود إلى جذور تاريخية في تكوين المجتمع ذاته، مثل أمريكا التي قامت أصلا على إبادة السكان الأصليين، ثم سلسلة من الحروب الأهلية بالغة الدموية التي استمرت حتى بدايات القرن العشرين، لذلك أصبح العنف "لغة" سائدة، وهو ما انعكس في السينما في نمطين فيلميين جماهيريين، هما "الويسترن" ببطله راعي البقر أو "الشجيع"، وفيلم رجال العصابات حيث يصعد زعيم العصابة إلى القمة على جثث العشرات من الأعداء بل الأصدقاء أيضا. وعلى النقيض، تسلل العنف إلى السينما اليابانية في شكل أفلام "الساموراي"، وهم الفتوات المسلحون الذين يستأجرهم الضعفاء للدفاع عنهم، فهم في هذه الحالة أقرب إلى فعل الخير، والحنين إلى زمن ماضٍ لم يعد له وجود في ظل التحديث المعاصر. ومن المثير للاهتمام أن السينما المصرية لم تعرف هذا العنف إلا بعد عقود من ولادتها، على عكس صناعات سينمائية أخرى بدأت به، وفي الأغلب كان هذا انعكاسا لمجتمع لا يرى أن العنف وسيلة لتحقيق المطالب، وكثيرا ما تشهد في الأفلام المصرية القديمة دعوات للصبر على المكاره، ويسمون ذلك نوعا من "العزيمة" مثلا كما في أهم أفلام السينما المصرية التقليدية. غير أن العنف ظهر على استحياء في شكل الأفلام التي أطلقوا عليها أفلاما "بدوية"، حيث السيف فقط هو الوسيلة، وإن كان في ذلك مغازلة لقيم "الفروسية" القديمة في الوجدان العربي، وليس تكريسا للعنف ذاته. ويمكنك أن تقول إن هذا "الفارس" ارتدى ثوبا جديدا في الخمسينيات، مع ما عرف آنذاك بأفلام "الفتوات"، التي يأتي "فتوات الحسينية" على رأسها، لكن الفتوة هنا رمز لقوة الخير التي تحارب قوى الشر، وربما تحول الفتوة ذاته إلى الشر إذا استولى الطغيان على روحه وعقله، غير أنه كان دائما يشير إلى زمن قديم، فيه مزيج من الواقع والأسطورة، وهو ما حدا بالروائي العظيم نجيب محفوظ (وهو ذاته كاتب سيناريو "فتوات الحسينية") أن يجعل الفتوة – الطيب أو الشرير- شخصية مهمة في أعماله، بل إن تنويعات الفتوة تصبح هي جوهر عمله الملحمي الأشهر "الحرافيش"، الذي استمدت منه السينما المصرية العديد من الأفلام في عقد الثمانينيات، وقع أغلبها في دائرة أفلام العنف والحركة، لكن فيلما مثل "الجوع" يتحول إلى دراسة لأسباب اللجوء للفتوة، عندما يغيب العدل الاجتماعي. ودائما ما كان هذا البطل الفردي يلقى استحسانا من الجمهور، خاصة فيما تعارفنا عليه باسم جمهور "الترسو"، حيث يكون عنف هذا البطل تفريغا لشحنة القهر والعجز لدى المتفرج، ولهذا السبب ذاته كان النقاد والمثقفون يرفضون هذا النوع من العنف، الأقرب إلى التخدير منه إلى التنوير أو التطهير. ومع ذلك لم تتوقف السينما المصرية عن العودة إلى مثل هذا البطل الصعلوك، المجرم، البلطجي، بين الحين والآخر، وإن كان ذلك بشكل متناثر ولأسباب متباينة. ففي فترة الخمسينيات كانت هناك مثلا محاولة لتفسير السلوك الإجرامي، لا تخلو من الميلودراما الفاقعة الفاجعة، في فيلم "جعلوني مجرما"، بينما كانت "موضة" أفلام الكاراتيه وفنون القتال الأسيوية سببا في الثمانينيات والتسعينيات في ظهور أفلام مصرية تقلدها، خاصة في أفلام لاعب الكونج فو (الذي يفتقد موهبة التمثيل تماما) يوسف منصور، مثل "العجوز والبلطجي" و"قبضة الهلالي"، أو عندما أصبح لاعب كمال الأجسام الشحات مبروك نجما سينمائيا للعديد من افلام المقاولات، مع أنه تم استخدامه في عمل ناضج كان يحمل اسم "المرشد"، وأخيرا فإن الممثل الموهوب أحمد زكي جرب حظه في هذا المجال دون إقناع كبير في "مستر كاراتيه". وفي كل الأفلام السابقة وتنويعاتها، كان الفتوة أو البلطجي في السينما المصرية نوعا من الاستثناء وليس القاعدة، وهو يظهر أحيانا لكنه لا يلبث أن يختفي، وربما كان فيلم "أقوى الرجال" المقتبس عن المسرحية التركية "وحش طوروس" يفسر ذلك: إن البلطجي نوع من الوهم وليس حقيقة، والناس تخاف منه بسبب الأساطير الكاذبة الملفقة التي حيكت حوله، لكنه في الحقيقة شخص هش ضعيف، فكأن ذلك يعبر عن عمق الشك في نفوس الجمهور المصري والعربي تجاه أسطورة وسطوة الفتوة. بل إن الأمر يأخذ منحى مختلفا تماما، عندما أصبح عادل إمام بطلا جماهيريا، ليس لأنه تكرار مثلا لوحش الشاشة فريد شوقي، بل لأنه النقيض له، إنه الذي يأخذ حقه بما يتمتع به من دهاء و"فهلوة"، وعندما كان عادل إمام يرتدي ثوب الفتوة البلطجي الشجيع، كما في "شمس الزناتي" مثلا، فإنه كان يلقى تجاهلا من الجمهور، وهذا هو السبب في عودته بعد ذلك إلى تنويعات جديدة من البطل الفهلوي، بدءا من "اللعب مع الكبار". فجأة، ومنذ أربعة أو خمسة أعوام، طفت على سطح السينما المصرية أفلام بالغة العنف، تقدم بلطجيا من نوع جديد، وربما كانت الجملة الشهيرة لأحمد السقا في فيلم "الجزيرة" تلخص فلسفة هذا البطل وأفلامه: "من النهارده مفيش حكومة، أنا الحكومة"!! وكان ذلك إيذانا وإعلانا صريحا بمرحلة جديدة ليس في السينما المصرية فقط، بل في المجتمع المصري كله: خذ حقك بيدك، لأنه لا وجود لسلطة تأخذ لك هذا الحق!! ومنذ تلك اللحظة طفا على السطح وجود (حقيقي أو زائف) للبلطجي، وأصبحت بعض الدوائر السياسية تستخدم هذا الوجود (صدقا أو كذبا) لتفسير العديد من الأحداث الدموية الغامضة، التي قد تكون في الحقيقة من تدبير بعض هذه الدوائر، وليس البلطجية سوى أداة يتم استئجارها لتنفيذ مهام قذرة ما. وهكذا ظهر "ابراهيم الأبيض"، أكثر الأفلام دموية في تاريخ السينما المصرية، استأجروا له "خواجة" من مخرجي "الوحدات الثانية" المسئولة عن تنفيذ مشاهد "الأكشن"، ليصبح الفيلم سلسلة من هذه المشاهد، تربطها شخصيات لا يمكن أن تكون موجودة في الحقيقة، وحتى لو كانت موجودة فإن مكانها ليس على شاشات السينما، بل في المصحات العقلية أو وراء أسوار السجون. وفي الوقت ذاته، كان هذا الفيلم وما تلاه من نوعيته، تفريغا لشحنة العنف التي تتزايد في نفوس قطاع من المتفرجين، نتيجة تجاهلهم على المستوى الاقتصادى والاجتماعي والسياسي. لا يجب إذن أن يبدو من المستغرب أن تحتشد الأفلام المصرية الأخيرة بمثل هذا النوعية، ومثل هذا البطل، مثل "عبده موتة" و"قلب الأسد" و"القشاش"، فالأغرب ألا تظهر، وفي سياق ضعفت فيه إلى حد كبير قبضة السلطة في تحقيق التوازن بين الطبقات الاجتماعية المختلفة أو المتناقضة، وفي أجواء تخلت فيه الجهات المنوط بها تحقيق العدالة أو إنصاف المظلوم عن مسئولياتها، وفي ظل غياب متعمد أو غير متعمد لسيادة القانون، لا يمكنك أن تلوم الجمهور لأنه يذهب الآن (برغم أنه لم يكن يفعل ذلك في السابق بمثل هذا الفيضان الجارف) ليرى تلك النوعية من الأفلام، وليعيش في حلم يقظة عن انتصار وهمي لأحلامه، بل وجه اللوم أولا للسياق الذي جعل هذا الجمهور يلجأ لذلك، والأهم هو توجيه اللوم لمن استخدم من السياسيين مصطلح "البلطجي" بإفراط بالغ، وربما أيضا لمن يمارسون البلطجة على المسرح السياسي!!

Wednesday, November 06, 2013

السينما التسجيلية العربية...... بين التوثيق والدهشة!!


تعيش السينما التسجيلية في العالم العربي مفارقة غريبة، فبينما أصبحت الأفلام التسجيلية الطويلة في بلدان العالم المتحضر مادة أساسية تعرض تجاريا في دور العرض، وتنال نجاحا جماهيريا ونقديا كبيرا، وبينما تتزايد كل يوم أعداد القنوات التليفزيونية المتخصصة في تقديم أنواع مختلفة من المادة التسجيلية، كادت هذه السينما أن تختفي من قاموسنا، وعندما تظهر ففي شكل "ريبورتاجات" مصورة تخلو من أي جهد جمالي، وبلغ بالبعض من نقادنا المدى أن يعلن في ثقة، تدل على غياب كامل عما يحدث في السينما العالمية، أن السينما التسجيلية في العالم كله قد ماتت!! يمكنك أن تقارن بين هذا الادعاء الباعث على السخرية، والمواقع الأجنبية المتخصصة في تجميع المقالات النقدية عن الأفلام (وأشهرها هو موقع ميتاكريتيك)، وسوف تكتشف أن الدرجات الأعلى من التقييم النقدي كل عام تأتي لصالح عدد من الأفلام التسجيلية الطويلة. ومنذ سنوات قليلة مضت، حقق الفيلم الفرنسي "الهجرة المجنحة" رقما قياسيا في شباك التذاكر الفرنسي، وهو الفيلم الذي يتتبع مسيرات الطيور في هجراتها بين بلدان العالم المختلفة، ليلحق به بعد شهور فيلم "مسيرة البطاريق"، هذه المرة عن هجرة هذا الحيوان القطبي إلى المناطق المتجمدة. وبالطبع فإن هذه الأفلام تحقق رغبة عند المتفرج في ارتياد أراضٍ وعوالم جديدة، وهذا جانب من جوانب استخدامات السينما التسجيلية: إثارة الدهشة، تلك الدهشة التي بدأت مع مولد السينما ذاتها بالقرب من نهاية القرن التاسع عشر، عندما قام الأخوان لوميير (أوجست ولوي) بتصوير بعض من مشاهد الحياة اليومية: عمال يخرجون من مصنع، أو قطار يصل إلى المحطة، وبرغم أنها لقطات لا تبدو غرائبية لنا اليوم، فقد كان غريبا على الجمهور آنذاك أن يشاهد "الحركة" على شاشة. وسرعان ما أدرك الأخوان لوميير تلك المزية الوثائقية في اختراع السينما، فأرسلا المصورين إلى بلدان العالم المختلفة، لتصوير لقطات تجعل المتفرج ينتتقل إلى عوالم بعيدة وهو جالس على كرسيه، وكان من بين هذه اللقطات صور لأهرام مصر وأبي الهول. وذلك مصدر آخر للدهشة في السينما التسجيلية، أن ترى وتعيش تجارب "حقيقية" وإن كانت بعيدة عنك، بحكم المسافة والثقافة. ومع تطور التقنيات السينمائية اتسع أفق التسجيل والتوثيق، وكان من أهم هذه التقنيات اكتشاف قدرة "المونتاج" على إعادة تشكيل الواقع بشكل فني، حتى أن مجال السينما التسجيلية أصبح أقرب للتجريب من السينما الروائية ذاتها، لتظهر في عشرينيات القرن العشرين ما يسمى "سيمفونيات المدن"، التي كان من أشهرها "برلين، سيمفونية مدينة"، حيث يسجل الفيلم في ساعة أو أقل أو أكثر قليلا، "إيقاع" الحياة اليومية. كما تم اكتشاف أهمية السينما التسجيلية للأغراض السياسية الدعائية، خاصة خلال فترات الصراع والحروب، ليأتي على قمة هذا النوع من السينما التسجيلية فيلم "أوليمبيا"، الذي يبدو في ظاهره تسجيلا وتوثيقا لدورة برلين الأوليمبية في عام 1936، لكنه وباستخدام جماليات زوايا التصوير، وتغيير سرعة عرض اللقطة، وتتابع الصور على الشاشة، خلق قصيدة عن تفوق الجنس الآري، للدعاية عن سياسة هتلر النازية!! وهكذا أدرك السينمائيون القدرة المزدوجة للسينما التسجيلية، قدرة على تسجيل الواقع، وأخرى على التلاعب به، لتظهر مدارس سينمائية عديدة في بلدان وسياقات مختلفة، من أهمها مدرسة جريرسون في بريطانيا، الذي أشرف على وحدة للسينما التسجيلية، وأنتج عشرات الأفلام، أكثرها يحمل تعليقا منطوقا مباشرا، لكن بعضها اختار أن يأتي التعليق الصوتي "موازيا" للصورة وليس مطابقا لها، مثل فيلم "أغنية سيلان" الذي كان شريط الصوت فيه يحمل قصيدة للشاعر أودين. وبينما استمرت مدرسة جريرسون في التأثير على السينما التسجيلية في أنحاء مختلفة من العالم، تضاءل هذا التأثير مع تطور تقني آخر، عندما تم في الستينيات تصميم كاميرات خفيفة ومعدات تسجيل صوت محمولة. ومن هنا ولدت مدرستان في السينما التسجيلية: سينما الحقيقة في أوربا، والسينما المباشرة في أمريكا، تعتمدان كلاهما على تصوير أكثر اللحظات رهافة في الواقع، على نحو أكثر صدقا من أي شرائط سينمائية سابقة، بينما كان الفرق بينهما أن سينما الحقيقة لا تتدخل مطلقا في الموضوع الذي يتم تصويره، على حين تختلق السينما المباشرة مواقف تكشف أكثر عن هذا الموضوع، وكان النموذج الشائع لها هو الكاميرا الخفية". وكلما تزايدت إمكانات السينما، التقنية والجمالية، كانت الأفلام التسجيلية تكسب أرضا جديدة، ويتسع أفق استخداماتها. فإذا كان فلاهرتي في العشرينيات والثلاثينيات قد وجد صعوبة بالغة في تصوير أفلام عن القطب الشمالي (في "نانوك من الشمال") أو عالم الصيادين في اسكتلندا (في "رجل من آران")، حتى أنه كان يضطر أحيانا لصنع الواقع لا تسجيله المباشر، فإن الفرنسي جان روش أخذ كاميرته في الخمسينيات والستينيات إلى عالم القبائل البدائية، ليقدم تسجيليا "أنثربولوجيا" علميا وأصيلا مائة في المائة، كان له تأثير عميق حتى على السينما الروائية، التي بدأت تكسر الحاجز الفاصل بينها وبين السينما التسجيلية، لتظهر أفلام الفرنسي جان لوك جودار، التي ينطبق عليها أكثر اسم "المقال" أو "البحث". ولأن التاريخ يحمل أحيانا تناقضات ساخرة، فقد ظهر تأثير السينما التسجيلية على السينما الروائية واضحا في منتصف الأربعينيات، هذه المرة بسبب ضعف الإمكانات التقنية!! ففي إيطاليا المدمرة ما بعد الحرب، وجد السينمائيون الإيطاليون أنفسهم أمام صناعة سينما متهالكة، وليس أمامهم إلا استخدام ما تبقى في العلب من الفيلم الخام، والتصوير في الشوارع بإضاءة طبيعية لا تسمح بضبط الإضاءة كما يحدث داخل الاستوديو، والاستعانة بممثلين غير محترفين، لتولد من ذلك كله مدرسة "الواقعية الجديدة"، التي تركت بصماتها على الكثير من صناعات السينما في العالم. كان هذا الأسلوب الجمالي "الخشن" الذي اضطرت إليه الواقعية الجديدة، يجعل السينما الروائية تقترب من التسجيلية، وإذا كان الإيطاليون قد لجأوا إليه لنقص الإمكانات، فإن فيلم "معركة الجزائر" للمخرج جيلو بونتيكورفو يختاره عن وعي كامل، حتى أصبح هذا الفيلم نموذجا للأفلام الروائية التي تتعمد أن تختار شكلا تسجيليا. لكن هذا الامتزاج بين نوعي السينما قد تعدى اليوم مجرد الشكل، وأصبح يتناول المضمون أيضا، فإذا كان السينمائي التسجيلي (في أغلب الأحيان) لا يعرف مقدما ما سوف يقوم بتصويره، فلماذا لا يفعل ذلك السينمائي الروائي، بحثا عن قصص وعلاقات أكثر أصالة وصدقا؟ قد نتذكر في هذا السياق فيلم المخرج البريطاني مايك لي "عام آخر"، والذي كان يعتمد على كتابة السيناريو بالاشتراك الطويل مع الممثلين، كل في شخصيته في العالم الفيلمي، كما يسمح لهم بقدر من الارتجال العفوي خلال اللقطات الطويلة، بما لا يخرج بهم عن حدود الشخصية المرسومة، بل إنه يجعلهم أكثر تجسيدا لهذه الشخصية. ويصل التسجيل في السينما الروائية إلى مدى أبعد، مع ثلاثية المخرج الأمريكي ريتشارد لينكليتر، والتي يتتبع فيها مصير شخصيتين على فترات تفصل بينها تسع سنوات (في الأفلام والحقيقة أيضا). إنه في "قبل الشروق" ثم "قبل الغروب" ثم "قبل منتصف الليل"، يسجل مسار العلاقة بين رجل أمريكي (إيثان هوك) وامرأة فرنسية (جولي ديلبي)، ليكتب المخرج مع الممثلين هذه الأفلام الثلاثة، بقدر من النزعة التسجيلية الأصيلة. إن معظم الفلاسفة المعاصرين لفن السينما يضعون هذا الفن كله، تسجيليا كان أم روائيا، تحت تصنيف "الفنون التي تعتمد على تسجيل الواقع". وحتى في الأفلام التي لا يتم من خلالها تصوير ما هو موجود أمام الكاميرا، بل خلق الصور كومبيوتريا، فإن المتفرج ينتظر دائما أن يرى على الشاشة ما يمكن أن يقارنه بواقع حقيقي، حتى أنه يمكن لك أن تقول على نحو ما إن "كل الأفلام تسجيلية"!! تأتي السينما العربية (والمصرية خاصة) في أغلبها متناقضة مع الحس التسجيلي في السينما، ولعل ذلك يعود إلى أن صناعها وجمهورها اعتاد على أن يقرن بين الأفلام و"القصص" أو حتى الحواديت. وفي الحقيقة أن ذلك يعكس قصورا جوهريا في بنية الصناعة السينمائية العربية ذاتها، فكما أنها حتى الآن تقصي الأفلام التسجيلية وتجعلها أدنى من قريناتها الروائية، فهي لا تعرف أيضا اهتماما أصيلا بسينما التحريك، التي كانت على الدوام جزءا لا يتجزأ من أي صناعة سينما جادة، بل ربما اكتسب بعضها – مثل يوغوسلافيا وتشيكوسلوفاكيا – شهرته من ارتياده جماليات وتقنيات متفردة في فن التحريك. ومع ذلك فإن السينما المصرية عرفت في فترات متباعدة من تاريخها بعض الازدهار النسبي في السينما التسجيلية، التي بدأت مع التوثيق الشهير للسينمائي المصري محمد بيومي لعودة سعد زغلول من المنفى في عام 1923، ثم أصبحت الجريدة السينمائية مادة ثابتة يصنعها "استوديو مصر" منذ إنشائه في عام 1935، لتعرض قبل عرض الفيلم الروائي الطويل. كما استمدت هذه الجريدة فيما بعد، وفي أعقاب ثورة 1952، أهمية أكبر، عندما أصبحت هيئة الاستعلامات مشرفة عليها، لتقدم مادة إخبارية دعائية في مجملها، لكنها كانت "توثيقا" سينمائيا مهما لتلك الفترة. ولأن السينما التسجيلية تحتاج إلى من يؤمن بها حقا، وبقدرتها على إعلام الجمهور والترفيه عنه في وقت واحد، ولأن صناعة السينما المصرية لم تكن تملك هذا الإيمان، فيمكنك أن تقول بقدر غير قليل من الثقة إن الإنجازات الحقيقية عندنا في هذا المجال أتت من إحساس "الدولة" أو "النظام" بضرورة وجودها، وهو الإحساس الذي بلغ ذروته مع المراحل المختلفة لبناء السد العالي. وكان من المألوف آنذاك أن ترحل طواقم سينمائية إلى مواقع البناء، أو حتى تقيم مع عماله، لتسجل هذه الوقائع يوما بعد يوم، لتظهر سلسلة من أفلام التوثيق التي صنعها آباء السينما التسجيلية المصرية، مثل صلاح التهامي وسعد نديم وعبد القادر التلمساني وغيرهم. ولعل من طرائف هذه المرحلة ما حكاه المخرج المصري العظيم توفيق صالح، عن أزمة صناعة السينما المصرية في بداية الستينيات، بعد ما يشبه المقاطعة في الأسواق العربية، فلجأ المخرجون إلى الزعيم جمال عبد الناصر يشكون إليه حالهم، وفي اجتماع مباشر معهم اتخذ الزعيم قرارا بأن يوكل إليهم صناعة أفلام تسجيلية قصيرة، في محاولة لإنعاش الصناعة، لتكون النتيجة بعضا من أجمل الأفلام التسجيلية في تاريخ السينما المصرية، تعتمد على توثيق بعض السمات الفولكلورية، وتحول هذا التوثيق إلى عمل جمالي طريف وراقٍ في آن. لكن لأن مصر ما بعد عبد الناصر فقدت مرة أخرى إيمانها بالسينما التسجيلية، وهو ما ينعكس في عدم وجود مادة وثائقية كافية عن حرب أكتوبر 1973 مثلا، وأيضا في سيطرة سينما روائية بالغة السطحية، فقد اختفت السينما التسجيلية لسنوات، قبل أن تعود بمجهود فردي للمخرج الرائع شادي عبد السلام، الذي أنشأ وحدة تابعة للدولة لهذه السينما، لم تكن فقط مجالا لتدريب جيل جديد من السينمائيين الذين سوف ينتقلون فيما بعد إلى السينما الروائية، بل كانت أيضا مجالا خصبا للتجريب، لتظهر أساليب سينمائية متنوعة، في الشكل الجمالي الأقرب للسينما المباشرة عند خيري بشارة في "حديث الحجر" على سبيل المثال، أو التناقض الساخر المقصود بين شريطي الصورة والصوت عند داوود عبد السيد في "وصية رجل حكيم، في شئون القرية والتعليم". إلى جانب وحدة شادي عبد السلام كانت هناك محاولات فردية أخرى متناثرة، لكنها بالغة الأصالة والتأثير، تراوحت أيضا بين غنائية هاشم النحاس في "النيل أرزاق"، ووجهة النظر الاجتماعية والسياسية القوية عند عطيات الأبنودي منذ فيلمها الأول (من إنتاج "جمعية الفيلم" المستقلة والتي أنشأها هواة) "حصان الطين"، وظلت بعدها تقدم أفلاما ترحل في الزمان والمكان، في محاولة لما أسمته "وصف مصر". لكنه للأسف "وصف مصر" الذي لم يكتمل، لأسباب عديدة قد يأتي نقص التمويل على رأسها، وكان الأحرى بالدولة أن تتبنى مثل هذه المشروعات، لكنها كانت قد قررت أن تترك السينما لتجار السينما!! لم يختلف الحال كثيرا في بلدان عربية أخرى، ولا يكاد أن يبقى في الذاكرة سوى القليل من الأفلام التسجيلية، ربما يأتي على رأسها فيلم المخرج السينمائي السوري عمر أميرالاي "الحياة اليومية في قرية سورية"، الذي كان صرخة أبناء المناطق النائية من التجاهل، وما تزال لقطة "اللايتموتيف" التي تكررت مرارا في الفيلم، لفلاح فقير يشق ملابسه صارخا، من بين أبرع الأدوات الأسلوبية والموضوعية لخلق وحدة في شكل فيلم تسجيلي طويل. لكن أميرالاي يضطر في مرحلة لاحقة للتمويل الأوربي، ويأتي فيلمه "مذكر مؤنث" مجرد رؤية استشراقية للعلاقات بين الرجل والمرأة في مصر، تتلخص في الجنس، وتخلو من أي أبعاد اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية. ووسط هذا التجاهل من جانب الأنظمة للسينما التسجيلية، ليس هناك سوى طريقين، الأول هو الإنتاج التليفزيوني الذي يفرض ويفترض في مصر شكلا جاهزا (هناك مثلا أغنية دائما على شريط الصوت، تأتي من خارج عالم الصورة تماما!!)، ولا يكاد أن يبقى من بين مثل هذه المحاولات إلا أفلام قليلة للمخرجة حنان راضي في فيلم "أهل الرضا"، الذي يصور عالم الفقراء الذين يناضلون كل يوم من أجل لقمة عيشهم، دون أن تفارق شفاهم كلمات الرضا والحمد لله. أما الطريق الثاني فهو مغامرة الإنتاج المستقل، التي يرتادها هواة عابرون تقع أغلب أعمالهم في إطار "الريبورتاج" الخالي من أي فن، ويفلت من هذا المصير فيلم مثل "جلد حي" للمخرج فوزي صالح، الذي يدخل إلى عالم دبغ الجلود بكل قسوته، ويعيش فيه أياما، ليقدم وثيقة وتسجيلا لحياة أناس قد لا نعرف عنهم شيئا، بما يذكرك على نحو ما بأفلام عطيات الأبنودي الأولى. ما هو سبيل الخروج من تلك الأزمة؟ في الحقيقة أنه مرتبط على نحو وثيق بالخروج من أزمات أخرى عديدة، لكن يأتي على قمة هذه السبل وجود من يرعى هذه السينما، إنتاجا وعرضا. وقد تسمع من البعض آراء تتحدث عن تدخل الدولة من جديد، وفرض عرض فيلم تسجيلي قبل الفيلم الروائي في دور العرض. لكن أليس ذلك قيدا آخر نفرضه على السينما التسجيلية، لتظل أسيرة وتابعة وظلا للسينما الروائية؟ وليس هناك من يصلح لرعاية هذه السينما من قنوات فضائية تتخصص في هذه النوعية من الأفلام، وتعيد للجمهور القدرة على تذوقها. لكن ذلك مرهون من جانب آخر بتعدد أساليب الفيلم التسجيلي، بدلا من ذلك المفهوم القاصر عنه ويجعله أقرب إلى التحقيقات الصحفية الكسول. وحتى أسلوب التحقيقات في السينما يمكن أن يكتسب طرافة أخاذة، مثل الفيلم الأمريكي "اجعلني سوبرسايز"، أراد فيه صانعه أن يبرهن على خطورة الاعتماد على الأكلات السريعة الجاهزة، فجعل ذاته موضع التجربة، وعاش طوال شهر كامل على هذه الأكلات، ووثق أحواله الصحية والمعيشية يوما بعد يوم، ولك أن تتخيل ما صار إليه عند نهاية الفيلم!! والنموذج الآخر من التحقيقات هو ما صنعه مايكل مور في العديد من الأفلام التسجيلية، التي حققت أرقاما غير مسبوقة في شباك التذاكر، مثل "لعب البولينج من أجل كولومباين" عن حمل الناس العاديين للسلاح في أمريكا، وحوادث القتل العشوائي، وهو يمزج تحقيقاته بقدر كبير من السخرية. غير أن البداية في ذلك كله هو أن نؤمن بـ"التوثيق" في حياتنا، لكي نراكم خبراتنا التاريخية ونتقدم بها إلى الأمام، وليس هناك فن قادر على ذلك أكثر من السينما، خاصة في عصر التقنيات الرقمية، التي تتيح لأي إنسان أن يصنع فيلمه التسجيلي. وربما كانت المشكلة هي قدر الحرية الحدود الذي يمنع حتى الآن التصوير في مصر إلا بتصريح، لكن هذا إذا تحدثنا عن المستقبل، لكن حتى إذا تحدثنا عن الماضي، من هو السبب في ضياع أغلب ما تم تصويره من سلسلة "الجريدة السينمائية"؟ سؤال لن يجد إلا إجابة تغرق في بحار من المرارة!!

Wednesday, October 30, 2013

أفلام العيد: هل هي الجاني أم الضحية؟


هوجمت بضراوة أفلام عيد الأضحى حتى قبل أن يراها المتفرجون، وكان الدافع إلى ذلك هو ذلك السيل المنهمر من المقدمات الإعلانية التي عرضت على شاشات القنوات الفضائية المصرية، وعلى حين بدت هذه الأفلام مستفزة لأغلب المشاهدين، فإن معظمنا لم يطرح السؤال الأهم: إذا كان لدى المتفرج – في التحليل الأخير – حرية الاختيار في أن يذهب إلى دار العرض، فلماذا تجعله هذه المقدمات الإعلانية يخسر هذه الحرية رغما عنه، إذ تقتحم عليه وعلى أطفاله حياتهم في كل ساعات يومهم؟ ومن ذلك الذي صرح بإذاعة هذه الإعلانات على هذا النحو أصلا؟ ربما كان السؤال الأكثر دقة: ما هي تلك الجهة الغائبة عن التأثير، أو حتى الوجود، لتسمح أو تمنع ظهور المقدمات الإعلانية؟ ففي كل بلاد الدنيا المتحضرة، تخضع المقدمات الإعلانية لرقابة أقسى من الفيلم نفسه، وأنت لا تستطيع أن ترى إعلانا لفيلم أمريكي دون أن تسبقه بطاقة تصنيفه، حسب الجمهور الملائم لمشاهدة الإعلان، خاصة عندما يذاع في التليفزيون دون استئذان. فربما كان الفيلم نفسه يحتوي على قدر كبير من محظورات العنف أو الجنس، لذلك فإن من غير المسموح أن يقتحم الإعلان حياتك ليعرض لك أو لأطفالك مشاهد غير ملائمة، لكن في بلادنا فإن كل شيء للأسف يترك على عواهنه، ثم بعد ذلك نشكو من إسفاف الأفلام ونغض الطرف عن إسفاف الإعلانات عنها!! لقد أصبحت المقدمة الإعلانية في كل صناعات السينما هي الوسيلة الأهم في تعريف المتفرج بالفيلم، حيث اختفت أو كادت إعلانات الصحف والمجلات، وربما كانت هناك أيضا مواقع على الإنترنيت تحتشد بعشرات الآلاف من هذه الإعلانات. لكن مشاهدة إعلانات الأفلام الأجنبية يجعلنا نشفق على أنفسنا من الحال الذي وصلنا إليه، على مستوى الشكل والمضمون معا. ولعل أكثر ما يستفز الناقد في هذا السياق أن يكون الإعلان عن الفيلم الأمريكي مثلا عملا فنيا قائما بذاته (في العادة يقوم به فنانون متخصصون في ذلك)، بينما لا يتعدى الإعلان عن الفيلم المصري (إلا فيما ندر) مجرد قصاصات تم اختيارها بشكل عشوائي، والهدف منها أساسا هو عرض "البضاعة" التي يتوقع المتفرج أن يراها في الفيلم. وأبسط متطلبات أي مقدمة إعلانية أن تجعلك أقرب إلى موضوع الفيلم دون الإفصاح عن مضمونه، فدعنا نحاول أن نخمن موضوعات أفلام العيد من إعلاناتها. هناك في البداية ثلاثة أفلام تدور في عالم الراقصات، اللائي يصحبهن أحيانا "بلطجية"، وفيلم رابع يبدو مبشرا قليلا، إذ يبتعد عن هذا العالم الذي أصبح في السينما المصرية تقليديا. هناك مثلا في فيلم "القشاش" إشارة إلى أن البطل يحمل هذا الاسم لأنه لقيط عثروا عليه رضيعا في عربة قطار، وهو الآن بلطجي يخوض المعارك بالساطور أحيانا، وهو الساطور ذاته الذي يرقص به مع راقصة "شعبية" (أرجو أن تتغاضى قليلا عن هذه الصفة الزائفة)، ويبدو على علاقة بها، لكنها تحذره من امرأة أخرى لأنها غير منجذبة للرجال، وأنت تفهم الباقي بالطبع. هذا هو كل ما في "القشاش"، أما في فيلم آخر يحمل اسم "8%" فأنت أمام أسوأ ما أنتجه "الفن" المصري في الفترة الأخيرة، إذا اعتبرت أن هذا نوع من الفن، وهو فرقة من مغنيي الأفراح الرخيصة تحمل نفس عنوان الفيلم، لا يملك الواحد منهم الحد الأدنى من شروط فن الغناء، ويصنعون دائما شرائطهم بطريقة تشويه الصوت بحيث يصبح معدنيا منفرا، لكن الأسوأ من ذلك كله هو أن يطلقوا على ما يصنعونه أغاني "مهرجانات"، وتردد بعض الصحافة الفنية هذا الاسم، بما يجعلك أقرب إلى التشاؤم بشأن مستقبل الفن في مصر، وربما مستقبل أشياء أخرى أيضا. ويقول لك الإعلان أن هذا الفيلم يدور عن "رحلة كفاح" هذه الفرقة، تصحبها فتاة هي سائقة "توك توك"، وكيف أن وجودها كان عاملا للصراع بينهم أحيانا، وتوحيدهم أحيانا أخرى. من المؤكد أن مثل هذا الشريط (ولا نقول الفيلم) قد تم صنعه ليضم بعضا من أغنيات هذا الثلاثي المثيرة للنفور عند البعض منا، بينما يأتي فيلم "عش البلبل" (وهو أكثر هذه الشرائط نجاحا في شباك التذاكر) ليضم مجموعة أكبر من المغنين والراقصات. ولا تحاول أن تبحث عن موضوع للفيلم في مقدماته الإعلانية رغم كثرتها المفرطة، فبعضها يحتوي على أغنيات في الملاهي الليلية قد تمتد إلى خمس دقائق، فكأن الإعلان يقول لك: إن كنت لا تملك المال للذهاب إلى مثل هذه الملاهي، فسوف نجعلك تشاهدها بثمن تذكرة سينما فقط!! لكن هناك أيضا لقطات محاكاة ساخرة من أفلام قديمة وجديدة، بدءا من "شارع الحب" وحتى "عبده موتة" و"قلب الأسد". يأتي الفيلم الرابع "هاتولي راجل" ليعرض عليك فكرته في غموض بالغ، وهي الفكرة التي سبق أن عالجتها السينما المصرية مرارا، في انقلاب الأدوار بين الرجال والنساء، مثل "الآنسة حنفي" و"السادة الرجال"، كذلك مسرحية لطفي الخولي في الستينيات "الأرانب"، لكن بينما كانت هذه الأعمال المشار إليها تنتصر لقيم تقدمية، تنادي بمساواة عاقلة وعادلة، فإن إعلان الفيلم يشي بأنه قد توقف عند ما يمكن أن تطرحه الفكرة من تهريج، والعديد من "الإفيهات" اللفظية التي تدور حول علاقات الفراش. وتلك النقطة الأخيرة: "الإفيهات الجنسية"، هي أوضح الملامح المشتركة بين هذه الأفلام ومقدماتها الإعلانية، والتي تأتي بالتصريح الفظ والسوقي وليس بالتلميح (وهي رغم ذلك تدخل بيوتنا عنوة على شاشات التليفزيون)، حتى تكاد أن تتصور أن الناس في حياتهم اليومية لا يتوقفون عن التواصل بهذه الفظاظة والفجاجة. وكثيرا ما يأتي هذا النوع مصحوبا أيضا بأغنية ورقصة من النوع بالغ الرخص، الذي لا يمكنك أن تشاهده إلا في المناسبات التي يغرق فيها "المتفرجون" في الخمر والمخدرات، وذلك هو المشهد الذي لا يكاد أن يخلو منه فيلم مصري في الآونة الأخيرة، مشهد "الفرح الشعبي" كما تتصوره السينما المصرية: غازية ترقص رقصا بالغ الخلاعة، ووراءها أحد المغنين أصحاب ذلك الصوت المعدني المشوه، وعشرات من الكومبارس يقفزون هنا وهناك، ويمكنك أن تتخيل أن صناع هذه الأفلام يريدون أيضا من جمهور السينما في هذه المشاهد أن يشارك بدوره في هذا الصخب والعربدة، وربما كان هذا هو ما يحدث بالفعل في دور العرض التي يقبل عليها جمهور سينما الأعياد. يتوافق مع هذا الصخب السمعي صخب بصري لا يترك للمتفرج لحظة واحدة للتأمل، لذلك نادرا ما تتعدى أي لقطة تراها في الإعلان ثانية واحدة، وهو الأمر الذي يجعل صناع الإعلانات يستغنون أيضا عن أي جهد فني حقيقي، فبضغطة على الأزرار تنهمر هذه اللقطات دون أي منطق، وبلا شكل أو مضمون. أخيرا يأتي دور "البطل" الذي يحتاج بالفعل إلى مقال آخر للتأمل، لكن يكفي هنا أن نشير إلى أنه ذلك "الصايع"، الذي لم يعد كما كان فى سنوات قليلة سابقة مجرد شاب بلا عمل، يتحايل على الحياة بمزيج من النصب وخفة الظل، لكنه أصبح الآن "بلطجيا" بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ منفرة، إنه يمضي في الشوارع حاملا ساطوره، يدخل به الخناقات ولا يتورع عن سفك الدماء، وهو يشهره أيضا في مصاحبته للراقصات كأنه سيفه الذي يتفاخر به. لك أن تتخيل أخيرا شخصا أجنبيا أوقعه حظه العاثر في مشاهدة هذه الإعلانات، إنه حتى دون أن يدرك معنى كلمة واحدة سوف يفهم أن مجتمعنا لا يضم سوى مثل هذه الشخصيات، فليس هناك عشرات الملايين الذين يكدحون وراء "أكل عيشهم"، وليست هناك نساء تشاركن رغم المعاناة في تحمل أعباء العائلة، أو حتى تحمل هذه الأعباء وحدهن أحيانا، وليست هناك هموم يومية أصبحت أزلية أبدية رغم أنها احتياجات إنسانية بسيطة. ليبقى السؤال: إذا كانت هذه السينما كما يدعون (وقد يكون معهم بعض الحق) تعكس جانبا واحدا من وحشية الحياة، فلماذا الاقتصار على هذا الوجه وحده؟ لعل الإجابة هي أن هذه الأفلام تقدم جرعة من المخدرات السمعية البصرية، لتلهي الناس عن واقعهم الحقيقي، وتجعلهم يعيشون لحظات من الحلم في التوحد مع كل من يقهرهم، ليصبح البلطجي هو السبب والنتيجة!!