Thursday, February 21, 2013

فيلم "على جثتي" والضحك الفاتر على جثة السينما


يثبت فيلم "على جثتي" أن صناع السينما المصرية تغيب عنهم بعض المقدمات المنطقية الأساسية لصنع عمل سينمائي، بينما تبقى حقيقة كارثية واحدة، هي أن الفيلم يتم صنعه على مقاس "نجم" واحد، أو من يفترض كونه نجما، حيث تصبح كل المشاهد مشاهده وحده، يصول فيها ويجول كأنه يعيش في صحراء خالية إلا منه، بل قد يذهب الأمر إلى مدى أبعد، ليس فقط بالشعور أن كل تفاصيل الفيلم قد تم تفصيلها له، وإنما أيضا أنه هو الذي أضافها بنفسه ربما لحظة التصوير، دون الحاجة إلى وجود كاتب سيناريو أو حتى مخرج. حاول أن تسأل أحدا ممن شاهدوا الفيلم عن اسم كاتب السيناريو أو المخرج، فكل ما أحسوا به أنهم شاهدوا أحمد حلمي وكفى، وربما لن يتذكروا اسم ممثل آخر أو ممثلة أخرى، فكل الشخصيات تبدو شبحية تماما، أو أنها ليست إلا ظلالا لشخصية أحمد حلمي، أو قل مرآة يرى فيها نفسه حتى يمضي في "إفيهاته" المعتادة، والتي ينقلها معه من فيلم إلى آخر. ما هي إذن "بعض" المقدمات المنطقية التي أغفلها أو تجاهلها أو جهلها صناع هذا الفيلم؟ لعل أهمها أن الكوميديا لا تعني التهريج أبدا، وقد تتحمل أن ترى مثلا بعضا من الهزل لمدة دقائق قليلة، إذا كنت في أحد الموالد الشعبية، أو تشاهد برنامج منوعات في التليفزيون، لكنك لا تستطيع أن تتحمل وصلة من هذا الهزل تستمر لأكثر من ساعة ونصف، يأتي فيها الضحك – أو هكذا يفترض – من ذكر السوائل والإفرازات البشرية!! والكوميديا لا تعني أنك لا تتوقف عند لحظة تأمل واحدة مع الشخصيات أو أمامها، ولن يعني لك شيئا أن تتفرج مثلا على شخصيات تنزلق بسبب التعثر في قشر الموز، لكنك سوف تضحك من قلبك إذا رأيت مثل هذا الشخص ينزلق، إذا أتيح لك قبلا أن تعرف أنه يتمتع بقدر كبير من الصلف والغطرسة، فكأن الكوميديا تعاقبه على هذا السلوك. المقدمة المنطقية الثانية أنه لا يكفي أبدا أن يطل علينا "النجم" من عليائه على الشاشة، لكي نتوحد مع فيلمه أو نتعاطف مع شخصيته، لكن هذا التوحد أو التعاطف يأتي فقط من رسم "شخصية" درامية حتى في أكثر الأفلام كوميدية، لكن فيلم "على جثتي" لا يعرض إلا أحمد حلمي وهو يستغرق في النكات الخاصة به، حتى في أكثر المواقف جدية أو حتى مأساوية. وأخيرا فهناك مقدمة منطقية بسيطة وأساسية، وهي أنك لكي تصنع عملا سينمائيا له فكرة معقدة مثل هذا الفيلم، فإن من الضروري كتابة سيناريو شديد التدقيق، وهو ما لا يتوفر أبدا لفيلم "على جثتي". دعنا نبدأ من البداية: في مشهد طويل لن نعرف أبدا ما علاقته بموضوع الفيلم، نرى رؤوف (أحمد حلمي) نائما في سيارته، لكنه في الحقيقة قد غلبه النوم في إشارة مرور، ليستطرد في تبادل النكات مع الشرطي، قبل أن يمضي ليكمل طريقه. من المفترض أن يكون المشهد الافتتاحي لأي فيلم هو الذي يؤسس للدراما التالية كلها، لكن ما الذي قاله الفيلم هنا عن الشخصية أو عن الموقف الأساسي؟ لا شيء!! في المشهد التالي سوف يدخل رؤوف إلى شركته، حيث يمارس قسوة شديدة على الجميع من موظفيه دون استثناء، ويراقبهم عبر كاميرات مركبة في كل مكان، بل إنه يستجوبهم واحدا بعد الآخر، دون أن يصدق أيا منهم، ففي خياله (الذي نراه متجسدا على الشاشة) أوهام عن قيامهم باستغلاله والضحك عليه. مرة أخرى نسأل، هل كان "أسلوب" التناقض بين الحقيقة والخيال في ذهن رؤوف مهما في "بناء" الفيلم؟ الحقيقة أن الإجابة بالنفي، فكأنها كانت نزوة أو نكتة لن يتذكرها صناع الفيلم بعد ذلك سوى مرة واحدة، عندما يمارس رؤوف نفس القسوة مع زوجته سحر (غادة عادل)، ويتخيل أنها تريد تقزيمه أو كما يتجسد على الشاشة تحويله إلى امرأة، عندما ترجوه أن يمنحها فرصة للعمل في الشركة. سؤال آخر: لماذا شخصية رؤوف بكل هذه القسوة والشك في كل الآخرين من حوله، ومرة أخرى لا إجابة على الإطلاق، فهكذا تفتق ذهن صناع الفيلم، دون أن يدركوا أن "الدوافع" هي التي تضفي مصداقية على رسم الشخصيات وعلى أفعالها وتصرفاتها، خاصة أن رؤوف سوف يمارس نفس القسوة غير المبررة مع ابنه الصغير. هل تتذكر مشهدا سابقا في الشركة، لتصوير إعلان عنها؟ الأغلب أنك لن تتذكره، لأنه جاء كمجرد "نمرة" أخرى لأحمد حلمي يضيفها إلى نمره السابقة، فهو الذي تدخل في كل كبيرة وصغيرة في إخراج الإعلان، أو قل أنه هو الذي أخرجه بنفسه. لكنك سوف تدرك أن هذا الإعلان سوف تكون له فائدة بعد ذلك، فعندما يذهب رؤوف مسرعا بسيارته في الليل، بحثا عن طبيب يداوي كلبه المريض، سوف تغرق السيارة في النيل، وتخرج منها "روح" رؤوف بلا ذاكرة عن أي شيء من حياته، لكنه سوف يشاهد الإعلان في التليفزيون بالصدفة، ليعرف من هو، لكنك سوف تتساءل: ماذا لم لم يكن هناك أي إعلان؟ أو حتى ماذا لو لم يشاهده رؤوف بالصدفة في بداية رحلته كروح هائمة؟ وربما سنحت لك أيضا فرصة للتساؤل: لماذا كل هذه الشفقة من جانبه تجاه كلبه، بينما هو على هذه القسوة والجفاء تجاه جميع البشر؟ وهكذا تتراكم الأسئلة بلا إجابة، لتكشف عن ضعف بالغ في كتابة السيناريو الذي قام به تامر ابراهيم، وفي الإخراج الذي يفترض أنه لمحمد بكير، لكن نقطة الضعف الكبرى في فيلم "على جثتي" هي الفكرة الأساسية ذاتها: إن رؤوف بعد الحادثة في حالة غيبوبة، وجسده يرقد في إحدى المستشفيات بينما روحه هائمة تستكشف الحقيقة التي يفترض أنها غائبة عنه، وهي أن الجميع فرحون بموته، وأنهم يكرهونه حتى ابنه الصغير الذي يجعل من صورته هدفا للعبة رمي السهام!! ويدخل الفيلم إلى منعطفات سوف تنساها في الأغلب، لأنها دخيلة تماما على "حدوتته"، مثل مشهد لأحمد السقا – بشخصيته الحقيقية - يصور لقطة للقفز في النيل، أو ظهور صديق لرؤوف لا نعرف عنه شيئا على الإطلاق، يقوم بدوره خالد أبو النجا، وسوف تكون وظيفته إثارة مزيد من الشك في سلوك الزوجة ووفائها. في الحقيقة أن أي حقيقة حول سلوك أي من الشخصيات غير واضح لمن صنعوا الفيلم أنفسهم، لأنهم جعلوا الجميع شخصيات مسطحة تماما، تفعل الشيء ونقيضه، فالزوجة سعيدة بموت الزوج لكنها أكثر سعادة بعودته إلى الحياة، والموظفون فرحون بخلاصهم من صاحب الشركة الديكتاتور لكنهم يحتفلون بنجاته، فالمهم هو أن ينطلق أحمد حلمي في "إفيهاته" في كل المواقف، وقد وضعوا إلى جانبه شخصية نوح (حسن حسني)، ليساعده على مزيد من القفشات، بينما هو يقوم بدور بالغ الغموض، فلا تدري إن كان هو الآخر روحا هائمة لشخص بين الحياة والموت، فلن يهتم الفيلم لحظة واحدة بتقديم أي تفسير. مصدر الخلل الدرامي في مثل هذه الحبكة أنها تحتاج لقدر كبير من الجهد في البناء، فإذا كانت تبدو مقتبسة عن العديد من الأفلام الأجنبية التي تعالج الأرواح الهائمة بين عالمنا والعالم الآخر، بل أيضا في أفلام مصرية مثل "طريد الفردوس" لفطين عبد الوهاب، أو تعالج فكرة من ماتوا حقا أو وهما ليكتشفوا حقيقة وجودهم، مثل فيلم عباس كامل "كان وكان وكان"، فإن فيلم "على جثتي" تعامل بلا مبالاة بالغة في المنطق الدرامي لمثل هذه الحبكة، فكان ينتقل بين رؤوف كروح هائمة ورؤوف كجسد بين الحياة والموت في عشوائية كاملة، ليأتي الفيلم نفسه حائرا بين هزل النمر المرتجلة، وفن السينما الذي بدا أن صناع الفيلم يرقصون على جثته!!