Friday, May 31, 2013

التحليل النفسي للإعلانات في العالم المظلم للا وعي


أصبح من المتعارف عليه الآن، في عالم تسوده السلع الاستهلاكية، ووتنازع فيه بضراوة الشركات التي تنتج هذه السلع، أن الإعلانات تأخذ القدر الأكبر من تكاليف الإنتاج، فإذا كانت سلعة ما تتكلف دولارا واحدا لكي تصبح منتجا نهائيا، فإنها تحتاج إلى ما يزيد على خمسة دولارات لتسويقها، لأن السوق أصبحت أرض معركة مفتوحة، يدافع فيها المنتجون القدامى عما اكتسبوه، بينما يبحث دائما فريق من الجدد عن موطئ قدم في هذا العالم الضاري الذي لا يعرف إلا الهزيمة أو الانتصار. والسلاح الأساسي في التسويق هو "الإعلان"، الذي تراه قد اكتسح كالفيضان حياتنا وبتنا أقرب إلى السباحة فيه، وأصبح الوقت الأكبر من بث محطاتنا التليفزيونية والفضائية مكرسا للإعلان، وأصبحت ما كانت "نكتة" حقيقة واقعة: نحن نتفرج على إعلانات تقطعها في بعض الأحيان برامج أو مسلسلات. والأهم في هذا السياق أن الإعلانات ذاتها أصبحت أرضا زلقة للمنتج والمستهلك معا، فإذا كان عليها أن تجذب المتفرج، فإن عليها أيضا أن "تسرق" انتباهه من الإعلانات الأخرى. وللإعلانات المعاصرة عدة وسائل في هذا السياق، لعل أهمها هو استخدام نجم أو نجمة محبوبين لكي يكونا مرتبطين بالإعلان عن السلعة، فأنت إذا رأيت أحمد حلمي على سبيل المثال قفز في ذهنك على الفور السلعة أو السلع التي يقوم ببطولة الإعلانات عنها، كذلك دنيا سمير غانم مثلا، أو حتى رجاء الجداوي أو عبلة كامل. بل إن بعض الإعلانات التي قدمها ممثلون أو ممثلات مجهولون أصبحت طريقهم إلى الشهرة ثم النجومية في بعض الأحيان، مثل جيهان نصر التي قامت ببعض الأدوار القصيرة في السينما مثل فيلم "الكيت كات"، وإن كان معظمهم لم يثبت موهبته الحقيقية في عالم التمثيل. ووجود النجم في الإعلان له ضرورته، إذ يتيح للمتفرج لحظة من "التوحد" مع هذا النجم، ببساطة إذا استهلك السلعة ذاتها التي يقول النجم أنه يستخدمها، سواء كانت هذه السلعة سيارة أو مشروبا أو خطا تليفونيا. لكن المعلنين أدركوا في الآونة الأخيرة أن وجود النجم وحده لا يكفي، وأن رؤية المتفرج له في عالم بالغ الرفاهية قد لا يكون مؤثرا كما ينبغي، لذلك تزايد في الآونة الأخيرة وجود هذا النجم في سياق "عادي" من حياتنا اليومية، وكثيرا ما تراه وسط عائلة من الطبقة المتوسطة تشبه عائلاتنا، وتحيطه وجوه مألوفة مثل تلك التي نراها في نشاطاتنا المعتادة. الهدف من ذلك كله بطبيعة الحال هو إقناع المتفرج (المستهلك) أن يشتري السلعة المعلن عنها، إذا لمس الإعلان في نفسه وترا أن حياته مع هذه السلعة سوف تكون "أفضل". لكن ما وجه التفضيل؟ ما الذي ينقصنا في حياتنا ونريد تحقيقه (أو تعويضه، وهذا هو الأهم!!)، ويقول لنا الإعلان أن ذلك ممكن فقط مع هذه السلعة بالذات؟ وهنا يبدأ تلاعب الإعلان بلا وعي المتفرج، وأصبح من المتعارف عليه أن السلعة لا تلبي بالضرورة "احتياجا" أصيلا لدى المستهلك، أي أنه ببساطة يمكن أن يعيش بدونها دون أن يشعر بأي فرق أو نقص، ودور الإعلان هو أن "يخلق" لديه هذا الاحتياج، بل قل يخترعه اختراعا، والإعلان في هذا الشأن يشبه "المخدر" الذي قد يتعاطاه المرء، تحت وهم أنه سوف يكون أفضل، لكي ينتهي به الأمر إلى إدمانه والحاجة إليه، لمجرد أن يعيش حياة "شبه عادية"!! لكن الإعلان يشبه المخدر أيضا، الذي لا ينجح الإغواء به إلا مع من يشعرون أنهم في "حاجة" للهروب من واقعهم لسبب ما، بالطبع دون أن يحقق لهم هذا المخدر أي واقع جديد، كذلك الإعلانات، التي تخاطب عن وعي الجانب اللا واعي لدى المتفرج، فالسلعة هنا ليست مهمة في ذاتها، بل الإحساس "النفسي" الذي يقترن بها. تأمل مثلا أفضل الإعلانات التي شاهدناها مؤخرا من الناحية الفنية، تجده يتحدث عن ضرورة وجود الحب الذي يربط بين الناس جميعا على اختلاف أماكنهم وأعمالهم وطبقاتهم، وأكاد أقول إن الإعلان حقق نجاحا لأن الناس في الواقع تشعر بفقدان هذه الرابطة الحقيقية بينهم، ودليلي على ذلك هو ظهور الإعلان ذاته على الإنترنيت، وقد حمل كلمات مناقضة تماما تتحدث عن العدوانية غير المبررة بين الجميع، وكان نجاح المحاكاة الساخرة أكبر بكثير من الإعلان الأصلي، لأنها لمست وترا حساسا لدى المتفرجين. وتقول لك بعض الإعلانات إن تلك العلاقات الاجتماعية التي أصبحت فاترة، مبتورة، قصيرة وعابرة، يمكن أن تكون أقوى إذا تشاركنا جميعا في "الحجم الكبير" من السلعة، فهذا الحجم سوف يعيش معنا زمنا أطول!! لكن تلك المشاعر الإيجابية كادت أن تختفي من الإعلانات (وربما من الواقع أيضا!)، وحل محلها مشاعر بالغة السلبية، تعكس في الحقيقة أمراضا نفسية واجتماعية ليست في حاجة إلى أي سلع، بل هي في حاجة ملحة لعلاج أسبابها. ولعل أهم تلك الأمراض التي تتلاعب بها الإعلانات الآن هو "فقدان الهوية"، والسعي إلى امتلاك هوية بديلة، تكون أقوى وأكثر شراسة، لكي يستطيع المرء مواجهة مصاعب الحياة. وتوحي لك بعض الإعلانات أنك لو شربت هذا المشروب أو أكلت تلك الحلوى لأصبحت في نظر الآخرين أكثر "رجولة"!! أو على العكس، قد ترى العالم في صورة ألطف كثيرا عما هو في حقيقته، فإذا نشأ مثلا نزاع بينك وبين سيدة قاسية في منتصف العمر، لكان عليك أن تأخذ قضمة من السلعة المعلن عنها، فإذا بك أمام فتاة لطيفة رقيقة. والإعلان هنا يساعدك على تحقيق الوهم، وأنت تعرف تماما أنه وهم!! لكن أخطر أنواع هذا الوهم، وأكثرها دلالة وانتشارا هذه الأيام، هو ذلك الذي يرتبط بالعنف والعدوانية، ربما ضد الآخرين، كل الآخرين. يقول لك الإعلان مثلا إن عليك ألا تفرط فيما تملكه من السلعة، وإذا اضطررت أن تعطي منها فبالنزر اليسير، وأن تدافع عنها إلى آخر قطرة دماء، لكي "تنتقم" ممن سلبوك إياها أو بعضا منها! وربما تكون في الواقع شخصا مهذبا متحضرا، وقد يجعلك هذا في نظر الآخرين ضعيفا، فلماذا لا تعوض ذلك بالاشتراك في إحدى شركات الإنترنيت، التي تتيح لك أن تلعب ألعابا لا تنتهي، تتحول فيها إلى مقاتل شرس يدافع عن نفسه بالمدافع الرشاشة سريعة الطلقات؟ أو لعلك لو شربت هذه السلعة لأصبحت فدائيا يربط حول خصره حزاما من علب المشروب، ويهرب من مواجهتك الآخرون! أو ربما تتحول إلى قاتل، يرفع السكين في وجه أحد أقاربه، لكي ينتزع السلعة من بين يديه انتزاعا، لأنه لا يملك مقاومة انجذابه إليها، هذا الانجذاب الذي يتم تصويره في إعلان آخر بشيء يشبه الإدمان على نحو حرفي، حيث يتحول المستهلك إلى لص، وخاطف، ولا يقلل من ذلك التأثير النفسي بالغ السلبية محاولة الإيهام بطرافة الإعلان، الذي تم تصويره بطريقة "الكاميرا الخفية". في أحد الإعلانات التي لا يمكن أن تمر مرور الكرام على التحليل السياسي والنفسي لمجتمعنا المصري المعاصر، هناك أكشاك مزروعة في العديد من أحياء مدينة القاهرة، متفاوتة المستوى والطبقات، وخلف زجاج الكشك تبدو أكوام السلعة المعلن عنها، وتدعوك لافتة للحصول عليها إن استطعت، فإذا بجميع المارة من مختلف الشرائح يتحولون إلى رعاع ودهماء بالمعنى الحرفي للكلمة، ومرة بعد أخرى يحاولون تحطيم الواجهة الزجاجية، بالركل بالأقدام والعصي الخشبية والحجارة وقضبان الحديد، حتى إذا ما كسروا الزجاج سارعوا إلى "نهب" محتويات الكشك نهبا، حتى أصحاب السيارات الفارهة، الذين انخرطوا في تحويل أكوام السلعة إلى حقائب سياراتهم!! قد يقول البعض إن هذه الإعلانات تخاطب أحاسيس وأفكارا هي موجودة بالفعل في المجتمع، لكن ذلك ليس مبررا، فإن تستغل "المرض" لكي تزيده وعمقا، وتجعله أمرا طبيعيا، هو أمر في الحقيقة ليس أخلاقيا بأي حال، لكنه من جانب آخر نذير بأن المجتمع على حافة حالة من الانفجار، هي الأولى بالمواجهة والعلاج، ولتذهب السلع وإعلاناتها إلى الجحيم!!