Thursday, August 01, 2013

مسلسل "العراف".... والنصب على المشاهدين


إن أردت أن تتعلم كيف يمكن لك أن تصنع عملا دراميا من لا شيء، وينتهي إلى لا شيء أيضا، فيمكنك أن تأخذ مسلسل "العراف" نموذجا: هاتِِ نجما كبيرا مثل عادل إمام بأي أجر يريده، وسوف تسترد ما دفعته وأكثر من المعلنين الذين سوف يتسابقون لوضع إعلاناتهم بين فقرات المسلسل، ولتأتِ بأي فكرة مستهلكة ظهرت في عشرات الأعمال السينمائية العالمية والعربية، واصنع منها حلقات طويلة تبلغ الثلاثين عددا (وهذا سوف يزيد مكسبك على أي حال)، واجعل الأحداث تمضي بلا أي منطق، ثم اخترع حبكة فرعية تضمن لك زيادة جديدة في المط والتطويل، وليس مهما أبدا أن يكون هناك منطق درامي أو واقعي يحكم الأحداث والشخصيات، فوجود نجم بحجم عادل إمام سوف ينسي الجميع قواعد الدراما وأصولها. قد يكون غريبا أن نبدأ هذه المقالة بالحكم النقدي، بدلا من أن ننتهي إليه كما هو المتبع، لكن هذا الحكم هو الانطباع الأول والأخير الذي سوف يلازمك طوال مشاهدتك للحلقات، التي يثور فيها دائما في وجدان المتفرج بعض الأسئلة المحورية: هل هناك في المسلسل ما يشدني حقا لمتابعته؟ وهل حرص صانعوه على أولويات أي عمل درامي جماهيري، بخلق حالة من التعاطف بين المتفرج والبطل؟ وهل يوجد في الأحداث ما يدل على تصاعد درامي؟ وتلك بالضبط هي الأسئلة التي أثارها مسلسل عادل إمام في العام الماضي، الذي قد يصعب على المرء تذكر اسمه (كان اسمه "فرقة ناجي عطا الله"). لكن هذا ليس غريبا، فالتوليفة واحدة، والمؤلف هو يوسف معاطي الذي ينفذ رغبات النجم، في إعطائه أكبر مساحة للظهور بسبب أو بدون سبب، ناهيك عن فرص تقبيل كل من يقابلهن من النساء، اللائي لا تملكن مقاومته أمام جاذبيته (في هذا العمر!). كما أن المخرج هو رامي إمام، الذي لا يملك أي لمسة إخراجية مميزة، وتتسم أعماله بالفتور وقدر هائل من التقليدية، ولا نبالغ كثيرا عندما نقول إنه لم يترك بصمة واحدة في أفلامه ومسلسلاته برغم الفرص العديدة المتاحة له، بل إنه يفتقد الإحساس الكوميدي المرهف، الذي قد يخلق من المواقف العادية لمسات تلقي الضوء على مفارقات الحياة والدراما، التي تثير مزيجا من الضحكات والدموع. إليك يا عزيزي القارئ تلخيصا للحبكة الأصلية، التي تدور حول شخصية نصاب بارع (عادل إمام)، يذكرك مثلا بالفيلم الأمريكي "امسك بي لو استطعت"، أو الفيلم المصري "العتبة الخضراء"، وهي شخصية تتيح وحدها عددا لا نهائيا من "النمر"، بقدر براعة صانعي العمل في إتقان رسم عمليات النصب المتتالية. وبالطبع هناك ضابط شرطة على وشك التقاعد دائما (هكذا الحال في عشرات الأفلام الأمريكية)، يقوم بدوره هنا حسين فهمي، ويدعى سامح سيف الدين، وكما في "البؤساء" وحتى "الهارب" يظل هذا الضابط مشغولا طوال حياته بالقبض على النصاب الذي هرب منه في الأيام الخوالي. وأخيرا لابد من صحافية (رشا مهدي)، ليست لها أي حياة خاصة أو ملامح درامية لشخصيتها، وهي بدورها باحثة عن الحقيقة في مطاردة هذا المحتال بالغ الذكاء. وقد يكون هناك تفسير للعدد الوافر من الأفلام المصرية الأخيرة التي تناولت شخصية المحتال، مثل "سنة أولى نصب" أو "ابن القنصل"، فربما كانت انعكاسا لقيم اجتماعية مغلوطة ومقلوبة انتابت المجتمع المصري في الآونة الأخيرة، لكنها كانت أيضا تقليدا أعمى لموجة من الأفلام الأمريكية الحديثة حول هذه الشخصية، وإن اتسمت الأفلام الأمريكية بحيلة "الانقلاب الدرامي"، التي تجعل النصاب ذاته ضحية لعملية احتيال كبرى، كما هو الحال في فيلم "رجال عيدان الثقاب" (في العامية الأمريكية يعني هذا المصطلح "المحتالون"). لكن المشكلة الأهم لدى صناع ذلك النمط من الأفلام هي كيفية إثارة تعاطف المتفرج مع البطل، وهو الأمر الذي يحتاج إلى قدر هائل من براعة رسم الشخصية، وصنع تاريخ لها يبرر تحولها إلى الجريمة، وهذا ما تنجح فيه بالفعل معظم الأفلام الأمريكية. لكنك مع مسلسل عادل إمام "العراف" لن تجد لمثل هذا التعاطف سببا واحدا، بل إنك سوف تسخر من صناع العمل الذين سوف يبررون ذلك بأنه انتحل في بداية حياته شخصية محامٍ، ويقولون أيضا إنه كان محاميا ناجحا (!!)، واستقرت حياته آنذاك لولا اكتشاف أمره، مما اضطره للهرب، وأصبح انتحاله شخصية بعد أخرى مهنة اضطر إليها. لكن: ما الذي جعله يلجأ للانتحال أول مرة؟ وهل يكفي للتعاطف معه أنه عادل إمام؟! مع هروب المحتال إلى بلاد أخرى، وانتحاله أسماءً ومهنا جديدة، تأتي الحبكة الفرعية الثانية، فقد ترك وراءه في كل بلد ابنا أو ابنة، وبالطبع يحمل كل منهم اسم أب مختلفا عن الآخر، كما أنهم لا يعرفون أباهم أصلا، وهو الآن يعاود الظهور في حياتهم الواحد بعد الآخر، أما السبب فلأنه يريد أن يترك لهم ثروته. وقد تصدق تلك الحبكة الفرعية إذا كان المقصود منها هو إضافة لمسات إنسانية هنا وهناك، حتى لو كانت مفتعلة، لكن التلفيق يطغى عليها تماما عندما يزعم صناع العمل أنهم يريدون بها رسم خريطة للمجتمع المصري المعاصر، لذلك جاء الأبناء على النحو التالي: ضابط شرطة، وسلفي يميل إلى التطرف، ومهرب صغير، وأخيرا ابنة أصبحت ضحية لقسوة زوج أمها البخيل. سوف تظهر هذه الشخصيات جميعا وتختفي كيفما اتفق، بدءا من ضابط الشرطة الكبير الساعي إلى القبض على المحتال، ومرورا بالصحافية التي بلا ضرورة لوجودها أصلا، وحتى هؤلاء الأبناء وأمهاتهم، ولأن الشخصيات لا تتمتع بالحد الأدنى من رسم أي ملامح درامية، فقد جاء أداء الممثلين جميعا "يتمتع" بمزيج عجيب من المبالغة والسطحية، مما يؤكد مرة أخرى أن "المخرج" رامي إمام لا يفهم جزءا مهما من حرفة الإخراج، وهو فن إدارة الممثلين، خاصة وأن الرتابة والملل سيطرا على العديد من المشاهد، التي كان يصاحبها شريط صوتي من موسيقي لا تتوقف، وتنتقل فجأة (حسب الطلب) من جو إلى آخر. لكن الغريب حقا (ولعله ليس غريبا تماما) هو أداء عادل إمام بالغ التقليدية، وهنا نشير إلى أن بعض الممثلين يزدادون إتقانا للحرفة كلما كبروا في العمر، لكن بعضهم الآخر – مثل عادل إمام – يفقدون كثيرا من لياقتهم النفسية والجسمانية، الذي تكاد لا تراه هنا إلا جالسا في معظم المشاهد، يلقي سطور حواره كأنه يقرأها لأول مرة في "بروفة القراءة الأولى". بنفس القدر من الرتابة والملل يحشر المسلسل مشاهد طويلة لقيادة السيارة مثلا، والخروج منها، والوصول إلى الباب.... إلى آخره، فيما يسمى في الدراما "الزمن الميت" الذي يجب أن يحذف في المونتاج، كذلك كانت الحلقة الأولى مثالا على ذلك الكسل الإخراجي، فهي ليست سوى قطع مونتاجي متبادل (طوال الحلقة) بين حفل شديد البذخ لبعض رجال الأعمال، وعائلة فقيرة تسكن على سفح جبل المقطم، ويضطر عائلها للسطو المسلح على بعض السيارات حتى يوفر لهم لقمة العيش. وربما يبرر لك صناع المسلسل تلك الحلقة بأنها تفسر تحول البعض إلى الجريمة، لكن ما الذي يدفعني كمتفرج أن أواصل الفرجة على شخصيات لا أعرف عنها شيئا مطلقا؟ أخيرا هناك أهم مقومات أي عمل درامي يتناول شخصية المحتال، وهو إتقان "نمر" الاحتيال ببراعة كاملة، لكن تأمل النمرة الأولى سوف يكشف لك عن مدى التلفيق: إن البطل يتقمص شخصية رئيس إدارة الأموال العامة في وزارة الداخلية، ويستأجر مبنى يضع عليه لافتة توحى بذلك، ويجند عشرات من الكومبارس ليقوموا بأدوار ضباط وجنود ومخبري الإدارة، كل ذلك تحت ستار أنه يصور فيلما، ليستدرج العديد من رجال الأعمال الكبار ويحتال عليهم قبل أن يختفي. وهنا لابد أن تسأل نفسك: هل هناك رجل بهذا المنصب يهبط فجأة على عشرات رجال الأعمال الذين لا يعرفونه، برغم تعاملهم الدائم مع الإدارة؟ وكيف لا يمكن تعقب المحتال ولديك عشرات من شركائه الكبار والصغار، الذي يمكن لأي واحد منهم أن يشي به؟ وكيف يصدق هؤلاء الكومبارس أن هناك فيلما يتم تصويره دون كاميرا واحدة، ودون تحديد لموقع تصوير في المبنى، الذي يدور العمل في كل جنباته في كل لحظة؟ لن تجد لهذه الأسئلة إجابة، ولن يشغل صناع المسلسل أنفسهم بها، فهم يعتمدون على استمرارك في"الفرجة" لأن البطل هو عادل إمام. وقد يكون "العراف" يحكي عن نصاب بارع مفترض، لكن العمل يبقى في التحليل الأخير عملية نصب غير بارعة مطلقا على المشاهدين.

Wednesday, July 31, 2013

مسلسل "ذات"... رؤية منحازة وغير موضوعية للواقع المصري


مغامرة حقيقية أن تفكر مجموعة من فناني التليفزيون (أو السينما أو المسرح) في تحويل رواية "ذات" للأديب المصري صنع الله ابراهيم، إلى عمل درامي. فهي في الأصل ليست رواية بالمعنى التقليدي، إذ يختلط فيها عالمان: عالم الشخصيات التي ابتدعها الكاتب من خياله، وعالم تسجيلي خالص مؤلف من قصاصات الأخبار الصحفية، التي تبدو كأنها متناثرة ولا تحمل علاقة بينها، وإن كان الكاتب قد اختارها بعناية فائقة. وهذا العالمان يجمعهما نسيج واحد برغم تناقضهما الظاهر، بأسلوب يبدو هو ذاته يحمل مفارقة خفية، إذ يحكي صنع الله ابراهيم عن الشخصيات بما يشبه الموضوعية المتأملة المحايدة والباردة، ومع ذلك فإنه ينثر سخرياته منها هنا وهناك، في نوع من التعليق المستتر على مسار حياتها، لكنه في التحليل الأخير يترك القارئ يستخلص النتائج بنفسه. تبدو مغامرة تحويل رواية "ذات" إلى رواية أكثر جموحا، عندما تتذكر أن مسار حياة الشخصيات الروائية ذاتها يخلو من أي آثار أو تحولات دراماتيكية، إنها تعيش حياة "عادية" تماما، لا شيء خاصا أو مميزا فيها، بل إنها تشبه حياة الآلاف أو حتى الملايين من النساء والرجال، في ظل ظروف اقتصادية واجتماعية وسياسية جارفة، وهنا تكمن مفارقة أكبر، فاسم الشخصية الرئيسية، وعنوان الرواية "ذات"، يتناقض مع تحول هذه الذات إلى "موضوع"، يفتقد الحد الأدنى من الفردية الإنسانية. جاءت كاتبة السيناريو مريم نعوم إلى هذه التجربة وفي وعيها الفني هذا التحدي، وربما بدا للبعض من النقاد والجمهور أن هناك براعة في تحويل هذا النسيج "العادي" إلى دراما، وإن كان الدافع الأساسي لإعجابهم يأتي من نوع من الحنين إلى الماضي الخاص بهم، وليس الخاص بالعمل الدرامي ذاته، الذي افتقد الرؤية الموضوعية لصنع الله ابراهيم وأسلوبه الساخر معا، وكان مصدر الجانب السلبي للمسلسل مرجعه هو "اختيار" أحداث بعينها، والقفز على أحداث أخرى، بما يوحي برؤية مسبقة جاهزة لدى صناع العمل، تتعمد أن تترك لدى المتفرج انطباعا محددا، حتى بشكل غير واعٍ، ولا تسمح له بأن يُكوّن وجهة نظره عن مسارات حياة الشخصيات، وتقاطعها مع السياق الكامل للمجتمع المصري في نصف قرن أو يزيد. وبرغم نفي المخرجة كاملة أبو ذكري أن هناك مسحة "نسوية" في المسلسل، عزاها البعض إلى أن معظم الفنانين الذين صنعوه من النساء، فهو يحمل بالفعل تلك المسحة، بدءا من اختيار عنوان أكثر وضوحا، هو "بنت اسمها ذات"، ومرورا بالالتصاق ببطلته التي جسدت دورها نيللي كريم، في تحولات حياتها منذ الميلاد وكل التغيرات الجسمانية والعاطفية التي تشعر بها البنات، وانتهاء بالزواج والإنجاب والعمل غير المجدي والدوران في طاحونة الأعباء المنزلية التي لا تنتهي، في ظل وجود ذكور (صبيان ورجال) هم في أغلب الأحوال كائنات تفتقر إلى الحساسية. وكان من الممكن أن ينجح المسلسسل في هذا الإطار، لكنه اختار سياقا أكثر طموحا وتحيزا في الوقت ذاته، فلم تعد ذات (البطلة) مجرد تجسيد لجانب كبير من نصف المجتمع المظلوم، لكنها أصبحت رمزا للوطن ذاته، وبالتحديد من ليلة ثورة يوليو 1952، التي اقترنت بالصدفة بميلاد البطلة، لتمضي الأحداث السياسية (في تصور صناع المسلسل) موازية لمصير هذه البطلة. وقد لا ننكر هذا الطموح الفني والسياسي، لكننا نؤكد أنه كان يجب أن يستند إلى قدر أكبر كثيرا من الاتساق الفني أولا، والموضوعية السياسية ثانيا. فمن نقاط الضعف الرئيسية في معظم أعمالنا الدرامية (السينمائية والتليفزيونية)، الغياب الكامل لتحديد موقع "السارد" أو الراوي من الأحداث، فيمكنك أن تختار بين أن تروي على نحو يساوي بين كل الشخصيات، فتصبح عارفا بمشاعرها وأفكارها ومصائرها جميعا، أو بين أن تلتزم برؤية شخصية منها، لتجعل المتلقي يتوحد معها، عندما لا يعلم سوى ما تعلم هذه الشخصية. وكان من الممكن أن يكون هذا الاختيار الأخير (الرؤية الذاتية لذات) هو أسلوب العمل كله، خاصة أنه يمنحها منذ اللحظة الأولى "مونولوجا" من المستحيل وجوده واقعيا، فهو يصور العالم مقلوبا من وجهة نظرها بعد خروجها مباشرة من رحم أمها، مع تعليق صوتي لها وهي تشرح ما نراه على الشاشة. لكن هذا الاختيار كان يحتم أيضا استمرار وجهة النظر تلك والتعليق طوال السرد، لكنه كان يختفي حلقات طويلة، ليظهر في مشاهد نادرة متناثرة. كما أن هناك مشاهد كاملة في حلقات تالية، تشرح للمتفرج ما لا تعرفه ذات أو لم تره، مثل المشهد بين زميلتها الثورية صفية، وحبيبها عزيز، يوضح لنا أن ذات قد خدعت نفسها بأن عزيز يحبها. تلك الحيرة الأسلوبية بين أن تحكي "من وجهة نظر" ذات أو "عنها"، لا تجد لها معادلا في الجانب السياسي من المسلسل، فهنا موقف يقيني قاطع، إذ هو يأخذ من تاريخ مصر منذ عام 1952 موقفا سلبيا تماما، يبدو في اختياراته لأحداث تتقاطع مع مصير البطلة ذات. ألا يبدو غريبا على سبيل المثال أن تكون أول شخصية نراها مع أول مشهد هي شخصية اليهودي المصري زكي شلهوب، صاحب محل البقالة، وأن يجعلنا المسلسل نبكي بعد بضع حلقات على "اضطراره" للرحيل عن مصر، مع تعليق "الله يجازي اللي كان السبب"؟ ولا يقول لك المسلسل شيئا هنا عن المؤامرات الصهيونية الإرهابية التي كانت تهدف لإثارة الرعب في نفوس اليهود المصريين حتى يرحلوا عن مصر، كما لا يعبأ المسلسل بأن يعرض لك أي شخصية يهودية تمسكت بمصريتها، وقررت عدم الرحيل. وقبل أن تحتار طويلا في معرفة "السبب" لتلك الهجرة، تأمل اختيار الأحداث السياسية والتعليق عليها، فالمسلسل يأتي لك بلقطات عن لحظة إعلان عبد االناصر تأميم قناة السويس، مما أدى للعدوان الثلاثي. والمسلسل لا يقول لك أبدا السياق الذي كان التأميم جزءا منه (رفض البنك الدولي لإقراض مصر لبناء السد العالي)، كما أنه يقول إن القناة كانت ستعود من تلقاء نفسها بعد اثني عشر عاما مع انتهاء العقد مع الشركة الأجنبية لقناة السويس، ويكتفي بمشاهد الدمار الذي أحدثه العدوان الثلاثي، دون كلمة أو لقطة واحدة عن مقاومة المصريين، أو عن النصر السياسي الذي تحقق بانسحاب قوات العدوان دون أن تحقق هدفها، فالنتيجة الوحيدة لهذه الحرب كما يراها المسلسل هي رحيل اليهود عن مصر. هذا الاختيار لأحداث بعينها، وإهمال أحداث أخرى أو السياق الكامل لها، ينسحب على كل مسلسل "ذات"، ليعكس رؤية جاهزة ومنحازة ضد مصر يوليو 1952، فلا حديث مثلا عن مجانية التعليم (ربما لم تكن ذات وقريناتها تملكن فرصة التعلم لولاها)، أو عن القرارات الاشتراكية، لكن هناك تأكيدا على "هزيمة" 1967 الساحقة، التي جاءت بدورها دون سياق، بينما يوجد تجاهل تام لإعادة بناء الجيش المصري، وخوض حروب الاستنزاف التي كلفت العدو الصهيوني خسائر فادحة. دعني أؤكد يا عزيزي القارئ أنني لم أكن أريد أن ينزلق مسلسل "ذات" إلى تلك الرؤية السلبية، التي أراها أيضا تعكس عيبا أصيلا في سرده. إنك عندما تحكي مثلا عن الطفلة ذات، كان يمكنك أن تصور عالمها الطفولي، ورؤيتها واكتشافها له، فهل يتذكر الأطفال الأحداث السياسية الكبرى فقط، أم أن هناك على سبيل المثال ذكرى ألعاب الطفولة، وأول يوم في دخول المدرسة، والصداقات التي تولد فيها، وأول مرة تذهب فيها إلى السينما، وعشقها لمجلات الأطفال؟ لذلك فإن كل ما يتبقى ليس إلا تقليدا باهتا لرؤية سلبية مسبقة، فحتى أبناء الشريحة الدنيا من الطبقة الوسطى كانت لهم مباهجهم التي تتناسب مع أعمارهم، أما تجارب البطلة ذات فليست إلا سلسلة من المآسي الصغيرة، تبدأ مع رحيل العائلة اليهودية، وتمر مع الختان الذي يقترن سياقه هنا مع "تورط" مصر في ثورة اليمن، ناهيك عن قصص الحب المجهضة، والتي عاشتها ذات من طرفها فقط، حتى زواجها من عبد المجيد (باسم سمرة)، الذي يبدو عاديا إلى درجة الابتذال، حتى أنها يغتصبها في ليلة الزفاف، التي تقترن هنا مع خوض مصر لحرب أكتوبر مع إسرائيل!! هل خرج المتفرج بأي رؤية جعلته أكثر فهما لواقعه؟ الحقيقة أن لا وعيه ربما قد تأثر على نحو بالغ السلبية، بذلك العرض المنحاز ضد الشخصية المصرية، بل التاريخ المصري المعاصر كله، بما يجعل "ذات" مسرحا لرؤية غير موضوعية على الإطلاق، ولا يترك للمتفرج نقطة ضوء يستطيع من خلالها أن يتلمس الجوانب الإيجابية في هذا التاريخ، أو يعطيه المتفرج أملا حقيقيا في المستقبل.