Monday, September 02, 2013

مسلسل "الداعية"... هل هناك من حل لكل هذا التناقض؟


مسلسل "الداعية" من المسلسلات المصرية القليلة التي لا تهدف فقط إلى الترفيه عن جمهور المشاهدين، بل يرمي من اللحظة الأولى لتقديم "رسالة"، تبدو ملحة تماما بالنسبة للمجتمع المصري في اللحظة الراهنة، خاصة في سياق أصبح لظاهرة "الدعاة" الدينيين، الذين يتوجهون لجمهور الشباب من الشريحة العليا من الطبقة الوسطى، تأثيرات سياسية عميقة. فبقدر ما أن لهؤلاء الدعاة تأثيرا أخلاقيا، فإن لهم أيضا تأثيرات سياسية، إذ يصنعون قطاعا لا يستهان به من المتشددين، الذين لا يكبلون المجتمع فقط عن التقدم، بل يريدونه أن يعود قرونا إلى الوراء. ورسالة مسلسل "الداعية" ليس أبدا نقد أو نقض هذه الظاهرة بشكل مطلق، وإنما السؤال الأكثر جوهرية: هل هناك حقا أي تناقض بين الدعوة الدينية والحياة العصرية، بكل ما فيها من مكتسبات حضارية وثقافية وفنية؟ وهذه الدراسة لإمكانية وجود "تناقض" ترتكز هنا على بضع قواعد أساسية في أي درما ناجحة، تلك القواعد هي التناقض بين الشخصيات والأفكار بين مواقف تبدو متصارعة، والتغير أحيانا من موقف إلى آخر في شكل تحول درامي، وهذان المبدآن: التناقض والتغير، هما مصدر الحيوية في الأغلب، والضعف أحيانا، فيما أنجزه مسلسل "الداعية"، وفيما لم ينجح تماما في إنجازه. هناك في البداية عالم الداعية الشاب يوسف (هاني سلامة)، الذي حقق شهرة كبيرة وسط عالم الإعلام (والإعلان أحيانا)، بمظهره الأنيق، وحديثه الناعم، لكنه يخفي تحت السطح تشددا يتناقض تماما مع هذا المظهر. لا يقول لنا المسلسل كيف أصبح يوسف تلك الشخصية، وإنما هو أمامنا كشخصية جاهزة، خاصة أن هناك بينه وبين أبيه عبده (أحمد راتب) تناقضا يكاد أن يكون جذريا، فالأب بوهيمي تماما في حياته، ويحمل بعض "موتيفات" من الشيخ حسني في فيلم "الكيت كات" لداود عبد السيد، فهو ما يزال يقيم فقيرا في حي شعبي، ويعيش اللحظة مستمتعا بحياته، غارقا طوال نهاره في النشوة التي يشعر بها كفنان في صناعة "الأويما" (النحت والحفر على الخشب)، والانخراط في الغناء حتى في أكثر اللحظات قتامة، بينما يقضي ليله وسط دخان المخدرات الأزرق، كأنه يهرب من خوفه مما يخفيه له الغد من آلام، ناتجة عن عدم قدرته على تلبية الاحتياجات المادية البسيطة له ولزوجته الشابة. قد يخدم وجود مثل هذه الشخصية التأكيد على اختلافها الجذري عن الابن يوسف، بل إنه يثير التعاطف الإنساني أكثر، لكن هذا الاختلاف يبقى دون تفسير مقنع في الأغلب. على النقيض يعيش الابن يوسف فيما يشبه القصر الفاخر، وقد استطاع كأخ أكبر أن يربي شقيقاته الثلاث وشقيقه الأصغر الوحيد، وهو يبدو وسطهم مسيطرا ماديا ومعنويا، خاصة على الأخت الكبرى خديجة (ريهام عبد الغفور)، المستسلمة دائما لأحكامه، بينما تبدو الشقيقتان الأخريان أكثر ابتعادا عنه وتمردا عليه، فلكل منهما عالمها الخاص الذي تحاول بطريقتها أن تدافع عنه، كما أن الشقيق الأصغر المراهق لا يجد من يفهم احتياجاته في هذه السن الخطرة. يتأكد التناقض أيضا مع وجود حسن (أحمد فهمي) زوج خديجة، وهو بدوره داعية لكنه مغمور تماما، لذلك فإنه يعاني من عدة مشاعر مختلطة، فهو يشعر بالغيرة من نجاح يوسف، كما يعاني أيضا من الإحساس بالدونية في منزل شقيق زوجته، حيث لا يملك في أغلب الأحيان التحكم في أسرته ذاتها. وسوف يلعب المسلسل على التناقض بين يوسف، الذي يبدو في البداية متشددا في أفكاره وسلوكه، وحسن الأكثر انفتاحا وتسامحا، لينتهي هذا التناقض في النهاية – كما سوف نرى – إلى انقلاب في المواقف، حين يسعى حسن بدوره إلى الشهرة، التي ترتكز على التشدد، بينما يصبح يوسف أكثر قبولا لمباهج الحياة. هذا الموقف الأخير ليوسف سوف يأتي من التناقض الرئيسي في المسلسل، بينه وبين جارته نسمة (بسمة)، عازفة الكمان البارعة في إحدى فرق دار الأوبرا، وابنة العائلة ذات التاريخ النضالي اليساري، والمنخرطة دائما في الاشتراك في الفاعليات السياسية التي شهدتها مصر في الآونة الأخيرة، وإن بدا ذلك أحيانا على الشاشة مفتعلا وسطحيا، ربما للمشاهد التقريرية للمناظرات السياسية، وربما أيضا للأداء التمثيلي لبسمة، الذي لا يعرف التنوع والتنويع، وإنما يظل واحدا في مختلف المواقف. وبالطبع سوف تبدأ العلاقة بين يوسف وبسمة متوترة أو حتى عاصفة أحيانا، لكنها تنتهي إلى الوفاق الكامل، وبالطبع فإن السبب هو الحب الدافئ الذي يولد في قلبيهما، ومرة أخرى فإن المسلسل لا يهتم بتفسير هذا التحول بقدر ما "يستخدمه" لأهداف الرسالة التي يسعى إليها. في مشاهد قليلة تذكرنا بموتيفة من فيلم "رسائل البحر" لداود عبد السيد أيضا، يسترق يوسف السمع في الليل إلى النغمات الآتية من نافذة جارته نسمة التي تعزف على كمانها (كانت بسمة هي العازفة أيضا في "رسائل البحر")، ولسبب غامض ما تحرك الموسيقى وجدانه، وشيئا فشيئا يدرك أن في الحياة ما هو أكثر وأغنى كثيرا من آرائه التي يوزعها على الناس، وعندما يضع قدميه تماما في عالم نسمة تكون أفكاره قد تغيرت، ليعلنها على جمهوره الذي يشعر بنوع من الصدمة، لكن الخطر الأكبر يأتي من ذلك القطاع الذي كان "يستخدم" يوسف لأهداف سياسية، متمثلا في التيار اليميني المتشدد، بالإضافة إلى رجال عالم "البيزينس" والإعلانات، الذين كانوا يستغلون تشدد يوسف وسخونة آرائه في برامج جماهيرية تتناثر فيها إعلاناتهم. وفي نهاية غريبة على الدراما العربية (وإن كان لها تنويعات في السينما العالمية، لعل من أهمها فيلم "الأبواب المنزلقة")، يقترح المسلسل على المتفرج نهايتين متناقضتين: ففي مشهد يذكرك كثيرا بفيلم "لينكولن"، تعزف نسمة في حفل موسيقي يحضره يوسف وقد ملأته السعادة، وهناك في إحدى المقصورات رجل يحمل مسدسا كاتما للصوت، يطلق رصاصة على يوسف الذي يقع صريعا، ويبقى في كرسيه دون أن يشعر به أحد بينما ينصرف الجمهور بعد انتهاء الحفل (هل يذكرك هذا بمصرع شخصية توم كروز في فيلم "ضحية المصادفة"؟). تلك هي النهاية الأولى، لكن المسلسل يقترح عليك نهاية أخرى ويترك لك الاختيار بينهما، فيعود الشريط حرفيا إلى الخلف، ليتم القبض على حامل المسدس، ويقف يوسف بعد انتهاء العزف مصفقا لنسمة في بهجة غامرة. يحاول المسلسل أن يضع "تيمته" الرئيسية تلك على خلفية ثرية بالتفاصيل، ربما بدت أحيانا بعيدة في موضوعها، لكن ما يبرر وجودها بحق الأداء البارع لكل فريق التمثيل، خاصة من الشباب، وهو ما يشهد للمخرج الشاب محمد العدل بإدراكه لأهمية إدارة الممثل، وسوف ترى مثلا من أحمد فهمي في دور حسن زوج الشقيقة حضورا مختلفا تماما عن كل محاولاته الباهتة السابقة، ويكاد لا يشذ عن ذلك سوى البطلين هاني سلامة وبسمة، صاحبي الأداء الرتيب، وإن كان وجودهما مهما لتسويق المسلسل!! يرسم سيناريو مدحت العدل إذن الكثير من التفاصيل، التي تضفي حيوية على موضوع قد يقع في التنميط، فعلى النقيض من عالم يوسف بين وجهاء المجتمع من أصحاب القنوات الفضائية، أو المتاجرين بالدين، هناك عالم الفقراء، الذين يسعون من أجل رزق يبدو كأنهم أحيانا ينتزعونه من بين أنياب بعضهم البعض، ومشاعر وطموحات إنسانية مشروعة، تنكسر على صخرة الفقر والعوز. وهو ليس أبدا عالما "فولكلوريا" سعيدا أو وحشيا دمويا كما قد نراه في أغلب أعمالنا الدرامية، لكنه عالم حقيقي، يجعلك تتساءل لماذا لا يصبح أفضل في ظروفه لكي تتحقق لأبنائه حياة كريمة يستحقها البشر؟ لذلك كله يمكنك أن تغفر لمسلسل "الداعية" بعض نقاط الضعف هنا أو هناك، وتفهم أن وراءه على الأقل رسالة نبيلة، تقول إن من الممكن أن يتلاقى تراثنا مع حاضر المدنية، وإن الدين لا يمكن أبدا اختزاله في مجموعة من الأوامر والنواهي، بل إنه في جوهره يسعى إلى تحقق أكثر القيم الإنسانية سموا وأخلاقية.