Saturday, September 21, 2013

مسلسل "الزوجة الثانية".... ظل باهت للفيلم، والواقع أيضا


عندما يقرر صناع الدراما التليفزيونية "إعادة صنع" عمل سينمائي ما، فلابد أن هناك سببا قويا يدفعهم إلى ذلك، لكن تجارب المسلسلات المصرية في الاقتباس عن أعمال سينمائية سابقة أتت جميعها مخيبة للآمال، لسبب رئيسي هو تصور صناعها أن مجرد النجاح الجماهيري للفيلم سوف يضمن بالضرورة نجاح المسلسل، لكن ذلك تحديدا هو جوهر الفشل، ففي كل لحظة من هذا المسلسل أو ذاك لا يتوقف المتفرج عن مقارنته بالفيلم، وتكون النتيجة دائما لصالح هذا الأخير، وهذا بالضبط هو ما حدث مع مسلسل "الزوجة الثانية". لقد تم عرض فيلم "الزوجة الثانية" عشرات المرات على مختلف القنوات التليفزيونية الفضائية، ولم يعد نجاحه مقتصرا فقط على الجيل الذي شهده في السينما في النصف الثاني من الستينيات، بل أصبح بالنسبة لأجيال عديدة جزءا من "فولكلور" جديد، وجرت على الألسنة عبارات مثل "الدفاتر دفاترنا"، في إشارة للتزييف الذي يأخذ شكلا قانونيا، أو "الليلة يا عمدة"، تلميحا إلى العناد الذي يتسبب عن غيرة متأججة. لكن صناع مسلسل "الزوجة الثانية": ياسين الضو وأحمد صبحي كاتبين للسيناريو، وخيري بشارة مخرجا، لم يتوقفا بالتأمل عند السبب الحقيقي للفيلم، أو قل الأسباب العديدة لهذا النجاح، والتي سوف نتناولها لاحقا بشيء من التفصيل. دعنا نبدأ أولا بالحبكة الرئيسية للقصة، التي كتبها للفيلم أحمد رشدي صالح: عمدة لا يعرف طمعه حدودا، ويستولي على كل ما تصل إليه يداه، حتى نصيب أخيه من الميراث، لكنه زوجته التي لا تختلف عنه كثيرا لا تنجب، ليدرك العمدة أن كل شيء سوف يؤول بعد وفاته إلى الآخرين، لذلك فهو يريد ابنا يرثه. غير أن تلك الرغبة تتلاقى مع رغبة أخرى أكثر عمقا، وهي اشتهاؤه لفلاحة فقيرة جميلة لكنها متزوجة، فيدفع زوجها إلى تطليقها بالقوة، ويتزوجها في الليلة ذاتها. وتعرف الفلاحة بالصدفة أن مثل هذا الطلاق أو الزواج غير جائز شرعا، وأنها ما تزال زوجة لزوجها الفلاح الفقير، فتقرر ألا يمس العمدة شعرة منها، بينما تحمل من زوجها، فتؤدي هذه الصدمة بالعمدة إلى الشلل ثم الموت، وترث البطلة وابنها كل شيء بحكم القانون الذي أراد العمدة في البداية التلاعب به. لديك هنا بطلة تثير تعاطفك بكل ما تملك من مشاعر وأفكار، سواء في مرحلة القهر والفقر، أو في مرحلة التحايل على الواقع المرير. ولعلنا جميعا نتفق على أن جانبا كبيرا من نجاح الفيلم يعود إلى قيام سعاد حسني بتجسيد دور البطلة فاطمة، لكن ذلك ينسحب في الحقيقة على كل ممثلي الفيلم الذي أخرجه صلاح أبو سيف، وهو الذي عرف عنه التدقيق الشديد في اختيار وإدارة ممثليه، صلاح منصور في دور العمدة، وسناء جميل في دور زوجته، وشكري سرحان في دور الزوج المقهور، وحتى الشيخ الذي يضفي غطاء "شرعيا" مزيفا على كل التصرفات الظالمة، وقام بتجسيده حسن البارودي. لكن الأهم من ذلك كله هو "إحساس" صلاح أبو سيف بأجواء الأحداث، التي لا تدور في "ديكور" مصطنع، وتأكيده على عنصر "المفارقة"، في المرارة التي يشعر بها العمدة، لأنه يترك ميراثه بعد رحلة طويلة من جمعه بكل الوسائل، إلى وليد ليس في الحقيقة هو ابنه!! سوف تضيع هذه المفارقة الجوهرية تماما في المسلسل التليفزيوني، ليس فقط بسبب "مط" الأحداث بشكل متعسف لتصل إلى ثلاثين حلقة، وإنما للانعطافات التي أخذ فيها كاتبا السيناريو أحداث القصة، وغياب إحساس المخرج بأجواء الريف الحقيقية، وهو ما سوف يتأكد لك على الفور مع اختيار الممثلين (أو قل عدم اختيارهم)، فقد جاءت مثلا الممثلة آيتن عامر بطلة للمسلسل لأنها شقيقة زوجة المنتج (!!)، لكن ذلك ينسحب أيضا على بقية الأدوار، ولتتأمل على سبيل المثال علا غانم في دور الزوجة الأولى، التي ترتدي ملابس فاضحة وتظهر بها أمام الجميع، وتتحدث بلهجة أقرب إلى الغانيات، وإن كان المسلسل سوف "يحشر" أيضا الغانية راوية (إيناس عز الدين)، التي تكسب عيشها من تزويج الفلاحات صغيرات السن إلى عجائز أثرياء، ولن يعرف المتفرج أبدا سبب وجودها، سوى أنها تشتهي الزوج الفلاح أبو العلا (عمرو واكد)، وتنتظر تطليقه لزوجته فاطمة، حتى تأخذه إلى عالم الصفقات المالية الرابحة، في تحول في السرد يأخذ الحبكة بعيدا تماما عن جوهرها!! ليس الأمر هنا هو الالتزام بالحبكة الأصلية للقصة أو الابتعاد عنها، وإنما تحقيق التوحد، أو التعاطف على الأقل، مع هؤلاء الأبطال المضطهدين، وهو ما افتقده المسلسل خاصة في نصفه الثاني، ليضاف عنصر جديد إلى المقارنة بين سعاد حسني وآيتن عامر، وهو تحول البطلة فاطمة في المسلسل إلى الشراسة والعدوانية، التي تصل أحيانا إلى درجة السوقية التي تثير نفور المتفرج بدلا من أن تثير شفقته. إن ذلك يمتد إلى بقية الشخصيات، فمرة أخرى في مسلسل "الزوجة الثانية" تشاهد مزيدا من "فلاحي التليفزيون"، الذين يعيشون في ديكورات مرسومة، ويتحدثون بلهجة مصطنعة، دون أن تجد سببا واحدا، أو إضافة ذات مغزى، تبرر إعادة صنع فيلم "الزوجة الثانية" في شكل المسلسل التليفزيوني. ومن الحق القول إن المشاهد الصادقة الوحيدة في المسلسل كانت تلك التي تتسم بصبغة تسجيلية، خاصة في شكل الأفراح الريفية البسيطة، لتتذكر كيف أن المخرج خيري بشارة بدأ حياته السينمائية مخرجا بالغ التميز للأفلام التسجيلية، لكنه عندما يتحول إلى الدراما يفقد جزءا لا يستهان به من الإحساس بالواقع، فكما كانت جماليات الصعيد في فيلمه "الطوق والإسورة" لا تعكس الحرارة الخانقة في هذا العالم، فهو هنا أيضا يرى عالم الفلاحين من على السطح، أو بالأحرى ليس بعيني الواقع وإنما من خلال التراث التليفزيوني عن هذا العالم. تأمل على سبيل المثال تلك المشاهد الحوارية الطويلة بين الشخصيات، لا تفعل فيها شيئا سوى أن تقف أو تجلس كأنها على خشبة مسرح، ناهيك عن الاسترسال أيضا في "مونولوجات" طويلة" تخلط بين عالم "هاملت" وعالم قرية مصرية صغيرة فقيرة! وفي مثل هذا العالم سوف يعود "فلاحو التليفزيون" إلى تقمص الأدوار البلهاء، التي تخلط بين التخلف العقلي وما يفترض أنه الكوميديا، فالخفير حسان (هشام اسماعيل، الذي حل محل دور عبد المنعم ابراهيم) يتبادل حديثا طويلا مع أوزة، وتظل جميع الشخصيات طوال حلقة كاملة تتحدث عن انتظار تركيب "تليفون" في مكتب العمدة، في حوار أقرب إلى التهريج المفتعل. كما يفتقد العمدة عتمان هنا (عمرو عبد الجليل) قدرا كبيرا من المصداقية التي تمتع بها عمدة الفيلم، فهو ما يزال في ريعان شبابه وليس رجلا يقترب من شيخوخته. الصدق الواقعي والفني، هذا باختصار ما افتقده مسلسل "الزوجة الثانية"، فلم يأت فقط ظلا باهتا للفيلم، وإنما لأي واقع حقيقي أيضا، فأنت لن تصدق قدر الفقر الذي يعيش فيه أبو العلا وزوجته فاطمة، ولن تشعر بذل القهر الذي يدفع هذا الرجل لتطليق زوجته، ولن تتعاطف مع فاطمة التي لا تملك لضعفها سوى أن تتحايل على كل هذا الهوان. وإن أردت مثالا على خطأ (يكاد أن يصل إلى درجة الخطيئة) في ابتعاد المسلسل عن القصة الأصلية، فسوف تجده في المرض الذي أقعد أبو العلا عن العمل، مما اضطر فاطمة للعمل في بيت العمدة حيث اقتربت الفريسة من شبكة الصياد: في الفيلم يجتاح القرية وباء الكوليرا، أما في المسلسل فإن أبو العلا يصاب في خناقة عارضة!! وذلك ليس إلا مثالا على عدم إدراك صناع المسلسل لأهمية السياق الدرامي الذي تدور فيه الأحداث، بقدر عدم إدراكهم للسياق الواقعي ذاته، فجاء معظم ما فيه مزيفا، ليستحق كل هذا الانتقاد المرير الذي ناله من بين كل مسلسلات رمضان.

Tuesday, September 17, 2013

الموسيقى في السينما.... عندما يتحول الصخب إلى الصمت!!


من الأخطاء الشائعة في الحديث عن تاريخ السينما أن نستخدم تعبير "السينما الصامتة"، لوصف تلك المرحلة التي استمرت حوالي ثلاثة عقود من بداية السينما، ولم يكن ممكنا خلالها تسجيل الصوت، بحيث يسمعه المتفرج متزامنا ومتطابقا مع الصورة. لكن لم يكن ممكنا أيضا ترك هذا المتفرج في صمت مطبق، خاصة أن آلات العرض الأولى كانت تُصدر صوتا مزعجا، ومن هنا نشأت الحاجة إلى مصاحبة موسيقية من نوع ما، ربما تأتي في دور العرض الرخيصة من آلة "فونوغراف"، أو أن تأتي دور العرض الفاخرة بفرقة موسيقية كاملة، أو حتى عازف لآلة الأورج أو البيانو، لتملأ الموسيقى هذا الصمت. لكن هذه الموسيقى لم تكن أيضا مجرد احتياج تفرضه ظروف العرض، فقد كانت الموسيقى المسرحية قد بلغت درجة عالية من النضج، ورثته عنها السينما على الفور. فللموسيقى فى الفنون الدرامية وظائف بالغة الأهمية، حتى أنه لا يمكن لك – إلا فيما ندر – أن تتخيل فيلما يخلو من الموسيقى، التي تعزز اللحظات الدرامية بقوة. ففي النسخة الأخيرة من فيلم "البؤساء" على سبيل المثال، يلتقي البطل السجين السابق مع سجانه بعد سنوات طويلة، ويحاول البطل أن يتخفى ويهرب من هذا الماضي، لكن المتفرج يعرف أن ذلك مستحيل، عندما يرتفع على شريط الصوت لحن كنا قد سمعناه في مشاهد السجن السابقة. وكثير من الأفلام العالمية ارتبط بالموسيقى التصويرية لها، مثل "الطيب والشرس والقبيح" أو "من أجل حفنة دولارات" أو "الأب الروحي"، حتى أن الموسيقى فيها اشتهرت لدرجة انتقالها إلى العديد من الأفلام المصرية. ولا يمكن أن تنسى أيضا أغنية فيلم "تايتانيك" أو "الحارس الشخصي" أو بعض أفلام "جيمس بوند"، وهي أغنيات تم تأليفها خصيصا لهذه الأفلام، كما قد تستعين السينما أحيانا ببعض المؤلفات العالمية الشهيرة، مثلما فعل المخرج الألماني فريتز لانج في فيلمه "إم"، حين جعل البطل قاتل الأطفال يهمس لنفسه دائما بلحن من متتالية "بيرجنت" لإدوارد جريج، وعندما يعلو اللحن معزوفا على آلات الأوركسترا فإن المتفرج يتوقع على الفور وجود القاتل. وأخيرا فقد استخدم هيتشكوك الموسيقى على نحو متفرد في مشهد القتل من فيلمه "سايكو"، فبدلا من أن نسمع الصرخات بينما تنهال الطعنات، هناك نغمات صارخة من آلات وترية تضفي على المشهد مزيدا من الكابوسية. تلك وغيرها استخدامات "جمالية" للموسيقى في السينما، غير أن السينما المصرية لم تتقنها إلا في حالات نادرة، خاصة أن لهذه السينما سمة ظلت ملازمة لها، وهي وجود الأغنية التي تقطع سير الدراما أحيانا، أو تخرج على الأسلوب الفني ذاته، فليس من المنطقي مثلا في فيلم "واقعي" كفيلم "العزيمة" أن تصعد البطلة (فاطمة رشدي) إلى سطح منزلها، لتغني أغنية حزينة دون أن ندري من أين تأتي هذه الموسيقى!! وإلى جانب الأغنيات، أضاف المخرجون "توليفة" من مقطوعات شهيرة، أصبحت من "أرشيف" الموسيقى التصويرية التي تكررت في الأفلام المصرية حتى الخمسينيات، ولعل أشهر هذه المقطوعات "صور في معرض" للمؤلف الموسيقي موسورسكي، أو باليه "جيانه" لخاتشادوريان، أو "شهر زاد" لكورساكوف، ولعلك تلاحظ أنها مؤلفات موسيقية روسية، لذلك كان طابعها الشرقي ملائما لذوق المتفرج العربي. وبعد سنوات طويلة، أدرك مخرجو السينما المصرية أهمية وجود موسيقى تصويرية في الأفلام، لكن الارتباط مرة أخرى بالأغنية دفعهم إلى أن يبحثوا عن هذه الموسيقى لدى المطربين الملحنين المشهورين، مثل محمد عبد الوهاب أو فريد الأطرش أو محمد فوزي، الذين جاءت ألحانهم مجرد "نقلات" موسيقية لا تدرك تماما الطابع الخاص للموسيقى السينمائية. وهنا يأتي دور واحد من أهم وأغزر من ألفوا الموسيقى للسينما المصرية، وهو فؤاد الظاهري، والذي تتراوح الأفلام التي اشترك فيها بين واقعية "شباب امرأة"، ووطنية "بورسعيد" أو "رد قلبي"، وتجريبية "باب الحديد"، وكوميدية "الزوجة 13"، لكن برغم الفوارق الهائلة بين عالم كل من هذه الأفلام، فقد اعتمد الظاهري على أسلوب واحد، وهو انفجار الموسيقى العاطفية الجياشة في اللحظات الميلودرامية، وربما لن تجد عنده أبدا موسيقى مرهفة في لحظة درامية رقيقة، بل إن اعتمد على تكرار بعض ألحانه التي انتقلت من فيلم إلى فيلم، سواء كانت تنويعات على "تيمات" فولكلورية أو شعبية مثل "يمامة بيضا" أو "آه يازين"، أو ألحانا من عمل أثير لديه يحمل عنوان "الأرض الثائرة"! وإلى جانب الظاهري، كان هناك العديد من الموسيقيين الأقل شهرة وإن لم يكونوا أبدا أقل موهبة ودراسة، مثل عازف الكمان الشهير أنور منسي الذي وضع موسيقى فيلم "غروب وشروق"، أو المؤلف الموسيقي عبد الحليم نويرة صاحب موسيقى فيلم حسين صدقي "خالد بن الوليد"، أو فيلم "سيد درويش"، وكان نويرة واحدا ممن يجيدون تقديم تنويعات على الألحان، أو مثل سليمان جميل الذي ألف موسيقى فيلم "الحرام". لكن تأثير هؤلاء توارى إلى جانب صخب موسيقى الظاهري، وربما كان الوحيد الذي استطاع إضافة لمسه مغايرة هو أندريا رايدر، الذي منعته جذوره الأجنبية من غزارة تأليف ألحان مصرية وشرقية صميمة، لكن ذلك النقص ذاته هو الذي ألجأه لأسلوبه الخاص، الذي اعتمد على تقديم تنويعات بالغة التباين على لحن أو لحنين طوال الفيلم كله. إنه في فيلم "حكاية حب" على سبيل المثال يعتمد على حزن لحن أغنية "في يوم في شهر في سنة"، وعاطفية لحن أغنية "بتلوموني ليه"، ليقدم منهما نسيجا يغلف كل اللحظات الدرامية على اختلافها، كما فعل في فيلم "الخطايا" مع لحني "الحلوة" و"لست أدري"، أو الفيلم الذي قامت ببطولته نجاة "غريبة"، مع لحني "عيد ميلادك يامنى" و"وحديا". ومن نفس النقطة بدأ علي اسماعيل، الذي قدم تنويعات لحنية في فيلم "يوم من عمري" على أغنيات مثل "ضحك ولعب" أو "بأمر الحب"، لكنه عبر أفلام فرقة رضا مثل "أجازة نص السنة" أو "غرام في الكرنك"، استطاع تطوير أدواته، التي بلغت ذروتها في فيلم يوسف شاهين "الأرض"، الذي لا يمكن أن تنسى فيه تنويعاته على لحني "أرضنا وعطشانة" أو "نورت ياقطن النيل"، في لحظات مفعمة بالألم أو الأمل. ويمكنك أن ترى مثيلا لهذه المسيرة مع محمد نوح، الذي فهم تماما معنى الموسيقى السينمائية مع فيلمي يوسف شاهين "اسكندرية كمان وكمان" و"المهاجر". لكن هذا التقدم نحو موسيقى سينمائية أكثر نضجا شهد تراجعا في السبعينيات، بسبب استخدام الآلات الموسيقية الإلكترونية استخداما مفرطا، والاستعانة ببعض العازفين المشهورين عليها، مثل مجدي الحسيني وهاني مهنا وعمر خورشيد، الذين كانت وظيفتهم هي "ملء" شريط الصوت بأي موسيقى. وبرغم أن مؤلفا موسيقيا مثل جمال سلامة قد درس التأليف والتوزيع الموسيقيين، فإنه أعاد في تلك الفترة أسلوب فؤاد الظاهري الصاخب مرة أخرى، ولا يمكن لك أن تجد فرقا بين موسيقى أي من أفلامه العديدة التي قامت ببطولتها نبيلة عبيد أو نادية الجندي. وعندما جاءت الثمانينيات بجيل جديد من السينمائيين، ظهر أسلوب أكثر رهافة في الموسيقى السينمائية، يمكنك أن تجده مثلا في أفلام المخرج محمد خان التي كتب موسيقاها كمال بكير، أو مؤلفات راجح داود الموسيقية لأفلام داود عبد السيد. وتميزت أيضا موسيقى مودي الإمام في أفلام المخرج شريف عرفة بنوع من دعم المونتاج الإيقاعي، ظل علامة مسجلة منذ "الدرجة الثالثة" و"اللعب مع الكبار"، وانتقل إلى جيل جديد من المؤلفين الموسيقيين مثل خالد حماد وعمرو اسماعيل. لكن واقع الموسيقى السينمائية اليوم في السينما المصرية قد عاد للأسف إلى مراحل بدائية، فقد تسمع على شريط الصوت في أحيان نادرة موسيقى تدعم اللحظة الدرامية، كما عند ياسر عبد الرحمن أو عمر خيرت أو الراحل عمار الشريعي، لكنك في الأغلب الأعم لن تجد سوى حالة من الصخب السمعي الذي يتماشى مع الصخب البصري، حتى أن سؤالا مهما يغيب عن صناع معظم سينمائيي السينما المصرية الآن، هذا السؤال ليس هو "أين أضع هذه الموسيقى؟"، بل أيضا "أين يجب أن تغيب الموسيقى؟"، فعندما تصبح الموسيقى موجودة في كل لحظة، يمكن لك أن تتأكد من أنها تفقد تأثيرها. ويبدو أن السينما المصرية قد عادت "صامتة" برغم كل هذا الصخب على شريط الصوت!!