Thursday, November 14, 2013

أزمة السينما ... كمان وكمان!!


من جديد تراجع عدد الأفلام المصرية فى هذا العام 2010 إلى أقل من ثلاثين فيلما، بينما كان قد ارتفع خلال السنوات الخمس الماضية إلى ما بين أربعين وخمسين فيلما، وبرغم أن ذلك الارتفاع ظل أدنى كثيرا مما كانت السينما المصرية تحققه فى نهاية الثمانينيات، فقد ظل أعلى مما هبطنا إليه عند نهاية التسعينيات (15 فيلما فى عام 1999!!)، لكن ما تزال هذه الأرقام تعكس الحالة المرضية التى تعيشها السينما المصرية منذ فترة طويلة، على مستوى الكم والكيف معا. ومع ذلك فإننا ننام ملء أجفاننا، نستيقظ أحيانا ونفتح عينا ونتفوه بكلمة، ثم نتثاءب ونعود للنوم ... هذا هو حالنا ليس فقط فى السياسة ولكن فى كافة النشاطات "الإنسانية"، ومنها السينما، التى قد يتصور البعض أحيانا أنها نشاط ترفيهى يمكن الاستغناء عنه إذا كانت الظروف لا تسمح بالرفاهية، وأنا أتفق معهم تماما إذا كنا نطبق بالفعل مفهوم "الأولويات" فى حياتنا، و"على قد لحافك مد رجليك"، لكن السفه الذى نشهده مثلا فى الإنفاق المجنون على التمثيليات التليفزيونية التافهة يجعلنا نسأل: ألم تكن السينما أولى ببعض من هذه الأموال التى تضيع فى الهواء؟ أعلم أن لكل ما سوف أطرحه الآن من أسئلة ردا جاهزا، هو فى الحقيقة اقرب إلى التبرير منه إلى التفسير. خذ مثلا هذا المثال الأخير: العلاقة بين السينما والتليفزيون، فالبعض سوف يقول لك: "واحنا مالنا؟ أصحاب وكالات الإعلان هم الذين يمولون هذه المسلسلات، وهم أحرار فى فلوسهم، فهل تريدنا أن نعود للعصر "الشمولى" ونفرض عليهم ما لا يريدون؟"، وهنا يثور على الفور الموضوع الشائك بين تلك الحرية المنفلتة باسم اقتصاد السوق، وحق "الدولة" (أى دولة) فى أن تضع الضوابط التى تنظم تعارض المصالح الذى يقع فى هذا المجال بين من يصنعون الفن ومن يستهلكونه، ودعنى ياقارئى العزيز أذكرك أن الجهات المسئولة عن الإعلام في الدول المتقدمة تضع ضوابط في هذا الشأن، فهي تحدد حدا أقصى للفترة الإعلانية كل ساعة، كما تلزم القنوات التليفزيونية بفترات محددة للإعلانات سواء فى ساعات الليل أو النهار، والأهم هو التشجيع على إيجاد مصادر أخرى للتمويل تستطيع أن تقلل من اعتماد هذه المحطات على الإعلانات، بل يذهب الأمر إلى أن يكون أحد أهم مصادر تمويل القنوات التليفزيونية هو الاشتراك فى إنتاج الأفلام السينمائية، وأرجو من يهمه الأمر أن يراجع العناوين الأخيرة فى أى فيلم سينمائى أوروبى أو لاتينى (أو حتى إسرائيلى)، ويعد كم محطة تليفزيونية اشتركت فى إنتاجه. أريد فى الحقيقة من مقالى هذا أن أشارك بجهد متواضع فى فض العديد من الاشتباكات حول مسألة السينما المصرية وما تعانيه، وأنا لا أزعم مطلقا أننى "جبت الديب من ديله"، بل على العكس أؤكد دائما أنه لا يجب علينا أن نخترع العجلة من جديد، وأن نتعلم من كل تجارب الآخرين، الأصدقاء منهم والأعداء، نتعلم منهم كيف ننجح، وكيف نحقق أهدافنا، وإن كان لزاما علىّ أن أعترف أيضا أن التفاؤل ليس كبيرا فى تحقيق أية أهداف فى المستقبل القريب، فقد وصلنا فى كل مجالات حياتنا إلى حالة من الشيخوخة الحقيقية والمعنوية، حالة من الاستسلام القدرى لما يصنعه الآخرون فينا وبنا، ولأن العزيمة تنقصنا – مع افتخارنا بفيلم مصرى قديم يدعى "العزيمة"! – فإننى أوجه كلماتى هذه إلى جيل جديد، لعل الخطوط المشتبكة، والقضايا الملتبسة، تنحل عقدتها، ليملك هذا الجيل يقينا مفقودا فلا يردد فى النهاية مقولة: "وأنا مالى؟ ياعم مفيش فايدة". 1- هل السينما ضرورة أم رفاهية؟ نتصور أحيانا أن السينما مجرد أفلام تُعرض، وجمهور يتفرج، وما دام ذلك يتحقق فى عشرات القنوات الفضائية فأين المشكلة إذن؟ أرجو هنا أن نعود لما كتبه رائد علم وسائط الاتصال مارشال ماكلوهان منذ أكثر من نصف قرن عن الفروق الجوهرية بين السينما والتتليفزيون، خاصة على مستوى التلقى، لقد أسمى التليفزيون وسيطا باردا بينما السينما وسيط ساخن، وبكلمات أخرى فإن السينما (المعروضة فى دار العرض) تخلق حالة من الكثافة الشعورية والذهنية (على مستوى الوعى واللاوعى على السواء) لا تتحقق فى التليفزيون، الذى نراه بشكل متقطع ودون تركيز كبير، وفى الأغلب ونحن فى حالة وحدة يزيدها التليفزيون شعورا بالعزلة واللامبالاة، على عكس السينما التى تخلق حالة من النشوة، سواء فى الأفلام الكوميدية أو المأساوية. إن أى فن فى الحقيقة "ظاهرة اجتماعية"، وعندما تغيب الديمموقراطية مثلا يختفى المسرح الحقيقى، وعندما يسود مبدأ "فلينجُ كل منكم بنفسه من الطوفان" يكون التليفزيون، وليس السينما، هو وسيلة الترفيه الوحيدة والسائدة. 2- هل يمكن للدولة أن تتدخل فى تنظيم علاقة السينما بالمتفرج؟ ليست الإجابة هى أن من "الممكن"، بل من "الواجب". ودعنى أتوقف معك هنا قليلا ياعزيزى القارئ وأسألك سؤالا قد يبدو ساذجا: ما هى الدولة؟ إنها ذلك الكيان الذى نصنعه أنا وأنت (إنها ليست مُنزَّلة من السماء كما قد توحى لك السلطة الديكتاتورية الدنيوية أو الدينية)، كيان نصنعه لكى يقوم بالنيابة عنا بما لا نستطيع أداؤه بمفردنا، سواء فى القضاء، أو التشريع، أو تصريف أمور الحياة الجماعية. بل أؤكد لك أن "عسكرى المرور" هو أحد مظاهر الدولة، أى دولة، فإذا قبل الرشوة كانت الدولة فاسدة، وإذا فرض نفسه بلطجيا يجمع الإتاوات كانت الدولة نظام جباية لا نظام حماية، وإذا اختفى كان هذا يعنى أنه لا وجود للدولة، وأن رجالها مشغولون باستغلال مواقعهم فى السلطة لتحقيق مصالح شخصية بدلا من القيام بتنظيم أمور حياتنا، وهكذا يختلط الحابل بالنابل فى الشارع، كما يصبح الاقتصاد "سداح مداح" كما أطلق عليه الراحل العظيم أحمد بهاء الدين. وأرجو ألا تصدق لحظة واحدة أكذوبة الاقتصاد الحر التى يروجون لها، فهى من جانب تسمح لرجال العصابات بالثراء الفاحش حتى من خلال بيع الوطن قطعة قطعة أو تأجيره مفروشا، ومن جانب آخر تجعلنا من الدول التابعة التى تأخذ أوامرها من صندوق النقد والبنك الدوليين (الذى نفتخر أن بعض مسئولينا ترقوا فيه دليلا على إذعانهم لأوامره على حسابنا)، فى الوقت الذى تنفذ فيه أعتى الدول الرأسمالية حماية على اقتصادياتها، وتنظيما للعلاقات بين المنتجين وبعضهم البعض، وبين المنتج والمستهلك. 3- كيف ينطبق ذلك على السينما؟ إنك لو ذكرت أو حتى لمَّحت إلى ضرورة تدخل الدولة فى تنظيم صناعة السينما لطاردتك على الفور فلول من يرددون أن تجربة "مؤسسة السينما" فى مصر كانت فاشلة، ولن أدخل هنا فى جدل حول هذا الأمر، وإن كنت أتمنى أن يعود هؤلاء إلى ذكريات مخرجنا الكبير توفيق صالح لعلهم يجدون فيها الإجابة. لكننى أقول أننى انتهيت لتوى من قراءة دراسة حول السينما البرازيلية، التى عانت فى النصف الأول من التسعينات من انتكاسة خطيرة حتى أنها لم تنتج فى عام 1992 إلا فيلمين فقط، وفى منتصف هذا العقد انتبهت الدولة إلى سن تشريعات (حقيقية ومدروسة ومطبقة وليست حبرا على ورق) أدت إلى نهضة سينمائية كبرى، وكان أهم هذه التشريعات ما يلى: أولا إنشاء بنك مهمته تمويل الجزء الأكبر من إنتاج السيناريوهات المتميزة، وثانيا مشاركة وزارة الثقافة بتقديم دعم مالى أو تقنى لهذه المشروعات، وثالثا تقديم كل التسهيلات للتوسع فى إنشاء دور العرض المتعددة الصغيرة (مالتيبليكس) فى كل ضواحى المدن الكبيرة والصغيرة، ورابعا إسهام وزارة التعاون الدولى فى خلق فرص للإنتاج المشترك مع دول وجهات أجنبية، وخامسا إقامة مهرجان قومى حقيقى (وليس صوريا) تُمنح فيه جوائز فى صورة دعم أكبر لإنتاج المشروعات القادمة للمخرج ذاته، ضمانا لاستمرار صانع الفيلم المتميز فى الإبداع ... وهناك إلى جانب تلك التشريعات قواعد أخرى قد لا يتسع المجال لحصرها. 4- من الذى سوف يقوم على تنفيذ تلك الخطط فى حال إقرارها؟ هنا سوف أجد نفسى مضطرا للدخول إلى منطقة ملغومة على نحو ما، فكلما تلفت حولى باحثا عن جهة ما مسئولة بالفعل عن السينما لم أجد وكأن السينما طفل لقيط بلا أب. إننى أؤكد منذ البداية أن "الحكومة" يجب أن تبتعد عن هذا الأمر تماما، فالتشريعات التى أتحدث عنها تقوم بسنها السلطة التشريعية فى الدولة (مجلس الشعب يعنى، لكن ليس من نوعية مجلسنا الموقر)، لتقوم "هيئة" مستقلة بتنفيذها، لا تأخذ أوامرها من الوزراء أو أى جهة أخرى فى السلطة التنفيذية، ولأضرب لك مثلا بأن هيئة الإذاعة البريطانية ليست تابعة لـ"الحكومة" وإنما للدولة، وبين الحكومة والدولة فرق كبير كما أتمنى أن تكون قد عرفت الآن، تماما كما أن "هيئة الأغذية والأدوية إف دى إيه" فى أمريكا ليست تابعة لوزارة الصحة. إذن من؟! غرفة صناعة السينما؟ نقابة السينمائيين؟ لجنة السينما بالمجلس الأعلى للثقافة؟ أنظر حولى فلا أجد إلا صحراء قاحلة، أناسا مشغولين إما بمصالحهم كأفراد، أو بمصالح فئوية ضيقة، أو مجموعة ممن لا يحلمون بأى غد فهم لا يعرفون إن كانت شمس الغد سوف تشرق عليهم. منذ أسابيع قليلة سمعنا أن هناك استعدادا لإقامة مؤتمر للمثقفين، ثم لا شىء، صمت مطبق، لا المثقفين استعدوا ولا وزارة الثقافة أعادت العرض، ولأنى متأكد أن وزارة الثقافة فى وضعها الحالى لا تعبأ كثيرا بمضمون حقيقى لمثل هذا المؤتمر، فقد كنت آمل فى أن يتلقف الفكرة مثقفو السينما – ربما من خلال نقابتهم – لصياغة مشروع متكامل الرؤية حول الوضع الراهن وسبل الخروج منه، ولكن "لا حس ولا خبر"، ومرة أخرى فإن ذلك يعود فى رأيى إلى حالة الشيخوخة الجسمانية والمعنوية التى نعانى منها، ولأن الشىء بالشىء يذكر أعترف أننى لم أكن أتصور أن لجنة السينما بالمجلس الأعلى للثقافة تضم عددا هائلا من "العواجيز"، تعطيهم مقابلا هزيلا لحضور اللجان، فكيف لك أن تنتظر منهم أن يدافعوا عن المستقبل؟ (للتوضيح فقط: لست عضوا فى أى من هذه اللجان، ولن أكون، فلست أقل شيخوخة ممن أتحدث عنهم). والحل: ربما ينتبه بعض من أبناء الأجيال الأصغر فى نقابة السينمائيين (بعد أن تصبح النقابة للسينمائيين بالفعل) إلى أن مسئولياتهم الحقيقية تفرض عليهم تكوين تيار ينادى بإصلاح السينما بحق، والتفكير بشكل جماعى، والاستعانة بنماذج من دول قريبة فى أوضاعها السياسية والاقتصادية والثقافية منا، ووضع مشروعات محددة الرؤية والهدف والوسائل، وسوف تبقى دائما فى مصر مشكلة اختيار الأشخاص القائمين على التنفيذ، وأرجو أن يبحث الشباب عمن يتولون من بينهم هذه المهمة داخل الهيئة المفترض وجودها، وأن يكون من حق أعضاء النقابة تغيير هؤلاء الأشخاص بشكل ديموقراطى إذا لم يفوا بالمأمول منهم من إصلاح. 5- ما دمنا قد تعرضنا لمسالة الديموقراطية فلابد من تنقية القوانين المتعلقة بالسينما من كل ما يعوق حرية التعبير التى تكفلها كل دساتير العالم ومواثيق حقوق الإنسان، لذلك لا ينبغى أن تكون "الرقابة" تابعة لوزارة الثقافة (الحكومة يعنى) كما سبق القول بشأن مثل هذه الهيئات، والجهة الرقابية فى أمريكا مثلا هيئة تابعة لرابطة منتجى السينما أنفسهم، وهى ليست منوطة بالمنع وإنما بالتصنيف، لكى تضمن فقط ألا تتعرض شريحة ما من الجمهور لما يُفضَّل ألا تتعرض له. إن ذلك سوف يفتح أفاقا لحرية التعبير بما يحقق حالة من التجدد فى السينما المصرية التى باتت على أبواب الخروج من التاريخ. وفى هذا السياق أذكر ذلك القانون الشاذ بمنع التصوير فى الشارع إلا بتصريح من وزارة الداخلية، بما يذكرك بتلك اللافتة الساذجة على جدار ما: "ممنوع الاقتراب والتصوير"!! يحدث ذلك بينما يستطيع أى إنسان أن يدخل على الإنترنيت ليرى صور الأقمار الاصطناعية للشارع الذى يسكن فيه، لكن ضريبة هذا القانون المتخلف والمجحف تقع على عاتق الفنان السينمائى الذى يمكن لأى عسكرى أن يصادر كاميرته أو حتى يكسرها، وهو ما يفسر لك على سبيل المثال كيف أن الفيلم التسجيلى والقصير ماتا فى مصر (أو على الأقل أصبحا كالمومياء المحنطة)، بينما هما فى حالة ازدهار فى العالم كله. 6- تقام المهرجانات السينمائية فى دول العالم الجادة (ودعك من تلك المهرجانات التهريجية فى دول لا تجد ما تفعله بأموالها، وعلى رأى المثل المصرى: "اللى معاه قرش محيره، يشترى حمام ويطيره")، أقول تقام المهرجانات من أجل تحقيق نهضة حقيقية للسينما، لكننا ما نزال نقيم المهرجانات المحلية والعالمية دون أن نجد لها أى أثر فى صناعتنا السينمائية، مرة أخرى لأن وزارة الثقافة وحدها هى التى تقيم هذه المهرجانات بروح الموظفين فى أغلب الأحوال، أو من وجدوا لأنفسهم دورا ووجاهة وسلطة بعد أن كانوا مجرد "سكرتارية" لا يعرفون عن السينما شيئا حقيقيا. لا أدرى بحق ما هى الفائدة التى تعود على السينما المصرية من مهرجان القاهرة السينمائى مثلا: فائدة فنية؟ سياحية؟ سياسية؟ أشك، فلا نحن نشاهد أفلاما يشاهدها العالم كله (أرجو من نقادنا فى نهاية كل عام أن يراجعوا قوائم النقاد العالميين لأفضل عشرة أفلام، ويسألوا أنفسهم كم شاهدوا منها)، وعلى المستوى السياحى فقد اختار مهرجان القاهرة هذا العام إقامة برنامج خاص عن "مصر فى عيون العالم" من خلال الأفلام، فجاءت معظم هذه الأفلام المختارة من نوعية إظهار المصريين فى صورة راكبى الجمال وساكنى الخيام وأعضاء عصابات التهريب، والكومبارس الذى يجب أن يموت لكى يعيش البطل الغربى! وعلى المستوى السياسى فقد حدثت فى الآونة الأخيرة نكتة سوداء سخيفة، إذ قيل أن مهرجان أبو ظبى قد دعا منتجة بريطانية يقال (تكرار المبنى للمجهول مقصود) أنها افتخرت فى مؤتمر صحفى بجنسيتها الإسرائيلية، وعلى طريقة "قالوا له" هاج البعض وماج دون أن يتأكد أحد منا من الواقعة. قارن ذلك بواقعتين حقيقيتين هذه المرة: المخرج البريطانى الشهير مايك لى قرر إلغاء ذهابه لإسرائيل اعتراضا على مشروع "قَسَم الولاء" الذى تحاول إسرائيل فرضه على كل "سكانها" باعتبارها "دولة يهودية"، مع العلم أن مايك لى يهودى. أما الواقعة الثانية فهى الحملة الشعواء التى يتعرض لها جان لوك جودار (وهو من هو فى تاريخ السينما) من جانب وسائل الإعلام الإسرائيلية، اعتراضا منها على منحه جائزة الأوسكار القادمة عن مجمل أعماله، بتهمة "عدائه للسامية"، وهى الترجمة الإسرائيلية لمناصرة القضية الفلسطينية. ومع ذلك فإن أحدا فى مهرجان القاهرة السينمائى لم يفكر فى دعوة أى من هذين السينمائيين الكبيرين. استيقظوا يرحمكم الله!! 7- أخيرا: هل من مستقبل؟ لا أجد هذا المستقبل إلا فى معهد السينما، الذى شاخ بدوره بعد أن أكل الدهر عليه وشرب، وقد تخلف كثيرا عن التطورات التقنية والجمالية للسينما فى العالم كله، وأصبح الالتحاق به مرهونا بعوامل ليس من بينها الموهبة والقدرة، مع أنهما الشرطان الأساسيان وربما الوحيدان للتقدم فى أى مجال على الإطلاق (ولعل ذلك يفسر لك التخلف الذى نعانيه الآن فى جميع المجالات). وليس هناك من حل إلا ثورة حقيقية فيه، ليس فقط على مستوى "العِدد والآلات" كما يتصور البعض، وإنما عن طريق مناهج دراسية نظرية وعملية متطورة بحق، وضرورة (أكرر: ضرورة) الاستعانة بكبار صناع السينما فى العالم، واستقدامهم كأساتذة يتولى كل منهم دفعة بأكملها منذ التحاقها وحتى تخرجها، مع إرسال بعثات جادة لمراكز صناعة وتدريس السينما فى البلدان المتقدمة فى هذا المجال. عزيزى القارئ، هناك الكثير لنصنعه فى هذا المجال، وقد لا يملك المسئولون الحاليون الإرادة أو حتى الرغبة فى تحقيق أى شىء، لكن كما فى كل أمور الحياة لابد أن يدافع أصحاب المصلحة عن مستقبلهم، فهذا الجيل الشائخ الشائه سوف يزول قريبا، ولا يجب أن نترك أمورنا فى أيدى ورثة هذا الجيل الذين سوف يجعلون هذه الشيخوخة المشوهة علامة على مصر فى أدنى مراحل تحللها فى التاريخ المعاصر. هل نريد سينما أفضل، ووطنا أكثر جمالا وعدلا؟ المشوار طويل نعم، لكن إما هذا أو الرضا بالموت ونحن على قيد الحياة!!

Wednesday, November 13, 2013

البلطجي بطلا... أزمة سينما أم أزمة مجتمع؟


في كل صناعات السينما في أنحاء العالم المختلفة، كانت سينما العنف تشكل رافدا مهما من الأفلام التجارية، وكان هذا يعود في الجانب الأكبر منه إلى أن هذا الفن يعتمد على الإيهام بحركة الصورة، فكلما كانت الحركة أوضح كان الفيلم أقوى تأثيرا، خاصة على المستوى "الفسيولوجي" للمتفرج، الذي ترتفع عنده نسبة "الأدرينالين" إلى حدود ربما لا تحدث في الحياة اليومية، وربما كان هذا يفسر كيف أن أفلام الحركة تصبح لدى البعض أقرب إلى "الإدمان"، لأن جسده قد اعتاد على إفراز هذا الهورمون، ويشتاق دائما لزيادته. لكن العنف قد يكون أيضا ناتجا عن تأثير اجتماعي، فهو قد يعود إلى جذور تاريخية في تكوين المجتمع ذاته، مثل أمريكا التي قامت أصلا على إبادة السكان الأصليين، ثم سلسلة من الحروب الأهلية بالغة الدموية التي استمرت حتى بدايات القرن العشرين، لذلك أصبح العنف "لغة" سائدة، وهو ما انعكس في السينما في نمطين فيلميين جماهيريين، هما "الويسترن" ببطله راعي البقر أو "الشجيع"، وفيلم رجال العصابات حيث يصعد زعيم العصابة إلى القمة على جثث العشرات من الأعداء بل الأصدقاء أيضا. وعلى النقيض، تسلل العنف إلى السينما اليابانية في شكل أفلام "الساموراي"، وهم الفتوات المسلحون الذين يستأجرهم الضعفاء للدفاع عنهم، فهم في هذه الحالة أقرب إلى فعل الخير، والحنين إلى زمن ماضٍ لم يعد له وجود في ظل التحديث المعاصر. ومن المثير للاهتمام أن السينما المصرية لم تعرف هذا العنف إلا بعد عقود من ولادتها، على عكس صناعات سينمائية أخرى بدأت به، وفي الأغلب كان هذا انعكاسا لمجتمع لا يرى أن العنف وسيلة لتحقيق المطالب، وكثيرا ما تشهد في الأفلام المصرية القديمة دعوات للصبر على المكاره، ويسمون ذلك نوعا من "العزيمة" مثلا كما في أهم أفلام السينما المصرية التقليدية. غير أن العنف ظهر على استحياء في شكل الأفلام التي أطلقوا عليها أفلاما "بدوية"، حيث السيف فقط هو الوسيلة، وإن كان في ذلك مغازلة لقيم "الفروسية" القديمة في الوجدان العربي، وليس تكريسا للعنف ذاته. ويمكنك أن تقول إن هذا "الفارس" ارتدى ثوبا جديدا في الخمسينيات، مع ما عرف آنذاك بأفلام "الفتوات"، التي يأتي "فتوات الحسينية" على رأسها، لكن الفتوة هنا رمز لقوة الخير التي تحارب قوى الشر، وربما تحول الفتوة ذاته إلى الشر إذا استولى الطغيان على روحه وعقله، غير أنه كان دائما يشير إلى زمن قديم، فيه مزيج من الواقع والأسطورة، وهو ما حدا بالروائي العظيم نجيب محفوظ (وهو ذاته كاتب سيناريو "فتوات الحسينية") أن يجعل الفتوة – الطيب أو الشرير- شخصية مهمة في أعماله، بل إن تنويعات الفتوة تصبح هي جوهر عمله الملحمي الأشهر "الحرافيش"، الذي استمدت منه السينما المصرية العديد من الأفلام في عقد الثمانينيات، وقع أغلبها في دائرة أفلام العنف والحركة، لكن فيلما مثل "الجوع" يتحول إلى دراسة لأسباب اللجوء للفتوة، عندما يغيب العدل الاجتماعي. ودائما ما كان هذا البطل الفردي يلقى استحسانا من الجمهور، خاصة فيما تعارفنا عليه باسم جمهور "الترسو"، حيث يكون عنف هذا البطل تفريغا لشحنة القهر والعجز لدى المتفرج، ولهذا السبب ذاته كان النقاد والمثقفون يرفضون هذا النوع من العنف، الأقرب إلى التخدير منه إلى التنوير أو التطهير. ومع ذلك لم تتوقف السينما المصرية عن العودة إلى مثل هذا البطل الصعلوك، المجرم، البلطجي، بين الحين والآخر، وإن كان ذلك بشكل متناثر ولأسباب متباينة. ففي فترة الخمسينيات كانت هناك مثلا محاولة لتفسير السلوك الإجرامي، لا تخلو من الميلودراما الفاقعة الفاجعة، في فيلم "جعلوني مجرما"، بينما كانت "موضة" أفلام الكاراتيه وفنون القتال الأسيوية سببا في الثمانينيات والتسعينيات في ظهور أفلام مصرية تقلدها، خاصة في أفلام لاعب الكونج فو (الذي يفتقد موهبة التمثيل تماما) يوسف منصور، مثل "العجوز والبلطجي" و"قبضة الهلالي"، أو عندما أصبح لاعب كمال الأجسام الشحات مبروك نجما سينمائيا للعديد من افلام المقاولات، مع أنه تم استخدامه في عمل ناضج كان يحمل اسم "المرشد"، وأخيرا فإن الممثل الموهوب أحمد زكي جرب حظه في هذا المجال دون إقناع كبير في "مستر كاراتيه". وفي كل الأفلام السابقة وتنويعاتها، كان الفتوة أو البلطجي في السينما المصرية نوعا من الاستثناء وليس القاعدة، وهو يظهر أحيانا لكنه لا يلبث أن يختفي، وربما كان فيلم "أقوى الرجال" المقتبس عن المسرحية التركية "وحش طوروس" يفسر ذلك: إن البلطجي نوع من الوهم وليس حقيقة، والناس تخاف منه بسبب الأساطير الكاذبة الملفقة التي حيكت حوله، لكنه في الحقيقة شخص هش ضعيف، فكأن ذلك يعبر عن عمق الشك في نفوس الجمهور المصري والعربي تجاه أسطورة وسطوة الفتوة. بل إن الأمر يأخذ منحى مختلفا تماما، عندما أصبح عادل إمام بطلا جماهيريا، ليس لأنه تكرار مثلا لوحش الشاشة فريد شوقي، بل لأنه النقيض له، إنه الذي يأخذ حقه بما يتمتع به من دهاء و"فهلوة"، وعندما كان عادل إمام يرتدي ثوب الفتوة البلطجي الشجيع، كما في "شمس الزناتي" مثلا، فإنه كان يلقى تجاهلا من الجمهور، وهذا هو السبب في عودته بعد ذلك إلى تنويعات جديدة من البطل الفهلوي، بدءا من "اللعب مع الكبار". فجأة، ومنذ أربعة أو خمسة أعوام، طفت على سطح السينما المصرية أفلام بالغة العنف، تقدم بلطجيا من نوع جديد، وربما كانت الجملة الشهيرة لأحمد السقا في فيلم "الجزيرة" تلخص فلسفة هذا البطل وأفلامه: "من النهارده مفيش حكومة، أنا الحكومة"!! وكان ذلك إيذانا وإعلانا صريحا بمرحلة جديدة ليس في السينما المصرية فقط، بل في المجتمع المصري كله: خذ حقك بيدك، لأنه لا وجود لسلطة تأخذ لك هذا الحق!! ومنذ تلك اللحظة طفا على السطح وجود (حقيقي أو زائف) للبلطجي، وأصبحت بعض الدوائر السياسية تستخدم هذا الوجود (صدقا أو كذبا) لتفسير العديد من الأحداث الدموية الغامضة، التي قد تكون في الحقيقة من تدبير بعض هذه الدوائر، وليس البلطجية سوى أداة يتم استئجارها لتنفيذ مهام قذرة ما. وهكذا ظهر "ابراهيم الأبيض"، أكثر الأفلام دموية في تاريخ السينما المصرية، استأجروا له "خواجة" من مخرجي "الوحدات الثانية" المسئولة عن تنفيذ مشاهد "الأكشن"، ليصبح الفيلم سلسلة من هذه المشاهد، تربطها شخصيات لا يمكن أن تكون موجودة في الحقيقة، وحتى لو كانت موجودة فإن مكانها ليس على شاشات السينما، بل في المصحات العقلية أو وراء أسوار السجون. وفي الوقت ذاته، كان هذا الفيلم وما تلاه من نوعيته، تفريغا لشحنة العنف التي تتزايد في نفوس قطاع من المتفرجين، نتيجة تجاهلهم على المستوى الاقتصادى والاجتماعي والسياسي. لا يجب إذن أن يبدو من المستغرب أن تحتشد الأفلام المصرية الأخيرة بمثل هذا النوعية، ومثل هذا البطل، مثل "عبده موتة" و"قلب الأسد" و"القشاش"، فالأغرب ألا تظهر، وفي سياق ضعفت فيه إلى حد كبير قبضة السلطة في تحقيق التوازن بين الطبقات الاجتماعية المختلفة أو المتناقضة، وفي أجواء تخلت فيه الجهات المنوط بها تحقيق العدالة أو إنصاف المظلوم عن مسئولياتها، وفي ظل غياب متعمد أو غير متعمد لسيادة القانون، لا يمكنك أن تلوم الجمهور لأنه يذهب الآن (برغم أنه لم يكن يفعل ذلك في السابق بمثل هذا الفيضان الجارف) ليرى تلك النوعية من الأفلام، وليعيش في حلم يقظة عن انتصار وهمي لأحلامه، بل وجه اللوم أولا للسياق الذي جعل هذا الجمهور يلجأ لذلك، والأهم هو توجيه اللوم لمن استخدم من السياسيين مصطلح "البلطجي" بإفراط بالغ، وربما أيضا لمن يمارسون البلطجة على المسرح السياسي!!