Thursday, December 05, 2013

السينما المصرية بين الأعراض الحادة والأمراض المزمنة


ينتاب السينمائيون المصريون بين الحين والآخر أعراض قلق جارفة، حين تبدو صناعة السينما وكأنها وصلت إلى ما يبدو أنه طريق مسدودة، بسبب عوامل تختلف من فترة إلى أخرى، فيرتفع صياحهم الصاخب مطالبين "الدولة" بأن تتدخل لحمايتهم ومساعدتهم، وبجرد أن تزول الأزمة، يعودون إلى الشكوى من أن الدولة تتدخل بطريقة تعوق حرية إنتاجهم، ويطلبون منها أن ترفع أيديها عنهم!! حدث هذا عدة مرات، ويحدث الآن، بعدما وصلت صناعة السينما إلى درجة توقف الكثير من الاستوديوهات والعاملين فيها عن العمل، وسوف تنعقد المؤتمرات، وتتوالى الاقتراحات، وربما تحدث انفراجة على نحو ما، لكن ذلك كله سوف ينتهي إلى استمرار الصناعة في مسارها السابق، حتى تطل الأزمة برأسها من جديد. والسبب؟ هو أن هناك نقاط ضعف جوهرية في بنية السينما المصرية ذاتها، صناعة وفنا، وتلك للأسف هي النقاط التي لا تتم مواجهتها ومعالجتها أيا كانت تكاليف هذا العلاج، لكن أي ثمن سوف يكون ضئيلا أمام منح هذه السينما فرصة حياة متجددة. وسوف يظل التاريخ يذكر كيف أن السينمائيين المصريين عانوا في بداية الستينيات، بسبب بعض الظروف السياسية التي أدت إلى شبه مقاطعة للأفلام المصرية، وعندما لجأوا إلى الدولة، واجتمعوا مع الزعيم جمال عبد الناصر نفسه، قرر القائد تأسيس قطاع عام يرعى أعمالهم إنتاجا وتوزيعا، وكانت تلك من أكثر فترات تاريخ السينما المصري ازدهارا، لكن بمجرد أن تراجعت الأزمة، اعترض هؤلاء السينمائيون أنفسهم وقوفهم على وجود القطاع العام وتدخل الدولة، ليعاودوا صنع أفلام السبعينيات التي كانت من أسوأ فترات هذه الصناعة وأكثرها رداءة!! ومن هذه التجربة في القطاع العام – التي لم تنجح في خلق بنية صناعية راسخة لأسباب بيروقراطية، ولأنها أديرت من خلال بعض العاملين في القطاع الخاص ذاته – يمكنك أن تتأكد أن معظم السينمائيين المصريين لا يسعون إلى تأسيس صناعة حقيقية، وإنما مجرد خلق فرص للكسب السريع، بأي شروط ممكنة في المدى القصير. وإذا اقتربنا من أزمة السينما المصرية في الآونة الأخيرة، فإن معظم شكاوى صناعها جاءت مركزة على "القرصنة" التي لا تتيح لهم كسب ما يعوضون به تكاليف الإنتاج، أو رداءة دور العرض بما لا يشجع قطاعا كبيرا ومهما من الجمهور للذهاب إلى مشاهدة الأفلام.... لكن لم يتحدث أحد مثلا عن ارتفاع أجور النجوم بشكل مفرط، بحيث تبتلع جزءا كبيرا من ميزانيات الإنتاج، دون أن ينعكس ذلك على جودة الإنتاج ذاته، كما لم يتحدثوا عن "الاحتكار"، الذي يجعل معظم دور العرض مملوكة لموزعي الأفلام أنفسهم، مما يعطيهم سلطة مطلقة على اختيار أفلام وإهمال أفلام أخرى. لم يتحدث صناع السينما عن هاتين النقطتين وغيرهما، لأن مواجهتها بواسطة الدولة سوف تحرم الكبار منهم من مزايا لا يرضون بالتنازل عنها لصالح السينما! وفي الحقيقة أن تلك النقاط وحدها ليست أيضا سبب الأزمة، فيمكنك أن تتعقب أسبابا أخرى قد تبدو بعيدة، لكنها ذات تأثير كبير. وربما كان أولاها هو تقلص ميزانية الأسرة المصرية التي تخصصها للإنفاق على الترفيه، وهو ما يجعل هذه الأسرة تنتظر حتى عرض الأفلام في التليفزيون. وقد تجد سببا آخر في تدني مستوى الأفلام وظروف عرضها في معظم دور العرض، حتى أن هذه الأخيرة أصبحت تندرج تحت "سينما الترسو" بصرف النظر عن مظهرها، ومرة أخرى سوف تحجم الأسر من الطبقة الوسطى عن الانخراط في هذه الأجواء. وقد ترتب على ذلك أن الأفلام ذاتها باتت تتوجه إلى "جمهور الترسو" فقط، وأصبح من سمات الفيلم المصري وجود مشاهد ثابتة تنتقل من فيلم إلى آخر، مثل نمر الأغاني الصاخبة والأفراح الشعبية، التي تشترك هذه النوعية من الجمهور في الصخب معها خلال العرض! ولأننا نعشق اختراع العجلة من جديد، فإننا لا نتعلم من تجارب صناعات السينما التي عاشت ظروفا مماثلة وواجهتها، لتصبح من أقوى صناعات السينما في العالم وأكثرها رسوخا. فقد كانت دور العرض الأمريكية في الفترة المبكرة تقتصر على درجة "الترسو"، فيما سمي آنذاك باسم "النيكلوديون" (أي دار العرض التي تدخلها بنيكل واحد)، وتدخلت الدولة بإغلاق هذه الدور واحدة بعد الأخرى، لتقوم الصناعة بتحسين مستوى دور العرض، التي تحولت خلال عقد واحد إلى ما أطلق عليه "قصور السينما الفاخرة"، التي جذبت جماهير الطبقة الوسطى فتدفقت عليها بأعداد هائلة، أعادت الانتعاش للصناعة من جديد. وفي واحدة من أشهر القضايا الأمريكية، أقامت الدولة ذاتها دعوى قضائية عرفت باسم "قضية باراماونت"، ومضى سير القضية أعواما حتى صدر الحكم فيها في الأربعينيات، وكانت القضية متعلقة بإلزام الشركات التي تنتج الأفلام بعدم امتلاك سلاسل توزيع أو دور عرض، لأن ذلك يمنحها سلطة احتكار تعوق الصناعة ولا تشجعها. فهل يقبل السينمائيون المصريون بمثل هذه الحلول من جانب الدولة: أن تفرض الدولة شروطا معينة لدور العرض وظروف المشاهدة، وأن تنكسر الحلقات الاحتكارية التي تكاد أن تخنق السينما المصرية؟ ذلك جانب مهم من القضية، أن يقبل صناع السينما أنفسهم بتنظيم الصناعة وليس مجرد تسهيل أمورهم، فقد كانت الرؤى قصيرة النظر، التي تسعى للربح السريع وحده، وراء الأزمة دائما. وهذه الرؤى هي التي تجعل البعض يأتون من خارج صناعة السينما ليجربوا حظهم في اغتنام الأرباح، وعندما تتقلص هذه الأرباح يهربون إلى صناعة أو تجارة أخرى، وهو ما يبدو لك واضحا إذا ما تتبعت أسماء العاملين في إنتاج الأفلام المصرية، فنادرا ما تجد شركة تستمر أكثر من عشر سنوات، أو أن تجد لها أسلوبا فنيا تتميز به، ليكون قدر السينما المصرية أن تبدأ دائما المرة بعد الأخرى مع مغامرين جدد، يستحوذون على الإنتاج ودور العرض، لتعاود الأزمة دورتها. لقد كان السعي إلى الربح السريع وحده وراء تناقص هائل في عدد دور العرض، فأغلق العديد منها أبوابه أو هدم لبناء أنشطة أخرى، بينما كان من المفترض أن تزيد مع تزايد عدد السكان، وأن تنتشر مع اتساع رقعة العمران. كما أنه السبب في ظاهرة "المواسم" السينمائية المحدودة، بدلا من تغطية العام كله بأفلام تناسب ذوق الجمهور مع اختلاف الزمان والمكان، ولعلك تتذكر كيف أن مفهوم "أفلام الصيف" كان مسيطرا على الصناعة تجارة وفنا، وكيف ظهرت ظاهرة أطلق عليها أيامها "المضحكون الجدد"، الذين اختفوا أو كادوا مع انحسار هذا الموسم بسبب انتقال شهر رمضان إليه، لتقتصر السينما المصرية الآن على موسمي عيد الفطر وعيد الأضحى، بأفلام هي في أغلبها لا تحقق للمتفرج سوى أن يذهب إلى "الملاهي" عندما يشاهد أحد هذه الأفلام. تلك هي بعض مظاهر الأزمة، التي هي في جوهرها انعكاس لمفهوم "السوق" الذي يفهم منه صناع أفلامنا أكثر وجوهه بدائية، متمثلا في الكسب السريع، لكن عندما تأتي إلى ما يجب صنعه إزاء ضبط هذه السوق فسوف يظهرون أنيابهم. هذه هي الأزمة الحقيقية، أننا نأخذ من الأنظمة (في الاقتصاد أو السياسة على السواء) جوانب انتقائية من هنا وهناك، دون أن نأخذ جوهرها أو نتعلم من تجاربها السلبية والإيجابية. وبداية الخروج من هذه الأزمة هو الإجابة عن سؤال بسيط وصعب في آن: لمن نصنع الأفلام؟ ولماذا؟ قد يبدو أن السينما المصرية قد عرفت لمن تصنع الأفلام، ولماذا، لكن هل كان ذلك حقيقيا؟ للأسف سوف تكون الإجابة بالنفي، ليس لأن هذه الصناعة كانت تفشل دائما في العثور على إجابات، فقد شهدت فترات ساطعة من النجاح، ولكن لأنها لم تكن مرنة بما يكفي لكي تتفاعل مع الظروف المتغيرة من فترة إلى آخرى، ولأنها لم تكن في الأغلب مستعدة لدفع تكاليف هذا التغير، وكان هذا وراء ظاهرة عدم استمرار شركات إنتاجية سينمائية مصرية عبر مرحلة طويلة من الزمن. تُصنع الأفلام لجمهور، لكن جمهور الأربعينيات على سبيل المثال كان في العالم العربي يمتد من المحيط إلى الخليج، لذلك كانت الأفلام المصرية تتوجه إلى هذا الجمهور العريض، ولعلك تذكر كيف أن معظم هذه الأفلام كانت تتضمن "استعراضا" يطوف البلدان العربية المختلفة. وفي الستينيات، أصبح للعديد من الشعوب العربية أفلامها التي تنتجها بأنفسها، كما شهدت صناعة السينما المصرية بعض القيود في توزيعها، لذلك كاد الجمهور أن يقتصر على الطبقة الوسطى المصرية، لكن اتساع هذه الطبقة آنذاك ساعد على استمرار الصناعة قوية راسخة. أما لماذا تُصنع الأفلام، فقد تتراوح بين الدعوة إلى قيم ثقافية حديثة تتخلص من أسر الماضي، كما حدث للسينما المصرية في بداياتها، أو الدعاية لشكل اجتماعي جديد، سواء كان اشتراكيا في الستينيات أو انفتاحيا استهلاكيا في السبعينيات.... وأخيرا: كيف تُصنع الأفلام؟ إما عبر منتجي القطاع الخاص الذين قد يعرفون حجم مسئولياتهم أو قد لا يعرفونها، أو عبر القطاع العام، أو بين خليط من هذا وذاك. لكن ما الذي يجعل الأمر يبدو اليوم وقد وصل إلى حافة أزمة خطيرة؟ وهل يعكس إنتاج السينما المصرية هذه الأزمة حقا؟ ولنبدأ بهذا السؤال الأخير، فقد وصل إنتاج هذه السينما في العام 2013 إلى حوالي ثلاثين فيلما، وهو رقم أفضل بكثير مما كانت تنتجه في أواخر القرن العشرين بمتوسط خمسة عشر فيلما، لكنه بالطبع أقل من الستين الذي بلغته خلال الستينيات عندما كان جمهورها من الطبقة الوسطى، وأقل من المائة الذي بلغته في الثمانينيات في ذروة فترات ازدهار شرائط الفيديو. وما تزال السينما المصرية تصنع غالبا أفلاما كوميدية، مثل "على جثتي" و"سمير أبو النيل" ونظرية عمتي"، والقليل من الأفلام البوليسية التي عادت على استحياء مثل "مصور قتيل" و"الحفلة"، وبعض أفلام "الفنانتازيا" على الطريقة المصرية (التي تجعل الخيال مساويا لعدم وجود أي منطق فني) كما في "فبراير الأسود" أو "هاتولي راجل"، ناهيك بالطبع عن أفلام توليفة الرقص والغناء (وهي التوليفة التي لا يكاد فيلم مصري أن يخلو منها حاليا) مثل "8 في المائة" أو "عش البلبل"، وأخيرا أفلام البلطجية التي تحصد أغلب الإيرادت مثل "قلب الأسد" و"القشاش". وإلى جانب ذلك كله، تتوارى أفلام تسمي نفسها "مستقلة" وإن كانت التسمية الدقيقة أنه "مختلفة"، مثل "الشتا اللي فات" و"هرج ومرج" و"عشم" و"فرش وغطا". وإذا كانت تلك النظرة السريعة على إنتاج السينما المصرية مؤخرا يشير إلى رقم ليس سيئا، وإلى تنوع ما حتى لو كان محدودا، فأين إذن تكمن الأعراض الحادة للأزمة؟ إنها في تناقص عدد الجمهور بشكل عام، خاصة بالنسبة لمن يصنع أفلاما لا تتوجه إلى جمهور "الترسو" الحالي. وإذا كانت أيضا تلك هي الأعراض، فما هو الأفق الذي ينتظر السينما المصرية إن لم تعالج أسباب هذه الأعراض؟ ولا يمكنك أن تنكر أولا أن الحالة السياسية المضطربة في الآونة الأخيرة لا تشجع قطاعا كبيرا من الجمهور على الذهاب إلى دور العرض، خاصة أن هناك عددا هائلا من القنوات التليفزيونية الفضائية أصبحت تتيح عرض الأفلام بعد عام أو عامين من عرضها التجاري، ناهيك عن ظروف اقتصادية واجتماعية أخرى، مثل صعوبة الانتقال إلى السينما أو ارتفاع أسعار التذاكر. والحل مرة أخرى يكمن في مدى مرونة صناعة السينما المصرية، وقدرتها على الاستجابة لهذه الظروف. ولعل من أهم مظاهر هذه المرونة هو تخفيض ميزانيات الأفلام وأجور نجومها، والاستعداد لكسر حلقات الاحتكار التي تقيد المنتجين الصغار وتمنعهم من المنافسة، والتفكير الجاد في بناء دور عرض في الأحياء تكون قريبة من سكانها، حتى وإن كانت بسعات صغيرة، وتخفيض سعر التذكرة حتى يصبح ممكنا للعائلة أن تذهب للفرجة دون تكاليف باهظة، والأهم من ذلك كله، وهذا هو الأمر الذي تجاهلته السينما المصرية طويلا، هو تقديم نوع من الفرجة السينمائية التي لا يتيحها التليفزيون. لقد كان هذا هو التحدي الذي واجهته السينما الأمريكية مثلا في الخمسينيات، فأدخلت تقنيات الشاشة العريضة والألوان والصوت المجسم، وصنعت أفلاما لا يظهر بهاؤها إلا على الشاشة الكبيرة، لكن السينما المصرية لا تبدو راغبة في أن تدفع "تكاليف" تأسيس صناعة قوية، وإنما حصد أكبر قدر من الأرباح السريعة من الصناعة الراهنة. بل إن ذلك المنافس القوي، التليفزيون، قد يكون سبب الأزمة والطريق إلى حلها في آن، وعلى شركات الإنتاج السينمائي أن تدخل في شراكة قوية مع الشبكات التليفزيونية، يتم بمقتضاها وضع جدول يرتب فترات العرض بين الشاشتين الكبيرة والصغيرة، وسوف يدهشك أن أهم الأفلام العالمية الآن تُصنع بالاشتراك مع شبكات تليفزيونية (مثل آرتيه الفرنسية، أو زد دي إف الألمانية، أو تي في إي الإسبانية)، وهو أمر ليس هناك مبرر لغيابه عن وعي منتجي السينما والتليفزيون معا. وإذا كان ذلك هو المطلوب من صناع الأفلام ومنتجيها، فإن هناك دورا مهما للدولة في تنظيم ذلك كله، وليس مجرد مساعدة المنتجين على حصد أرباح أكثر. ورغم ادعاء البعض بأن "القرصنة" سبب أساسي في تدهور صناعتنا السينمائية، ومطالبة الدولة بإيقافها، فذلك مستحيل في الواقع العملي، وحتى الأفلام الأمريكية تتعرض جميعها للقرصنة بمجرد طرح قرص "الدي في دي" في الأسواق، لكن هوليوود تحافظ على هذه السوق الأخيرة بأن يتضمن القرص موادا إضافية تشجع المستهلك على اقتنائه، مثل اللقاءات الفنية المهمة مع الممثلين والمخرجين وكتاب السيناريو، وأرجو أن تقارن ذلك باللقاءات التي تتم مع فنانينا في برامج التليفزيون، والتي تفتقر إلى الحد الأدنى من الجدية والعمق. وعودا على بدء، فإن دور الدولة هو أن تقوم بما لا يمكن للقطاع الخاص وحده أن يقوم به، فمن الأمور الفاضحة الفادحة غياب أي مطبوعة سينمائية جادة لنشر هذه الثقافة بين عدد كبير من الناس، وكانت مثل هذه المطبوعات موجودة حتى عشر سنوات مضت، ولم يستطع القطاع الخاص تحمل خسائرها، بينما كانت الدولة تصدر العديد منها حتى منتصف السبعينيات. ومن الأمور التي تحمل مفارقة مريرة وجود العديد من المهرجانات السينمائية، دون هدف سينمائي ثقافي واضح، لذلك تنتهي إلى أن تكون أقرب إلى "الموالد"، التي تقام وتنفض دون أثر يذكر. ناهيك عن المستوى المتواضع الذي انتهت إليه المؤسسات التعليمية السينمائية، بينما كانت هناك برامج جادة لتبادل الخبرات، ترسل فيها البعثات إلى الخارج، ويأتي الخبراء لنقل خبراتهم إلى الأجيال الجديدة من السينمائيين المصريين. أخيرا قد يكمن جانب من الحل بعيدا عن كل تلك المسارات التقليدية، وهذا ما يتم تطبيقه على سبيل المثال في البرازيل، التي عاشت السينما فيها أزمة مماثلة منذ عقد من الزمن، وتحملت "وزارة التعاون الدولي" الجانب الأكبر من المواجهة، وقامت باتصالاتها لتجمع ميزانيات الأفلام من دول عديدة، في نوع راقٍ من الإنتاج المشترك. لكن المعيار في ذلك ليس أن تجمع ميزانية كبيرة لصنع فيلم واحد، وإنما ميزانيات صغيرة لعشرات الأفلام، وإذا كان الأمر سوف يتم على نحو ما انتهى إليه فيلم "المسافر"، الذي أنتجته الدولة، وتكلف أكثر من عشرين مليون جنيه، ليحقق فشلا فنيا وتجاريا ذريعا وغير مسبوق، لمجرد تحقيق نزوة بصنع فيلم ذي مقاييس "عالمية"، فسوف تتكرر المأساة، لأننا في التحليل الأخير لم نعرف لمن ولماذا نصنع الأفلام!

Monday, December 02, 2013

لماذا يغيب الزعماء عن السينما المصرية؟


في كل صناعات السينما الراسخة، تشكل حياة الزعماء السياسيين مادة خصبة للأفلام، ليس فقط لأن الاهتمام بهم يعكس اهتماما بالتاريخ، وإنما أيضا لأن السينما تستطيع أن تصنع من هذه المادة التي تبدو جافة قصصا "مسلية" وأعمالا ترفيهية، ولأن "الأبطال" – من كل الأنواع – هم مركز التوحد الإيجابي أو السلبي للمتفرج مع الفيلم، وبالطبع سوف يتعمق هذا التوحد مع بطل يستمد وجوده من حقيقة تاريخية. وربما اختلف تناول حياة هؤلاء الزعماء في السينما تبعا للهدف الكامن وراء صنع الفيلم. ولعل المثال الصارخ على ذلك هو أن يعود ميل جيبسون إلى حقبة تاريخية بعيدة، لنضال الاسكتلنديين ضد الانجليز، في الملحمة السينمائية التي نالت نجاحا جماهيريا كبيرا "القلب الشجاع"، وكان هدف جيبسون – أسترالي الأصل – هو تصوير النزعة الاستعمارية الانجليزية، التي خنقت إلى حد كبير وجود هوية أصيلة للبلاد التي استعمروها، بما في ذلك أستراليا. بينما جاء فيلم "لينكولن" من إخراج ستيفن سبيلبيرج، وهو الفيلم الذي حصد جوائز أوسكار عن عام 2012، ليحيي من جديد ذكرى مؤسس الأمة الأمريكية، بتفاصيل عديدة ما تزال أمريكا تحاول الإبقاء عليها حتى اليوم. وقد تكون حياة زعيم سياسي ما مادة لصنع ملحمة مأساوية، على نحو قصة آخر أباطرة الصين في فيلم بيرناردو بيرتولوتشي "الإمبراطور الأخير"، أو لعل هذه الحياة تمثل قصة مفرطة في العاطفة الجياشة مثلما هو الحال في فيلم ألان باركر "إيفيتا"، عن حياة إيفا بيرون، زوجة الزعيم الأرجنتيني خوان بيرون. كما تبرز في هذا السياق أفلام ملحمية أخرى، نالت نجاحا نقديا وجماهيريا كبيرا، مثل فيلم ريتشارد أتينبرو "غاندي"، عن حياة الزعيم الهندي الذي ترك أثرا عميقا في النضال السياسي السلمي، ودفع حياته ثمنا لذلك، بينما دفع جيفارا حياته على النقيض ثمنا للنضال العسكري ضد أمريكا، وجاءت عنه أفلام عديدة كان آخرها فيلم ستيفن سوديربيرج "تشي". من جانب آخر قد تكون سيرة حياة السياسي مثار انتقاد بالغ المرارة، كما في فيلم أوليفر ستون "نيكسون"، عن الرئيس الأمريكي الذي انتهك القانون في فضيحة ووترجيت، وفيلم ستون الآخر "دابليو" عن الرئيس الأمريكي السابق جورج دابليو بوش" ونزواته السياسية والعسكرية، أو كما في "آخر ملوك اسكتلندا" من إخراج كيفين ماكدونالد، عن رئيس جمهورية أفريقيا الوسطى الأسبق عيدي أمين، المعروف عنه قسوته المفرطة في التعامل مع الخصوم. لكن المخرج الزنجي الأشهر سبايك لي يخلد ذكرى واحد من أهم زعماء حركة تحرير الزنوج في أمريكا، في فيلم "مالكولم إكس"، ليكون هذا الفيلم دراسة عميقة لفترة مهمة من نضال حركات الحصول على الحقوق المدنية والسياسية في أمريكا، وهو نضال لم يخلُ من آثار دامية، في بلد يرفع شعار الديموقراطية، ويزعم الرغبة في بسطها بالقوة العسكرية على العالم كله!! أرجو ألا تشعر بالصدمة عندما نتذكر معا أفلام نادية الجندي، وكيف ظهر فيها الزعماء السياسيون كمجرد "كومبارس"، مثل أنور السادات في فيلمي "الجاسوسة حكمت فهمي" أو "امرأة هزت عرش مصر"، فليس أمثال السادات (من وجهة نظر نادية الجندي) هم من صنعوا جانبا مهما من تاريخ مصر الحديث، وإنما بطلات نادية الجندي ونضالهن بمفاتنهن و"كيد النسا"!! لكن من الغريب أن يكون هذا هو حال بعض أفلام السينما الجادة أيضا، مثل "اسكندرية ليه"، حيث يظهر من يمثلون بعض أعضاء حركة "الضباط الأحرار" – الذين سوف يقومون بثورة 1952 فيما بعد – في خلفية الأحداث، باعتبارهم مجموعة من مراهقي السياسة، التي يمارسونها في نضال هو أقرب إلى "البلطجة"!! وفي زمن السينما المصرية المبكر، لم تطرق الأفلام سيرة حياة الزعماء التاريخيين إلا نادرا، وهي تذهب للماضي البعيد تارة في "شجرة الدر"، ليس لدراسة الفترة التاريخية ذاتها وإنما لتكرار بعض المفاهيم الشعبية الرائجة، عن تلك المرأة التي مارست السياسة بالدهاء وسط العديد من الرجال. لكن السينما المصرية لم تتناول قبل ثورة 1952 حياة زعيم سياسي واحد إلا في فيلم "مصطفى كامل"، الذي ظل حبيس العلب فترة طويلة، لأن سلطات الاحتلال رأت فيه خطرا، وإن جاء الفيلم مبالغا في النزعة الخطابية، التي تجعل البطل التاريخي "أكبر من الواقع" كثيرا، مما قد يبعد المتفرج عن التوحد معه. وربما كان حظ هؤلاء الزعماء في السينما أفضل قليلا بعد الثورة، لكنه أتى خاليا من الصدق إلى حد ما، وإن عمد إلى شكل من أشكال الإبهار الملحمي. وهكذا جاء "رد قلبي" على سبيل المثال، بالشاشة العريضة والألوان في بداية الخمسينيات، في فترة كانت هذه التقنيات جديدة حتى في هوليوود، لكن الفيلم لا يسمي أبطالا بأسمائهم الحقيقية، ويلجأ إلى رواية يوسف السباعي المفرطة في ميلودراميتها العاطفية، عن الحب الذي اشتعل لهيبه بين ابنة الباشا الجميلة، وابن "الجنايني" الذي سوف يكون أحد أعضاء جماعة الضباط الأحرار، ويبدو كأنه قد اشترك في الثورة لكي يفوز بقلب حبيبته سليلة العائلة الأرستقراطية! وفي هذا السياق أيضا يأتي "الناصر صلاح الدين"، بذات الإمكانات الإنتاجية المبهرة، لكنه خلا من الصدق التاريخي، ليبدو كأنه إسقاط فيه بعض الاصطناع على شخصية الزعيم جمال عبد الناصر. وهكذا اختارت السينما المصرية طريقا بدت ملتوية للحديث عن الزعماء السياسيين، وحتى الآن لا يعرف المتفرج ما هي الأسماء الحقيقية لأبطال أفلام مثل "في بيتنا رجل" أو "لا وقت للحب"، وهي أفلام أكثر نضجا بالتأكيد من سابقاتها، لكنك لا تدري أبدا لماذا أخفت أسماء هؤلاء الأبطال. وفي حالات نادرة، كانت السينما المصرية تتناول أبطالا عربا من خارج مصر، ولم يكن ذلك إلا في مرحلة ازدهرت فيها النزعة القومية، ليأتي فيلم "جميلة"، عن تلك البطلة الجزائرية التي أصبحت أيقونة للمقاومة ضد المستعمر، أو فيلم "عمالقة البحار"، عن ضابط البحرية السوري جول جمال، الذي ضحى بحياته من أجل الدفاع عن مصر خلال العدوان الثلاثي. وفي فترة متأخرة جدا عادت السينما المصرية بفيلم عن عبد الناصر وآخر عن أنور السادات، وكان هذا الفيلم الأخير "أيام السادات" أقرب لاستعراض الممثل أحمد زكي لقدراته في "التقليد"، بينما لم يترك الفيلم ذاته أثرا حقيقيا على فهم المتفرج للرجل أو الرئيس، لأنه في مجمله كان من وجهة نظر السادات نفسه عن نفسه، وليس دراسة فنية أو سياسية للفترة ورجالها. ومن الغريب أن أحمد زكي كان قد سبق له تجسيد شخصية عبد الناصر في فيلم "ناصر 56" بقدر كبير من النجاح، وكان السبب في هذا النجاح هو سيناريو محفوظ عبد الرحمن، الذي ابتعد عن تصوير حياة هذا الزعيم "من الجلدة للجلدة"، بل اختار شهورا قليلة من حياته السياسية، منذ تأميم قناة السويس الذي أثار عدوانية القوى المستعمرة. إنك هنا أمام "بطل" بمعنى الكلمة، ليس لأنه أكبر من الواقع، وإنما لأنه جزء من هذا الواقع، يتفاعل معه بكل لحظات الألم والانتصار. ولن يغيب عن ذهن المتفرج مشاهد قلق الزعيم في وحدته، وحيرته بين أن يخوض الحرب أو يتراجع عن قرار التأميم، لتزوره أم ريفية عجوز، هي في الحقيقة من بنات خيال المؤلف، لكنها تجسد الكتلة الرئيسية من الشعب المصري، وتحثه على مواصلة النضال. لم يستمد فيلم "ناصر 56" قيمته من قامة الزعيم وحده، بل من التناول الفني الناضج لهذه الشخصية، ويمكنك أن تقارن هذا الفيلم بآخر تناول حياة الرجل في فيلم "جمال عبد الناصر"، للمخرج والمنتج أنور القوادري، الذي جند إمكانات هائلة لفيلمه، لكنه انتهى إلى شحوب الصورة، لأنه لم يتمتع بالصدق أو النضج. لكن ذلك العدد القليل جدا من الأفلام التي تناولت صورة الزعماء السياسيين على الشاشة المصرية، يشير مرة أخرى إلى أن صناع أفلامنا يرون هذا الفن مادة للتسلية وحدها، ولا يلتفتون إلى أهمية الرسالة التي تحملها هذه الأفلام، حتى أن بعض المؤلفين والمخرجين يسخرون من مجرد تعبير "الرسالة" في أحاديثهم الصحفية، وفي هذه السخرية ذاتها رسالة واضحة تماما بأن السينما المصرية ما تزال تعيش مرحلة الطفولة، ولا يبدو في الأفق أي طريق للنضج!!