Thursday, December 04, 2014

فيلم "سكر برة"..... عن مرارة نتواطأ عليها بالصمت!

كثيرة هى الأفلام التسجيلية التى تتناول عالم الفقراء بمنطق الفرجة على عالم أنت فى الأغلب لا تعرفه، وربما زادك الفيلم رغبة فى عدم معرفته لأنه عالم أقرب إلى العجائب والغرائب: كائنات على هامش الحياة وليس فى الفيلم ما يدفعك للتساؤل عن بقائها فى هذا الهامش الضيق. وعلى العكس، هناك أفلام تسجيلية تجعلك تقترب من هذا العالم، لأنه فى حقيقة الأمر جزء لا يتجزأ من عالمنا، فنحن الذين ساهمنا فى صنعه، ونحن المسئولون عن استمراره، وهذا لا يأتى فقط من وعى الفنان السينمائى التسجيلى بمادة موضوعه، لكن الأهم هو عشقه لهذه المادة، على نحو ما فعل المخرج باسل رمسيس فى أحدث أفلامه "سكر برة".
وكل أفلام باسل رمسيس السابقة تعكس هذا المزيج من الفهم السياسى والعشق الإنسانى معا، سواء كان عن عالم المهاجرين إلى إسبانيا فى فيلمه "الجانب الآخر"، أو عن حياة النساء الفلسطينيات فى ظل قمع خارجى وداخلى معا فى فيلم "مراجيح". وها هو فى "سكر برة" يذهب بنا إلى قرى شديدة القرب من القاهرة، ويتحدث عن قضية لا تخفى على أحد منا، لكننا نتعامى عنها، وهى قضية زواج الفتيات – بل الأطفال – المصريات من عرب أجانب، زواجا مؤقتا لعل اسمه الحقيقى شىء آخر، فقط من أجل المال، بضع آلاف من الجنيهات يأخذها الأب مقابل "بيع" ابنته، أو تُغوى الفتاة ذاتها لأيام، لتكتشف بعدها أنها أصبحت وحيدة، وربما تتحمل مسئولية طفل نتيجة هذه العلاقة العابرة.
وأفلام باسل رمسيس تتبنى أسلوب "السينما المباشرة"، التى تختلف عن قرينتها "سينما الحقيقة" فى أن هذه الأخيرة تزعم أنها تتلصص على مادة الموضوع، إذ تحاول الشخصيات التى يتم تصويرها الادعاء بأنها غير واعية بأن هناك كاميرا تصورها، بينما السينما المباشرة تؤكد على وجود الكاميرا كعنصر فاعل فى الكشف عن هذه المادة، فترى الشخصيات تتحدث إلى الكاميرا فى أحيان كثيرة، كما يتدخل المخرج بين حين وآخر بسؤال يدفع الحوار إلى المناطق المسكوت عنها.
وفى الحالتين يكون الفيلم فى الحقيقة معرضا لاصطناع من نوع ما، لأن الوقوف أمام الكاميرا يخلق لدى الشخصيات حالة من الحديث "الرسمى" إن جاز التعبير، لكن فيلم "سكر برة" يتفادى ذلك تماما، إذ تعتاد الشخصيات على وجود الكاميرا والمخرج (وهو المصور أيضا) باعتبارهما من نفس العالم، بفضل ذلك التعاطف العميق الذى يتبدى كثيرا فى اللقطات القريبة الحميمة، التى قد تمتد زمنيا لتلتقط مشاعر الشخصية حتى بعد أن تنتهى من حديثها.
لقطات قريبة لوجوه جميلة رقيقة، لكنها تخفى تحت السطح قدرا كبيرا من المعاناة، معاناة الاستسلام للواقع تارة، أو مقاومته تارة أخرى. وربما قد تلتقط عيناك إحدى هؤلاء النساء اللاتى تحكين حكايتهن، لتعتبرها "بطلة" الفيلم (من بطلة الفيلم؟ هذا بالفعل هو السؤال الذى تطرحه إحداهن!)، لكنهن جميعا بطلات بالمعنى الواقعى للكلمة. ولن تنسى أبدا تلك الوجوه أيا كان اسمها: نحمده أو حنان أو أم أوسة أو ميرفت أو شيماء أو وردة، لكل منهن تجربة مع صفقة البيع والشراء عبر "سمسار" بالمعنى الحرفى للكلمة، الصفقة التى تتخفى وراء مصطلح "الزواج العرفى"، المؤقت بأيام أو أسابيع، كأنه (ودعنا نطلق على الأشياء أسماءها الحقيقية) دعارة مقنعة!
وقد تجد فى الفيلم بعض التلامس مع قضايا "نسوية" عديدة، لكنها فى حقيقتها قضايا اجتماعية واقتصادية وسياسية، مثل وجود المرأة التى ترعى أطفالها بدون زوج، أو عمل المرأة لكى تنفق على أسرتها طوعا أو كرها، أو تلك الرؤية الكامنة تحت سطح واقعنا لتطفو فوقه مؤخرا، متمثلة فيما يسمى "الفتاوى الدينية"، التى تؤكد عدم حق المرأة فى المساواة مع الرجل. ومن المشاهد الصادمة بحق (مع أننا نراها ونسمعها عشرات المرات كل يوم) أصوات ناعقة باسم الدين، تردد أقوالا مبتذلة إن لم يكن لها اسم آخر، حول أن "الديك ديك والفرخة فرخة" أو "العلم بتاع الرجالة بس" (يا سلام!!)، أو تبرير ذلك السلوك المرضى الذى يسمح بالزواج من الأطفال، أو بالأحرى بيعهن فى سوق النخاسة.
كنت أرجو أن أرى هذه الوجوه المكفهرة العكرة لمن يسمون أنفسهم شيوخا، لكى تتصادم مع وجوه النساء الرقيقة، لكن المخرج بدا أنه يفضل استخدام تسجيل فقط لتلك الخطب على شريط الصوت، كما كنت أرجو أن يكون هناك اهتمام أكبر بـ"البناء"، فالكثير من مشاهد الفيلم لا يحمل منطقا فنيا فى تتابعها المونتاجى، وتلك ليست مجرد مسألة "شكلية"، لكنها تترك أثرها الواعى وغير الواعى معا لدى المتفرج. لكن ما يعوض ذلك هو وعى المخرج ذاته بالجدل بين الواقع والصورة، والشخصيات والكاميرا، ولتتأمل على سبيل المثال "الكادر" الذى جمع بين الفتاة حنان وهى تصفف شعرها عند "كوافيرة" القرية، وصور النجمات على الحائط، أو تأمل التتابع المونتاجى بين الواقع المرير، وصورته كما جاءت فى أفلام روائية مصرية، مثل "لحم رخيص" أو "النداهة". كما أن هناك وعيا فائقا أيضا بـ"السياق" السياسى، فتمرد النساء والفتيات على وضعهن يتوازى مع "النزول للتحرير"، أو صرخة المطالبة بحق مشروع.
استخدم المخرج باسل رمسيس تعبيرا شعبيا لكى يكون اسم الفيلم، فتعبير "سكر برة" يعنى أن يأتى كوب الشاى منفصلا عن السكر، لكن السكر يظل "برة"، ولا تتبقى من الشاى سوى المرارة. وأجمل وأهم ما فى الفيلم أنه يجعلك تسأل بعد مشاهدته: أليست هؤلاء النساء جديرات بواقع أكثر جمالا وعدلا؟ وهل سوف يتكرر المصير مع أطفال بنات رأيناهن على الشاشة، تراقبن الأحداث فى صمت؟
بل هل نحن الذين سوف نستمر فى مراقبة هذه الوقائع فى صمت؟!                                                 



شبكة تشويه المعلومات "الإنترنيت"



زمان، كان مجرد نشر خبر فى جريدة كفيلا بتصديقه، وعندما كنت تناقش أحدا فى مصداقيته كان يرد عليك بالرد المفحم: "ده منشور فى الجورنان". الآن أصبح المنشور على الإنترنيت – أيا كان دقته أو صحته – يمثل حقائق وهمية، ولا يأخذ منا دقيقة واحدة فى مراجعته وتحقيقه.
فوجئت مؤخرا بفيديو موجود على موقع يوتيوب، يقول من وضعه أنه لحفل فى استوديو مصر عام 1935، وتناقل الجميع هذا الفيديو كحقيقة مسلم بها، رغم أنه لا يمكن أن يكون تصوير هذا الشريط قد تم إلا فى عام 1943 أو 1944. وإليك يا قارئى العزيز بعضا من المراجعة:
1)  يبدو من الفيديو أنه دعوة لحفل يقيمه للمطرب المحبوب "محمد أمين"، الذى لم يصبح مطربا إلا فى عام 1939 بعد عمله مهندس كهرباء فى استوديو مصر، ولم يصبح محبوبا إلا مع أغنيته "نور العيون يا شاغلنى" التى سجلها أوائل الأربعينيات. وكان أول أفلامه "تحيا الستات" و"حب من السماء"، وكلاهما عرض عام 1943، والأخير من إنتاج استوديو مصر.
2)  يتحدث سراج منير عن انتهائه من فيلم يدعى "غرام الصحراء" (وهو الذى أشار له فى الفيديو نفسه بدر لاما)، ولا يوجد فيلم مصرى بهذا الاسم، والأغلب أنه قد تغير اسمه إلى "رابحة" الذى عرض فى عام 1943 وأنتجه استوديو مصر، كما يشير سراج منير لبدئه تصوير فيلم "حبابة" الذى عرض فى عام 1944.
3)  يقدم عبد العزيز خليل نفسه بوصفه "المعلم العتر"، وهذا هو اسم شخصية الجزار التى قام بأدائها فى فيلم "العزيمة" المعروض عام 1939.
4)  تتحدث زوزو ماضى عن "الجمهور اللى وحشته ووحشنى"، بينما أول أفلامها كان "يحيا الحب" فى عام 1938، ثم عادت إلى السينما فى عام 1944 بفيلم "الأبرياء".
5)  يقدم الشريط "وجوها جديدة"، مثل ليلى فوزى، التى كان أول أفلامها "مصنع الزوجات" (1941)، كذلك مديحة يسرى التى لم تظهر على الشاشة إلا فى عام 1942 مع فيلم "أحلام الشباب"
من الواضح إذن إن الشريط كان تقليدا من استوديو مصر لما تصنعه شركات هوليوود من دعاية عن نجومها، أما (1935) التى وردت مطبوعة على الشريط فهذا فقط هو عام تأسيس استوديو مصر.
يقول من وضع تلك القصاصة أنها "مقدمة حفلة استوديو مصر عام 1935، مش ها تصدق"، وكان يجب فعلا ألا نصدق!                                                   


Wednesday, November 05, 2014

فيلم "شجرة الحياة"... تأملات فنية أصيلة فى الوجود والعدم



يستعصى فيلم "شجرة الحياة" على التوصيف والتعريف، ففيلم المخرج تيرانس ماليك – مثل كل أفلامه الأخرى – تتحدى الكتابات النقدية، خاصة تلك التى تتخذ طريقا سهلا لتذوق الأفلام، ولعل ذلك يمثل سببا جوهريا فى أنه لم يحقق طوال حياته الفنية إلا أفلاما قليلة، يفصل بين بعضها أحيانا ما يقرب من ربع قرن، كما أنه يبتعد تماما عن أى ظهور إعلامى، لذلك من النادر أن تجد له صورة شخصية على صفحات الجرائد والمجلات.
هل فيلم "شجرة الحياة" فيلم روائى؟ أم تسجيلى؟ أم تجريبى؟ أم تأثيرى؟ أم سيريالى؟ أم ما بعد حداثى فى أرقى تجليات ما بعد الحداثة؟ إنه ليس أيا من ذلك، لكنه كل ذلك أيضا. إنه تأمل بالغ العمق فى طبيعة الحياة والموت، بمعناهما القريب والبعيد، ويظل ينتقل فى تأملاته طوال الوقت بحثا عن إجابة لسؤال يثير الحيرة دائما لديه، ويذكرك على نحو ما بمسرحية "مأساة الحلاج" لصلاح عبد الصبور: هل الخير والشر نسبيان؟ وبكلمات أخرى: بقدر ما تعطى الطبيعة من خير، هل الشر جزء أصيل منها أيضا؟
دعنا فى البداية نبحث عن خيط "روائى" إن كان لهذا الخط من وجود: شاب فى مقتبل العمر (براد بيت) يعيش فى أواسط القرن العشرين، عندما كانت الحياة فى أمريكا تتجه إلى الضواحى، ويصبح البشر جميعا نسخا متشابهة. إن هذه الأجواء تتيح لتيرانس ماليك أن يرى عالم شخصياته بشكل مجرد، فما يحدث لهم يحدث لكل الآخرين، بل هو ما يحدث وسوف يظل يحدث فى هذا الكون الواسع، الميلاد ثم التعرف على العالم ومحاولة التكيف معه، ثم الموت.
تلك هى الرحلة الأزلية الأبدية التى تجمع كل كائنات هذا الكون، لكن تيرانس ماليك لا يتناولها باعتبارها حقائق علمية باردة، بل تجارب شخصية تسبب السعادة أحيانا والألم أحيانا أخرى. وعائلة هذا الشاب تعيش حياة متوسطة فى كل شىء، فهى تبدو حبيسة بيوت متشابهة مصنوعة جميعها من الخشب والزجاج، ويناضل الأب بحثا عن لقمة العيش فينجح مسعاه تارة ويفشل تارات أخرى، لذلك تتحول ملامح الممثل براد بيت من الوسامة إلى الجهامة، ويبرز فكه السفلى كأنه حيوان فى غابة، وفى أحد المشاهد الرائعة من الفيلم ترى الأب يدرب أبناءه خلال اللعب على استخدام القوة، كأنه أسد يلاعب أشباله لكى يدربهم على القتال.
تصل مأساة الأسرة إلى ذروتها مع موت واحد من الأبناء الثلاثة، فينتقل السرد فجأة إلى الزمن المعاصر، حيث نرى الابن الأكبر (شون بين) يعمل موظفا كبيرا فى مؤسسة ما، لكنه مثل الأب حبيس لأبنية معاصرة مصنوعة هذه المرة من الفولاذ والزجاج، ويتذكر الابن طفولته، ويمضى فى تأملاته، التى تفضى به إلى ساحل ممتد بلا نهاية، وإلى ممرات جبلية وعرة، تنتهى به إلى ما يشبه حافة السماء.
وهنا يبدأ واحد من أهم مشاهد تاريخ السينما، ويستدعى إلى ذهنك المشاهد الافتتاحية لفيلم ستانلى كوبريك "أوديسا الفضاء 2001"، لكن التنفيذ عن طريق الصورة المولدة كومبيوتريا يتيح لماليك حرية إبداعية أكبر، حيث تشاهد ما يشبه بداية خلق الكون من سديم، يتحول تدريجيا إلى شموس وكواكب، وتتوالى البراكين والفيضانات، وتسبح خلايا فى الماء، وتمضى هذه الرحلة البصرية والتأملية المدهشة حتى تصبح دماء وشرايين وجنينا يولد لكى يرى الحياة.
ومثل فيلم ماليك السابق "الخط الأحمر الرفيع" تكتشف أن الحياة وليدة صراع من نوع ما، صراع مرير من أجل الوجود، وصراع ضد العدم، لكن إذا كانت الحياة تعطى، فلماذا تأخذ؟ يتردد هذا السؤال دائما على نحو صريح أحيانا وضمنى أحيانا أخرى فى كل أفلام ماليك، خاصة أنه يستخدم دائما "التعليق من خارج الكادر"، وهو ليس تعليقا لصوت شخصية واحدة، بل إنه ينتقل من شخصية إلى أخرى، حتى أن الفيلم فى النهاية يبدو مثل قصيدة شعر متعددة الأصوات، متعددة المقاطع.
أعرف وأعترف أن هذا يسبب صعوبة أخرى تضاف لعدم وجود خيط سردى واضح (عبّر شون بين نفسه عن ذلك قائلا إن السيناريو كان أوضح كثيرا من الفيلم بعد اكتماله)، لكن توالى الصور أمامك على الشاشة يولد بداخلك مشاعر وأفكارا من الصعب أن تجد لها مكانا إلا مع فن تأملى من هذا النوع. تأمل على سبيل المثال تلك الصورة الأيقونية لقدمى طفل وليد بين يدى رجل، أو كيف تزداد ملامح الأب جهامة لقسوة الحياة بينما تزداد ملامح الأم رقة وعذوبة، أو كيف أن الأم تصبح لدى الصبى هى تعرفه الأول على مشاعره الحسية، أو كيف تتولد فى اللاوعى فكرة قتل الأب لينفرد الصبى بالأم فى فردوس يضيع منه يوما بعد يوم.
تلك صور تجمع دائما بين الحقيقة والمجاز، ولا يمكن لى – على الأقل – أن أنسى ذلك المشهد الختامى الطويل، للبرزخ الذى يفصل بين عالمنا الذى عشناه وعالم آخر لا ندرى عنه شيئا. طريق طويل بلا نهاية، يلتقى فيه من ماتوا فى مختلف سنوات عمرهم، وتلتقى يد الرجل العجوز بيده هو ذاته عندما كان صبيا، وكأن "الكل فى واحد".
هل يمكن تكرار هذا الفيلم؟ من المؤكد أن ذلك مستحيل، لأنه فيلم "فردى" تماما، وبعيد عن أى "توليفة" معروفة مسبقا، لكن الممكن هو تكرار التجربة، أن تناضل السينما ضد من يحاولون أن يفرضوا عليها ما "يجب" أن تصنعه، لكى تصنع ما "تستطيع" إنجازه، وهو نضال سوف يستمر ما دام هناك فنانون يتمتعون بالأصالة، وأصحاب نظريات قاطعة مانعة. ومن المحتم أن الفن سوف ينتصر دائما على أى نظرية.                                                   

Sunday, September 14, 2014

هل أصبحت السينما التسجيلية يتيمة؟

من المضحكات المبكيات فى مفاهيمنا الثقافية المصرية الشائعة، أنك عندما تذكر كلمة "سينما"، يرد إلى الخاطر على الفور الفيلم الروائى الطويل، ذو المواصفات التجارية التى ترشحه للوصول إلى دور العرض، بينما تغيب عنا أنواع أخرى من السينما فى مصر، فأين الفيلم الروائى القصير، وأفلام التحريك (التى نسميها خطأ "أفلام الكارتون")، والسينما التسجيلية، وقد لا أجرؤ أن أقول السينما التجريبية أيضا؟
بل إن هناك لدينا خطأ آخر فى توصيف الفيلم الصالح للعرض التجارى، فكل الأنواع الأخرى من السينما أصبحت (وربما كانت على الدوام) تجد طريقها إلى دار العرض، ولو راجعت قائمة الأفلام الأمريكية المعروضة تجاريا كل أسبوع، فمن المؤكد أنك سوف تجد أكثر من فيلم تسجيلى واحد، ولم تكن أفلام مايكل مور السياسية اللاذعة وحدها هى التى حققت إيرادات هائلة، بل كانت هناك أفلام يمكن أن تصفها بأنها "علمية" نالت نجاحا نقديا وتجاريا بالغا، مثل "الهجرة المجنحة" أو "مسيرة البطاريق".                                                   
ومن المؤسف أن ذلك يحدث بينما يردد بعض نقادنا بينهم وبين بعضهم أن "السينما التسجيلية فى العالم قد ماتت"، ويكتفون بأن يكتبوا مطولات عن أكثر الأفلام المصرية والأجنبية التجارية رداءة. والأكثر للأسف أن هذه السينما عندنا قد أصبحت يتيمة بالفعل، لا تجد من يهتم بها، بعد أن شهدت فترات من الازدهار والتنوع، اللذين تركا أثرهما الإيجابى على السينما الروائية ذاتها.
وبينما نجد بعض المشتغلين بصناعتنا السينمائية يتوجهون لـ"الدولة" بطلبات يقولون أنها تصب فى مصلحة السينما المصرية، فإننا مثلا لا نجدهم يلمسون بعض الأسباب الحقيقية لأزمتها، مثل احتكار البعض للإنتاج والتوزيع والعرض (وهذا موضوع يحتاج إلى تناول أكثر تأملا وتفصيلا)، كما نجدهم أيضا يقصدون حلولا "مالية" عاجلة، دون الحديث عن إصلاحات فى بنية الصناعة ذاتها، وهو الأمر الذى لا يمكن أن تقوم به – فى ظل سياسة "إكسب واجرِ" التى سادت اقتصادياتنا بلا استثناء – إلا الدولة، وعلى رأس قائمة هذه الإصلاحات، والتى لا تتطلب أموالا طائلة أو جهودا خارقة، وضع سياسة تنقذ السينما التسجيلية المصرية من عثرتها.
ربما يتذكر بعض من تقدم بهم العمر مثلى، وكما روى لى المخرج الكبير الراحل توفيق صالح، أن السينما المصرية قد واجهت أزمة فى أواخر الخمسينيات، كان سببها محاولة بعض الدول العربية كسر شوكة الاتجاهات التقدمية فى مصر، فتوقفت هذه البلدان عن توزيع الأفلام المصرية بها لفترة من الوقت، وتقدم السينمائيون بشكواهم إلى عبد الناصر، وكانت إحدى الحلول التى لجأ إليها، حتى قبل إنشاء مؤسسة السينما، ولكى يوفر عملا للسينمائيين، أن تكلفهم الدولة بصنع أفلام تسجيلية قصيرة، وكانت النتيجة رصيدا لا يقدر بثمن، من الناحية الجمالية والسياسية معا، من أفلام صنعها كبار مخرجى السينما الروائية آنذاك.
بعدها بسنوات، أنشأ الراحل شادى عبد السلام وحدة تابعة للدولة، تخصصت فى إنتاج الأفلام التسجيلية، كما ازدهرت حركة مستقلة موازية، يدفعهم جميعا فهم وتقدير عميقان للدور الاجتماعى والسياسى والفنى لهذه السينما، ويمكن أن يقول المرء باطمئنان كبير أن تلك الموجة هى التى أنقذت الثقافة السينمائية المصرية خلال السبعيينيات، من حالة تجريف طالت جوانب ثقافية أخرى، وأنها هى التى أنجبت بعضا من أهم مواهب السينما المصرية خلال العقود التالية.
ولأن ما تبقى لدى أجيالنا الحالية من مفهوم عن السينما التسجيلية، أنها تلك "التقارير" التى يتحدث فيها بعض المشاهير أو العامة للكاميرا أو لمن يحمل "الميكروفون"، أو أنها تلك الشرائط التى تصور الشوارع أو الحقول، بينما نسمع صوت تعليق رتيب لا يتوقف، فإن من الضرورى أن نتوقف قليلا لنتذكر التنوع بالغ الثراء الذى كانت عليه سينمانا التسجيلية، من خشونة واقعية ممزوجة بنظرة إنسانية أسيانة عند عطيات الأبنودى، إلى شاعرية غنائية صافية عند هاشم النحاس، ونزعة تجريبية وسياسية جريئة عند داود عبد السيد، واقتراب حميم من مناطق الإبداع الإنسانى فى ظروف صعبة عند خيرى بشارة، وعشرات غيرهم قد تعجز هذه السطور القليلة عن حصرهم وإعطائهم حقهم.
ولعل المبرر الممل الذى تسمعه دائما لفقداننا السينما التسجيلية هو عدم وجود منافذ للعرض، لكن لماذا لا ينطبق هذا المبرر على السينما التسجيلية فى البلدان الأخرى؟ بل الأمر على العكس تماما، فقد كان وجود عشرات أو حتى مئات القنوات التليفزيونية الفضائية سببا فى انتعاش هذه السينما، فلماذا لا يحدث ذلك عندنا؟ يثير هذا السؤال شجونا عميقة حقا، حيث يكشف عن أننا قد أصبحنا لا نعبأ كثيرا بمعرفة الواقع معرفة صادقة بغرض تغييره، لكننا نتعامل معه للتجارة به، وهذا يعنى من جانب آخر أننا أصبحنا نفكر بطريقة "التمنى" أكثر من تفكيرنا بطريقة المواجهة، وأقول "أصبحنا" لأن من المفترض ألا نكون قد وصلنا إلى ذلك الطريق المسدود.
وأنا أعلم أن هناك مشكلات إجرائية حكومية تواجه من يحاول أن يصنع فيلما تسجيليا، لكن لماذا لم يكن ذلك من بين هموم السينمائيين التى يسعون لحلها مع "الدولة"؟ والنتيجة التى سوف يقرأها كثيرا من يهتم بهذه السطور: إننا نعيش حالة الاكتفاء بالنفس دون سبب، وأننا قانعون بما نعرف وما نصنع دون طموح حقيقى. إننا نعيش ثقافيا فى "حارة" معزولة عن العالم، راضين بأفلامنا ورواياتنا وأشعارنا، بينما لم يبق لدينا إلا صلة واهية بالسينما والرواية والشعر، وربما يكون هذا حكما قاسيا، لكننا لن نرى أى طريق للخروج من الحارة إلا إذا فتحنا العيون.