Sunday, February 02, 2014

السينما لمن؟ ولماذا؟ وكيف؟

(تم نشر هذه المقالة فى مجلة "الهلال"، فبراير 2014)
هل هي أزمة سينما؟ أم أزمة وطن؟ وهل يمكن أن نفصل ما حدث للسينما المصرية من حالة متردية خلال العقود الأخيرة، عن التردي الأعم والأشمل في نواحٍ كثيرة من حياتنا؟
ربما بدا للقارئ أن من الغريب أن تحتوي السطور التالية على كل هذا الكم من علامات التعجب والاستفهام، لكنه التعجب والاستفهام اللذان ينبعان من أننا نتحدث منذ سنين عن أزمة، دون أن نرى أننا في طريقنا لحلها، كما ينبعان أيضا من أنهما يتناولان أمورا باتت بدهية لأي صناعة سينما في أي بلد من بلدان العالم، وأخيرا فإنهما ينبعان من الخطأ القاتل الذي نعيش فيه منذ عقود، بأننا لا نتعلم أبدا من أخطائنا وتجاربنا، أو من تجارب الآخرين!
دعنا في البداية نصف حال السينما المصرية في الآونة الأخيرة، وأكاد أقول في السنوات القادمة أيضا إن لم نتدارك الهوة التي نسير نحوها. إنها ببساطة السينما التي تعيش الآن خارج الجغرافيا، وخارج التاريخ. خارج الجغرافيا لأن السينما المصرية كانت يوما مركزا لصناعة السينما في العالم العربي كله، ولم يكن غريبا أن تحتوي معظم أفلامنا القديمة على استعراض غنائي، يمثل رحلة افتراضية في بلدان عربية مختلفة، فقد كانت هذه الأفلام تعرض في أنحاء العالم العربي، كما كانت تمثل القوة الثقافية الوحيدة التي جعلت من العامية المصرية مفهومة لدى العرب جميعا. الآن باتت أفلامنا تتحدث عن الواقع المصري باعتباره متحفا فولكلوريا لكل أنواع العاهات البشرية، لا فرق بين أفلام السبكي التي تواجه النقد والانتقاد دائما مثل "الفرح" وحتى "عبده موتة" وأشياء أخرى، وأفلام تدعي أنها أكثر وعيا، سواء من ناحية الأسلوب مثل "ابراهيم الابيض"، أو من ناحية المضمون السياسي مثل "حين ميسرة"!
وباتت السينما المصرية أيضا خارج التاريخ، لأن السينما – كوسيط ورسالة – تغيرت في العالم كله خلال النصف قرن الأخير. ففي الوقت الذي تُصنع فيه الأفلام بأكثر الوسائل الرقمية تطورا، لكي تتوجه إلى كل قطاعات المجتمع، بل أصبح من الميسور صناعة الأفلام بشكل فردي، وهو الحلم الذي راود السينمائيين طويلا بأن تصبح الكاميرا معادلا للقلم في يد الشاعر أو الروائي، أو حتى عالم الأنثربولوجيا، ما تزال السينما لدينا قابعة عند الشكل المبتذل لأكثر أنواع الأفلام ترديا، بمفهوم التسلية الذي يعني مجرد "الفرجة" على مجموعة من النمر، تتضمن "الإيفيهات" والأغنيات والرقصات، وهو المفهوم الذي وصل إلى أكثر مستوياته تدنيا خلال هذا الموسم في فيلم يدعى "8%" (!!)، يطلقون فيه مصطلح "أغنيات المهرجانات" على مجموعة من أكثر الأصوات نشازا، ويالها من سخرية أن يكون ذلك هو معنى المهرجانات لدينا، وهو لا يكاد حتى أن يصل إلى مجرد التهريج بمعناه المعروف!!
وقد لا يكون ذلك غريبا في سياق توقف عن تسمية الأشياء بأسمائها الحقيقية، فكثيرا ما يصادفك أن تقرأ اسم فلان أو علان مسبوقا بلقب "شاعر" مثلا، بينما أتحدى أن يتذكر حتى أكثر أصدقائه تحمسا بيتا واحدا له، إن استطعنا أن نسمي ما يكتبه "أبياتا"!! لقد وصلنا باختصار في الكثير من قطاعات حياتنا إلى حالة من الانكفاء على الذات، والاكتفاء بها، ليس نتيجة إحساس حقيقي بالتفوق، بل نتيجة لحالة من الجهل العميق، والرضا عن ذلك الجهل، وعدم الرغبة والقدرة على الخروج من هذه الحالة، فقط لأننا لم نعد نسمي الأشياء بأسمائها الحقيقية.
ولا يكاد لأحد أن يتخيل أن من الممكن أن تصنع سينما – أيا كانت درجة تواضعها – دون أن ترتكز على تراثك السينمائي، بينما يجهل معظم أبناء الجيل الشاب والجيل الذي سبقه وجود سينمائيين كبار لأفلام مصرية ذات مذاق "شعبي" خاص، مثل المخرجين عباس كامل أو حسين فوزي، أو كتاب سيناريو مثل على الزرقاني ومحمد عثمان، أو مديري تصوير مثل عبد العزيز فهمي وعبد الحليم نصر، أو كتاب حوار مثل السيد بدير. لذلك أيضا باتت معظم أفلامنا الجديدة مجرد شرائط منوعات، تفتقر إلى أي امتداد لجذور سينمائية مصرية، وأنا هنا لا أحدثك حتى عن النوعية الأكثر جدية في أفلام توفيق صالح مثلا!!
وحتى التجارب التي تزعم أنها متأثرة بالسينما العالمية، تأتي على شاكلة فيلم "المسافر"، الذي يقال أن وزارة الثقافة المصرية أنفقت عليه عشرين مليونا من الجنيهات، بما كان يكفي لصنع عشرين فيلما لها نفس الطموح العالمي، غير أن "المسافر" ذاته انتهى إلى شريط يزعم الجدية بينما هو يفتقد وضوح الرؤية للشكل والمضمون. وفي التحليل الأخير، فإننا انقطعنا من جانب عن تراثنا السينمائي الشعبي، الذي كان من الممكن البناء عليه وتطويره، كما توقف من جانب آخر تأثرنا بالسينما العالمية عند تجارب أنطونيوني في ستينيات القرن الماضي، وهي سينما تجاوزها الزمن في البلاد التي ولدت فيها.
ومن الحق القول إن هناك عوامل اقتصادية واجتماعية كانت جزءا من أسباب تردي السينما المصرية، فلم تعد هناك لدى الأسرة المصرية ميزانية يمكن أن تنفقها على مثل هذا النوع من الترفيه (بينما يتزايد الإلحاح الإعلاني عن شركات التليفون المحمول)، خاصة أن هذه الأسر باتت من ناحية مثقلة بأعباء أمور أخرى مثل الدروس الخصوصية، ومن ناحية أخرى مترددة في الذهاب إلى دور عرض تقلص عددها إلى درجة لا تصدق، كما تراجع أيضا مستوى الحفاظ على الآداب والانضباط فيها، وهي أيضا الدور المملوكة لعدد قليل جدا من الموزعين، الذين يحتكرون السوق، ويستطيعون لو أرادوا وأد أي تجربة سينمائية جادة.
ولعل هذا يذكرنا بما تواضع البعض على تسميته "السينما المستقلة"، والتي لا تملك شروط الاستمرار والتطور في مثل هذه الظروف، لأن من المنطقي لمثل هذه السينما أن تجد منافذ ونوافذ للوصول إلى المتفرج بعيدا عن سيطرة من يحتكرون سوق العرض، لكن ذلك لم يحدث، لتبقى الأفلام المستقلة – كما تدعى – أقرب إلى التجارب التي لا تختلف كثيرا عن أفلام تخرج الطلبة من معهد السينما، وإن وجدت بين النقاد من يحتفي بها في مبالغة ليست في صالحها. هل تريد سببا أكثر أهمية لترددي في تسميتها "مستقلة"؟ لأنها ببساطة لم تستطع أن تتخلى عن مفهوم أن السينما هي "الفيلم الروائي الطويل"، بدلا من أن ترتاد أرضا جديدة تعرفها صناعات السينما في العالم كله، أرض الأفلام الروائية القصيرة، والأفلام التسجيلية، وأفلام التحريك.
هل يبدو الأمر أكثر قتامة مما ينبغي؟ وهل يعني ذلك أنه لا سبيل إلى الخروج من "أزمة" طالت حتى أصبحت أعراضها الحادة أمراضا مزمنة؟ سوف ألجأ هنا إلى مثلين شعبيين مصريين ننساهما كثيرا: "على قد لحافك مد رجليك"، و"مفيش حاجة اسمها فقر، فيه قلة رأي"!! كل ما نمر به وسوف نمر به ليس شيئا عجبا في التاريخ، وكل صناعات السينما (بل الأمم ذاتها) واجهت أزمات صعبة، واستطاعت الخروج منها، والشرط الوحيد لذلك بالغ السهولة والصعوبة معا: أن تكون حيا!! والحياة تعني عنصرين أساسيين: التراكم، والتكيف. وإن كان لصناعة السينما الهوليوودية من جانب إيجابي فهو تلك الحياة، إنها أولا قادرة على الاستفادة الدائمة من التجارب السابقة، وصنعت ما يسمى "الأنماط الفيلمية"، التي كانت هوليوود تقدم لها تنويعات مختلفة مع تطور الزمن. وهي ثانيا تحاول التكيف مع الظروف الجديدة، ولم تكن هناك أزمة عاشتها هوليوود مثل تلك التي مرت بها مع ظهور التليفزيون والتحول السكاني إلى الإقامة في الضواحي في بداية الخمسينيات، مما أحدث تناقصا سريعا في عدد المتفرجين، فكان ردها الأول تقديم "فرجة" مختلفة عن تلك التي يقدمها التليفزيون، من خلال الشاشة العريضة والألوان، وبناء دور عرض صغيرة في الضواحي، بدلا من قصور السينما الفاخرة في وسط المدينة، لينتهي الأمر بالتعاون مع التليفزيون ذاته لإنتاج الأفلام وعرضها، فيما يشبه الاتفاق بين "الإخوة الأعداء"!اا
وقد يقول البعض: تلك هي هوليوود، بترسانتها الاقتصادية والصناعية والفنية الضخمة، لكني سوف أضرب مثلين آخرين مختلفين تماما، فحين دُمرت الاستوديوهات الضخمة في إيطاليا ما بعد الحرب العالمية الثانية، وبات الحصول على أفلام خام جديدة أمرا صعبا، أدى التصوير خارج الاستوديو في الأماكن الطبيعية، واستخدام فيلم خام متواضع، بل اللجوء أيضا إلى ممثلين غير محترفين، إلى ظهور أسلوب ومضمون جديدين، عرفا باسم "الواقعية الجديدة" الإيطالية، كما في أفلام من كلاسيكيات السينما العالمية مثل "ماسحو الأحذية" و"سارقو الدراجات". المثل الآخر من البرازيل (وهو الذي تطبقه "إسرائيل" حاليا)، وهو أن تقوم وزارة التعاون الدولي بالحصول على مساهمات ومعونات من كل بلاد العالم، وتخصصها للسينما، وبعد أن كان قد تقلص عدد الأفلام البرازيلية في بداية القرن الحادي والعشرين إلى فيلمين أو ثلاثة، تجاوز الآن وبعد عشر سنوات رقم المائة، ومنها ما يحصد جوائز عالمية مهمة.
وأنا لا أعطي اهتماما كبيرا بنداءات صناع السينما المصرية الآن للدولة أن تتدخل لإنقاذها، لأنهم يريدون الإنقاذ على طريقتهم: مجرد مزيد من ضخ الأموال للمنتجين والموزعين، الذين لن يرضوا بتدخل الدولة لمنع ممارساتهم الاحتكارية، أو حصول بعض السينمائيين "المستقلين" على فرص عابرة لصنع أفلامهم، لكن هل يعني وجود  الأفلام أن هناك "سينما"؟
في الحقيقة أن على الدولة – التي نرجو أن تتعافى قريبا – المسئولية الكبرى في هذا المجال: توفير ميزانيات بالتعاون مع جهات عالمية عديدة تقوم بذلك بالفعل مع بلدان أخرى، وإنفاق هذه الميزانيات على عشرات الأفلام ذات التكاليف المنخفضة (بما في ذلك الأفلام التسجيلية والقصيرة)، وإنشاء نوادٍ لهواة السينما في كل أنحاء البلاد، وتأسيس أرشيف محلي وعالمي للأفلام لعرضها الدائم في مكتبات السينما، وتوفير قنوات توزيع جيدة للأفلام حتى من خلال العرض في التليفزيون مباشرة، وأخيرا إحداث ثورة حقيقية في مناهج تعليم السينما، والاستعانة بخبرات أجنبية تجعل طلبة السينما يبحرون في بحار جديدة، والعودة لإرسال بعثات في كل أنحاء العالم، لعل ذلك كله يوصل ما انقطع بنا في السينما بيننا وبين الجغرافيا والتاريخ، ويجيب لنا عن الأسئلة الجوهرية التي يبدو أننا لم نعد نعرف الإجابة عنها: لمن نصنع الأفلام؟ ولماذا؟ وكيف؟!!