Saturday, February 15, 2014

الثنائيات بين التطريب والدراما



ظلت تهمة حشر الأغنيات في الأفلام السينمائية تجري على لسان النقاد، ربما بسبب العدد الهائل من المطربين والمطربات الذين ظهروا واحدا بعد الآخر في السينما المصرية، بل كثيرا ما كان الفيلم الواحد يجمع بين مطرب ومطربة، بما عرف أيامها باسم "الدويتو" أو الأغنية الثنائية. ومن هنا بدا للوهلة الأولى أن السينما المصرية أصبحت أسيرة للأغنية، وهو الأمر الذي تأكد أيضا بسبب اشتراك أصحاب شركات الاسطوانات في تمويل الأفلام، لأن الصناعتين – السينما والاسطوانة – كانتا في الحقيقة في خدمة إحداهما الأخرى.
لكن المتأمل لتلك المسيرة يدرك كم كانت الفائدة أعمق من مجرد جني الأرباح. فبعد حوالي عقدين فقط من مولد السينما المصرية الروائية، يمكنك أن تشهد وتسمع نموذجا طريفا لأغنية ثنائية لم يكن أحد يتخيل قبلها أنها سوف تتحقق بهذه السرعة على الشاشة. فبدلا من حوار بين بطلة شابة هاربة من أسرتها، بصحبة رجل كهل يحبها في صمت ولا يريد أن يتركها وحدها، تجد في فيلم "غزل البنات" (1949) للمرة الأولى ممثلا له صوت أجش يغني، وكان ذلك الممثل هو نجيب الريحاني، الذي شارك ليلى مراد أغنية "عيني بترف". والطريف أن ملحنها هو محمد عبد الوهاب الذي كان يميل عادة إلى التطريب، لكنه هنا اهتم بالتعبير الدرامي، في جمل لحنية قصيرة، وإيقاع سريع. والأطرف أن هناك حكاية تقول إن الريحاني عند تسجيل الأغنية لم يتمالك نفسه في نهايتها، ليصعد إلى طبقة صوتية أعلى وهو يردد: "علشانك انتى أنكوي بالنار وألقح جتتي"!!
غير أن هذا التعبير الدرامي لم يظهر فجأة في الأغنية الثنائية السينمائية. لقد كان عبد الوهاب نفسه في عام 1937 ما يزال ملتزما بالتطريب، وهو ما يظهر واضحا في أغنيته مع ليلى مراد "ياما أرق النسيم" في فيلم "يحيا الحب"، وربما بدا في هذه الأغنية عشق عبد الوهاب للإيقاعات اللاتينية والغربية، لكن الألحان ظلت تطريبا صرفا، لمناجاة بين الحبيبين، اللذين يظهران على الشاشة في الأغلب في لقطات عامة من بعيد، إلا عندما يريد المخرج محمد كريم أن "يترجم" على نحو حرفي كلمات الأغنية، فيقطع إلى لقطة قريبة جدا لعيني ليلى مراد وهي تغني: "خد الجواب من عينيا". ولم تبتعد أم كلثوم أيضا في بداياتها عن هذا التطريب، كما يظهر في فيلم "عايدة" (1942)، الذي شاركت بطولته وأغنياته الثنائية مع المطرب المسرحي المشهور آنذاك ابراهيم حمودة، خاصة أن الملحن محمد القصبجي كان مشغولا وقتها بالبحث عن صيغة شرقية للموسيقى الأوبرالية، لكن مع قدر أكبر من التعبير العاطفي الواضح عن المشاعر، أكثر كثيرا من محمد عبد الوهاب في مرحلته الأولى.
لكن عبد الوهاب نفسه قفز مع السينما وتعبيرها الدرامي قفزة كبرى في فيلم "رصاصة في القلب" (1944)، حين شارك الممثلة – وليست المطربة – راقية ابراهيم أغنيتين متقاربتين لكنهما كانتا على العكس تماما في الموقف الدرامي. الأولى هي "حكيم عيون" التي يغازل فيها المرأة التي عشقها من أول نظرة، لكي يكتشف مصدوما أنها خطيبة صديقه، بينما كانت الأغنية الثانية "أقول لك إيه عن أحوالي" تعبر عن اكتشاف المرأة أنها لا تحب الخطيب الطامع في ثروتها، وها هي تحاول تذكير البطل بلقائهما الأول، لكنه يتهرب من الإجابة. وسوف تلحظ تماما كيف أن اللحن جاء في خدمة الموقف الدرامي، حتى أن بعض الجمل الحوارية داخل الأغنية يتم إلقاؤها بأداء تمثيلي صرف.
شهدت هذه الأغنيات الثنائية السينمائية نضجا واضحا في الفترة اللاحقة. ومن المثير للدهشة حقا أن فريد الأطرش، المشهور بميله الواضح للتطريب في أغنياته الفردية، استطاع بخفة ظل بالغة الرهافة أن يقدم أغنيات ثنائية أصبحت من علامات السينما الغنائية المصرية. ففي فيلم "ما تقولش لحد" (1952) يضطر البطل إلى اصطحاب الفتاة التي تطارده بحبها (نور الهدى)، ليشتركا معا في أغنية "ما لكش حق"، ذات الجمل اللحنية القصيرة والإيقاع الراقص (على واحدة ونص كما يقال في العامية المصرية)، وتُلقى جمل الحوار وأبيات الأغنية وحتى الهمهمات في نسيج طريف. وقريبا من هذه التجربة تجد أغنيته الثنائية مع شادية "يا سلام على حبي وحبك" من فيلم "أنت حبيبي" (1957)، والتي يحاول فيها الزوجان "تمثيل" الحب أمام أسرتيهما، وهنا أيضا يتداخل الأداء التمثيلي مع الغناء على إيقاع مرح، خاصة أن كلمات فتحي قورة تمتعت كما كانت دائما بخفة الظل، لتنتهي الأغنية بجملة "كفاية حب كفاية، أحسن يضر صحتي"!!
لقد كانت شادية قد شاركت أيضا عبد الحليم حافظ في بداياته في أغنية "تعالي أقول لك"، من فيلم "لحن الوفاء" (1955)، وفيها يحاول الحبيبان الإفصاح عن حب كل منهما للآخر (وهي التيمة التي تتكرر كثيرا في الأغنيات الثنائية السينمائية)، في ألحان قصيرة وإيقاع طروب، وتعبيرات تلمح ولا تصرح. لكن بعد حوالي عقد من الزمن يكرر المطربان التجربة في فيلم "معبودة الجماهير" (1967)، في أغنية "حاجة غريبة"، التي كتب كلماتها التقليدية هذه المرة حسين السيد، بما كان يفتقد خفة ظل قورة في الأغنية الأولى. وبرغم أن ملحن الأغنيتين كان منير مراد، فقد افتقدت الأغنية الثانية قدرا كبيرا من الحيوية، وكانت المفارقة أنها عادت إلى التطريب.
ولعل الأكثر تأثيرا في مجال الأغنية الثنائية السينمائية كان محمد فوزي، الذي كان متعدد المواهب بحق، مما ساعده على تقديم مختلف أنواع الأغنيات. وربما كانت الأغنية الثنائية الأشهر في هذا المجال هي "شحات الغرام" من فيلم "ورد الغرام" (1951). وفي موقف بالغ الابتكار تقدم الأغنية تنويعا على مشهد الشرفة من مسرحية شكسبير "روميو وجولييت"، والحبيب هنا يصطنع أنه شحاذ أمام حبيبته ليلى مراد. إنه يتوكأ على عصا شجرة، ويتسول: "إرموا له نظرة، واللا ابتسامة، حسنة وتنفع يوم القيامة". وهي تصده في البداية وإن كانت تخفي إعجابها به، فيرق له قلبها: "يظهر صحيح اللي بتشكيه، غلبان يا روميو الشحاتين"، وتعطيه موعدا في الغد!! أما في فيلم "فاعل خير" (1953) يمكنك أن تجد نموذجا آخر على رغبة الحبيبين فوزي وصباح في الإفصاح عن الحب، فيتحدث كل منهما عن افتراض يبدأ وينتهي دائما بكلمة "مثلا"، التي يستمر التلاعب بها طويلا في الأغنية، على نحو لم يتكرر كثيرا إلا في القليل من أفلامنا السينمائية.
هناك في النهاية نماذج فريدة في الأغنية الثنائية السينمائية، مثل الفيلم الوحيد الذي قام ببطولته الملحن الرائع رياض السنباطي "حبيب قلبي" (1952)، وهناك في الفيلم أكثر من أغنية ثنائية مع هدى سلطان، ربما كان أشهرها "عندي سؤال"، وفيها يتساءل كل منهما عن السبب الذي جعل الآخر يقع في حبه، في أداء يجمع بين الغناء والإلقاء التمثيلي. كما تشترك الممثلة فاتن حمامة بالغناء مع شادية في أغنية "ألو ألو احنا هنا" من فيلم "موعد مع الحياة" (1953)، في لحن منير مراد بالغ البساطة لكي يلائم صوت فاتن، وكلمات قورة التي تتحدث عن كيف قامت البطلتان بالنجاح في الامتحان الدراسي، مع لمسة كوميدية على طريقة "هل تعرفي كان وأخواتها؟ وأعرف عماتها آه وخالاتها"!!
وفي تجربة لم تتكرر في السينما المصرية، أراد المخرج داود عبد السيد أن يصنع فيلما موسيقيا (أو شبه موسيقي بمعنى أدق) في "سارق الفرح" (1995)، فجعل الممثلين (وليسا مطربين بأي حال) لوسي وماجد المصري، يلقيان بعض سطور الحوار على خلفية موسيقية، وهي سطور لا تقصد أن تكون "أغنية" بالمعنى المألوف، فهي تخلو من الوزن والإيقاع، فجاءت التجربة على طرافتها أقرب إلى "التغريب"، مما أبعد المتفرج عن التفاعل مع العالم الذي يراه على الشاشة.
لكن هناك تجربة أكثر أهمية وإن كانت مجهولة بالنسبة للكثيرين، من فيلم المخرج الكبير الراحل توفيق صالح "السيد البلطي" (1967)، ففي لحظة نشوة وصفاء للروح، يعبر الممثلان عبد العظيم عبد الحق ومحمد نوح (وكلاهما ملحن قدير)، في أغنية ثنائية لحنها الأول، ومن كلمات صلاح جاهين، عن حلمهما بتحقيق عالم أكثر جمالا وعدلا. والأداء هنا أقرب إلى الموال الهادئ، الذي يلائم جو التمني: "إن فقير زي حالاتي اللقمة ما تكتفوش، والجميع على الموايد ينسوا الهموم الصغيرة، واللي له نفس ياخد، واللي نشوان يغني، واللي مغرم بواحد ما يروحش عمره في تمني".....
وهكذا شهدت الأغنية الثنائية في السينما المصرية رحلة طويلة، كان من المأمول أن ترقى في الفترة اللاحقة إلى أشكال درامية بحق، لكي تتلاءم مع سياق السرد، لكنها مؤخرا باتت أقرب إلى "المونولوج"، وإن كان المونولوج في شكله التقليدي الذي نعرفه أخف ظلا، وأعمق أثرا.    

Thursday, February 13, 2014

الأغنية السينمائية من الطفولة إلى النضج


كثيرا ما تتهم السينما المصرية بأنها كانت أسيرة لضرورة احتوائها على أغنيات، مما يقطع تدفق خطها الدرامي، وقد يكون ذلك صحيحا في بعض الحالات، لكنه ليس دقيقا تماما، لأن الأفلام والأغنيات دخلت معا في علاقة حميمة، أثرت فيها كل منهما على الأخرى، وكما شهدت السينما المصرية تطورا في مسيرتها، عاشت الأغنية نوعا مماثلا من التطور، ناهيك عن الخصوصية التي تتمتع بها السينما المصرية في هذا المجال. وليس غريبا أن تكتشف أن ذلك كان أيضا حال العلاقة بين السينما والأغنية في الأفلام الغربية، ويكفيك أن تراجع العناوين الأخيرة للأفلام الأمريكية على سبيل المثال، لتكتشف أنها احتوت على العديد من الأغنيات. كما أننا نعرف جميعا ذلك الارتباط الحميم بين السينما والأغنية في الأفلام الهندية أيضا.
ولكي ترى هذا التطور بقدر من الوضوح، دعنا نتأمل كيف أن الأغنية السينمائية قد تطورت خلال عقد واحد من الزمن. في فيلم محمد عبد الوهاب "يحيا الحب" (1937) أغنية "عندما يأتي المساء"، التي تقطع السرد تماما، ويمكنك أن تحذفها دون أن تفتقد شيئا، يغنيها عبد الوهاب وقد وضع يديه في جيبي سرواله، كما أن الصورة السينمائية اكتفت بالترجمة البصرية الساذجة للكلمات، فهي تعرض ما يفترض أنه سماء ونجوم، لكن الأهم هو أن أداء عبد الوهاب لم يخلُ من التطريب الصرف، مع تكرار سطور الأغنية. اختفى هذا التكرار بشكل جزئي في أغنية "حنانك بيا ياربي" من فيلم "رصاصة في القلب" (1944)، وإذا كان المطرب ما يزال يقف في بدلته الكاملة، فإن أداءه يقترب من دراما التعبير عن حيرة الحبيب الذي اكتشف أن محبوبته ليست إلا خطيبة صديقه. وسوف تجد مقارنة مشابهة مع أم كلثوم، بين أغنية "يا ليل نجومك شهود" من فيلم "وداد" (1936)، وأغنية "يا صباح الخير" من فيلم "فاطمة" (1947).
وسوف نقتصر الآن على شكل من الأغنية السينمائية، هو الأغنية الفردية، لنتأمل فيما بعد الأشكال الأخرى. وفي مثال طريف يوضح ذلك التطور، يغني عبد الحليم حافظ "يا سيدي أمرك" في فيلم "ليالي الحب" (1955)، في موقف يفترض فيه أنه مضطر لإرضاء رجل عجوز مرتبط بالغناء القديم، وتظهر قدرة عبد الحليم على أداء الأدوار والموشحات القديمة، مع كلمات ساخرة من نوع "خايف أقول على قد الشوق لتطلع روحي"، أو "وبأغني قديم وأنا إيه ذنبي، أعمل لك إيه يانا ياغلبي"!! لكن المفارقة كانت أن عبد الحليم (مع فريد الأطرش) ظل مرتبطا بالتطريب حتى في أفلامه وأغنياته الأحدث، من "الخطايا" (1962) وحتى "معبودة الجماهير" (1967)، فقد كانت أغنيات هذه الأفلام، مثل "الحلوة" أو "قل لي حاجة" أو "أحضان الحبايب" أو "الهوى هوايا"، أسيرة في أغلب الأحيان لاصطناع موقف للأغنية، التي ظلت طويلة بلا داعٍ، ولا تخلو من التكرار.
المفارقة الأهم هي أن التطوير حدث مع ما يمكن أن نسميهم مطربين أكثر شعبية، مثل عبد العزيز محمود ومحمد فوزي وكارم محمود، ولعلك تلاحظ أنهم في معظم أفلامهم أدوا شخصيات كانت غريبة على السينما من قبلهم، نجار أو سائق قطار أو بائع جرائد، كما أن أغنياتهم أصبحت أقصر وبلا تكرار، ودخلت عليها إيقاعات أكثر معاصرة مثل السامبا أو الرومبا أو التانجو (بينما كان لإيقاع الفالس تاريخ ممتد في الموسيقى الكلاسيكية العربية). ولعل المثال الأوضح على ذلك أغنية عبد العزيز محمود "شباك حبيبي" من الفيلم الذي يحمل ذات الاسم (1951)، فالمطرب يغني الأغنية في ورشة نجارته، وهو يصنع شباكا لحبيبته، وتصبح الأغنية هي مشهد نزول العناوين أيضا، مصحوبة بكل تفاصيل مراحل صنع الشباك وتركيبه، مع كلمات رقيقة قد تفتقدها تماما في أغنياتنا المعاصرة، مثل "يا ضرفتين من تيه ودلال"، أو "ما لوش في دنيا الحب نظير، ندرن عليا إن نلت مرامي، لأعمل ستايره حرير في حرير". وفي نفس الفترة تقريبا يغني فوزي "ليا عشم وياك يا جميل" مخاطبا الحصان الذي تقتنيه حبيبته، التي تهوى تربية الخيول، في فيلم "ورد الغرام" (1951)، كما يغني كارم "أمانة عليك يا ليل طول" في فيلم "عيني بترف" (1950)، وهو لا يدري أن محبوبته بائعة الفجل (تحية كاريوكا) ترقص على ألحانه.
ولعل التطور يظهر أكثر وضوحا في أغنيات المطربات، اللائي جاء الكثير منهن من البلاد العربية، خاصة سوريا ولبنان. إن سعاد محمد تغني قصيدة بالفصحى في فيلم "أنا وحدي" (1952)، تعتمد تماما على بلاغة وبساطة كلمات صالح جودت وألحان السنباطي، بما يذكرك بأغنية "أصون كرامتي" قبل خمس سنوات فقط في فيلم "فاطمة"، مع أم كلثوم ورامي والسنباطي. كما تغني سعاد محمد في نفس الفيلم أغنية خفيفة الظل، هي "القلب واللا العين" لمأمون الشناوي ومحمود الشريف، هذه المرة في تلميح لعلاقات الحب التي كانت تتشكل في سياق الدراما. وتلك هي خفة الظل ذاتها التي تراها وتسمعها من نجاح سلام في فيلم "دستة مناديل" (1954)، لفتحي قورة وكارم محمود، وهي أغنية "صبح الصباح"، التي يبرع المخرج عباس كامل في ترجمتها بصريا مع طقوس الصباح اليومية، من بائع الفول المدمس إلى إعداد مائدة الإفطار وحتى ارتداء الملابس، كما تحتشد الأغنية بكلمات بالغة الرقة والبساطة معا: "تبارك الخلاق، مقسم الأرزاق، إذا أراد أو شاء، تفرج بإذن الله"، أو "سر الحياة في الكون، تشهد على قدرتك، تقول له كن فيكون، وتديره بحكمتك".
كانت تلك كلمات فتحي قورة، الذي كتب أغلب أغنيات الأفلام المصرية على اختلاف أنواعها، ولتقارن ذلك مثلا مع أغنية شادية "إن راح منك يا عين" في فيلم "إرحم حبي" (1959)، والتي تعبر عن مرارة فقدان الحبيب الذي هجر، والتوعد له بالويل والثبور. كذلك الأغنية الفريدة في السينما المصرية على الإطلاق، والتي تغنيها هدى سلطان في فيلم "امرأة في الطريق" (1958) بعنوان "يا صابر"، والتي برع فيها الملحن منير مراد في استخدام طبقة صوت منخفضة، تغوي بها المرأة حبيبها (رشدي أباظة)، ويصورها عز الدين ذو الفقار باستخدام تناقض حاد بين النور والظلام.
وإذا كانت صباح تحتل مكانة قوية في الأغنية السينمائية المصرية على اختلاف أنواعها، فهي أيضا التي قدمت شكلا جديدا مع صلاح جاهين وسيد مكاوي في أغنية "أنا هنا يا ابن الحلال" في فيلم "العتبة الخضراء" (1959)، وهو شكل يعتمد على البساطة الشديدة، التي تعكس دلال الفتاة المصرية حين تمزج بين التصريح والتلميح في حبها، "با أحلم بعش، أملاه أنا، سعد وهنا، وأنا هنا، يا ابن الحلال". تلك هي البساطة ذاتها التي سوف يأخذها جاهين، هذه المرة مع كمال الطويل، إلى مدى أبعد في أغنية سعاد حسني "يا واد يا تقيل" من فيلم "خللي بالك من زوزو" (1972)، لكن هذا الثلاثي سوف يقدم في فيلم "شفيقة ومتولي" (1978) أغنية عميقة السخرية والمرارة، هي "بانوا على أصلكو بانوا"، التي تنقد مجتمعا ذكوريا، يخفي أخطاءه وخطاياه بقمع المرأة واستغلالها.
هناك أخيرا استخدامات متفردة للأغنية في السينما. ولعل أشهرها أغنية سيد اسماعيل "يا صحرا المهندس جاي" من فيلم صلاح أبو سيف "الصقر" (1950)، فللوهلة الأولى تبدو الأغنية ترحيبا بتعمير الصحراء (وكانت تذاع في الإذاعة بهذا المعنى)، لكنها في سياق الفيلم تعبر عن غفلة أصحاب الأرض، الذين تركوا الأجنبي يتسلل إليها تحت هذا الزعم. بل إن ممثلين (غير مطربين) قدموا أغنيات سينمائية مهمة، وربما لا يعرف الكثيرون أغنية محمود الجندي "أهي دنيا" من فيلم "المرشد" (1989)، لسيد حجاب وعمار الشريعي، والتي تعبر عن "فلسفة" الهامشيين، الذين لا يملكون شيئا سوى التحايل على الحياة، وقد يبدون مستسلمين لكنهم يخفون تمردهم تحت السطح: "الدنيا دي إيه غير بتاعة، والناس دي عبارة عن بتوع، فيه ناس واكلينها بالنطاعة، وقال إيه عايزينا نبقى طوع"!!
لكننا لا يمكن أن ننسى أغنية عبد المنعم مدبولي في فيلم "مولد يا دنيا"، بأداء تمثيلي بالغ الرهافة والبراعة، لشخصية سائق الحنطور الذي تجاوزه الزمن ليصبح معدما وحيدا. وبكلمات مرسي جميل عزيز وألحان كمال الطويل وإخراج حسين كمال، تتحول المناجاة الذاتية التي ترثي الحال إلى أغنية: "إحنا اللي كانوا الحبايب، بيسافروا بينا القمر، بقينا أنتيكة، دقي يا مزيكا.... طيب يا صبر طيب".
لقد ظُلمت السينما المصرية كثيرا، باتهامها بحشر أغنيات، لكن الحقيقة أنها كانت تقوم في أحيان كثيرة بتوظيفها على نحو له خصوصيته بين صناعات السينما الأخرى، وليس من الضروري أو من المفيد أن تبحث لمثل هذا التوظيف عن تعريف، يطابق ما هو موجود في السينما الأمريكية على سبيل المثال، وهو الأمر الذي يتأكد مع أشكال أخرى عديدة للأغنية السينمائية في السينما المصرية.