Wednesday, February 26, 2014

الاستعراض الموسيقي على طريقة السينما المصرية




مثلما فرضت الظروف الاقتصادية أن يُعقد زواج لا ينفصم بين السينما والأغنية، بسبب اشتراك شركات الأفلام والاسطوانات في الإنتاج، فإن تلك الظروف شهدت منذ بداية السينما المصرية أثرا لم يكن من الممكن تجاهله، وهو الاعتماد الكبير على التوزيع في البلدان العربية، ودخول ممولين عرب في عالم صنع الأفلام، وكان لذلك أثره بالغ الأهمية في ظهور نمط خاص من الأغنية السينمائية، وهو الاستعراض الموسيقي الذي يأتي غالبا بالقرب من نهاية الفيلم، ويطوف بألحان من الأقطار العربية، في مغازلة مشروعة وخفيفة الظل للجمهور في هذه البلدان.
ولعل النموذج الأهم الذي تم استنساخه كثيرا، هو استعراض "بساط الريح" من فيلم "آخر كدبة" (1950)، حيث ابتكر مؤلف الكلمات بيرم التونسي وسيلة لمثل هذه الرحلة بين البلدان العربية، بركوب "بساط الريح" السحري، ويبرع بيرم في ابتكار كلمات تناسب كل بلد، فمثلا "نسيم لبنان شفا الأرواح... ويا مشتاق لبر الشام، تبات سكران بلا أقداح"، أو "تونس أيا خضرا، يا حارقة الأكباد، غزلانك البيضا، تصعب على الصياد". كما تبدو موهبة فريد الأطرش في الإمساك بروح اللحن في كل بلد، وتشاركه الغناء عصمت عبد العليم، بينما ترقص سامية جمال، في محاكاة (ربما بدت اليوم ساذجة) لرقصات الشعوب المختلفة. وكانت مثل هذه الاستعراضات تنتهي دائما بالعودة إلى مصر، حين كانت تمثل بحق شقيقة كبرى لمختلف البلدان العربية، لذلك فإن "اللي يزور أرضنا، يروح ويرجع لنا، مفيش كده حسننا، ولا فيش كده ظرفنا، يا حلو يا طبعنا، يا خفة يا دمنا"، ومن الطريف أن فريد الأطرش القادم من بلاد الشام كان يلحن ويغني هذه الكلمات كأنه مصري أصيل!   
لكن نموذج الاستعراض بالطواف في البلدان العربية لم يكن الشكل الوحيد، فقد توالت أشكال مختلفة كان معظمها يأتي على يد محمد فوزي في أفلامه. إنه مثلا يستعرض قصص الحب المختلفة عبر التاريخ، وكيف أنها كانت تتسم بالوفاء على عكس الحب "هذه الأيام" (كان ذلك منذ أكثر من نصف قرن، ترى ماذا كان يمكنه أن يقول الآن؟!)، وذلك في فيلم "الآنسة ماما" (1950) في استعراض "اتفرج يا سلام"، بالاشتراك مع صباح واسماعيل ياسين والراقصة هاجر حمدي. ويستعير الاستعراض فكرة "صندوق الدنيا"، لينتقل من قصة حب إلى أخرى، ويمزجها بمحاكاة ساخرة كان يجيدها دائما مؤلف الأغنيات فتحي قورة. فهناك مثلا قصة قيس وليلى، حيث يثور العم (اسماعيل ياسين) على ابن أخيه قيس: "جئت تطلب نارا أم جئت فاكرني مغفلا وحمارا؟"، وفي قصة أنطونيو وكليوباترا يشرح اسماعيل كيف تم الانتصار على روما: "هزمناهم وسيبناهم، ما بين قتلى وبين جرحى، ومن بكرة ها نلقاهم، في روما يلبسوا الطرحة"، كما أن ابن عم جولييت يلقى مصرعه على يد روميو فيقول: "يا ما كنت نفسي أغلبك، لكن صابتني هزيمة، إلهي ما يكسبك، يا روميو يا ابن حليمة"!!
وفي فيلم "بنات حواء" (1954) يقدم فوزي استعراض أزياء فصول السنة المختلفة، بالاشتراك مع شادية واسماعيل ياسين. لكن الاستعراض الغنائي السينمائي المتطور حقا في تلك الفترة جاء على يد المخرج بركات في فيلم "دايما معاك" (1954)، فالبطلة فاتن حمامة تعرف أن حبيبها سائق القطار محمد فوزي له في كل مدينة حبيبة مختلفة، وها هي في نومها تحلم بأنها في عالم تشهد فيه علاقات حبيبها المتعددة، وهي موجودة في الحلم تطوف بين أرجائه، لكن الحبيب لا يراها، وتكتفي هي بإحساس مرير بالغيرة، حتى ينتبه لوجودها في النهاية، لتركب القطار معه وحدها، ويرحلان إلى بعيد.
أما في فيلم "عنبر" (1948) فإن ليلى مراد، بكلمات حسين السيد وألحان عبد الوهاب، تقدم استعراضا لمن يتقدمون لها من الخطاب، بعنوان "اللي يقدر على قلبي"، فهناك الثري الوارث غير الوسيم اسماعيل ياسين (يقدمه عبد الوهاب على التيمة الرئيسية لأفلام "أبوت وكوستيللو")، وابن البلد شكوكو الذي كون ثورته من "الفول والطعمية"، ثم الموظف عزيز عثمان بمرتبه المضمون "مع العلاوة على الإنصاف"، وأخيرا الشامي إلياس مؤدب، لكنها لا تجد في أي منهم "خيال حبيبها المجهول"، ليظهر فجأة أنور وجدي عازف الموسيقى، الذي تتعرف فيه على حبيبها على الفور.
وفي هذا الاستعراض تجد براعة في المزج بين التطريب والتشخيص، حيث لكل شخصية سماتها التي تظهر في الكلمات والألحان، ليمضي هذا المزيج خطوة أبعد في اسستعراضات غنائية سينمائية مثل استعراض "تاكسي الغرام" في الفيلم الذي يحمل نفس الاسم (1954)، حيث تعمل البطلة هدى سلطان في محطة وقود، ولا يحظى باهتمامها إلا الحبيب سائق التاكسي عبد العزيز محمود، وتتلاعب الكلمات على مفردات هذا العالم، فالسائق يقول: "أنا طالب الهوا" (الهوى)، لترد: "طب حوّد من هنا، موجود عندنا".
لقد كان من الطبيعي في هذا السياق الذي شهد ازدهارا للاستعراض السينمائي، أن تظهر نجمات متخصصات فيه، كانت على رأسهن نعيمة عاكف التي أخرج لها زوجها حسين فوزي مثل هذه الأفلام. ويمكنك مثلا أن تجد استعراضا لها من نوع خاص في فيلم "النمر" (1952)، تقدم فيه تنويعا على أغنية عبد الوهاب "حنّ"، تجمع فيه بين الغناء والرقص والتمثيل. كما برعت النجمة الطفلة فيروز في هذا العالم، على نحو ما ترى في فيلم "دهب" (1953)، حين تقدم محاكاة لأشهر راقصات هذا الزمن، مع كلمات خفيفة الظل مثل: "طبّلي وشد الربكة، ها أرقص لك فشرت كاريوكا"، أو "إجدعن يالله كمان أمال، ها أرقص لك فشرت سامية جمال"، أو "طبّلي على الدربكة كمان، ها أرقص لك زي بديعة زمان"!
ولم يكن غريبا أن يستمر الاستعراض الغنائي في فترات لاحقة، حتى بواسطة ممثلات لم تكن مغنيات في الأصل. ففي فيلم "صغيرة على الحب" (1966) استعراض "الحلوة لسة صغيرة"، وفيه تبدو سعاد كأنها طفلة تشتاق إلى النضج، لكي ترتاد عالم الحب والمحبين، ويحقق لها الساحر عم حزمبل هذه الأمنية، لتكتشف أنه عالم غير مأمون، وأن "بحر الهوى غدار"، لينتهي اليوم ويعيدها الساحر حزمبل إلى الطفولة، بينما كانت على وشك التعرف على حبيبها المجهول. أما شويكار فتقدم استعراض "قلبي يا غاوي سبع قارات" في فيلم "مطاردة غرامية" (1968)، وهي تلقن حبيبها فؤاد المهندس درسا بأن تتنكر في محاكاة هزلية في هيئة امرأة يابانية، ثم فرنسية، فأمريكية، وإسبانية، لكي تفصح عن نفسها في النهاية وهي ترتدي "الملاية اللف"، لتثبت للرجل أن المرأة المصرية لا مثيل لها!!
وبينما كانت لبلبة ونيللي وشيريهان مشهورات بالاستعراضات الغنائية التليفزيونية، فإنهن لم تقدمن في السينما الكثير من هذه الاستعراضات، بينما استولت على نادية الجندي فكرة أنها "النجمة التي تمثل وترقص وتغني"!! وقدمت في معظم أفلامها استعراضات هزيلة، كانت تأتي دائما في خروج كامل على السياق الدارمي للفيلم، كما في "48 ساعة في إسرائيل" حيث ترقص رقصة شبه يونانية، وفي "مهمة في تل أبيب" ترقص على الأغنية العبرية المسروقة من الفولكلور الروماني "ناجيلا هافا"!! وكانت هذه الفكرة أيضا التي استولت على ليلى علوي لفترة، خاصة في فيلميها مع كاتب السيناريو ماهر عواد والمخرج شريف عرفة "سمع هس" و"يا مهلبية يا"، وإذا كان الأول قد نجح نسبيا لأنه لعب على تيمة من يشتهرون بسرقة ألحان الموهوبين المغمورين، فإن الثاني قد فشل فشلا ذريعا، لأنه استخدم السخرية المجانية من كل الثوابت الوطنية، وباتت فيه الاستعراضات هزيلة في الشكل، فارغة من المضمون.
   ولعل المخرج الذي كان أكثر اهتماما بأن يقدم فيلما استعراضيا كان حسين كمال، وهو ما ظهر على سبيل المثال في بعض الاستعراضات المقحمة على فيلم "أبي فوق الشجرة" (1969)، وهو في جوهره فيلم ميلودرامي خالص، غير أن حسين كمال قرر فيه تقديم استعراض "قاضي البلاج"، في محاولة لتناول مشكلات عدم الفهم أو التفاهم بين الأجيال. وسنحت لحسين كمال فرصة أهم في "مولد يا دنيا" (1976)، الذي تقوم فكرته على تكوين فرقة فنون شعبية من مجموعة من الصعاليك. وبرغم احتشاد الفيلم بالاستعراضات الجماعية، فإن استعراضه الدرامي الأجمل والأهم جاء مع نزول العناوين، ففي المولد لصوص وشحاذون ونشالون ومحتالون، هم الذين سوف تتكون الفرقة منهم، ويصبحون مواطنين صالحين على يد بطل الفيلم محمود ياسين.
وتبقى مجموعة الأفلام التي قدمتها فرقة رضا هي التي يمكن أن نطلق عليها استعراضية بحق، خاصة "أجازة نص السنة" و"غرام في الكرنك"، حيث يصبح الاستعراض جزءا من سياق الفيلم نفسه، مع موسيقى على اسماعيل الذي عاش مع الفرقة طويلا، وكأن أكثر استيعابا وقدرة في مجال ألحان وإيقاعات هذه الاستعراضات. ولكن مع التنوع الكبير للاستعراضات الغنائية والموسيقية والراقصة في السينما المصرية، أصبح للموسيقى والسينما في مصر مذاق خاص، كان من المأمول الحفاظ عليه وتطويره، لكنه انتهى – ربما إلى حين – في زوايا النسيان.