Saturday, August 02, 2014

استراتيجيات السرد، والأخلاق، فى الدراما المصرية

فى قصة قصيرة للأديب الكبير الراحل خيرى شلبى، تحمل عنوان "أكل العيال"، لوحة تسجيلية عن امرأة من حى عشوائى، فى رحلة شقائها اليومية لتدبير أكل العيال، بمساعدة زوجها سائق التاكسى الشقيان بدوره على أكل عيش أسرته، وإذا كانت القصة تنتهى على نحو مأساوى، بحادث أليم تفقد فيه المرأة ذراعا، فتمضى حاملة أكل العيال بالذراع الآخر، فإن هذه الصورة تصبح صورة مجازية بالغة القوة للشريحة الأكبر من الشعب المصرى، الذى يمضى فى حياته مجترا الآلام، وكل أمله أن يبقى فقط على قيد الحياة.
أجمل ما فى القصة أنك تكتشف فى منتصفها أنك لست أمام راوٍ محايد، فالسرد يأتى من خلال حكى واحد من أبناء هذا الحى نفسه، لذلك فإن العالم الفنى (ولا نقول الواقعى فقط) يتم تصويره بشكل شبه تسجيلى، من مستوى الناس أنفسهم، وليس من وجهة نظر راوٍ مفترض هو بالضرورة يعلم كل شىء عن كل شىء، وينظر إلى هذا العالم "من فوق". وتلك بالضبط هى نقطة الالتقاء فى الفن بين الأسلوب والأخلاق.
كثيرا ما ننظر إلى كلمة "الأخلاق" فى الفن نظرة الريبة والشك، لأن هناك من جعلنا نعتقد أنه لا علاقة بينهما، بل تزداد الدعوة يوما بعد يوم لفكرة أن الأخلاق تؤدى إلى تقييد حرية التعبير. لذلك نرجو أن نوضح من البداية أننا لا نقصد أبدا أن تكون الأعمال الفنية مواعظ أخلاقية، أو ألا يتناول الفن ما فى العالم من شرور، لكن ما نقصده بوضوح أن "أسلوب" العمل الفنى، واختياراته التقنية، يعكس فى التحليل الأخير موقفا أخلاقيا من الفنان تجاه العالم الذى يصوره، وهو الموقف الذى يطلب منا الفنان أن نتبناه ونوافق عليه.
كان الفنان السينمائى الفرنسى جان لوك جودار يقول دائما، إنك لو أردت أن تجعل لقطة بعيدة لشخصية ما تتحول إلى لقطة قريبة، فأمامك اختياران تقنيان: إما أن تقترب بالكاميرا ذاتها، أو أن تقوم بتكبير الصورة باستخدام عدسة "الزوم"، ليضيف فى وضوح تام: هذا ليس مجرد اختيار تقنى وأسلوبى، بل هو اختيار أخلاقى أيضا. فأنت مع عدسة "الزوم" تبقى بعيدا عن الشخصية، بينما اقترابك بالكاميرا منها يعنى قدرا أكبر كثيرا من الحميمية. ولعل تلك النقطة بالتحديد: نقطة اللقاء بين الأسلوب والموقف الجمالى، هى أكثر نقاط الدراما المصرية ضعفا، وأكثرها تأثيرا على غيابها عن ساحة الدراما فى العالم كله.
نحن فى العادة نتحدث عن أن هذا الفيلم أو ذاك المسلسل يتناول الموضوع الفلانى، لكننا نادرا ما نتحدث عن كيفية هذا التناول. ومرة أخرى، نحن لا نقصد "موقف" الفنان من العالم الفنى الذى يصوره، فالأهم هو "موقعه" من هذا العالم، أو إن شئت أن تستخدم مصطلحا أكثر دقة: الأسلوب السردى للعمل. سوف أضرب لك مثالا أرجو أن يوضح ما أقصده، فإذا كانت أفلام المخرج السينمائى خالد يوسف تبدو على السطح دائما كأنها تتناول عالم المضطهدين، فإنها فى الحقيقة "تبيع" هذا العالم باعتباره "فرجة" للمشاهدين. فى فيلم "دكان شحاتة" على سبيل المثال مشهد يقول الفيلم أنه يعبر عن الحرمان الجنسى لبطلته، وهنا يتوقف المخرج طويلا بالكاميرا التى تجسد لنا حلم يقظة بين البطلة وحبيبها، بكل اللقطات القريبة الممكنة التى لا تهدف لتصوير كبت البطلة، بقدر ما تهدف إلى التأكيد على حرمان المتفرجين. وفى مشهد آخر، يكون شقيق البطلة قد وقع تحت تأثير المخدرات، فيأمر شقيقته أن ترقص له ولخطيبها، فإذا بك تكتشف أنها فى الحقيقة ترقص "لنا" نحن المتفرجين، والسبب؟ الأسلوب!! فقد اختار المخرج فى المشهد أن تقوم الكاميرا باستعراض مفاتن هيفاء وهبى، ولا تسأل من أى "وجهة نظر" جاءت هذه اللقطات، فلو كانت من وجهة نظر راوٍ موضوعى، فقد كان يجب أن يرى هذا المشهد أو ذاك من بعيد، أما إن كانت من وجهة نظر راوٍ ذاتى فقد كان التعبير عن الألم هو الأقرب للصدق، والأقرب للأخلاق (بالمعنى الجمالى والفنى دائما).
أصبحت تلك "الطريقة" فى صنع "توليفة"، تجمع بين تصوير من السطح لعالم الفقراء، وبيع هذا العالم للمتفرجين، هى الوصفة السحرية لضمان النجاح السهل، فهى تجذب المثقفين الذين يسعدون كثيرا بتناول مثل هذا العالم باعتباره دليلا على حرية التعبير، كما تجذب الجماهير التى تأتى لتتفرج على عالم يبدو مثل "السيرك" بالنسبة لها، حافلا بكل ما هو غريب وعجيب، بالإضافة بالطبع لعوامل الإثارة التى لا يمكن أن تخطئها عين. أما عن القول بحرية التعبير، فليس هناك مثال أكثر وضوحا من كثير من أفلام يسرى نصر الله، بدءا من "مرسيدس" وحتى "إحكى يا شهر زاد"، وهى أفلام يمكن أن يقال عنها أنها "استشراقية" بالمعنى الكامل للكلمة، فهى من وجهة نظر متعالية على الواقع، وموجهة إلى جمهور قد يرى مثل هذا الواقع "طريفا" وغريبا، وهى فى التحليل الأخير تقول دائما: "هذا هو واقعكم، ليس هناك أمل فى إصلاحه، وربما كان الخلاص الكامل منه هو الطريق الوحيد إلى الحل".
فى هذا الفيلم الأخير "إحكى يا شهر زاد"، شخصية نسائية عابرة، ظهرت فى المشاهد الأولى ثم اختفت، وكانت هى الأهم بين شخصيات الفيلم كله: امرأة تعمل فى محل لبيع مستحضرات التجميل الفاخرة، يقتضى عملها أن ترتدى فاخر الثياب وأن تضع كامل زينتها، وعندما ينتهى عملها نراها فى رحلة عودتها إلى منزلها، تزيل الزينة وترتدى الحجاب، استعدادا لدخول الحى الشعبى الفقير الذى تسكنه. وبدلا من أن يتوقف عندها الفيلم طويلا، فإنه يتجاوزها، ليحكى عن شخصيات "كارتونية" ذات بعد واحد، تارة تنتمى إلى المثقفين الذين لا يرحب بهم مجتمعهم، وتارة أخرى تنتمى إلى عالم الفقراء الذين تتحكم فيهم الغرائز الخالصة.
ولك أن تتخيل أن ذلك كله مغلف بالقول بأنها أفلام "تتناول" قضية الدفاع عن المرأة، وتنسى أو تتناسى أنها "تبيع" المرأة بسبب غياب الوعى بالأسلوب السردى، وما يتطلبه من موقف أخلاقى تجاه العالم الفنى. ومن مدرسة خالد يوسف، ثم يسرى نصر الله، خرجت مجموعة من أصحاب الأعمال الدرامية، يكررون نفس الموضوعات، وخلط الأساليب، ويكتسبون شهرة خاصة بعد انتقال الاهتمام إلى الدراما التليفزيونية، على أثر حالة الغيبوبة التى أصيبت بها السينما المصرية. ولعل أكثر هؤلاء شهرة الآن كاتبة السيناريو مريم نعوم، التى تشترك فى الأغلب مع الخرجة كاملة أبو ذكرى، فى صنع مسلسلات تحتشد بمشاهد ذات طابع تلقائى (وارتجالى أحيانا)، وتلقى رواجا لدى معظم النقاد، بسبب ما يبدو فيها من جرأة، ولأنها تزعم الاقتباس عن أعمال كسبت قدرا كبيرا من الاحترام، مثل "ذات" لصنع الله ابراهيم، أو "سجن النسا" لفتحية العسال.
لم يتوقف الكثيرون عند التشويه البالغ لرواية صنع الله ابراهيم، التى تتحدث بأسلوب تسجيلى عن الطبقة المتوسطة التى عانت من عوامل التعرية الإنسانية مع عصر الانفتاح المزعوم، حين فقدت الذات ذاتيتها حقا (للمرأة والرجل على السواء)، وأصبحت مسخا يتم التلاعب بوعيه ووجدانه. فى معالجة مريم نعوم تصبح البطلة رمزا لمصر منذ 23 يوليو 1952 (هكذا!!)، فهذا يوم ميلادها، لتمضى حياتها فى بؤس كامل فى ظل "الستين سنة اللى فاتوا"، كما يردد الكثيرون الآن فى موجة تشويه التاريخ المصرى ووعى الناس به، وجعل الستة عقود كتلة واحدة من القمع المتصل، ولا يخجل المسلسل أيضا من أن يقول إن عبد الناصر كان السبب فى رحيل اليهود عن مصر، كما يجعلنا نتمزق ألما ونحن نرى الجيران اليهود الأبرياء يرحلون.
الجانب الرمزى الآخر من مسلسل "ذات" هو النزعة النسوية المفرطة، فكل الرجال دون استثناء غلاظ القلوب خبثاء العقول، وهى النزعة النسوية التى بدا لها أنها قد وجدت ضالتها المنشودة فى "سجن النسا"، بدءا من عنوانه الذى يحلو للكثيرين القول إنه يعبر عن "مصر كلها" (!!)، لتصبح القضية المحورية هنا الصراع الأزلى الأبدى بين الرجال القاهرين والنساء المقهورات. وفى "سجن النسا" يتجلى الخلل الأسلوبى والأخلاقى للدراما المصرية، فهو يبدو على السطح شديد الواقعية (يرجع الكثير من الفضل فى ذلك للمخرجة كاملة أبو ذكرى وإدارتها للممثلين واختيار مواقع التصوير)، لكنه فى الوقت ذاته يبدى رغبة لا يمكن تجاهلها فى عدم النفاذ إلى جوهر القضايا.
ومن المؤكد أن لهذه الواقعية السطحية أحيانا قدرا من الجاذبية، فهى تجعل المتفرجين "يتفرجون" على عالم غريب عليهم، وهنا يكمن الخلل الأخلاقى: ما هو التأثير الذى يريد المسلسل تحقيقه فى جماهيره؟ على الجانب الفنى أنت أمام نوع معاصر من "صندوق الدنيا": أنظر إلى الفقراء وهم لا يتوقفون عن الصراخ والنواح (وكلما زادت الممثلة لطما تصورت أنها أكثر إبداعا)، وانظر إلى تاجرة المخدرات التى لا تنطق بلكنة الناس العاديين، وإنما فى تقليد للمعلمة "سمارة"، وتأملها وهى تستمع بشم الكوكايين لتصل إلى النشوة، وانظر إلى أجساد الراقصات التى تتلوى فى علب الليل الغارقة فى الإضاءة الحمراء (وهذا مشهد يبدو إجباريا فى كل حلقة!!).
إن أردت تلخيصا لموقف صناع مثل هذا المسلسل من عالمهم الفنى، فيمكنك أن تسميه "التلصص"، الذى يتيحه للمتفرج بحجة أنه يرى عالما غريبا عليه، التلصص على نساء يقمن بتغيير ملابسهن قبل مغادرة الملهى الليلى (هنا تكون الكاميرا فى موقع المتلصص تماما)، أو عندما يقمن بترقيق حواجبهن ووضع زينتهن، أو فى لحظات استرخائهن ورقصهن معا، ليس بغرض الترويح عن النفس فى غمرة الهم والحزن (لا أستطيع هنا إلا أن أتذكر عذوبة وإنسانية وأخلاقية فيلم داود عبد السيد "سارق الفرح"، أو فيلم رضوان الكاشف "ليه يا بنفسج")، وإنما لتقديم وصلة من الابتذال المقتبس عن أسوأ أفلام السينما المصرية.
يقول لك البعض أنك لا تستطيع أن تفرض قيودا على حرية الإبداع، لكنهم لا يستطيعون أيضا فرض قيود على من يرفضون هذا النوع من الإبداع. كما سوف تسمع أن مثل هذا العمل يقدم بعضا مما يحدث فى الواقع، وأن من العبث تجاهل هذا الواقع، لكن ليس هناك مثلا ما هو أكثر من الموت فى الواقع، فهل يكون ذلك مبررا لتقديم مشاهد الاحتضار بكل تفاصيلها؟ مرة أخرى ليس المهم "ما" يدور حوله العمل الفنى، وإنما "كيف" يتم تناوله، وما هو التأثير المطلوب تحقيقه فى وجدان المتفرج. فمثل هذه الأعمال لا تهدف حقا لتصوير أى واقع، وإنما بيعه للمتفرج، بل وتشويه وعيه به أيضا، وإن كنت فى شك من ذلك، أرجو مرة أخرى أن تقرأ قصة خيرى شلبى "أكل العيال".