Thursday, August 07, 2014

"هذا ليس فيلما",,, لكن هذه سينما حقيقية

    فى عام 2010، كان المخرج الإيرانى الشهير جعفر باناهى يعيش تحت الإقامة الجبرية فى منزله، انتظارا لصدور حكم الاستئناف، على الحكم الغريب الذى صدر ضده، ليس فقط بالسجن ست سنوات، والمنع من السفر إلى الخارج، وحظر إجراء مقابلات تليفزيونية معه، بل أيضا حرمانه من كتابة السيناريوهات وإخراج الأفلام لمدة عشرين عاما! لقد كانت وما زالت تلك هى حال معظم السينمائيين الإيرانيين الكبار، المتمردين على السلطة الرسمية والغوغائية الجماهيرية، ليقرر باناهى أن يصنع فيلما يسجل ذلك الوضع، وأن يجعله يحمل ذلك الاسم الساخر من منعه من صناعة الأفلام "هذا ليس فيلما"، ويقوم بتهريبه إلى خارج إيران، ليعرض فى مهرجان كان فى عام 2011.
   أثبت كثير من السينمائيين الإيرانيين – قبل اندلاع الثورة الإيرانية وبعدها - قدرتهم الجمالية والسياسية بالغة الرهافة والوعى، على اختراق الحواجز الرقابية، الرسمية والشعبية، التى كانت كفيلة بتحويل صناعة السينما الإيرانية كلها إلى الهزل الفنى، الذى ينتهى بها إلى الهزال والموت، لكن هؤلاء السينمائيين قرروا التعامل مع هذا الواقع السياسى الصعب، والالتفاف حول القيود الرقابية، ووجدوا لذلك بعض الحلول، كان على رأسها صناعة أفلام يقوم ببطولتها أطفال أو ممثلون غير محترفين، ويدور معظمها عن حياة الفقراء والمضطهدين، واللجوء إلى النزعة التسجيلية حتى فى الأفلام الروائية.
   ومن المادة التسجيلية يتألف نسيج فيلم "هذا ليس فيلما"، حيث نرى جعفر باناهى وحيدا فى منزله، ونحن محاصرون معه طوال الوقت، بينما نعرف أن المدينة فى الخارج تستعد لعيد رأس السنة الفارسية. وهو يضع الكاميرا فى أماكن وزوايا تسمح بتصويره فى وحدته، لكنه يجرى اتصالا هاتفيا بصديقه غير المحترف مرتجى ميرتهماسب. وفى إشارة بالغة الذكاء يقول: "يبدو أن علىّ أيضا أن أنزع جبيرتى"، فى إشارة لفيلم سابق له بعنوان "المرآة"، قامت ببطولته طفلة صغيرة، تحاول العودة مكسورة الذراع من المدرسة إلى منزلها وحدها لأول مرة، وسط متاهة شوارع طهران، بعد أن تأخرت أمها عن القدوم لمصاحبتها. ففجأة تتمرد الممثلة الطفلة بعد أن وصلت إلى منتصف الفيلم، وقامت بخلع جبيرة ذراعها، رافضة الاستمرار فى تمثيل الفيلم، لكن باناهى يستمر فى التصوير، ليصبح النصف الثانى من الفيلم تسجيليا حول عودة الطفلة الممثلة إلى منزلها الذى لا تعرف بدورها له طريقا، ووحدها أيضا ودون مرشد أو دليل!
   وهكذا يقرر باناهى بدوره أن يتمرد على احتجازه فى منزله، عاجزا عن صنع الأفلام، وبدءا من تلك اللحظة يستعين بصديقه ليقوم بتصويره، وهما يتناقشان حول السينما، ويتحركان بتلقائية لا تحاول أن تخفى حتى خشونة الانتقال بين لقطة وأخرى. ترى ماذا يكون قرار باناهى؟ إن حكم المحكمة لا يتضمن منعه من قراءة السيناريو الأخير له المرفوض من الرقابة، وتجسيد تصور طريقة إخراجه له بأشكال توضيحية على أرض شقته، فلتكن تلك إذن طريقته الفريدة فى صنع الفيلم.
   هناك تشابه وثيق بين حالة باناهى وسيناريو الفيلم المكتوب، الذى يدور حول فتاة اجتازت اختبارات القبول فى كلية الفنون، لكن والديها التقليديين يرفضان، ويحبسانها فى المنزل، لتحاول الخروج بكل الوسائل حتى تلحق بالموعد قبل أن تلغى الكلية تسجيلها فيها. ويستعين باناهى على الشرح أيضا بلقطات كان قد صورها خلال بحثه المبدئى عن مواقع حقيقية للتصوير، وخلال ذلك كله تعرف جانبا من حال السينما الإيرانية والسينمائيين الإيرانيين، فلأن من المحظور تصوير فتاة أو امرأة بدون حجاب (كما قد تكون داخل منزلها)، فإن باناهى اضطر طويلا إلى أفلام تدور أحداثها فى مواقع خارجية، حتى يمكن تصديق ارتداء الحجاب، لكنه هذه المرة أمام سيناريو عن فتاة وحيدة، داخل منزلها، ويترك لك أن تتخيلها بدون حجاب.
   وعندما يصل باناهى فى سرد الحكاية لتفاصيل المشاعر الداخلية، يشعر بالعجز... ليس هناك غنى عن الممثل، وعن مواقع التصوير الحقيقية، ويضرب على ذلك مثالا من فيلمين سابقين له هما "الذهب القرمزى" و"الدائرة"، لمشاهد هى بدورها تضع خطوطا تحت جانب مهم من السينما الإيرانية، وهو الاعتماد على الممثلين غير المحترفين، الذين تبدو منهم لفتات تلقائية تبهر أى مخرج، وهم الذين "يقودون المخرج وليس هو الذى يقودهم"، لأنهم يعيشون اللحظة فى موقع الحدث، وليس داخل استوديو منعزل عن العالم. لذلك فإن باناهى يشعر بأن تجربة قراءة السيناريو وحدها ينقصها الكثير، وهو ما يزيده ويزيدنا حنقا على الذين حرموه من صنع الأفلام.
   كانت الفتاة الحبيسة ترى من نافذة غرفتها شابا يراقب المنزل يوما بعد يوم، ولأنه الإنسان الوحيد الذى تراه فى سجنها فإنه تقع فى غرامه، متوهمة أنه هو الآخر يطوف بالمنزل لأنه يهواها، لكنها لا تعلم أنه شخص يدفع له الأب أجرا لكى يراقب المنزل، ويتأكد من عدم مغادرتها له! إن العجز الذى تعيشه بطلة فيلم باناهى على الورق، يعيشه هو فى الحقيقة، ولا يملك سوى كاميرا السينما ليسجل بها بعض اللحظات، ولا يدرى إن كان ما يصنعه سوف يتحول إلى فيلم أم لا.
   ينتهى فيلم "هذا ليس فيلما" بمشهد يصوره باناهى بهاتفه المحمول، وهو يودع صديقه على الباب، فيفاجأ بمن يخرج من المصعد قائلا إنه مساعد مؤقت للبواب، قد أتى لكى يجمع القمامة، فلا تملك أنت كمتفرج إلا أن تتساءل: هل "بطلنا" تحت الرقابة اللصيقة؟ هل يعرفون ما يفعل؟ لكن سوف يتضح أنه شاب مكافح آخر من بين ملايين من أمثاله، يتحول فى لحظة إلى "ممثل" غير محترف فى هذا المشهد، ليس بمعنى التمثيل كما نعرفه، ولكن لأنه يجسد هؤلاء البسطاء الذين يصادفهم بعض صناع السينما الإيرانية، ويجعلون منهم أبطالا لأفلامهم، لأن هؤلاء السينمائيين يدركون قيمة السينما ودورها فى التفاعل مع الواقع، ومسئوليتهم الأخلاقية تجاه هذا الواقع، ويناضلون من أجل العثور على حلول تقنية وجمالية وسياسية لمشكلات بالغة التعقيد.
  نسيت أن أقول لك إن جعفر باناهى يشير إلى أن قصة السيناريو الذى كتبه على الورق مقتبسة عن تشيكوف، فالحقيقة أن كثيرا من المعالجات الفنية الإنسانية الناضجة تبدأ من تشيكوف، وتمتد مع فن السينما إلى فضاء بلا نهاية.


Monday, August 04, 2014

فيلم "نوح": نشوة النبى الأمريكى بتدمير العالم

هناك أفكار مسيطرة على عقلية الشعب الأمريكى فى مجمله، أولها أن العالم ينقسم إلى أخيار وأشرار، أما الأخيار فهم بالطبع الأمريكيون، أما الأشرار فهم "الأغيار" بالمعنى العام للكلمة، وليس أمام الأمريكيين إلا الدفاع الدائم والمميت أحيانا عن "أسلوبهم" فى الحياة، حتى لو جاء ذلك على حساب "حق" الآخرين فى الحياة. أما الفكرة الثانية التى تبدو كأنها وسواس قهرى، فهى أن أمام البطل الأمريكى مهمة "إنقاذ العالم"، حتى لو تحقق ذلك حسب تصورهم بتدميره. ومثل هذه الأفكار تغذيها الآلة السياسية والعسكرية الأمريكية، مدعومة بترسانة هوليوود الضخمة، التى وجدت فرصة جديدة لتجسيد هذه الأفكار، من خلال التلاعب على القصة الدينية والأسطورية للنبى نوح.
لا تصدق أبدا الزعم أن فيلم "نوح" الجديد يجسد هذا النبى، فمن المؤكد أنك تعرف جيدا أن من تراه على الشاشة ليس هو النبى نوح بل الممثل راسيل كرو، ولن تنطبع فى ذهنك صورته فى هيئة نوح المزعومة، فهو يتحدث الإنجليزية، ويرتدى سترة جلدية وسروالا معاصرين، ويلبس فى رجليه حذاء ذا رقبة طويلة، ويحتسى الشاى أيضا. وإذا كان الفيلم يجعل اسمه "نوح"، ويطلق أسماء توراتية على بقية الشخصيات، التى تحمل بين بعضها علاقات يمكنك أن تقتفى آثارها فى "العهد القديم"، فإن الجو العام للفيلم لا يوحى لحظة واحدة أنك أمام فيلم دينى، بل هو نسخة جديدة من أفلام "نهاية العالم"، مثل "ماد ماكس" أو "بعد 28 يوما" و"حرب العوالم" وعشرات الأفلام المشابهة، أو حتى أفلام جورج روميرو عن الموتى الأحياء، بعد دمار العالم على إثر حرب نووية شاملة، وكل ما يبقى من "حبكة" الفيلم بالمعنى الدرامى ليس شيئا ينتمى للقصص الدينى، بقدر انتمائه لأفلام ما بعد الدمار، مع لمسة من أفلام الفانتازيا والحواديت مثل سلسلة "ملك الخواتم".
سوف يكون تضييعا للوقت أن نقارن بين فيلم "نوح" والقصة التوراتية، فبينهما فى الحقيقة صلة واهية وإن تشابها فى بعض أسماء الشخصيات أو الأحداث، كما أن الصلة أضعف كثيرا بين الفيلم والقصة فى روايتها الإسلامية، فالفيلم ينتمى أكثر إلى عالم المخرج دارين أرنوفسكى، صاحب "قداس إلى حلم" و"البجعة السوداء"، وهو عالم يعجب النقاد كثيرا لاحتشاده بتعقيدات هى أقرب للتفلسف منها إلى الفلسفة. لذلك فإن الخير والشر فى "نوح" سوف يختلطان أحيانا على نحو مشوش، بينما يبدو القصد منه إضفاء مزيد من العمق الدرامى، لكن الفيلم فى التحليل الأخير لا يتجاوز الجانب السطحى من القضايا التى يطرحها.
نوح كما لابد أنك تتوقع قد شيد فى الفيلم سفينة سوف يحشد فيها من كل زوجين اثنين، ومعه بعض أفراد أسرته الصغيرة، ذلك أنه تلقى وحيا من السماء بأن هناك طوفانا سوف يجتاح الأرض، ويقتلع كل ما عليها من حياة. لكن على الجانب الآخر هناك الأشرار، الذين تريد السماء معاقبتهم جميعا، ولا يفرق الفيلم بين الطيب والسىء منهم، فذلك فى رأيه هو حكم السماء مهما كانت قسوته. وسوف تمتد هذه القسوة إلى نوح، الذى يقرر أن يكون أداة السماء لإفناء الحياة جميعا، حتى عائلته التى يرسم لها مستقبلها الذى يجب أن ينتهى فى رأيه إلى زوال البشرية.
لكن زوجة نوح (جينيفر كونيللى) سوف تمثل فى هذه الدراما الجانب الأكثر ضعفا أمام الإنسانية، ليدور بينهما حوار بالغ التفلسف، يتحدث فيه عن أن عدالة السماء قد قررت مصير الفناء لأن الإنسان عاث فى الأرض فسادا، ويقرر أنه لن يحمل معه فى السفينة أحدا لأنه ليس هناك متسع لغيرهم، بينما ترجوه الزوجة أن يترفق بالناس الذين لا ذنب لهم. وهكذا يبدو لك نوح أقرب إلى القسوة لكنه أيضا يمثل "العدالة"، وهو الأمر الذى يتأكد للمتفرج مع الصورة بالغة الوحشية التى يرسمها الفيلم للبشر، فهم يوغلون فى الدماء بلا رحمة أو عقل أو حتى سبب أو تبرير، ويحاولون انتزاع الفلك من نوح، فى معركة سينمائية هوليوودية (لا أصل لها بالطبع فى القصص الدينى)، ويستعين فيها المخرج أرنوفسكى بكل الحيل الكومبيوترية المعاصرة.
وفى هذا الجانب تحديدا يكمن الإبهار الفنى للفيلم، فالكومبيوتر يستطيع أن يصنع من الصور ما يشاء الفنان، وما قد يجمح إليه خياله، لكن ذلك يفقد القصة الدينية سحرها لدى المتفرج، الذى ينتظر أن يرى مركبا عملاقا بذل نوح جهدا بالغا لصنعه، ليلجأ إليه وأسرته وكل ما تدب فيه الحياة لتطيح به وبهم الأمواج، فإذا بالمتفرج أمام ما يشبه "الغواصة" التى صنعتها لنوح كائنات صخرية بالغة التشوه، يقال أنها لملائكة عوقبت على أخطاء فكانت مهمتها للخلاص هى مساعدة نوح، لكن هذه الكائنات تبدو فى الحقيقة مثيرة للضحك، أو كأنها محاكاة كومبيوترية هزيلة لما كان فنانو الخدع السينمائية يقومون به فى سالف الأزمان بجهد بالغ، على نحو ما ترى مثلا فى فيلم خمسينيات القرن العشرين "رحلة السندباد السابعة"! ناهيك عن غابات الأشجار التى تنبثق من الأرض فى ثانية واحدة، أو ذلك المشهد الذى أتى هنا فى غير سياق، لكنه أثار فتنة المخرج، الذى جعل نوح يحكى لأسرته بداية الخلق، لتتجسد على الشاشة السطور الأولى من "سفر التكوين".
أرجو ألا يشتت انتباهك كثيرا الإشارات إلى أبناء نوح، والتلميحات لمصائرهم التى جعلت من الأسطورة سببا فى خلق النزعة العنصرية حتى اليوم، فكل ذلك عابر أمام جوهر الفيلم والسبب فى وجوده، وهو تقديم المبرر لنزعة التدمير الشامل باسم عدالة السماء، والقضاء على الأشرار، أو حتى الادعاء بأن الفيلم يدعو إلى "بداية جديدة"، فالمهم أن يبقى بطل الفيلم وأسرته فى مشهد النهاية، وهم ينظرون إلى قوس قزح من بعيد، وليس مهما على الإطلاق أن يموت كل البشر، لكى يعيش البطل الأمريكى!