Saturday, August 30, 2014

النزعة السلفية، فى نقد الأعمال الفنية


كان هناك حين من الدهر، أصر فيه الدكتور رشاد رشدى على تدريس مادة لنا، من كتاب قليل الصفحات من كتبه، ولم يكن لهذه المادة اسم، غير أن هدفها الوحيد كان استمتاعه، فى الامتحانات الشفوية، بسماعنا – نحن طلبته، خاصة اليساريين منا - نردد مقولاته التى عفى عليها الزمن، لكنها ذات أواصر وثيقة بسياسات التخلف والرجعية، ومحور هذه المقولات: ليس هناك ما يسمى الفن للحياة، بل الفن للفن دائما.
عادت هذه الأفكار تتردد على ألسنة بعض مثقفى الكتب الأكاديمية، لكنها هذه المرة تقول إن الفن والأخلاق شيئان مختلفان تماما، وإن الحكم على الأعمال الفنية يجب أن يكون بالمقاييس الفنية وحدها. وفى هذه الكتابات تتكرر عبارة "يجب على المتلقى أن..."، أى أنها تُلزم المتلقى بطريقة إدراك واحدة، وإلا بطل تذوقه، لأنه جاء إلى العمل الفنى وهو ويحمل تجربته فى الحياة، التى يجب أن يغتسل منها قبل أن يدخل محراب الفن.
إنها نظرة مغرقة فى الرومانسية إن أحسنت الظن، مغرقة فى الرجعية السياسية إن أسأته، ومن يدعو لها ينسى أو يتناسى أن الأنهار جرت فيها مياه كثيرة، منذ أن ظهرت تلك الأفكار التى تزعم أن للعالم الفنى وجودا مستقلا عن الواقع تماما، وهو ما وافق هوى أصحاب اليمين السياسى الذين لا يريدون للفن أن يساهم فى تغيير الحياة، أو لدى الرومانسيين الذين يتصورون الفنان كائنا هائما على وجهه، يجب ألا تناقشه فى "إبداعاته".
والحقيقة أن تعبير "حرية الإبداع" تعرض كثيرا للابتذال، فالفنون على اختلافها محكومة بعوامل عديدة من خارج الفن، (هل يستطيع أى كاتب سيناريو أو مخرج سينمائى، فى أى بلد من بلدان العالم، أن يصنع فيلمه دون أن يجد منتجا وموزعا يوافقان على ذلك؟)، بقدر ما ترتبط هذه الفنون بمسيرة التطور، بسبب أن الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية تفرض على الفنان أن يغير من "قوانين الإبداع" دائما، بل إن أهم مؤرخى فلسفة الفن، أرنولد هاوزر، يقول مثلا إن التأثيرية فى الفن التشكيلى لم يكن مقدرا لها أن تظهر، لولا "اختراع" أنابيب الألوان، التى حررت الفنان من قيود الاستوديو، وأتاحت له أن يتعامل مع الضوء واللون بشكل لم يكن ممكنا قبل ذلك.
وأصحاب الآراء السلفية فى الفن يتصورون أنهم يلقمونك حجرا إذ يقولون: كيف لسيمفونية أن ترتبط بالأخلاق؟ وهذا دليل على عدم قدرتهم، أو عدم رغبتهم، فى التفريق بين فنون هى بطبيعتها أقرب إلى التجريد مثل الموسيقى، وأخرى أقرب إلى الواقع، مثل السينما والدراما التليفزيونية. بل إن الموسيقى، وهى أكثر الفنون تجريدا كما يقال، لا تخلو من عنصر أخلاقى، فالموسيقى الصاخبة تبعث فيك نوازع العنف، بينما تدعوك الموسيقى الهادئة إلى الاسترخاء والتسامح. ولقد ظللت أنا شخصيا عاشقا لمقطوعة فريدريش سيمتانا "نهر المولداو"، لكن بعد أن علمت أن إسرائيل اتخذت من تيمتها الرئيسية لحنا لنشيدها القومى، لم أعد أستطيع أن استمتع بالمقطوعة، دون أن أشعر بغصة فى أعماقى.
النقطة الجوهرية فى ذلك كله هى أن أى عمل فنى ليس كيانا منفصلا عن الواقع، والفنون تتطور وتتغير بتطور عناصر الواقع، وليس هناك أحد يستطيع أن يمنع المتلقى من أن يأتى بتداعيات وارتباطات من خارج العمل الفنى، سواء كانت مقارنات مع أعمال فنية أخرى، أو مشاعر وذكريات مرتبطة فى ذهنه ببعض عناصر هذا العالم الفنى تحديدا. والأخلاق فى الفن لا تعنى صنع دروس أخلاقية، وإنما تعنى مدى الرهافة التى تبعثها لدى المتلقى تجاه الواقع، وليس غلظة الإحساس تجاهه. إن بطلة فيلم "سوبرماركت" لمحمد خان تتخلى عن أخلاقيتها التى تمسكت بها طويلا، لتصبح تحت وطأة الظروف الاقتصادية والاجتماعية عشيقة سرية لرجل ثرى، فكأن المجتمع أصبح "سوبرماركت" كبيرا يُشترى فيه كل شىء بالمال. بينما يزعم فيلم مثل "أحاسيس" أنه يعالج مشكلات العلاقات بين الأزواج والزوجات فى درس أخلاقى، لكنه ينتهى إلى أن يكون سلسلة من مشاهد جنسية فجة، انقطعت علاقتها بأى أخلاق.
الأخلاقية فى الفن إذن هى أن يحدد الفنان علاقته بالعمل الفنى ومادته من جهة، وبالمتلقى من جهة أخرى. فالفنان يستطيع التلاعب بهذه المادة وبالمتفرج، وأن يكون رجعيا أو تقدميا، وأن يتحول إلى تاجر يبيع مساوئ الواقع للمتلقى أو أن يكون هدفه هو إلقاء الضوء على واقع الإنسان والحياة.
لقد اكتسب تشيكوف – على سبيل المثال - عشقا متواصلا من ملايين القراء فى كل أنحاء العالم، وعبر السنوات الطويلة، ليس لأن لأعماله "قوانين إبداع داخلية"، وإنما لأنه كان أخلاقيا مع شخصياته وقارئه، بينما هناك عشرات الفنانين الذين اكتسبوا الشهرة العابرة (وعندنا منهم كثير)، لأنهم اختاروا طريق التعبير عن القبح فى التجربة الإنسانية. هل ترغمنى أيها الناقد السلفى على أن أتعامل مع العمل الفنى بمقاييسك الرجعية، وأن أدخل إليه ناسيا حياتى وأخرج منه لأعود إلى الحياة بلا أى خبرة أخلاقية؟ وهل تدرى أنك بذلك لا تُفرق بأى شكل بين عمل جيد وعمل ردئ، إلا باتباع معاييرك الافتراضية التى تسميها جمالية، وتدعو فيها إلى "حرية إبداع" لا وجود لها فى أى واقع أو سياق ؟ إن كنت تريد ذلك فلتبحث لنفسك إذن عن جمهور بلا ذاكرة، أو تجربة، أو واقع... ولعل هذا هو ما تريد!!



Friday, August 29, 2014

فيلم "وهلأ لوين"... أنشودة فى عشق الحياة




ما كل هذه البهجة فى الفيلم اللبنانى "وهلأ لوين"؟ وما كل هذا الحزن؟ مصدر السعادة والألم فى هذا الفيلم، الذى أخرجته نادين لبكى فى عام 2011، هو حب جارف للحياة، حب تقف فى طريقه نزعات طائفية تشبه كثيرا، كثيرا جدا، ما يحدث لنا فى منطقتنا العربية اليوم. وهو فيلم بالغ البساطة والعمق معا، يكاد أن يكون درسا بليغا لصناع السينما المصرية فى كبوتها الحالية، أن الأفلام يمكن أن تصنع، أو ينبغى أن تصنع، دون اللجوء للابتذال تحت اسم الكوميديا، أو العنف بحجة الإثارة و"الأكشن"، أو الفظاظة والمبالغة بدعوى الواقعية.
وإذا كان فيلم "وهلأ لوين" على المستوى الواقعى يدور فى قرية لبنانية تبدو معزولة عن العالم، لوقوعها بين الجبال، ويتعايش فيها المسلمون والمسيحيون فى سلام حقيقى، فإن الفيلم ينتمى – دون أى إفراط – إلى الفانتازيا، ليس فقط لأن كثيرا من أحداثه تبدو للوهلة الأولى عصية على التصديق، وإنما لأن "أسلوب" الفيلم ذاته يوحى بذلك. وقد يتصور البعض أن هناك أغنيات متناثرة هنا وهناك على طريقة السينما العربية التقليدية، لكن الحقيقة أن الغناء والرقص هنا يصبحان أحيانا لغة الحوار والتعبير، فى تأكيد فنى مرهف على الخيال الذى يرتكز عليه الفيلم وأحداثه.
وسوف تلاحظ هذا الحس الفانتازى مع مشهد البداية: مجموعة من النساء المتشحات بالسواد، تسرن فى خطوات إيقاعية تتمايل يمينا ويسارا، وهن تضربن الصدور بالأيدى. إنهن فى صحراء بلا نهاية، تنتهى إلى المقابر المتواضعة للقرية، وكل امرأة تمسك بصورة فوتوغرافية لفقيدها، وإذا تأملت شواهد القبور سوف تلاحظ أنها لمسلمين ومسيحيين على السواء، فى تجاور يبعث على الشجن الذى تؤكده الموسيقى المصاحبة على نحو عميق.
سوف يتكرر هذا المشهد فى النهاية، كأنه مع مشهد البداية يصنعان قوسين يضمان عالم الفيلم، وهو عالم لحمته وسداه فكرة بسيطة وعميقة معا: النزاعات بين أهل الوطن الواحد تنشأ كثيرا بلا سبب حقيقى، ليغذيها الرجال باسم الدفاع عن الشرف والدين، بينما النساء تعملن على إطفاء لهيب هذا النزاع بكل وسيلة ممكنة. ولا أحب أن أسمى ذلك نوعا من النزعة "النسوية"، التى تصنع صراعا أزليا أبديا بين الرجل والمرأة، بما يبتعد عن عن تحرير الرجل والمرأة معا، لكن الصراع هنا بين من يهب الحياة، ويعرف قيمتها حقا، ومن يتصور أن القتل والانتقام هو الوسيلة الوحيدة للبقاء على قيد الحياة.
إن أهل القرية يستعدون لتركيب أول طبق لاقط للقنوات الفضائية، ربما يجعلهم يتصلون بالعالم الخارجى، الذى يفصلهم عنه ويصلهم به ممر ضيق بين الجبال، مزروع بالألغام. ويعيش جميع أهل القرية فى جو احتفالى بهذه المناسبة، وتقوم صاحبة مقهى القرية أمال (نادين لبكى) بتجديد مقهاها، لنلمس على الفور مشاعر الحب الرقيقة بينها وبين عامل الطلاء رابح (جوليان فرح)، وسط مباركة الجميع – خاصة النساء – لهذا الحب، رغم اختلاف دينها ودينه. فالقرية (الفانتازية كما اتفقنا) لا تعرف التقسيم الطائفى، والقس والشيخ فيها متحابان بحق، بقدر حبهما للحياة، لذلك سوف يحضران مع أهل القرية جميعا الاحتفال بمشاهدة التليفزيون لأول مرة.
بالطبع سوف يشعر جمهور شباب القرية بالابتهاج عند مرأى مشهد عاطفى ملتهب على الشاشة الصغيرة، لكن سرعان ما تشعر النساء بالقلق من نشرة الأخبار، التى تنقل أنباء المعارك الطائفية فى أماكن أخرى فى البلاد، لتقررن تخريب التليفزيون، وقطع أسلاك الراديو، وحرق الصحف التى يجلبها اثنان من الصبية من المدينة. لكن حادثا عارضا سوف يؤدى إلى تكسير الصليب فى الكنيسة، كما يدخل قطيع من الماعز إلى المسجد، ليثور الرجال من الطرفين، مما يزيد قلق النساء من اندلاع لهيب النزاع بين الطائفتين.
إنهن تفكرن فى أمر ما قد يطفئ هذه النيران، فتدبرن "تمثيلية" (لا تخلو من روح فكاهة بريئة صافية) تقوم فيها زوجة مختار القرية بادعاء أن السيدة مريم العذراء تتحدث من خلالها، بينما تبدو دمعتان من الدم فى عينى تمثال العذراء، التى تأمر الرجال بالاعتذار لبعضهم البعض. لكن ذلك قد يفلح لفترة من الوقت قبل تجدد الخلافات بين الرجال، وهنا يأتى التطور المفعم بالنشوة، حين تقرر نساء القرية دعوة فريق من الفتيات الأوكرانيات الحسناوات اللاتى تخلقن حالة من البهجة بين الرجال، تصل إلى ذروتها عندما يضع النساء مخدرا للرجال فى الطعام والشراب، يجعلهم يعيشون ليلة من الاستمتاع الكامل بالحياة.
تأمل كيف أن نساء القرية تشعرن بمزيج من الفرح والغيرة معا، الفرح لأن رجالهن نسوا النزاع، والغيرة لأنهم مشغولون بنساء أخريات. لكن الصراع يتفجر عندما يعود أحد الصبيين من المدينة صريعا، لتخفى أمه جثمانه عن الأنظار وهى تتمزق ألما، لأنها لا تريد مزيدا من الدماء فى القرية. وتتشارك النساء فى إخفاء الأسلحة فى حفرة، وتقررن أمرا... فعندما يصحو الرجال من النشوة المخدرة فى الليلة السابقة، يجد كل منهم امرأته وقد بدلت دينها... فهل تصبح عندئذ عدوة للزوج أو الابن؟
المذهل فى هذا العالم الفانتازى هو واقعيته الشديدة، ساعد على ذلك ممثلون يصلحون أن يكونوا درسا حقيقيا للكثيرين من ممثلينا الجدد الذين تسوقهم أحلام النجومية الزائفة، فالوجوه فى "وهلأ لوين" عادية تماما، تشعر أنك قابلتها ذات يوم فى حياتك اليومية، والأداء التمثيلى بالغ البساطة والإقناع، رغم وجود لحظات درامية عاصفة، مثل مشهد أم الصبى القتيل وهى تعاتب السيدة العذراء: "تاخدى العيال بدون ما تسألى؟ إنتى ابنك مالى إيديكى، وأنا ابنى وين؟"....
لقد كان ما يزال أمام أهل القرية مهمة دفن الصبى، فيمضون إلى المقابر وسط موسيقى تمزج على نحو رائق وراقٍ بين التراتيل والأذان، لكنهم يتوقفون ويتراجعون عندما تعلو أصوات الانفجارات من بعيد، ويتساءلون: "وهلأ لوين؟". نعم، إلى أين نمضى الآن؟ فهناك طريق للموت، وآخر للحياة، فأيهما نختار؟