Saturday, September 13, 2014

عن مأساة القادة الثقافيين المعاصرين



كان عالم الاجتماع المصرى الدكتور سيد عويس يستخدم دائما مصطلح "القادة الثقافيين"، ولم يكن يقصد هؤلاء الذين يجلسون فى قاعات مغلقة فى مجالس الثقافة العليا، ويتحدثون بما لا يعنى أو يفيد القطاع الأكبر من الناس، بل كان يشير بهذا المصطلح إلى نجوم المجتمع، الممثلين والممثلات، والمذيعين والمذيعات، والمطربين والمطربات، بالإضافة بالطبع لمن يسمون أنفسهم رياضين، فهؤلاء هم الذين يؤثرون حقا فى الجماهير، التى تقلدهم أحيانا بشكل لا شعورى، لعلهم يشعرون فى قرارة أنفسهم أنهم يشاركونهم الشهرة والنجاح الاجتماعى.
اضطررت مؤخرا إلى العودة إلى الاستماع إلى الراديو مجددا، غالبا بسبب انقطاع الكهرباء، وكان الراديو فى سالف الأيام رفيقى الدائم، غير أن رفاقا جددا احتلوا مكانه فانشغلت عنه. ومع عودتى إلى الراديو شعرت بصدمة عميقة، أغلبها من "طفرة جينية" فيما يبدو قد حدثت لكائناتنا الإذاعية، فى المحطات الخاصة على نحو خاص، فقد وجدتهم ينطقون كلمات يفترض أنها باللغة العربية، لكنها تبدو أقرب إلى من يتحدث وهو يضع "زلطة" فى فمه، الحروف مدغومة لا تكاد أن تتبين من بينها معنى واضحا، وهى تنطلق من أفواههم بسرعة صاروخية فتزيدها إبهاما، فتحسرت على زمن كان فيه المذيعون ينطقون العربية بفصاحة بالغة.
مكمن الخطر فى ذلك هو أن الأجيال الجديدة سوف تتصور أن تلك هى اللغة، لنكتشف فجأة – كما يحدث دائما – بعد سنوات أن العربية قد اختفت. ويتضاعف الخطر بالطبع عندما يمتد هذا العبث (أو الجهل) باللغة إلى الصحافة. لكن هناك وجها مريرا آخر للتأثير السلبى لهؤلاء القادة الثقافيين، فإذا كانت الأجيال القديمة أحبت جيلا بعد الآخر بطريقة أم كلثوم أو عبد الحليم، فقد زادت صدمتى الحضارية مع أغنية حديثة تقول: "وإذا كنت باقول إنى باحبك أنا ما باهزرش، والعرض اللى باقدمهولك ده ما يتعوضش"، فكأن "الحب" قد تحول إلى "حب محمول بالكارت أو الخط"، ليصبح سلعة عليك أن تستفيد من مواسم "الأوكازيون" فيها.
ماذا حدث لنا؟ هل نضبت العواطف إلى هذا الحد، كما ضاعت اللغة على أيدى قادتنا الثقافيين؟ ومن أو ما الذى أدى بها إلى هذا النضوب؟ هناك جريمة صامتة ترتكب كل يوم، يحدث فيها لثقافتنا ومشاعرنا نوع من التآكل كل يوم، لنصحو يوما لنجد أنفسنا أشبه بكائنات بعض روايات كافكا، أو المسوخ المسخوطة فى حواديت ألف ليلة وليلة.                               

Friday, September 12, 2014

ما بعد الحداثة فى السينما.... عندما يصبح الدم مجرد بقعة حمراء على الشاشة

كلما قرأتُ مصطلح "ما بعد الحداثة" تحسست رأسى، فهى لمن لا يعلم المدرسة الفنية الوحيدة فى تاريخ كل الفنون، التى كُتبت نظريتها قبل أن تظهر أعمال فنية يمكن وصفها أنها "ما بعد حداثية"، أى أنه قد تم صنعها عمدا لكى تحقق هدفا محددا. وليس من الغريب أن تكون المخابرات الأمريكية ضالعة فى ولادة هذه المدرسة داخل الأكاديميات، ونشرها بعد ذلك، بقصد تفتيت الثورة الثقافية على الرأسمالية، تلك الثورة التى اجتاحت العالم فى أعقاب ثورة الطلاب فى أماكن مختلفة من العالم خلال أواخر الستينيات.
وكالعادة، تلقف قطاع من مثقفينا المصطلح الجديد بالانبهار، مثلما فعلوا من قبل ومن بعد مع النسوية والبنيوية والسيميولوجيا، لأنهم يريدون السير على آخر "موضه"، وسارت على الألسنة كلمات مثل "موت المؤلف" و"التشظى"، ولم ندرك آنذاك الخطر الكامن وراء هذه المدرسة الفنية، التى تطيح بكل ما هو ثابت فى إدراكنا للعالم، فليس هناك – تبعا لما بعد الحداثة – شىء يمكن أن نتفق بشأنه، بحجة أن كلا منا يتعامل مع العمل الفنى (وبالتالى مع الواقع) بطريقته الخاصة، التى يختلف فيها عن "كل" الأفراد الآخرين فى العالم.
"النص" أو العمل الفنى فى ما بعد الحداثة يولد من جديد مع كل قراءة له، ورغم إبهار هذه الفكرة فإنها تعنى أنه لن تكون هناك أبدا أرضية مشتركة بيننا حول أى شىء. كما أن مواصفات "النص" فى هذه المدرسة توحى بمزايا تجعل كل من هب ودب منتجا للعمل الفنى، فالأساليب تتداخل داخل النص الواحد ("شجيع" فى مغامرة خيال علمى على سبيل المثال، وأعمال سحرية خيالية فى عمل فنى بوليسى)، كما أن الأعمال تستنسخ نفسها دائما، ولا يوجد فرق بين عمل فنى هابط وآخر رفيع، ومن الأفضل أن يتألف النص الواحد من شظايا متناثرة يقوم المتلقى بتجميعها بطريقته، حيث تتداخل الأماكن والأزمنة، فلا تدرك أحيانا من يسرد النص، هل هو شخص داخله أم راوٍ خارجه. لكن الأهم من ذلك كله: ليس هناك معنى أو مغزى محدد من العمل الفنى، إنه مجرد لعبة "وخلاص"، لذلك فإنه يجب التأكيد على خلوه التام من أى بعد سياسى أو اجتماعى.
وهكذا قابلنا ذات يوم فيلم كوينيتن تاراتينو "قصة شعبية رخيصة" بالانبهار، وهو وصفة جاهزة كاملة لكل ما سبق من مواصفات، تخلط بين عدة قصص وشخصيات تتقاطع وتتباعد دون أى منطق، وتحكى عن رجال عصابات قساة وطيبين، ونساء فاسقات جميلات ورقيقات، وقتلة يتلون الصلوات وهم يطلقون النيران، ليؤكد هذا العنف "ما بعد الحداثى" أن الدم قد أصبح مجرد لون أحمر على الشاشة، وأن طلقات الرصاص يمكن أن تشكل نوعا من التناغم، وهو أمر يجعل العنف لدى المتلقى أمرا معتادا، وبذلك فإن قتل إنسان ليس أكثر من مشهد سينمائى مصنوع ببراعة!!
وقابلنا بانبهار أكبر – خاصة الجيل الأكثر شبابا – فيلم تاراتينو "اقتل بيل"، مع أنه يحتوى على جرعة تفوق أى خيال من العنف، حيث يحكى عن امرأة تنتقم من كل من أساء إليها، فى سلسلة طويلة من المعارك السينمائية، تتراوح بين عالم "الشجيع" الأمريكى أو فنون القتال الأسيوية أو أى قتل آخر. والغريب أن البعض منا كان معجبا باعتراف تارانتينو أن كل ثقافته السينمائية جاءت من عمله شابا فى متجر لبيع وتأجير شرائط الفيديو، وأنه يرى أن أفضل مكان لعرض أفلامه هو دور العرض القذرة التى تجرى الفئران طليقة فى أرجائها!! (هل يذكرك ذلك بما يحدث عندنا من مظاهر ما بعد الحداثة، مثل شهرة مطاعم تحمل أسماء على طريقة "عبده تلوث"؟!!).
 كما اشتهر بين بعض مثقفى السينما أسماء مثل تشارلى كاوفمان، كاتب السيناريو المفتون دائما بالغموض المفتعل، وصاحب أفلام مثل "اقتباس" و"أن تكون جون مالكوفيتش"، وهى جميعا تمارين ما بعد حداثية خالية تماما من المعنى، فما معنى أن يُخرج لك الحاوى مثلا من كمه أرنبا؟ (حتى فى هذا هناك معنى: إبهار المتفرج بخفة اليد). ففى "اقتباس" على سبيل المثال يعانى كاتب السيناريو من صعوبة اقتباسه كتابا عن "ريبورتاج" صحفى وتحويله إلى فيلم، حول سرقة زهرة نادرة من محمية طبيعية، فيجعلنا نرى كاتبا للسيناريو يعانى الاكتئاب، ويخلق له توأما هو على النقيض منه، ويقدم لنا أيضا كاتبة التقرير الصحفى، والرجل الذى سرق تلك الزهرة، لكن ما هدف هذا كله؟ لا شىء!
لكن رغم رفضى لمزاعم ما بعد الحداثة حول أى إنجازات فنية حقيقية، فهى فى الأغلب أعمال تتسم بالاصطناع وفقدان الأصالة، فإن "تكنيك" هذه المدرسة يمكن استخدامه أحيانا على نحو جاد حقا، وأنى أفضل دائما الإشارة لرواية نجيب محفوظ "حكايات الصباح والمساء"، فهى مثال عظيم بحق لإمكانية قراءة الرواية بما لا يحصى من الطرق، فهى مؤلفة من عناوين عديدة بأسماء شخصيات، حيث يمكنك أن تقرأها حسب الترتيب الأبجدى كما وردت فى النص المنشور، أو أن تسلمك شخصية إلى شخصية أخرى، وسوف يختلف مسار قراءتك تماما عن مسار قارئ آخر.
وإذا كنا نرى أن جانبا من السينما المصرية اليوم – على فقرها الإبداعى الشديد – قد وقعت فى محاكاة هذه النماذج ما بعد الحداثية، فإننا نشير إلى نماذج جادة سوف نتناول بعضها لاحقا. لكن المعيار فى ذلك كله هو: هل فهمنا حقا ما بعد الحداثة وأهدافها؟ وهل نحن فى حاجة إليها؟ وهل حققنا الحداثة أصلا؟ إن هذا يذكرنى بما كتبه الدكتور فؤاد زكريا ذات يوم: قد يكون الغرب يعانى من أزمة ما بعد العقل، لكننا نعانى من أزمة ما قبل العقل!!