Wednesday, November 05, 2014

فيلم "شجرة الحياة"... تأملات فنية أصيلة فى الوجود والعدم



يستعصى فيلم "شجرة الحياة" على التوصيف والتعريف، ففيلم المخرج تيرانس ماليك – مثل كل أفلامه الأخرى – تتحدى الكتابات النقدية، خاصة تلك التى تتخذ طريقا سهلا لتذوق الأفلام، ولعل ذلك يمثل سببا جوهريا فى أنه لم يحقق طوال حياته الفنية إلا أفلاما قليلة، يفصل بين بعضها أحيانا ما يقرب من ربع قرن، كما أنه يبتعد تماما عن أى ظهور إعلامى، لذلك من النادر أن تجد له صورة شخصية على صفحات الجرائد والمجلات.
هل فيلم "شجرة الحياة" فيلم روائى؟ أم تسجيلى؟ أم تجريبى؟ أم تأثيرى؟ أم سيريالى؟ أم ما بعد حداثى فى أرقى تجليات ما بعد الحداثة؟ إنه ليس أيا من ذلك، لكنه كل ذلك أيضا. إنه تأمل بالغ العمق فى طبيعة الحياة والموت، بمعناهما القريب والبعيد، ويظل ينتقل فى تأملاته طوال الوقت بحثا عن إجابة لسؤال يثير الحيرة دائما لديه، ويذكرك على نحو ما بمسرحية "مأساة الحلاج" لصلاح عبد الصبور: هل الخير والشر نسبيان؟ وبكلمات أخرى: بقدر ما تعطى الطبيعة من خير، هل الشر جزء أصيل منها أيضا؟
دعنا فى البداية نبحث عن خيط "روائى" إن كان لهذا الخط من وجود: شاب فى مقتبل العمر (براد بيت) يعيش فى أواسط القرن العشرين، عندما كانت الحياة فى أمريكا تتجه إلى الضواحى، ويصبح البشر جميعا نسخا متشابهة. إن هذه الأجواء تتيح لتيرانس ماليك أن يرى عالم شخصياته بشكل مجرد، فما يحدث لهم يحدث لكل الآخرين، بل هو ما يحدث وسوف يظل يحدث فى هذا الكون الواسع، الميلاد ثم التعرف على العالم ومحاولة التكيف معه، ثم الموت.
تلك هى الرحلة الأزلية الأبدية التى تجمع كل كائنات هذا الكون، لكن تيرانس ماليك لا يتناولها باعتبارها حقائق علمية باردة، بل تجارب شخصية تسبب السعادة أحيانا والألم أحيانا أخرى. وعائلة هذا الشاب تعيش حياة متوسطة فى كل شىء، فهى تبدو حبيسة بيوت متشابهة مصنوعة جميعها من الخشب والزجاج، ويناضل الأب بحثا عن لقمة العيش فينجح مسعاه تارة ويفشل تارات أخرى، لذلك تتحول ملامح الممثل براد بيت من الوسامة إلى الجهامة، ويبرز فكه السفلى كأنه حيوان فى غابة، وفى أحد المشاهد الرائعة من الفيلم ترى الأب يدرب أبناءه خلال اللعب على استخدام القوة، كأنه أسد يلاعب أشباله لكى يدربهم على القتال.
تصل مأساة الأسرة إلى ذروتها مع موت واحد من الأبناء الثلاثة، فينتقل السرد فجأة إلى الزمن المعاصر، حيث نرى الابن الأكبر (شون بين) يعمل موظفا كبيرا فى مؤسسة ما، لكنه مثل الأب حبيس لأبنية معاصرة مصنوعة هذه المرة من الفولاذ والزجاج، ويتذكر الابن طفولته، ويمضى فى تأملاته، التى تفضى به إلى ساحل ممتد بلا نهاية، وإلى ممرات جبلية وعرة، تنتهى به إلى ما يشبه حافة السماء.
وهنا يبدأ واحد من أهم مشاهد تاريخ السينما، ويستدعى إلى ذهنك المشاهد الافتتاحية لفيلم ستانلى كوبريك "أوديسا الفضاء 2001"، لكن التنفيذ عن طريق الصورة المولدة كومبيوتريا يتيح لماليك حرية إبداعية أكبر، حيث تشاهد ما يشبه بداية خلق الكون من سديم، يتحول تدريجيا إلى شموس وكواكب، وتتوالى البراكين والفيضانات، وتسبح خلايا فى الماء، وتمضى هذه الرحلة البصرية والتأملية المدهشة حتى تصبح دماء وشرايين وجنينا يولد لكى يرى الحياة.
ومثل فيلم ماليك السابق "الخط الأحمر الرفيع" تكتشف أن الحياة وليدة صراع من نوع ما، صراع مرير من أجل الوجود، وصراع ضد العدم، لكن إذا كانت الحياة تعطى، فلماذا تأخذ؟ يتردد هذا السؤال دائما على نحو صريح أحيانا وضمنى أحيانا أخرى فى كل أفلام ماليك، خاصة أنه يستخدم دائما "التعليق من خارج الكادر"، وهو ليس تعليقا لصوت شخصية واحدة، بل إنه ينتقل من شخصية إلى أخرى، حتى أن الفيلم فى النهاية يبدو مثل قصيدة شعر متعددة الأصوات، متعددة المقاطع.
أعرف وأعترف أن هذا يسبب صعوبة أخرى تضاف لعدم وجود خيط سردى واضح (عبّر شون بين نفسه عن ذلك قائلا إن السيناريو كان أوضح كثيرا من الفيلم بعد اكتماله)، لكن توالى الصور أمامك على الشاشة يولد بداخلك مشاعر وأفكارا من الصعب أن تجد لها مكانا إلا مع فن تأملى من هذا النوع. تأمل على سبيل المثال تلك الصورة الأيقونية لقدمى طفل وليد بين يدى رجل، أو كيف تزداد ملامح الأب جهامة لقسوة الحياة بينما تزداد ملامح الأم رقة وعذوبة، أو كيف أن الأم تصبح لدى الصبى هى تعرفه الأول على مشاعره الحسية، أو كيف تتولد فى اللاوعى فكرة قتل الأب لينفرد الصبى بالأم فى فردوس يضيع منه يوما بعد يوم.
تلك صور تجمع دائما بين الحقيقة والمجاز، ولا يمكن لى – على الأقل – أن أنسى ذلك المشهد الختامى الطويل، للبرزخ الذى يفصل بين عالمنا الذى عشناه وعالم آخر لا ندرى عنه شيئا. طريق طويل بلا نهاية، يلتقى فيه من ماتوا فى مختلف سنوات عمرهم، وتلتقى يد الرجل العجوز بيده هو ذاته عندما كان صبيا، وكأن "الكل فى واحد".
هل يمكن تكرار هذا الفيلم؟ من المؤكد أن ذلك مستحيل، لأنه فيلم "فردى" تماما، وبعيد عن أى "توليفة" معروفة مسبقا، لكن الممكن هو تكرار التجربة، أن تناضل السينما ضد من يحاولون أن يفرضوا عليها ما "يجب" أن تصنعه، لكى تصنع ما "تستطيع" إنجازه، وهو نضال سوف يستمر ما دام هناك فنانون يتمتعون بالأصالة، وأصحاب نظريات قاطعة مانعة. ومن المحتم أن الفن سوف ينتصر دائما على أى نظرية.