Thursday, December 10, 2015

حارة اليهود



منذ أكثر من عقد من الزمن، قرر المخرج الأمريكي مايكل باي أن يصنع فيلما عن موقعة "بيرل هاربور" يحمل نفس الاسم، وهي الموقعة التي حفرت في الوجدان الأمريكي ندوبا عميقة، لأنها كانت تسجل هزيمة أمريكا في تلك اللحظة أمام اليابان في الحرب العالمية الثانية، حين قصف الطيران الياباني السفن الحربية الأمريكية وهي قابعة في الميناء، وكانت تلك هي البداية الحقيقية للتدخل الأمريكي في الحرب، لتشن الطائرات الأمريكية غارات وحشية على المدنيين اليابانيين، انتقاما للكرامة الجريحة.
لو كان هذا الفيلم قد تم إنتاجه وإخراجه في بلادنا، لتوالت عليه مقالات المديح النقدي، لأنه يتناول "موضوعا" على هذا القدر من الأهمية، ومع ذلك فإن النقاد الأمريكيين منحوا الفيلم أربع درجات من عشر فقط، ووصفه بعضهم بأنه مبتذل، على الرغم من ضخامة إنتاجه، وكان السبب هو "المعالجة الفنية"، التي حولت الموضوع إلى حبكة بالغة التقليدية، عن قصة حب تنافس فيها صديقان على حب فتاة واحدة، وتضحية أحدهما بنفسه بما لا تدري إن كان فداء للوطن أم نبلا رومانسيا يخلي الطريق أمام صديقه.
تذكرت هذا الفيلم على الفور وأنا أشاهد مسلسل "حارة اليهود"، الذي يفترض أنه يحكي عن واحدة من أكثر الفترات السياسية حساسية في التاريخ المصري، خلال تلك السنوات التي شهدت تأسيس الكيان الصهيوني في عام 1948، وحتى قيام ثورة يوليو 1952، وتوتر العلاقات بين المصريين ومن يفترض أنهم إخوانهم في الوطن من اليهود، وما يستدعي ذلك إلى الذهن من جدل حول الفرق بين اليهودية كدين والصهيونية كنزعة سياسية بالغة العنصرية. وبرغم أهمية "الموضوع"، فقد تحول في مسلسل "حارة اليهود" إلى قصة حب مغرقة في رومانسيتها، بين ضابط مصري مسلم، وفتاة مصرية يهودية.
دعنا نتأمل في البداية كيف أن هذه الحبكة ذاتها قد تناولتها الأفلام الإسرائيلية، وأن نضع خطا للتأكيد على تكرار أن يكون الجانب اليهودي امرأة والجانب غير اليهودي رجلا، ولا يعود هذا كما يبدو للوهلة الأولى إلى ضرورات دينية، بل يعود إلى مغازلة الجانب الذكوري في ثقافتنا، التي يمكن أن تتقبل هذه العلاقة وترفض عكسها، ولعل فيلما إسرائيليا مثل "زيارة الفرقة" ما يزال في الذاكرة، فهو بدوره يتحدث عن "علاقة" بين ضابط مصري وامرأة يهودية، وإمكانية التقارب بينهما.
لكن الأهم من ذلك كله هو أن مسلسل "حارة اليهود"، الذي كتبه مدحت العدل وأخرجه محمد العدل، يزعم أنه يحاول أن يمتد بـ"الرمز" إلى نطاق ملحمي، يصور المجتمع المصري كله. وإذا صرفنا النظر عن الانتقادات العديدة التي وُجهت إلى المسلسل بسبب أخطاء تفاصيل الزمان والمكان، وهي الانتقادات التي لابد أن القارئ قد اطلع عليها في كتابات عبر الصحافة، فإن هذه الرغبة "الملحمية" دمرت مفهوم "الحارة" تماما، فأي حارة مصرية تقليدية هي مجتمع صغير شبه مغلق على ذاته، تتجاور فيه البيوت إلى درجة أنه يمكنك أن تعرف نوع الطعام الذي يتناوله جارك، لأن رائحته تصل إليك، كما يكاد ألا يكون هناك سر، فالجدران هشة بما يكفي لأن تشي بكل الأسرار عبرها.
ما رأيته في مسلسل "حارة اليهود" أقرب إلى حي سكني كامل، وربما أكبر من ذلك أيضا، لا يغلب عليه فقط طابع "الديكور" المصنوع، الذي يمكنك أن تلاحظ أن عمال الاستوديو قد انتهوا لتوهم من بنائه، ولكن يغلب عليه الاصطناع في تنويعة سكانه، فمنذ اللقطات الأولى سوف تعرف أن سكان الحارة ينتمون إلى ديانات مختلفة، عندما تراهم يتدافعون إلى معبد يهودي (في الحارة؟!) لاتخاذه ملجأ من غارة جوية، ولا نعلم أن القاهرة كانت في عام 1948 معرضة لأي غارات من هذا النوع.
ومنذ اللحظة الأولى أيضا سوف تعرف بالعلاقة المتوترة بين الفتاة اليهودية ليلى (منة شلبي) البريئة كالملاك، والفتاة المسلمة ابتهال (ريهام عبد الغفور) الشريرة كشيطان، أما السبب فهو تنافسهما على حب الضابط الشاب الوسيم علي (إياد نصار)، الغائب في فلسطين حيث يحارب الصهاينة. واستكمالا لرسم الخريطة الاجتماعية للحارة المزعومة، يقدم لك المسلسل الفتوة فتحي العسال (سيد رجب) وهو يهدم أحد الأفراح الشعبية لأنهم لم يأخذوا منه الإذن، وسوف تسأل نفسك كيف أقيم هذا الفرح الشعبي وسط الغارة، لكنها الصورة النمطية (شبه الأسطورية) عن الفتوات، والتي كانت – كما يؤكد الروائي العظيم نجيب محفوظ، أشهر من تناول هذه الشخصية – قد انتهت مع مطلع القرن العشرين!! كما سوف تسأل نفسك أيضا عن "الرمز" في جعل الفتوة أبا لابتهال بالذات، وتصويره في هيئة السلطة العاجزة عن حماية أهل الحارة، ناهيك عن صراعه بين صبيانه، وصعود أحدهم – ويدعى النطاط (وليد فواز) - بدلا منه إلى مقام الفتونة، بينما انتهى المعلم العسال إلى هزيمة الشيخوخة.
ولن تتوقف أسئلتك عند هذا الحد، فإذا كانت الشخصيات رموزا، لماذا انتهت ابتهال إلى أن تصبح راقصة، بينما ظلت ليلى على براءتها ونقائها؟ وأين من الممكن أن تجد – في أي حارة مصرية يقطنها سكان عاديون - بيت الدعارة الذي تديره زينات (هالة صدقي)، وتستعين فيه بفتونة المعلم العسال التي تهيم فيه عشقا، لكنها سوف تتخلى عنه ليصعد صبيه النطاط مكانه؟ عشرات الأسئلة سوف تتداعى إلى ذهنك، ولن تجد لها إجابة، سوى أن صناع مسلسل "حارة اليهود" قد أتوا بكل شخصياتهم من مستودع الشخصيات النمطية في الدراما المصرية، كما أتوا بالعديد من الإشارات العابرة عن قضية الأسلحة الفاسدة، ودور الإخوان المسلمين، دون جدية حقيقية في تناول أثرهم. لكن الأكثر تشويها على الإطلاق، هي تلك الجملة التي جاءت على لسان ليلى، ولم يذكر لها المسلسل أي تصحيح على لسان شخصية أخرى، بأن السبب في اعتناق شقيقها موسى (أحمد حاتم) للصهيونية هم الشيوعيون (!!)، بينما التاريخ الموجود في متناول القارئ، وكان الأجدر بالمؤلف الاطلاع عليه قبل أن يدلي بدلوه في هذا الموضوع الشائك، هذا التاريخ يؤكد أن الشيوعيين اليهود حاربوا الصهيونية، ودافعوا عن مصريتهم، لأنهم يرفضون تأسيس أي سياسة على قاعدة عنصرية.
يحكي من تبقى من اليهود المصريين عن الفقر المدقع الذي كان يعيش فيه أهل "حارة اليهود"، مثلهم مثل كل فقراء مصر آنذاك في كل الحارات، لكن المسلسل يصنع منهم تاجر الأقمشة هارون (أحمد كمال)، والد ليلى بالغ الطيبة، وآخرين يعملون بتجارة الذهب، أو ممثلين في السينما، أو معلمين للرقص، وكلها كما ترى مجرد أنماط كاريكاتورية، تخلو من الروح. وربما كان الأخطر على الإطلاق هو تلك الصورة الباهتة التي تم بها تصوير البطل الضابط المصري علي، حتى أنه يبدو في معظم المشاهد مفعولا به لا فاعلا.
تبدو بعض مشاهد مسلسل "حارة اليهود" وكأنها خرجت لتوها من فيلم هوليوودي، خاصة مع الموسيقى الأوركسترالية الجياشة التي صاحبتها، مثل مشهد لقاء علي وليلى عند الأهرام، أو مشهد وداعهما في محطة القطار، والذي يبدو مستنسخا من عشرات أفلام الحرب العالمية الثانية. كما تبدو بعض عبارات الحوار وكأنها تذكرك بأفلام يوسف وهبي القديمة، مثل "المعارك المبهرة" أو "الطبقية البغيضة"، وهي العبارات التي يفترض أنها تأتي في سياق حوار عادي، ولست محاضرة بليغة.
وأخيرا يبقى السؤال: ما هو – الآن - مدى إلحاح قضية التفرقة بين اليهودية والصهيونية؟ فقد يكون سؤالا ملحا في سياق آخر، وليس في سياق يمارس فيه الكيان الصهيوني غطرسته الكاملة. كما أن مسلسلا يحكي عن هذه القضية، كان لابد ألا يتجاهل دور الصهاينة أنفسهم في بث الرعب في قلوب اليهود، بزرع متفجرات في أماكن تجمعاتهم، لدفعهم دفعا إلى مغادرة مصر (والعراق أيضا). لكن أليس من الغريب أن يبعث فيك مسلسل مثل "ذات" الشك في أن عبد الناصر هو الذي طرد اليهود المصريين؟ وأليس من الغريب أن يطرح الآن مسلسل مثل "حارة اليهود" وبقوة فكرة أن معظم اليهود من الأخيار الطيبين؟ هل هي مجرد مصادفة، تشير إلى لجوء صناع مثل هذه المسلسلات إلى أقوال شائعة دون تدقيق، أم أن الأمر يتعدى المصادفة؟

Monday, October 19, 2015

بمناسبة فوز الفيلم بـ90 فى المائة من جوائز المهرجان القومى



                                            فيلم "الفيل الأزرق"
                                  بهلوانيات الشكل، وسذاجة المضمون                                                  

فاز فيلم "الفيل الأزرق" ببضع جوائز سينمائية محلية فى مسابقات من الدرجة الثانية، وقيل إنه قد حصد قدرا هائلا من أرباح الإيرادات، وبلغ عدد متفرجيه الملايين، وكتب عنه العديد من النقاد الكثير من كلمات الإطراء والمديح، لكنه مع ذلك كله ليس إلا فقاعة لا يبقى منها شيء يستحق أن يعيش فى تاريخ السينما المصرية، ليس فقط بسبب اعتماده على رواية أحمد مراد التي تخلو من الانتساب إلى الأدب الحقيقى، ولكن لأن المخرج مروان حامد يفتقد بدوره كثيرا من فهم طبيعة الإخراج، وفي فيلميه السابقين "عمارة يعقوبيان" و"ابراهيم الابيض" كان يتاح له دائما الاستعانة بأطقم أجنبية من فناني وفنيي "الوحدة الثانية"، المسئولين في العادة عن تنفيذ المشاهد المبهرة، أما الأجزاء الدرامية (والتي تشكل جوهر أي فيلم) فتظل رتيبة عقيما مكررة وبلا روح، وربما غامضة أيضا.
والغموض المفتعل هو سمة فيلم "الفيل الأزرق"، المأخوذ عن رواية بنفس الاسم للكاتب الذي ذاع صيته مؤخرا ويدعى أحمد مراد، وهو نفسه الذي كتب سيناريو وحوار الفيلم، بما لا يمكنك أن تنفي عنه مسئولية ما انتهت إليه روايته على الشاشة، في فيلم من ساعتين ونصف، يمكنك اختصارها إلى نصف ساعة فقط. ورواية أحمد مراد ليست إلا تقليدا ممسوخا لروايات الكاتب والقاص الأمريكي غزير الإنتاج ستيفن كينج، صاحب قصص عشرات  الأفلام مثل "كاري" و"التماع" و"النافذة السرية"، والذي يعتمد على "توليفة" يكررها دائما وتعجب جمهوره، مؤلفة من حبكة غامضة ينجلي غموضها شيئا فشيئا، عندما ينحو إلى تفسيرها بإحدى الظواهر غير الطبيعية أو المريضة نفسيا.
تأمل على سبيل المثال فيلمه "النافذة السرية" (2004)، الذي يحكي عن كاتب (جوني ديب) لجأ إلى منطقة مهجورة، بحثا عن الخلاص من أزمة نفسية جعلته يتوقف عن الإبداع، لكن رجلا غامضا (جون تورتورو) يظهر له، ويطرق على بابه كل مساء، مدعيا أنه صاحب الروايات الأصلية التي ينسبها الكاتب لنفسه. وبعد أن يضرب المتفرج أخماسا في أسداس حول تلك العلاقة المبهمة، يقول لك ستيفن كينج أن بطل الرواية يعاني من ازدواج الشخصية (السكيزوفرينيا)، وأنه ومطارده الغامض ليسا إلا شخصا واحدا، أو قل إن هذا المطارد يمثل الجانب غير الواعي من النفس البشرية.
وبرغم هذا المفهوم الروائي أو السينمائي بالغ السذاجة حول ازدواج الشخصية، أو ربما بسبب هذا المفهوم، فإنه يصبح صالحا تماما لإضافة الكثير من التفاصيل (أغلبها ليس لها علاقة حتى بالعالم الفني)، والتي تشكل شبكة تحيط بالمتلقي وتوقعه في حبائلها. وهذا ما حدث تماما في فيلم "الفيل الأزرق"، الذي "يفترض" أنه يحكي عن الطبيب النفسي يحيى (كريم عبد العزيز)، الذي غاب عن عمله لسنوات خمس طويلة، بعد مصرع زوجته وطفله في حادث سيارة، ليزاول العمل من جديد في مستشفى الأمراض النفسية، حيث يجد زميله القديم شريف (خالد الصاوي)، المتهم بقتل زوجته وطفله (أيضا!!)، والمصاب بازدواج الشخصية السينمائي إياه، ويذكرك لقاؤهما الأول بالفيلم الأمريكي الشهير "صمت الحملان". ويظل الفيلم يراواح نفس المكان المرة بعد الأخرى، حيث يلتقي يحيى وشريف، ليستطردا في مشاهد حوارية طويلة ومملة (برغم أنه يفترض أنها تثير فضول المتفرج). ناهيك عن خيط قصصي يتحدث عن حب بين يحيى ولبنى (نيللي كريم)، شقيقة شريف، دون أن تعرف أنت على وجه اليقين ما علاقتها "الفنية" بالحبكة. وأخيرا هناك أيضا حديث عن صانعة الوشم أو "التاتو" (شيرين رضا)، التي رسمت وشما على جسد شريف، سوف يتسبب في أن روحا شيطانية أو "عفريتا" قد ركبه، وانتهى به إلى هذه الحال.
عبثا سوف تسأل نفسك: وما علاقتي أنا المتفرج بهذا العالم؟ فكل عمل فني يفترض أن يحقق نوعا من التوحد – أو التعاطف على الأقل – مع شخصية ما داخل العالم الفني، ليتحقق لك الخوف على البطل أو البطلة، ورغبتك في أن يتخلصا من أزمتهما، وفرحك عندما يتخلصان منها، لكن ليس هنا شيء من ذلك على الإطلاق، فكل ما يحدث على الشاشة يحدث لأناس لا يهمك أمرهم، أناس مصطنعين مفتعلين لصنع رواية وفيلم زائفين. والزيف يأتي كما أشرنا من قبل إلى تقليد الكاتب أحمد مراد لستيفن كينج وأمثاله من أصحاب الروايات الأكثر مبيعا في أمريكا، كما يأتي الزيف أيضا من محاولة المخرج مروان حامد تقليد الشكل الأمريكي في الأفلام التي يفترض فيها أن تدور حول العوالم النفسية.
الغريب أن تقليد كل منهما – الكاتب والمخرج – يأتي على طرف نقيض من الآخر، دون وعي منهما معا بذلك الخلط الأسلوبي، عندما يعتمد الأول على المشاهد الحوارية شديدة الإثارة للملل، والتي تحكي بالكلمات ما كان ينبغي حكايته بالصورة، بينما يعتمد الثاني على بهلوانيات سينمائية في مشاهد أخرى، غارقة في الظلام أحيانا، أو في ضوء يعمي الأبصار أحيانا أخرى، وحركات كاميرا أفعوانية، ومونتاج لا يترك لك وقتا لكي تدرك ما تراه على الشاشة، وهو يبرر ذلك بالطبع بأنها "الهلوسات"، التي لن ندري أحيانا إن كانت تدور في العالم النفسي ليحيى أو شريف، أو لهما معا باعتبار أنهما شخص واحد.
ولعلك تذكر مسلسلا رمضانيا حمل عنوان "اسم مؤقت"، فقد كان بدوره يحكي عن بطل يمر خلال تسع وعشرين حلقة بسلسلة من المغامرات القاتلة الغامضة، ليفاجئك صناع المسلسل في الحلقة الثلاثين (بطريقة "وضحكت عليك") بأن كل ما رأيته ليس إلا تهاويم تدور في نفس رجل مريض نفسيا. كما قد تتذكر أيضا مسلسل "السبع وصايا"، الذي لم يحفل صناعه ولو للحظة واحدة بتقديم تفسير فني أو منطقي واحد للغموض المفتعل الذي قدموه، ناهيك أيضا عن الحديث عن الجن والعفاريت وأمور السحر والشيطنة. وسوف تسأل نفسك: ما علاقة هذه الأعمال بعضها ببعض؟ وما هي الرسالة التي تريد أن تنقلها لنا؟ وهل هي تتحدث عن واقع يخصنا، أو تحاول أن تدفعنا للحياة والتفكير في عالم وهمي زائف؟ أو فلتقل في نهاية الأمر: هل لكل ذلك علاقة بالفن، أم أنه من أعمال الحواة وخفة اليد؟
ومن مظاهر خفة اليد في فيلم "الفيل الأزرق" الإغراق في التفاصيل غير ذات العلاقة من قريب أو بعيد، وحتى عنوان الفيلم، الذي يقولون لك أن يشير إلى نوع من الأقراص تتيح لمتعاطيها الغرق في بحار الهلوسة، هو أمر بلا أى معنى، وخذ بالك من أن الفيلم يشرح للبطل (الطبيب النفسي) عن طريق عشيقته ما هو هذا الدواء، كأنه يسمع عنه للمرة الأولى (!!)، وفي الحقيقة أن الفيلم يريد أن يشرح لك سبب تلك المشاهد شبه الكابوسية، والمضحكة، التي استمتع صناع الفيلم بتنفيذها. وهناك أيضا حديث لا ندري علاقته بالموضوع، حول ممارسة يحيى للعب القمار، ودراسته للغة الجسد!! وأضف إلى ذلك أيضا ثرثرة حول "حساب الجُمّل" الذي يعطي حروف الكلمات العربية أرقاما، أو تناسخ الأرواح (أو الأجساد؟)، وقدرة شريف على إيقاف نبض قلبه!! وإذا تحدثنا عن تفاصيل أخرى، فيمكنك أن تسأل المخرج من ومتى وكيف تتم حلاقة رأس المريض شديد الخطورة شريف على هذا النحو، بحيث يبدو دائما خارجا لتوه من "صالون" الحلاقة؟!
أخيرا، هل تجعل القصص الساذجة مفتعلة الغموض صاحبها "أديبا"؟ وهل يمكن إطلاق صفة "مخرج" على من يأتي بفنيين ينفذون له مشاهد الرعب (كما فعل في مشاهد الأكشن في "ابراهيم الابيض")، لكي يكتفي هو بوضع موسيقى لا تتوقف على شريط الصوت، بينما يقوم بتصوير المشاهد الحوارية الطويلة بأقصى ما يستطيع من التقليدية المملة؟ وهل يبدو في ذلك كله أن السينما المصرية سوف تخرج من أزمتها الإبداعية؟ للأسف فإن الإجابة الوحيدة على كل هذه الأسئلة هي: لا!!    

Saturday, April 11, 2015

أسطورة هوليوود الشرق



من دلائل عدم نضج الشعوب أن قطاعا كبيرا منها يردد أحيانا مصطلحات وعبارات ليس لها معنى محدد، لكنها تكتسب مع رواجها بريقا خاصا، ولو حاولت أن تجد لها معادلا أو ترجمة فى أى لغة أخرى فسوف تكتشف زيفها. من هذه العبارات فى مجال السينما وحده هناك الكثير، مثل "أفلام البطولة المطلقة"، أو "سينما المضحكين الجدد"، وعلى هذا النحو جاءت تلك العبارة الخالدة التى غرقنا فى وهمها طوال عقود كاملة أن "القاهرة هى هوليوود الشرق".
ولا أدرى لماذا "هوليوود" تحديدا التى اخترناها لتكون طرف ذلك التشبيه، فهناك على سبيل المثال لا الحصر "مدينة السينما" فى إيطاليا، أو "بابل الجديدة" فى ألمانيا، ولكن يبدو أن ذلك جاء نتيجة الافتتان بنوع ما من السينما، لم نجد غيره فى فترة البدايات، نتيجة حالة من "الاحتلال الثقافى" الناعم، الذى فرضته شركات احتكار توزيع الأفلام. ومع ذلك، هل عرفنا حقا ما هى هوليوود، لكى نطمح إلى التشبه بها؟
فى السطور التالية أرجو من القارئ دائما أن يستمر فى المقارنة، وأن يتساءل عند كل فقرة: "هل نحن حقا مثل هوليوود؟". فعلى حين بدأت السينما الأمريكية فى نيويورك على الساحل الشرقى للولايات المتحدة، سرعان ما أدرك صناع السينما أن أجواء كاليفورنيا أكثر ملاءمة للتصوير طوال العام، فى جو مشمس ذى شتاء قصير، يشبه على الأرجح أجواء الإسكندرية التى بدأت السينما فيها عندنا، لتنتقل عندنا إلى القاهرة فى اتجاه معاكس للملاءمة والتنوع، وليس هناك من هدف إلا الاقتراب من عالم "البيزنيس" والتجارة.
وفى ضاحية على الساحل الغربى، أنشئت هوليوود حيث شيدت الاستوديوهات التى تعمل بطريقة التجميع الآلى، مثل صناعة السيارات بالضبط، حيث يوجد المئات من الكتاب والممثلين والمخرجين وكل الفنيين الآخرين، مهمتهم صنع المئات (نعم، المئات) من الأفلام القصيرة كل أسبوع (نعم، كل أسبوع). ومن هنا نشأت الشركات، التى كبر بعضها مع الأيام، ولم تتوقف صناعة السينما عند المحاولات الفردية أيا كان حجمها، مثلما كان – وما يزال – الحال عندنا.
ظلت السينما عندنا أقرب إلى المقاولات منها إلى الصناعة الراسخة، وهذا ما يتضح تماما عندما نعرف أن شركات هوليوود الكبرى سرعان ما أنشأت "اتحادا" بينها، لكى تحتكر الصناعة سواء فى الإنتاج أو التوزيع أو العرض. لذلك اكتسبت هوليوود صبغة مؤسسية، حتى أنها عندما واجهت انتقادا شديدا من مختلف جماعات الضغط، بسبب ما قيل عن المضمون السلبى لأفلام هوليوود، أسرع اتحاد المنتجين والمزعين بتأسيس ميثاق يفرض نوعا من الرقابة الذاتية، لحماية الأفلام من الدعاوى القضائية من جانب، وتحسين صورة الصناعة من جانب آخر. وهكذا فإن "الرقابة" فى أمريكا، وما تزال، تمارس من خلال الصناعة ذاتها، بينما تصبح الرقابة عندنا فى يد "الدولة" أو "الحكومة" بمعنى أدق.
كانت هذه الرقابة الذاتية هى حائط الصد الأول والدائم فى هوليوود، وأمريكا كلها، ضد أى قرار بمنع عرض الأفلام أو مصادرتها، نتيجة الطبيعة "المؤسسية" للصناعة. وفى المقابل أنشئت مؤسسات أخرى تحمى حقوق الفنانين والفنيين ضد ما يمكن أن تفرضه الشركات المنتجة من شروط مجحفة، لتكون هناك نقابات لكتاب السيناريو والممثلين والمخرجين وكل الفروع الفنية الأخرى. ولم تكن هذه النقابات أشبه بالجمعيات الخيرية كما هو الحال عندنا، إذ ينحصر تفكيرها فى "المعاش" أو "العلاج"، وإنما لكل نقابة "عقد" محدد لابد أن يلتزم به الجميع، ينص حتى على ساعات العمل أو الراحة أو الغداء أو الانتقال، فهل فكرت إحدى نقاباتنا الفنية فى ذلك؟ أو إذا كان موجودا، هل تراقب الالتزام به؟
باختصار، يدور العمل فى هوليوود – حتى بين الجبهات المتصارعة - بشكل "جماعى" فى كل شىء، حتى أن "النجوم" بجلالة قدرهم تضامنوا مع "الكومبارس" فى إضرابهم لتحسين شروط عملهم، بينما تبقى محاولاتنا فردية أقرب إلى صراع أهل المهنة الواحدة أنفسهم على اغتنام فرصة للعمل "وخلاص". كما أن هوليوود تعرف بالضبط ماذا تريد من الدولة، وماذا تريد الدولة منها، على عكس ما نرى عندنا من مطالبات من الدولة أحيانا بالدعم والمساندة، بينما يرفع آخرون شعار "رفع يد الدولة عن صناعة السينما". وفى الوقت ذاته، فإن هوليوود تسرع على الفور لخدمة القضايا الوطنية الأمريكية عندما تشعر بالمسئولية فى مد يد المساعدة، كما حدث فى تحولها المذهل فى بدايات الحرب العالمية الثانية من مساندة موقف أمريكا بعدم التدخل فى الحرب، بصنع أفلام تدعو إلى السلام، إلى إنتاج عشرات الأفلام الحربية عندما قررت الحكومة الأمريكية الانضمام إلى الحلفاء.
لم يطلب أحد من هوليوود ذلك، فقامت به من موقع الإحساس بأنها "مؤسسة" وطنية، حتى لو لم تكن تابعة للدولة، بينما تجد عندنا أفلاما فى الفترة الأخيرة تسخر – بالمعنى الحرفى للكلمة – من النضال الوطنى للشعب المصرى بشكل عام، وتوجه قدرا أكبر من السخرية إلى حرب أكتوبر وشهدائها!! وأرجو أن تقول لى متى فعلت هوليوود ذلك، حتى مع هزيمة أمريكا فى حرب فييتنام؟
نحن نضحك على أنفسنا عندما نردد أسطورة "هوليوود الشرق" تلك، بينما تبقى أمامنا أولا مهام أساسية، ليس من بينها مثلا – كما يردد البعض - تشجيع تصدير الأفلام المصرية، أو حمايتها من "القرصنة" (فالأفلام الأمريكية هى الأكثر تعرضا للقرصنة فى كل أنحاء العالم)، وإنما يجب علينا أولا، صناعا للأفلام ودولة، أن نعمل بشكل مؤسسى، ونتخلى عن نزعة فردية، انتهت بنا إلى حال السينما المصرية الآن، التى أصبحت لا تعانى فقط من أزمة، وإنما من مرض عضال مزمن، يبدو أنه ليس لديها له من شفاء.                                              

Sunday, April 05, 2015

أكذوبة السينما المستقلة



جرت العادة في مصر على أن يخترع أحدهم مصطلحا ما، لا يعني في العادة شيئا دقيقا، لكن سرعان ما يجري المصطلح على الألسنة وفوق صفحات الجرائد، بل يتسلل أيضا إلى ما يمكن اعتباره كتبا متخصصة. يحدث هذا الأمر في السينما المصرية كثيرا، مثل مصطلحات "سينما الواقعية الجديدة"، و"أفلام البطولة المطلقة"،  و"السينما الخالصة"، و"المضحكون الجدد"، و"أفلام ومسلسلات السيرة الذاتية" (وخذ بالك من "الذاتية")، وأخيرا "السينما المستقلة"، التي بدت في الآونة الأخيرة اكتشافا جديدا فى السينما المصرية، مع أن هذه السينما ظلت في الأغلب الأعم من عمرها وأفلامها... مستقلة!!!
هل يتطوع أحدنا لتقديم تعريف واضح لهذه السينما؟ هل هي الأفلام قليلة التكاليف، الخالية عادة من النجوم ذوي الأجور العالية؟ لقد كانت هذه هي الأفلام التي صنعت في الثمانينات، خلال فترة ما سمي "أفلام المقاولات"، حين كان الصحفي السابق الذي اكتشف فجأة قدرته على الإخراج ناصر حسين يصنع العديد من الأفلام، بأقل ميزانية ممكنة، حتى أنه يعتبر من أكثر مخرجي السينما المصرية غزارة طوال تاريخها. وقد كانت أفلام المقاولات تلك تلبي أيضا شروطا أخرى من تعريف السينما المستقلة كما نعرفها اليوم، فمخرجها في العادة كان مؤلفها، كما أنها كانت تعرف يقينا أنها لن تجد بدورها فرصة كبيرة للظهور في دور العرض، فكانت تذهب مباشرة إلى سوق شرائط الفيديو المزدهر آنذاك، مثلما يحدث الآن من استهداف ما يسمى أفلام السينما المستقلة للعرض على شاشات القنوات الفضائية، دون الاضطرار إلى البحث عن العرض في سوق بالغ الضيق، تحكمه ممارسات الاحتكار.
إذن هل هي السينما التي يقوم مخرجها بإنتاجها، في مغامرة يكسر بها هذا الاحتكار؟ فماذا يمكن لك إذن أن تسمي أفلاما أنتجها محمد خان لنفسه، وكاد أن يصل إلى حافة الإفلاس، في مغامرات فنية ناضجة مثل "فارس المدينة" أو "يوم حار جدا"؟ وهو ما ينطبق أيضا على ما فعله نور الشريف مثلا مع عشرات المخرجين في أفلامهم الأولى، مثل "ضربة شمس" لخان، أو "دائرة الانتقام" لسمير سيف، ولا يختلف الأمر كثيرا مع أحمد زكي عندما أصر على إنتاج "أيام السادات"، ليحقق حلما فنيا راوده طويلا.
أم أن السينما المستقلة هي التي تتبنى شكلا وأسلوبا جديدين، يبدوان على درجة كبيرة من الاختلاف مع ما تعرفه السينما السائدة؟ إذن لماذ لم نطلق مصطلح السينما المستقلة على أفلام مثل "المستحيل" لحسين كمال، أو "زوجتي والكلب" و"الخوف" لسعيد مرزوق، و"الحاجز" لمحمد راضي، و"التلاقي" لصبحي شفيق، بل أيضا "زائر الفجر" لممدوح شكري، أو "قليل من الحب كثير من العنف" لرأفت الميهي؟
أتراها إذن السينما التي تم تصويرها بالتقنيات الرقمية الأرخص والأسهل في التعامل معها؟ لقد فعل ذلك محمد خان في "كليفتي" وخيري بشارة في "ليلة في القمر"، وهذا هو ما تفعله الآن بالفعل "كل" أفلام السينما المصرية دون استثناء، سواء في مرحلة التصوير أو ما بعدها، بدءا بالمونتاج وحتى تصحيح الألوان والمزج الصوتي. فماذا يبقى إذن للسينما المستقلة أن تتفرد به، وتعرّف نفسها من خلاله؟ للأسف سوف تكون الإجابة صادمة للبعض، ولكن ما باليد حيلة، فلتكن الصراحة هي هدفنا، لكننا سوف نؤجل الإجابة قليلا، لننظر نظرة سريعة، بل خاطفة، في تاريخ السينما المصرية، التي كانت وستظل "مستقلة"!!
منذ بدايتها الأولى كانت هذه السينما تصنع أفلاما من أجل نوع من المغامرة، على نحو ما فعلت عزيزة أمير التي كانت بطلة ما يعتبر أول أفلام السينما المصرية "ليلى"، وقامت ماري كويني فيما بعد – مع زوجها أحمد جلال – بتكوين ثنائي فني من خلال شركتهما الخاصة "استوديو جلال"، كما عرفت السينما المصرية مغامرا بالمعنى الحرفي للكلمة مع الممثل المنتج المخرج (دون خبرة سابقة) أحمد سالم. ولم يكن غريبا أن ينتج صلاح أبو سيف لنفسه فيلما ترك فيه بصمته الفنية الخاصة به (وهي النزعة الطبيعية، وليست الواقعية) في فيلم "لك يوم يا ظالم" المقتبس عن رواية إميل زولا "تيريز راكان".
وحذا حذو أبو سيف، قبله وبعده، عشرات المخرجين الذين أنتجوا أفلامهم بأنفسهم، مستقلين عن أي شركة سينمائية كبرى، وأيضا دون تكوين شركة إنتاجية كبرى، فهكذا فعل مثلا هنري بركات، ومحمود ذو الفقار، وعز الدين ذو الفقار، وحسن الإمام، لتبدو أفلام كل منهم ذات علامة فنية مميزة بهم ولهم، حين أصبحوا "مستقلين" متحررين من أي شروط تمليهم عليهم شركة إنتاجية. وهذا ما سوف يفعله يوسف شاهين في مرحلة لاحقة، كذلك رأفت الميهي، وإيناس الدغيدي، وأسامة فوزي. بل لم يكن غريبا أن يدخل إلى الساحة أيضا كتاب سيناريو، مثل جليل البنداري الذي أنتج فيلمه "الآنسة حنفي"، أو وحيد حامد منذ "اللعب مع الكبار"، مرورا بأفلام مثل "طيور الظلام" و"معالي الوزير" وأفلام عديدة أخرى.  
ولم يتوقف الأمر عند المخرجين منتجين لأفلامهم، لكن كثيرا ما كان الممثلون والممثلات يفعلون ذلك، والذين يمكن أن نذكر من بينهم حسين صدقي بأفلامه ذات الطابع الأخلاقي المحافظ، وأنور وجدي بقدرته على تقديم "توليفة" جماهيرية فريدة، ناهيك عن عشرات نعجز هنا عن حصرهم، مثل يوسف وهبي، وفريد الأطرش، ومحمد عبد الوهاب، وعبد العزيز محمود، ومحمد فوزي. ومن التجارب "المستقلة" التي تحتل مكانا مهما في تاريخ السينما المصرية تلك الأفلام التي قدمها فريد شوقي عبر رحلته الفنية الطويلة، التي احتل في بدايتها مكانة بطل "الأكشن" في "جعلوني مجرما" و"النمرود" و"رصيف نمرة 5"، (وهي جميعا والأفلام التي سيأتي ذكرها من إنتاجه)، ليقدم بعدها – في مواكبة لـ"العهد الجديد" بعد ثورة يوليو 1952 - أفلاما ذات بعد سياسي رمزي كما في "الفتوة"، أو بعد سياسي مباشر كما في "بور سعيد". وعندما تقدم به العمر، قدم أفلاما ذات طابع ميلودرامي، مثل "البؤساء" و"الموظفون في الأرض" و"شاويش نص الليل".
لن تخطئ التعرف على محاولات إنتاجية مستقلة أخرى، لنجوم أرادوا صنع صورة نجوميتهم بأنفسهم، أو تغيير هذه الصورة أحيانا، بعيدا عن تحكم شركات كبرى في أعمالهم. فعلى هذا الدرب سار – على سبيل المثال لا الحصر – كمال الشناوي، وفاتن حمامة، وعماد حمدي، ويحيى شاهين، وماجدة. لكن ربما كان الأقرب لفريد شوقي في إرادته القوية في صنع صورة نجوميته هو نور الشريف، الذي كان بطلا لـ"الأكشن" في "دائرة الانتقام"، وللميلودراما في "قطة على نار"، والرومانسية في "حبيبي دائما"، والكوميديا الاجتماعية في "آخر الرجال المحترمين". كذلك فعل محمود ياسين منذ نهاية السبعينيات، بعد أن بدأت نجوميته الخاطفة في الخفوت، لينتج لنفسه أفلاما مثل "وضاع العمر يا ولدي" و"الجلسة سرية" و"نواعم". ومن أفضل أفلام السينما المصرية طوال تاريخها تلك الأفلام "المستقلة" التي أنتجها أبطالها من الممثلين والممثلات، مثل "عودة مواطن" ليحيى الفخراني (سوف ننسب الفيلم هنا لبطله ومنتجه)، و"المرشد" لمحمود الجندي (وهو فيلم مظلوم بحق)، و"سوبر ماركت" لنجلاء فتحي، و"سمع هس" لممدوح عبد العليم.
إن هذا لا يعني أنه كانت هناك "كيانات" إنتاجية كبرى (أو صغرى) في السينما المصرية، مثل استوديو مصر، أو شركة آسيا، ورمسيس نجيب، وحلمي رفلة، أو شركات القطاع العام. لكن مرة أخرى أليس من الغريب أن يكون فيلم "درب المهابيل" للمخرج توفيق صالح، من إنتاج شركة عابرة لم تنتج سوى هذا الفيلم، تدعى "شركة أفلام النجاح"؟ وفي الحقيقة أن هذه الكيانات الإنتاجية لم تكن تمثل سطوة احتكارية على السوق إلا فى السنوات الخمس عشرة الأخيرة، حين سيطر اقتصاد الاحتكار على كل شيء، لكن لا يبقى في الذهن من هذه الكيانات، وفي سوق الإنتاج أيضا، سوى عدد محدود للغاية، مثل شركتي السبكي وإخوان العدل. والغريب أن الشركتين بدأتا بطموح فني لا ينكر، فالسبكي صنع أفلاما مثل "المشبوه" و"حب في الزنزانة" و"النمر والأنثى"، و"الرجل الثالث"، لينقلب على أعقابه بعد "اسماعيلية رايح جاي" لينتهي إلى "عوكل" و"حاحا وتفاحة". وفي مسار مشابه بدأ إخوان العدل بأفلام مثل "حرب الفراولة" و"إشارة مرور"، لينتقلوا بدورهم إلى "صعيدي في الجامعة الأمريكية" و"جاءنا البيان التالي" و"اللي بالي بالك".
إنك كثيرا ما تسمع فنانينا يصرخون بأعلى صوتهم، مطالبين "الدولة" بأن ترفع أيديها عنهم حتى ينالوا "الاستقلال"، لكنك تسمع منهم أيضا صرخات تطالب الدولة ذاتها بأن تنتج "لهم" أفلاما!! تلك المفارقة هي أحد أوجه أزمتنا الثقافية، وهي الأزمة التي قد أستطيع أن ألخصها لك في وقائع حضرتها. كان ذلك أيام أن ظهرت في السوق السينمائية المصرية شركتان قامتا بشراء معظم أفلام هذه السينما، وبدا أن هناك رغبة في احتكار هذه الأفلام، مع وعد (غامض ومؤجل كالعادة، ولم يتحقق قط) ببناء مئات دور العرض، وإنتاج عشرات الأفلام. وبينما كنت من بين الذين رأوا هذين الكيانين عشوائيين، كان رد بعض صناع الأفلام "الثوريين": كيانات عشوائية كبيرة أفضل من كيانات عشوائية صغيرة (هكذا بالنص، في برنامج في التليفزيون المصري).
وسارع هؤلاء السينمائيون إلى أصحاب هاتين الشركتين، وكل منهم يسعى للحصول على عقد لصنع فيلم له. للأسف لم يفكر معظمهم في حال السينما، أو كونها مستقلة أم لا، فالأهم بالنسبة لهم الوصول إلى حل فردي ما. وهذا الحل الفردي هو أكثر ما يميز ما يسمى "السينما المستقلة" في الآونة الأخيرة، فالمهم هو صناعة فيلم، بتمويل من منظمة أوربية ما، ولبيعه لقناة فضائية ما، دون أن يفكر صناع هذه الأفلام في تكوين اتحاد يضمهم معا، يتشاركون فيه في صنع الأفلام بعيدا عن أسلوب اقتناص فرصة "وخلاص"، ويفكرون فيه بجدية في إنشاء منافذ ونوافذ لعرض أفلامهم، حتى تكتسب جمهورا جديدا.
لم نتطرق إلى المستوى الفني لأفلام ما يسمى "السينما المستقلة"، والتي هي بتعبير أدق "سينما الحل الفردي"، لأن ذلك يتجاوز هدفنا هنا في هذه المساحة، لكننا أردنا أن نشير إلى أن الحل الفردي هو السمة الغالبة في إنتاج السينما المصرية، التي يحلو للبعض أحيانا أن يطلق عليها "هوليوود الشرق"، لكن تلك أكذوبة أخرى!!