Thursday, December 10, 2015

حارة اليهود



منذ أكثر من عقد من الزمن، قرر المخرج الأمريكي مايكل باي أن يصنع فيلما عن موقعة "بيرل هاربور" يحمل نفس الاسم، وهي الموقعة التي حفرت في الوجدان الأمريكي ندوبا عميقة، لأنها كانت تسجل هزيمة أمريكا في تلك اللحظة أمام اليابان في الحرب العالمية الثانية، حين قصف الطيران الياباني السفن الحربية الأمريكية وهي قابعة في الميناء، وكانت تلك هي البداية الحقيقية للتدخل الأمريكي في الحرب، لتشن الطائرات الأمريكية غارات وحشية على المدنيين اليابانيين، انتقاما للكرامة الجريحة.
لو كان هذا الفيلم قد تم إنتاجه وإخراجه في بلادنا، لتوالت عليه مقالات المديح النقدي، لأنه يتناول "موضوعا" على هذا القدر من الأهمية، ومع ذلك فإن النقاد الأمريكيين منحوا الفيلم أربع درجات من عشر فقط، ووصفه بعضهم بأنه مبتذل، على الرغم من ضخامة إنتاجه، وكان السبب هو "المعالجة الفنية"، التي حولت الموضوع إلى حبكة بالغة التقليدية، عن قصة حب تنافس فيها صديقان على حب فتاة واحدة، وتضحية أحدهما بنفسه بما لا تدري إن كان فداء للوطن أم نبلا رومانسيا يخلي الطريق أمام صديقه.
تذكرت هذا الفيلم على الفور وأنا أشاهد مسلسل "حارة اليهود"، الذي يفترض أنه يحكي عن واحدة من أكثر الفترات السياسية حساسية في التاريخ المصري، خلال تلك السنوات التي شهدت تأسيس الكيان الصهيوني في عام 1948، وحتى قيام ثورة يوليو 1952، وتوتر العلاقات بين المصريين ومن يفترض أنهم إخوانهم في الوطن من اليهود، وما يستدعي ذلك إلى الذهن من جدل حول الفرق بين اليهودية كدين والصهيونية كنزعة سياسية بالغة العنصرية. وبرغم أهمية "الموضوع"، فقد تحول في مسلسل "حارة اليهود" إلى قصة حب مغرقة في رومانسيتها، بين ضابط مصري مسلم، وفتاة مصرية يهودية.
دعنا نتأمل في البداية كيف أن هذه الحبكة ذاتها قد تناولتها الأفلام الإسرائيلية، وأن نضع خطا للتأكيد على تكرار أن يكون الجانب اليهودي امرأة والجانب غير اليهودي رجلا، ولا يعود هذا كما يبدو للوهلة الأولى إلى ضرورات دينية، بل يعود إلى مغازلة الجانب الذكوري في ثقافتنا، التي يمكن أن تتقبل هذه العلاقة وترفض عكسها، ولعل فيلما إسرائيليا مثل "زيارة الفرقة" ما يزال في الذاكرة، فهو بدوره يتحدث عن "علاقة" بين ضابط مصري وامرأة يهودية، وإمكانية التقارب بينهما.
لكن الأهم من ذلك كله هو أن مسلسل "حارة اليهود"، الذي كتبه مدحت العدل وأخرجه محمد العدل، يزعم أنه يحاول أن يمتد بـ"الرمز" إلى نطاق ملحمي، يصور المجتمع المصري كله. وإذا صرفنا النظر عن الانتقادات العديدة التي وُجهت إلى المسلسل بسبب أخطاء تفاصيل الزمان والمكان، وهي الانتقادات التي لابد أن القارئ قد اطلع عليها في كتابات عبر الصحافة، فإن هذه الرغبة "الملحمية" دمرت مفهوم "الحارة" تماما، فأي حارة مصرية تقليدية هي مجتمع صغير شبه مغلق على ذاته، تتجاور فيه البيوت إلى درجة أنه يمكنك أن تعرف نوع الطعام الذي يتناوله جارك، لأن رائحته تصل إليك، كما يكاد ألا يكون هناك سر، فالجدران هشة بما يكفي لأن تشي بكل الأسرار عبرها.
ما رأيته في مسلسل "حارة اليهود" أقرب إلى حي سكني كامل، وربما أكبر من ذلك أيضا، لا يغلب عليه فقط طابع "الديكور" المصنوع، الذي يمكنك أن تلاحظ أن عمال الاستوديو قد انتهوا لتوهم من بنائه، ولكن يغلب عليه الاصطناع في تنويعة سكانه، فمنذ اللقطات الأولى سوف تعرف أن سكان الحارة ينتمون إلى ديانات مختلفة، عندما تراهم يتدافعون إلى معبد يهودي (في الحارة؟!) لاتخاذه ملجأ من غارة جوية، ولا نعلم أن القاهرة كانت في عام 1948 معرضة لأي غارات من هذا النوع.
ومنذ اللحظة الأولى أيضا سوف تعرف بالعلاقة المتوترة بين الفتاة اليهودية ليلى (منة شلبي) البريئة كالملاك، والفتاة المسلمة ابتهال (ريهام عبد الغفور) الشريرة كشيطان، أما السبب فهو تنافسهما على حب الضابط الشاب الوسيم علي (إياد نصار)، الغائب في فلسطين حيث يحارب الصهاينة. واستكمالا لرسم الخريطة الاجتماعية للحارة المزعومة، يقدم لك المسلسل الفتوة فتحي العسال (سيد رجب) وهو يهدم أحد الأفراح الشعبية لأنهم لم يأخذوا منه الإذن، وسوف تسأل نفسك كيف أقيم هذا الفرح الشعبي وسط الغارة، لكنها الصورة النمطية (شبه الأسطورية) عن الفتوات، والتي كانت – كما يؤكد الروائي العظيم نجيب محفوظ، أشهر من تناول هذه الشخصية – قد انتهت مع مطلع القرن العشرين!! كما سوف تسأل نفسك أيضا عن "الرمز" في جعل الفتوة أبا لابتهال بالذات، وتصويره في هيئة السلطة العاجزة عن حماية أهل الحارة، ناهيك عن صراعه بين صبيانه، وصعود أحدهم – ويدعى النطاط (وليد فواز) - بدلا منه إلى مقام الفتونة، بينما انتهى المعلم العسال إلى هزيمة الشيخوخة.
ولن تتوقف أسئلتك عند هذا الحد، فإذا كانت الشخصيات رموزا، لماذا انتهت ابتهال إلى أن تصبح راقصة، بينما ظلت ليلى على براءتها ونقائها؟ وأين من الممكن أن تجد – في أي حارة مصرية يقطنها سكان عاديون - بيت الدعارة الذي تديره زينات (هالة صدقي)، وتستعين فيه بفتونة المعلم العسال التي تهيم فيه عشقا، لكنها سوف تتخلى عنه ليصعد صبيه النطاط مكانه؟ عشرات الأسئلة سوف تتداعى إلى ذهنك، ولن تجد لها إجابة، سوى أن صناع مسلسل "حارة اليهود" قد أتوا بكل شخصياتهم من مستودع الشخصيات النمطية في الدراما المصرية، كما أتوا بالعديد من الإشارات العابرة عن قضية الأسلحة الفاسدة، ودور الإخوان المسلمين، دون جدية حقيقية في تناول أثرهم. لكن الأكثر تشويها على الإطلاق، هي تلك الجملة التي جاءت على لسان ليلى، ولم يذكر لها المسلسل أي تصحيح على لسان شخصية أخرى، بأن السبب في اعتناق شقيقها موسى (أحمد حاتم) للصهيونية هم الشيوعيون (!!)، بينما التاريخ الموجود في متناول القارئ، وكان الأجدر بالمؤلف الاطلاع عليه قبل أن يدلي بدلوه في هذا الموضوع الشائك، هذا التاريخ يؤكد أن الشيوعيين اليهود حاربوا الصهيونية، ودافعوا عن مصريتهم، لأنهم يرفضون تأسيس أي سياسة على قاعدة عنصرية.
يحكي من تبقى من اليهود المصريين عن الفقر المدقع الذي كان يعيش فيه أهل "حارة اليهود"، مثلهم مثل كل فقراء مصر آنذاك في كل الحارات، لكن المسلسل يصنع منهم تاجر الأقمشة هارون (أحمد كمال)، والد ليلى بالغ الطيبة، وآخرين يعملون بتجارة الذهب، أو ممثلين في السينما، أو معلمين للرقص، وكلها كما ترى مجرد أنماط كاريكاتورية، تخلو من الروح. وربما كان الأخطر على الإطلاق هو تلك الصورة الباهتة التي تم بها تصوير البطل الضابط المصري علي، حتى أنه يبدو في معظم المشاهد مفعولا به لا فاعلا.
تبدو بعض مشاهد مسلسل "حارة اليهود" وكأنها خرجت لتوها من فيلم هوليوودي، خاصة مع الموسيقى الأوركسترالية الجياشة التي صاحبتها، مثل مشهد لقاء علي وليلى عند الأهرام، أو مشهد وداعهما في محطة القطار، والذي يبدو مستنسخا من عشرات أفلام الحرب العالمية الثانية. كما تبدو بعض عبارات الحوار وكأنها تذكرك بأفلام يوسف وهبي القديمة، مثل "المعارك المبهرة" أو "الطبقية البغيضة"، وهي العبارات التي يفترض أنها تأتي في سياق حوار عادي، ولست محاضرة بليغة.
وأخيرا يبقى السؤال: ما هو – الآن - مدى إلحاح قضية التفرقة بين اليهودية والصهيونية؟ فقد يكون سؤالا ملحا في سياق آخر، وليس في سياق يمارس فيه الكيان الصهيوني غطرسته الكاملة. كما أن مسلسلا يحكي عن هذه القضية، كان لابد ألا يتجاهل دور الصهاينة أنفسهم في بث الرعب في قلوب اليهود، بزرع متفجرات في أماكن تجمعاتهم، لدفعهم دفعا إلى مغادرة مصر (والعراق أيضا). لكن أليس من الغريب أن يبعث فيك مسلسل مثل "ذات" الشك في أن عبد الناصر هو الذي طرد اليهود المصريين؟ وأليس من الغريب أن يطرح الآن مسلسل مثل "حارة اليهود" وبقوة فكرة أن معظم اليهود من الأخيار الطيبين؟ هل هي مجرد مصادفة، تشير إلى لجوء صناع مثل هذه المسلسلات إلى أقوال شائعة دون تدقيق، أم أن الأمر يتعدى المصادفة؟