Friday, May 20, 2016

قبل الشروق، والغروب، ومنتصف الليل


أفلام ثلاثة عن جوهر الشعر فى الحياة                                                   


من مآسى المناهج الدراسية التى تعلمنا بها السينما، واختفت من العالم كله الآن، لكنها ما تزال تلقى بثقلها علينا، تلك التقسيمات والتعريفات العشوائية لما أسميناه "أنواع السينما" أو تصنيفاتها، وكان من أهم هذه التصنيفات التفريق الحاد بين ما هو روائى وغير روائى، وهذا الأخير تندرج تحته السينما التى عرفناها بالتسجيلية. لكن مع نظريات السينما المختلفة فى العالم كله خلال العقد الأخير، كادت هذه التقسيمات أن تختفى فى تعريفاتها التقليدية، مع التأكيد على عنصر جوهرى فى كل سينما وأى سينما، هو أن لها قدرة على "التسجيل".
إن كل ما تراه على الشاشة يحيلك إلى حقيقة "واقعية" ما، حتى لو بلغت أقصى درجات الخيال، ومن هنا أدرك بعض السينمائيين أنه حتى السينما الروائية تكتسب سمة تسجيلية وواقعية، ونحن جميعا نستخدم شخصيات سينمائية رأيناها على الشاشة كأننا عرفناها حقا فى واقع الحياة. لكن أرجو منذ البداية ألا يختلط الأمر بالنسبة إليك مع المشروعات السينمائية المقصود منها أن تلد حلقات ممتدة، مثل سلسلة "جيمس بوند"، أو أن يتم استثمار نجاح فيلم ما لصنع حلقة تالية، على طريقة "عفريت سمارة"!
إننى أعنى هنا هو أن شخصيات سينمائية يصبح لها وجود واقعى، لذلك فإنها يمكن أن تعاود الظهور بعد سنوات كأنها عاشت تلك السنوات فى الحياة، واكتسبت خبرات جديدة، بما يجعلها تتساءل عن حصاد الماضى وتوقعات المستقبل. لكن ذلك لن يتحقق أيضا إلا إذا كانت هذه الشخصيات السينمائية قد رُسمت برهافة واقعية بالغة، وهذا ما حدث مع "ثلاثية" المخرج الأمريكى ريتشارد لينكليتر، الذى لم يكن فى ذهنه عند بدايتها أن تصبح كذلك، فبعد تسع سنوات من الفيلم الأول سأل نفسه عما يمكن أن يكون قد حدث لشخصيات الفيلم ليصنع فيلما ثانيا، وبعد تسع سنوات أخرى طرح السؤال مرة أخرى ليصنع فيلما ثالثا.
تبدأ الحكاية فى عام 1995، مع فيلم "قبل الشروق": الفتى الأمريكى جيسى (إيثان هوك) والفتاة الفرنسية سيلين (جولى ديلبى) يتقابلان فى قطار خلال رحلة إلى فيينا، التى يتوقفان فيها بشكل عابر، ويمضيان الليلة يتجولان خلالها، قبل أن يفترقا على محطة القطار قبل الشروق، وقد تواعدا على اللقاء فى المكان ذاته بعد ستة شهور، دون أن يتبادلا معلومات أخرى عن كل منهما. لقد كان من الممكن للفيلم أن يكون فيلما رومانسيا آخر يشبه كثيرا من الأفلام، لكن كتابة لينكليتر للسيناريو (بالاشتراك مع الكاتبة كيم كريزان) أضفت حياة حقيقية على الشخصيتين، وتركت المتفرجين يتساءلون عما إذا كان سوف يتحقق هذا اللقاء.
سوف نعرف فى الفيلم الثانى "قبل الغروب"، بعد تسع سنوات، أن اللقاء لم يتحقق بسبب وفاة جدة سيلين المفاجئة، مما منعها من الحضور، وها هما اليوم يلتقيان مرة أخرى فى باريس، وقد أصبح جيسى كاتبا للروايات، وليس أمامه سوى ساعات قليلة قبل عودته إلى أمريكا، لذلك فإن لقاءه مع سيلين، التى عرفت بأخباره من الصحف، لن يستغرق أيضا سوى نهار يوم واحد، يقضيانه هذه المرة متجولين فى أنحاء باريس، ليحكى كل منهما للآخر عما حدث له خلال الأعوام التى انقضت، ثم يفترقان قبل الغروب. أما فى الجزء الثالث "قبل منتصف الليل"، فيأتى أيضا بعد تسع سنوات أخرى وقد تزوجا، وهما يقضيان معا أجازة فى جزيرة يونانية، ليتوقف الفيلم بهما أمام فترة ما بعد الظهيرة من أحد الأيام، حيث يتبادلان مراجعة للماضى، تبدو فيها سيلين وكأنها تشعر أن جيسى قد فتر حبه لها، وتقرر الفراق، لولا أن يبدى لها عاطفة دافئة وصادقة، تجعلهما يتوافقان مرة أخرى قبل أن يحل منتصف اللسل.
فى هذه الأفلام جميعا تكتسب الشخصيتان حياة حقيقية، حتى أن الممثل إيثان هوك والممثلة جولى ديلبى سوف يشتركان فى كتابة سيناريو وحوار الجزأين الثانى والثالث، وتصبح الثلاثية (ولا ندرى إذا ما كان هناك فيلم رابع بعد تسع سنوات قادمة) تسجيلا لمراحل مختلفة من الحياة، من ريعان الشباب حتى تجاوز مرحلة منتصف العمر. لكن الأهم فى هذه الأفلام، بالإضافة إلى هذه السمة التسجيلية فى فيلم روائى، هو أن الحياة لا تكشف عن نفسها من خلال أحداث درامية عنيفة على الطريقة الأمريكية، بل إن الأفلام تكتسب مسحة أوربية تذكرك كثيرا بأفلام الفرنسى إيريك رومير التى تعتمد تماما على الحوار (دون أن يتهمها البعض على طريقة بعض نقادنا بأنها ليست سينما "خالصة")، كما تذكرك أيضا بأفلام فرنسى آخر هو فرانسوا تروفو، الذى صنع سلسلة من الأفلام تكاد أن تشكل سيرة ذاتية له، مع الممثل جان بيير لو، منذ مراهقته حتى تجاوزه مرحلة الشباب.
أخيرا، ومن المفارقات الساخرة المريرة، أن الفيلم الثانى "قبل الغروب" لم يتكلف سوى مليونين من الدولارات، أى أقل كثيرا من أفلام عادل إمام أو محمد سعد أو من شئت من "نجومنا" (أضع الكلمة بين قوسين لتحفظى عليها)، ناهيك عن أن الأفلام الثلاثة تم تصويرها فى مشاهد خارجية، وبتتابع كتابتها فى السيناريو حتى يمسك الممثل بالشخصية، ومن خلال اللقطات الطويلة زمنيا (زاد بعضها عن عشر دقائق)، مما يعنى تمكنا هائلا من الممثلين لتفاصيل الشخصيتين، وقدرتهما على الارتجال "داخل الشخصية"، وقدرة المخرج أيضا على اقتناص لحظة الارتجال.
ربما تنبعث حالة من الشجن بسبب تلك الهوة التى لا يمكن تخيل فداحتها، بين إدراك هذه الإمكانية الحقيقية للسينما، وبين ما نفعله نحن بها، لأننا ما زلنا نتعامل معها كأنها أشبه بصندوق الدنيا، أو عروض الأراجوز.   

Friday, May 13, 2016

فيلم "آلهة مصر"



يبدو عنوان فيلم "آلهة مصر" Gods of Egypt عنوانا واعدا بفيلم جاد، فالأساطير التي ظهرت خلال الحضارة المصرية القديمة، وحاول بها الإنسان أن يجد إجابات على أسئلة حول الكون والوجود والحياة والموت، هذه الأساطير ظلت لزمن طويل ذات تأثير بالغ على حضارات البلدان الأخرى، خاصة الحضارات الزراعية كما في مصر، بل إن كثيرا من الدراسات ظهرت خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، تتبع عناصر الأساطير المصرية القديمة، التي ظهرت أيضا في ديانات أخرى.
للأسف الشديد عليك أن تنسى ذلك كله وأنت تشاهد فيلم "آلهة مصر"، الذي يمكن أن نقول أن وصفه بأنه "فيلم" يحمل قدرا كبيرا من التجاوز، فهو أقرب – بالمعنى الحرفي للكلمة – إلى "لعبة فيديو" ضلت طريقها فظهرت على شاشة السينما، فأفكاره مشوشة ملتبسة حتى على صناع الفيلم أنفسهم، مات سامارا وبيرك شاربلين كاتبين للسيناريو، وأليكس بروياس مخرجا، الذين لم يكلفوا خاطرهم لحظة واحدة بالقراءة حول مادة فيلمهم، ويبدو أنه كان يسيطر عليهم فكرة أن يصنعوا فيلما خياليا ملحميا، على غرار الأفلام الإيطالية في ستينيات القرن الماضي، حول شخصيات أسطورية مثل "ماشيست" أو "هرقل"، وربما أغراهم بذلك أيضا قدرة الكومبيوتر على خلق الديكورات المعقدة والتأثيرات المبهرة، أو التي خيل إليهم أنها كذلك، فأتى فيلم "آلهة مصر" كارثة ملحمية بحق!!
وقد يكون الطريق الأسهل نحو البداية في نقد الفيلم أن نذكر أخطاءه القاتلة العديدة حول عناصر الأسطورة المصرية القديمة الأساسية التي بنى عليها حكايته، وهي أسطورة الثالوث إيزيس وأوزوريس وابنهما حورس، والعم القاتل سيت، والصراع بين حورس وسيت لكى يسترد الابن حقه المسلوب، لكننا سوف نحكي قصته أولا معا، لكي نعرف ما كان يدور في ذهن صناعه عندما قرروا تناول هذه الأسطورة بالغة الأهمية. وسوف تدرك من أول لحظة انشغال المخرج بالبهلوانيات الكومبيوترية، عندما صنع سوقا مزدحما هو أقرب إلى عالم "ألف ليلة وليلة"، وأن يخترع شخصية اللص بيك (بيرنتون ثويتيس)، الذي يذكرك كثيرا بشخصية "لص بغداد" في أفلام هوليوود في ثلاثينيات القرن الماضي.
إن بيك يسرق ثوبا غالي الثمن لكي يهديه إلى حبيبته الفقيرة زايا (كورتني إيتون)، وهذا الخط الدارمي الذي يتضمن إنسانا فانيا لا علاقة له بالأسطورة، وإن كان من الممكن التسامح فيه إن كانت له ضرورة درامية ما، وهي كما سوف يتضح ضرورة واهية تماما، بل إنها قد تقلل أيضا من عمق وجدية الصراع المحوري. يتجلى هذا الصراع في المشهد التالي، إن الملك الطيب أوزوريس (برايان براون) يقرر أن ينصب ابنه حورس (نيكولاي كوستر والداو) ملكا، في حضور آلاف الرعايا من الشعب، ووجود باهت تماما لأهم عناصر الأسطورة الأصلية، وهي الأم إيزيس (راشيل بليك)، التي تكاد ألا يكون لها أي تأثير!
يقطع الأخ الشرير سيت (جيرارد باتلر، وهو يعيد شخصيته في فيلم "300 إسبرطي") حفل التنصيب، ويقتل أخاه أوزوريس لكي ينتزع منه حكم البلاد، ناهيك عن أنه يعلن أن من يريد الحياة الآخرة بعد الموت عليه أن يدفع ثروة طائلة لا يقدر عليها الفقراء. وعلى الفور تبدأ معركة طاحنة بين سيت وحورس، هي لعبة فيديو كاملة الشروط، فبوصفهما إلهين فإنهما يملكان القدرة على التحول إلى وحوش ضارية، تتقاتل وتنزف دماء ذهبية ليست كدماء البشر. وتنتهي المعركة بانتصار سيت، الذي يقتلع عيني حورس من محجريهما فيصير أعمى، ليقرر بتأثير الهزيمة وفقدان البصر أن يعتزل العالم، ويغيب عن الوعي معظم الوقت بتأثير الخمر.
وهكذا يفرض سيت حكمه على الناس في دنياهم وأخراهم، ويحولهم إلى عبيد وإماء، حيث تصبح زايا رقيقا تخدم في بيت كبير المعماريين، وعندما يحاول اللص بيك تحريرها فإنها تلقى مصرعها. وهنا تبدأ رحلة تحالف بيك وحورس، فالأول يريد من الثاني أن يستعيد حبيبته من الموت، مقابل أن يسرق عينيه اللتين انتزعهما سيت، وأخفاهما في مكان يحتشد بالمخاطر، لتبدأ لعبة فيديو أخرى يمضي فيها بيك وسط الأهوال، ولا ينجح في النهاية إلا في استعادة عين واحدة، يعطيها لحورس الذي يسترد جزءا من بصره، ويكون على استعداد للصراع من جديد مع عمه القاتل الشرير سيت، وأن ينقذ زايا قبل أن تعبر من البوابة الأخيرة إلى عالم الآخرة.                                                 
ولكي يبدو الفيلم أكثر تعقيدا، فإنه يدخل إلى الأسطورة آلهة أخرى ليست لها أي علاقة، مثل إلهة الحب هاتور أو حتحور (إيلودي يانج)، التي تنتقل من عشيق إلى آخر حتى أنك لا تدري إلى من يتوجه حبها الحقيقي، فهي قد كانت حبيبة حورس، لكنها أصبحت حبيبة سيت بعد انتصاره، لتقرر مرة أخرى دون سبب مفهوم أن تنضم إلى جانب حورس من جديد. وهناك كبير الآلهة رع (جيفري راش)، الذي يبدو محايدا تجاه أبنئه من الآلهة، لكنه يحاول أن يساعد حورس دون سبب مفهوم أيضا. وهناك أخيرا إله الحكمة توت أو تحوت (شادويك بوزمان)، الذي يصحب حورس في رحلته نحو مواجهة سيت، ولسبب غير مفهوم أيضا يبدو على الشاشة بعيدا كل البعد عن الحكمة، فهو مغرور إلى درجة قد تضحك المتفرج (في كوميديا غير مقصودة من صناع الفيلم!!)، ويكون دوره هو الإجابة على سؤال الوحش إبي الهول، حتى يسمح لهم بالدخول إلى عالم سيت، وهذه ليست تيمة مصرية قدية بأي حال، بل هي إغريقية خالصة.
يذهب الأربعة إذن في رحلة لعبة فيديو ثالثة وطويلة لمواجهة سيت: الآلهة حورس وهاتور وتوت مع الإنسان بيك، ليدخلوا في "مراحل" يقابلون فيها أنواعا مضحكة من الوحوش، تنتهي كما يمكنك أن تتوقع بمبارزة دموية ضارية، بين حورس وسيت، ينتصر فيها الأول على الثاني، ليعيد الخير إلى البلاد، ويستعيد زايا من الموت، لكي تلتقي مع حبيبها بيك، ويعيشون جميعا "في التبات والنبات"!! ما فات من جوهر الأسطورة على صناع الفيلم، ولم يبذلوا أي جهد لفهمه، أن الأسطورة الأوزريسية هي ديانة "شعبية"، تتناقض تماما مع ديانة رع التي يؤمن بها النبلاء، فإذا كان رع هو الشمس، فإن  أوزوريس هو "الأرض" في حالة نماء، ومن هنا يأتي نقيضا سيت، رمز الصحراء الجرداء، وكأن المصري القديم كان يحاول أن يفسر وجوده على شريط زراعي أخضر، تحيطه الصحراء من كل جانب، وإذا كانت الصحراء تهدد الأرض الخصبة أحيانا بالموات، فإن دموع إيزيس زوجة أوزوريس الوفية سوف تأتي بالفيضان، الذي يعيد النماء من جديد.
ومن أهم عناصر الأسطورة تمزيق سيت لجثمان أخيه أوزوريس، وتشتيت تلك الأشلاء في أنحاء البلاد، لكن إيزيس تعيد تجميعها، وتحمل من أوزوريس حملا غامضا، لتنتهي الأسطورة بأن يتولى الابن حورس أمور الدنيا، بينما يتولى الأب أوزوريس أمور الآخرة، حيث يوجد مكان للجميع، لا فرق بين غني وفقير، والثواب والعقاب فيها ليس بالثروة وإنما بأعمال البشر في الدنيا من خير أو شر، وهذا هو السبب في إيمان "الشعب" بهذه الأسطورة، بعد أن كانت الحياة الآخرة مقتصرة على النبلاء فقط، القادرين على تحنيط موتاهم، لكي يعودوا إلى الحياة مرة أخرى.
باختصار فإن الأسطورة الأصلية تلخص لك كيف تتجدد الحياة دائما، تدفن بذرة القمح في الأرض وتظنها قد ماتت، لكنها تعود للحياة من جديد، وهذه الدورة هي التي تعطي الأمل للجميع، الفقراء قبل الأغنياء، في مكافأة من يفعل الخير في الدنيا. هل أحدثك أيضا عن الخلط الذي يصل إلى درجة التشوش أو التزييف في فيلم "آلهة مصر"؟ تأمل على سبيل المثال وجود الأهرام وآثار أخرى يفترض أن الآلهة وجدت قبلها بزمن طويل، أو وجود أفيال (!!) لم تعرفها الحضارة المصرية قط، أو استخدام العجلات الحربية التي لم توجد في مصر إلا بعد خروج الهكسوس الذين كانوا يستخدمونها، ناهيك عن الملابس وألوان بشرة الممثلين، البيض والزنوج، بأردية من الهند أو ربما أيضا تشبه بدل الرقص (!!) في لوحات المستشرقين للجواري.
وفوق ذلك كله هناك تمثيل بالغ الرداءة والابتذال، يبدو أقرب إلى تمثيل مجموعة من الهواة السذج، أو إضافة خطوط درامية لا علاقة لها بالحدوتة، مثل استعادة زايا من الموت، وهي تيمة إغريقية أيضا. وفي النهاية من المؤسف أن يتم التعامل مع أسطورة مصرية قديمة مهمة بهذه الخفة والاستهانة، لمجرد تحويلها إلى لعبة فيديو سقيمة، حتى لو كانت تحمل اسم "آلهة مصر".

Saturday, April 30, 2016

ثقافة الألف واللام



منذ سنوات، قمت بترجمة كتاب عنوانه "تاريخ للسينما الروائية"، لكن المشرف على السلسلة لم يعجبه هذا العنوان، وقام بتغييره إلى "تاريخ السينما الروائية". وربما لا يبدو للوهلة الأولى أن هناك فرقا بين العنوانين، لكن الحقيقة أنه يفصل بينهما ما يكشف ليس فقط عن عقلية الناقد السينمائى فى مصر، وإنما عن عقلية ثقافية كاملة يدور محورها حول "الألف واللام".
قصد مؤلف الكتاب الأصلى ديفيد كوك – وهو ليس وحده فى ذلك كما سوف نشرح لاحقا – أن ما يكتبه ليس إلا "واحدا" فقط من بين كتابات عديدة تناولت تاريخ السينما، بينما رأى المشرف على النشر أن هذا يقلل من قيمة الكتاب، لذلك فهذا هو "التاريخ"، ولا تاريخ غيره. ونحن عادة فى حياتنا الثقافة والسياسية نتحدث بقدر هائل من اليقين، ليس له ما يبرره فى الواقع غالبا، عن أن رأينا هو الرأى الصحيح، وهو النظرة الوحيدة الممكنة تجاه أمر ما، ترى ذلك مثلا فيما تشاهده على شاشات التليفزيون من ضيوف يرتدون غالبا ثيابا لامعة (ولا أدرى إن كانت هى ثيابهم التى يخصصونها للتصوير التليفزيونى، أو أن مسئولى القناة يوزعونها عليهم!)، لكنهم يتحدثون دائما بلهجة تشى بالثقة المفرطة فيما يقولون، سواء فى الاقتصاد أو الاجتماع أو السياسة، وكثيرا ما يبدأون كلامهم بأن لديهم "أمرا مهما للغاية"، لكنك تكتشف أنه ليس مهما "ولا حاجة"!
هذه العقلية السائدة تجعلنا معرضين فى الأغلب للوقوع فى مأزق "السفسطة" التى لا طائل من ورائها، وربما كان الأهم هو أنها تحاول أن تفرض مصطلحات ومفاهيم بعيدة كل البعد ليس عن الواقع فقط، وإنما عن المنهج العلمى فى دراسة الأمور. لقد جاء وقت فى زمن مضى كان ينظر إلى السينما فيه باعتبارها لا ترقى لمصاف الفنون الرفيعة (وما تزال كذلك حتى الآن بالنسبة لنا، حيث أن الضريبة عنها تسمى "ضريبة الملاهى")، لذلك سعى بعض الدارسين فى أنحاء مختلفة من العالم إلى إضفاء صفة الجدية عليها، وكان من بينهم أدولف آرنهايم، وبيلا بالاش، وسيجفريد كراكاور، وكانت لهم كتاباتهم النظرية فى هذا المجال التى خرجت فى هيئة كتب، أسماها جميعهم "نظرية السينما" بالألف واللام، وحتى الفرنسى أندريه بازان الذى كان ناقدا أكثر منه صاحب نظرية، تم جمع بعض مقالاته فى مجلدين يحملان عنوان "ما هى السينما؟".
ولأننا فى الأغلب نعشق حرفى الألف واللام، تعلق الكثيرون منا بهذه النظريات القاطعة المانعة، بل ذهب الأمر إلى أن بعضنا أخذ سطرا من نظرية إلى جانب سطر من نظرية أخرى، دون أن يدرك التناقض الهائل بين النظريتين، لأن ما يهمه هو أن كلا منهما تحمل عنوان "نظرية السينما"، بصيغة التعريف لا بصفة النكرة. لكن النقد السينمائى فى العالم كله أدرك منذ أواخر الستينيات خطر هذه الصيغ، وبدأت فى الظهور كتابات جديدة جادة تحمل جميعا عنوان "نظرية للسينما"، باعتبارها ليست إلا منهجا من بين مناهج عديدة لدراسة السينما وتناولها، وكتب جيرالد ماست مثلا كتابا بعنوان "تاريخ موجز للسينما"، كما اهتم جيمس موناكو بالمنهج أكثر من اهتمامه بالنتائج، وفى كتابه المهم "كيف تقرأ فيلما" عرض لمختلف الرؤى التى يمكن أن توصلك لتذوق "جانب" من جوانب عديدة، سوف تراها إذا غيرت زاوية رؤيتك (مرة أخرى أعرف أن ناشر ترجمتى له سوف يجعله يحمل عنوان "كيف تقرأ الأفلام"، لأن هذا العنوان الأخير أكثر يقينا بما يحمله من ألف ولام!)، بل إن الكثير من الكتب التى تدرس السينما بعمق حقيقى أصبحت تحمل عنوان "مقدمة لـ.."، لأنها تعرف أنها ليست إلا رؤية من بين رؤى عديدة، سوف تظهر ما دامت هناك سينما وأفلام جديدة.
وإحدى المحاور الرئيسية لهذه الاتجاهات الجديدة هو السؤال: هل تستطيع أى نظرية للسينما أن تفرض عليها مواصفات جاهزة لما تصنعه من أفلام؟ وكانت الإجابة: إنك لا تستطيع أن تقول للسينما ما "يجب" عليها أن تفعله، ولكن عليك أن تتركها تصنع ما "يمكنها" أن تفعله، لذلك أصبحت الأفلام الآن تسبق أى نظرية. لكن الواقع عندنا مختلف كثيرا، وأكثر ما يدهشنى حقيقة هو استخدام مصطلحات لا أفهم معناها (وهنا أضرب أمثلة لنقاد كبار وتلاميذهم الصغار)، مثل "السينما الخالصة" و"السينما الحقيقية" و"السينما الأصيلة"، وكلها كما ترى مصطلحات رنانة تعشق الألف واللام، لكنها فى الحقيقة لا تقول شيئا على الإطلاق، بل إنى أذكر قولا ساخرا لأحد النقاد الأمريكيين، بأن "السينما الخالصة" هى شريط السليولويد الخالى تماما من أى صورة أو صوت!
وربما يكون سابقا للأوان أن نحلم بنظريات عربية للسينما (هناك بعض المحاولات غير المكتملة أو المبتسرة)، لكن ألا يحق لنا أن نحلم بكتابة "تواريخ" للسينما المصرية والعربية، فمعظم الكتابات التى زعمت أنها تتناول "تاريخ السينما" فى مصر، تكرر أنها كانت تقليدا باهتا لسينما هوليوود، أو كانت تعلى من شأن أفلام بعينها حتى لو كانت أفلاما ردئية، لأن ذلك هو المكتوب فى "التاريخ"، أو تقلل من شأن أفلام أخرى كانت فى جوهرها بحثا عن صيغة سينمائية مصرية، لأن ذلك هو أيضا ما قرأناه فى "التاريخ" عنها.
نحن فى حاجة للتخلى عن عشق يقين الألف وللام، بما يستتبعه ذلك من إعادة النظر فى أفكار ومقولات ومصطلحات جاهزة. نحن فى حاجة إلى أن نرى الواقع من مختلف زواياه، وليس فقط الزاوية التى فرضوا علينا النظر من خلالها.  

Wednesday, April 27, 2016

سينما المؤلف بين الحقيقة والأسطورة



لا يكاد مصطلح "سينما المؤلف" يثار في النقد السينمائي العربي، حتى يقفز للذهن على الفور يوسف شاهين، برغم مفارقة أنه لم "يؤلف" الكثير من أفلامه، أو بالأحرى لم يكتب سيناريوهاتها، وإن كان قد اشترك في كتابة بعضها، وأفضل أفلامه على الإطلاق "الأرض" عن رواية عبد الرحمن الشرقاوي، وسيناريو العديد من الكتاب الذين لم يكن من بينهم. لماذا إذن تنتشر فكرة أن يوسف شاهين "مؤلف" سينمائي؟
الحقيقة أن هناك خلطا بين مفهومين متشابكين، الأول هو أن يكتب المخرج السيناريو بنفسه، وبرغم ذلك فإن أفلامه لا تنتظمها وحدة واحدة، وهذا هو المخرج "الحِرَفي الذي "يصنع" أفلامه دون أن تعكس اهتمامات معينة تسيطر على أعماله الفنية، ولك في حسن الصيفي أو ناصر حسين مثالين في السينما المصرية، ولهما عشرات الأفلام التي لم تبق في ذاكرة التاريخ. أما المفهوم الثاني فهو المخرج الذي "يتدخل" في كتابة السيناريو، بحيث يمكنك أن ترى فيها جانبا من قلقه الخاص، الذي يريد دائما التأكيد عليه.
لم يكتب ألفريد هيتشكوك مثلا أفلامه، لكنها في أغلبها تنتمي إلى عالمه الخاص، وكثيرا ما تجد عنده بطلا بريئا يتورط دون وعي أو رغبة منه في مشكلة ما، كبيرة كانت أو صغيرة، لا فرق بين "النافذة الخلفية" حيث يجلس صحفي مكسور الساق، مسترقا النظر إلى جيرانه، ليكتشف جريمة قتل فيها زوج زوجته، أو "الرجل الذي عرف أكثر من اللازم"، للبطل السائح الذي يعرف بالصدفة خطة اغتيال كبرى، ويختطف المتآمرون ابنه لكي يمنعوه من إفشاء السر. وقد يحار النقد والنقاد طويلا في تفسير ذلك "الهمّ" عند هيتشكوك، وهل يعكس قلقا شخصيا لا واعيا، أم أنه إشارة إلى عصر التوترات العالمية التي أفرخت حربين طاحنتين وحربا باردة طويلة، لكن أيا كان التفسير فإنها "سينما المؤلف" حتى لو لم يكتب المخرج أفلامه.
ومن المفارقات أن فن السينما كان في بداياته لا يعرف فرقا بين كاتب للسيناريو ومخرج، وأن تلك التفرقة جاءت مع "تقسيم العمل" عندما أصبحت الصناعة أكثر تعقيدا، ومع ذلك فإن هذه الفترة الأولى شهدت "سينما مؤلف" راقية رائقة، ولعل أفضل مثال في هذا السياق هو شارلي شابلن، صاحب شخصية "الصعلوك" الذي لم يمنعه فقره من الحفاظ على كرامته وأخلاقياته، والذي انتقل به بين عشرات الأفلام، تراه في "أضواء المدينة" عاشقا لفتاة ضريرة، يساعدها دون أن تعرفه على استرداد بصرها، وها هي في المشهد الأخير تتعرف عليه عندما تتلامس الأيدي، كما يمكنك أن تراه في "العصر الحديث"، عاملا تطحنه الآلة وتطارده السلطة حيثما رحل، لكنه يظل ينطلق دائما نحو أفق متفائل.
على عكس هذا التفاؤل، تجد تشاؤما يسري في أفلام المخرج ستانلي كوبريك، الذي يرى أنه لا مستقبل هناك أمام الحضارة الغربية التي سارت في طريق مسدود، وهو في "2001 أوديسّا الفضاء" يشير إلى أن الإنسان الذي بدأ رحلته باختراع الآلة سوف ينتهي عبدا لها، كما أنه في "خزانة مدفع مليئة بالطلقات" يرصد كيف تحول النزعة العسكرية الأمريكية البشر إلى أدوات غير عاقلة للقتل. وبالمثل فإن أوليفر ستون يعكس في أغلب أفلامه حالة من الالتباس التي يعيشها المواطن الغربي، فهو في "جي إف كيه" يحلل خليط المعلومات حول اغتيال كينيدي، وكيف أن الحقيقة ضاعت وسط كل هذا التشوش، كما أنه في "أي يوم أحد" يرى أن عالم الرياضة أصبح انعكاسا كاملا لوهم "الحلم الأمريكي" الرأسمالي الذي يطحن الجميع.
لكن من الحق القول أيضا أن صناعة السينما الأمريكية لا تسمح كثيرا بأن يكون للمخرج "رؤية" تنتظم أفلامه، لذلك فإن تلك النزعة لا تظهر إلا في مجال "السينما المستقلة"، حيث يمارس المخرج أدوارا عديدة في أفلام قليلة التكاليف، بلا مخاطرة كبيرة في شباك التذاكر. وعلى العكس تماما من كل التوقعات، عرفت السينما المصرية "سينما المؤلف" دون أن تسميها كذلك، وربما كان السبب هو أن صناعة السينما عندنا ليست من التعقيد بحيث تطلب درجة عالية من تقسيم العمل، كما هو الحال في هوليوود، بل ربما كان الأمر بالنسبة للمنتج أفضل (من ناحية التكاليف!!) أن يقوم المخرج بكتابة السيناريو أيضا.
لذلك يمكنك بقدر من التأمل أن تجد سينما المؤلف في مصر عند مخرجين في مجال الأفلام التجارية، مثل أنور وجدي، الذي كان يترك مهمة كتابة الحوار لغيره من المتخصصين، لكنه كثيرا ما يكتب القصة والسيناريو، مثل "غزل البنات"  و"ياسمين" و"حبيب الروح"، وهو يصنع هذه الأفلام وعينه على شباك التذاكر، ليقدم "توليفة" بالغة الطرافة من الرومانسية والميلودراما والمطاردات والغناء. تماما كما كان حسن الإمام يميل إلى الحبكات الميلودرامية، التي يشتعل فيها الصراع بين الخير والشر، والتسامح والانتقام، والجسد والروح، مثل أفلامه "اليتمتين" و"بائعة الخبز" و"الجسد"، وإنك لو تأملت القصة التي كتبها لفيلم "خللي بالك من زوزو" لوجدت فيها ذلك كله، وإن كان سيناريو وحوار صلاح جاهين قد أضفى عليها روحا بالغة التفاؤل.
على النقيض من حسن الإمام تجد عز الدين ذو الفقار، وهو أيضا لم يكتب سيناريوهات أفلامه وإن كان قد اشترك فيها، وترى عنده دائما روحا رومانسية حزينة متشائمة تسري في أبطال تعذبهم البراءة، في عالم يخلو من هذه البراءة، وحتى عناوين أفلامه تعكس هذه الروح، مثل "سلوا قلبي" أو "وفاء" أو "موعد مع السعادة" أو "موعد مع الحياة"، ومن المؤكد أن القارئ يتذكر تلك القلوب الصافية في "الشموع السوداء" (تأمل العنوان هنا أيضا)، وهي تتحاب برغم كل الفوارق، بينما الشر يخيم بظلاله ويهدد بالكارثة، وليس ما يدل على تلك الروح المتشائمة أكثر من وجود كلب أليف وفي للبطل، بينما الشقيق لا يتورع عن تدبير جريمة قتل!
كذلك صلاح أبو سيف، الذي عمل كثيرا مع نجيب محفوظ كاتبا للسيناريو، واختار في الأغلب قصصا تدور حول النوازع والغرائز البشرية التي تحدد العلاقات الاجتماعية، وتجعل من البشر وحوشا، لا فرق بين "لك يوم ياظالم" أو "شباب امرأة"، وإن كان قد خرج أحيانا من هذا العالم الغرائزي ليدخل إلى التحليل الاقتصادي والاجتماعي في أفلام مثل "الفتوة"، ليرصد آليات صعود طغاة السوق بمساعدة فساد السلطة، أو "بين السماء والأرض" حيث انحشر المجتمع في لحظة تحول تاريخي، وهو أخيرا في "البداية" (هذه المرة مع لينين الرملي كاتبا للسيناريو) يقدم حكاية رمزية عن تكون المجتمعات ونشأة السلطة.
لكن ربما كان الأجدر بمصطلح "سينما المؤلف" بين المخرجين المعاصرين اثنين متميزين، رأفت الميهي وداود عبد السيد. أما الأول فقد اختار ما أسماه "الفنتازيا" وهو إلى السخرية الجامحة أقرب، سخرية يوجهها إلى أي شيء وكل شيء، إلى الفساد السياسي في "الأفوكاتو"، وإلى علاقات الرجل والمرأة في "السادة الرجال"، والأخلاقيات السائدة في "تفاحة"، وأمور وقضايا فلسفية يتعمد غموضها في "ميت فل" (ويسميه بالإنجليزية "لنقتل أبانا")، لكن هذا الجموح المتزايد أدى بسينما رأفت الميهي إلى نوع من الغربة ولا نقول الاغتراب، حتى أنها فقدت حسها الثوري المفترض.
ويأتي داود عبد السيد، لا ليعكس عالما "كليا" في أفكاره وأيديولوجياته، وإنما رغبة أعمق في التعبير السينمائي الصافي على طريقة أنطونيوني وفيسكونتي، حيث لا يمكنك تلخيص العمل في "قصة" أو حبكة، بل لابد لهما من التكامل مع العناصر البصرية. لذلك قد تسيطر السيريالية مثلا على "البحث عن سيد مرزوق"، في ضياع الخط الفاصل بين الحقيقة والحلم، أو قد تطغى روح أفلام العصابات في "أرض الخوف" برغم الإشارات التي تدل على أبعاد فلسفية. وهذا الطموح قد أبعد أفلامه عن الجمهور العريض، وإن كان هو الطموح ذاته الذي حقق لفيلمه "الكيت كات" جماهيرية فائقة ونجاحا نقديا كبيرا، لأنه اعتمد على محاولة الوصول إلى فلسفة الشعب المصرى في بقائه على قيد الحياة، برغم الظروف الطاحنة التي كانت كفيلة بالقضاء عليه. وبرغم اعتماد الفيلم على رواية ابراهيم أصلان بنفس الاسم "الكيت كات"، فإنه يستحق أن يكون مثالا على "سينما المؤلف"، التي لا نعرف عنها الكثير من الحقائق، وإن كنا نردد عنها الكثير من الأساطير.