Saturday, January 09, 2016

فيلم "القداس الأسود".... فيلم عن الذئاب الجائعة المنفردة



يبدو عنوان هذا الفيلم للوهلة الأولى ملتبسا، لولا العودة إلى قواميس اللغة الإنجليزية المدققة، فاسم الفيلم Black Mass يشير إلى طقس شبه ديني من العصور الوسطى، أقرب إلى عبادة الشيطان، فهو "القداس الأسود" الذى لا يتوجه كما ينبغي إلى الله، وإنما إلى معبود زائف آخر. ولعلك لن تفهم المقصود بهذا العنوان إلا إذا دخلت إلى هذا العالم الفيلمي، الذي يحتشد بالظلام، ليس فقط على مستوى الدراما بل على مستوى الصورة أيضا، فإذا كانت الأحداث تدور في الحي الجنوبي من المدينة الأمريكية بوسطون، حيث تسود الجريمة بكل أشكالها، فإنك نادرا ما ترى المدينة في ضوء النهار، وكل شيء يسبح في بحر من الظلمات الداكنة.
إنه الجانب الآخر من الحياة الأمريكية، أو فلتقل إنه ما يدور تحت السطح الذي قد يظهر للعيان كأنه يعكس بريق الحياة المليئة بالمتعة، لكن هناك في الأعماق بحرا ليس فيه إلا الدماء، ولعل من النقاط المحورية لفهم الفيلم أن تتذكر أن القتلى العديدين في هذه الغابة الوحشية مدفونون تحت جسر بوسطون ذاته! لكن "القداس الأسود" ليس أيضا مجرد فيلم من الأفلام التي تدور عن عالم العصابات، بل هو من الأفلام المصنوعة بجهد فني حقيقي في كل عناصره، وربما سوف يكون ذلك سببا في ترشيحه لجوائز أوسكار عديدة، أو هذا ما نتوقعه على الأقل.
الخطوط العامة للحبكة في "القداس الأسود" لا تختلف كثيرا عن نمط أفلام العصابات: صعود مجرم صغير لكي يعتلي مكانا خطرا في عالم الجريمة، ثم نهايته التقليدية بالقبض عليه، لكن بين هذه البداية والنهاية لوحة بالغة الدقة في تفاصيلها، لمعارك الغابة البشرية التي تحدد معنى "النجاح" في المجتمع الأمريكي، فليس المهم هو المبادئ أو الأخلاق، بل المال والرفاهية والثراء، أيا كانت طريقة تحقيقها. في أحد مشاهد الفيلم نرى المجرم يعطي ابنه درسا في التعامل مع الحياة: "ليس المهم ما تفعله، بل متى وأين تفعله، ومع من وكيف تفعله. إن لم ير الناس ما فعلته، فإنه لم يحدث قط". فليفعل كل فرد ما يشاء في مثل هذا المجتمع لتحقيق مراده، حتى بأن يدوس على الآخرين أو حتى يقتلهم، بشرط أن يكون حريصا على أن يتم ذلك في الخفاء. 
يعتمد بناء الفيلم على أسلوب الشهادات التي تأتي على لسان شركاء الجرائم، وقد أصبحوا شهودا على زعيم عصابتهم، ومن شذرات هذه الحكايات نتعرف عليه، وهو بالمناسبة شخصية حقيقية وليست خيالية. إنه جيمس هوايتي بالجر (جوني ديب، في دور يجدد مكانته في عالم التمثيل، بعد عدة أدوار اتسمت بالنمطية)، المجرم الصغير، البار بأمه حتى أنه "يغش" في لعب الورق معها، حتى يجد مبررا لمنحها المال، وهو شقيق بيللي (بيندكت كمبرباتش) صاحب السمعة الطيبة، حتى أنه أصبح نائبا للولاية، والشقيقان صديقان قديمان لجون كونوللي (جويل إيدجرتون) الذي أصبح اليوم ضابطا في المباحث الفيدرالية.
لعل الثلاثة أصدقاء القدامى، الذين تفرقت بهم سبل الحياة إلى كسب العيش بوسائل مختلفة أو حتى متناقضة، لكن علاقات الغابة الاجتماعية تقربهم من بعضهم مرة أخرى، لعل ذلك يذكرك بخط مماثل في فيلم كلينت إيستوود "النهر الغامض" (الذي يدور أيضا في بوسطون)، فقد تختلف المصائر، لكن الظلام يجعلها تتلاقى مرة أخرى. ويتجسد الظلام هنا في أن الضابط جون يريد من المجرم جيمس – أو جيمي، أو هوايتي – أن يساعده في القبض على المافيا الإيطالية بالمدينة، حتى ينال الترقيات أحيانا، والرشاوي أحيانا أخرى، مقابل أن يسمح له بارتكاب الجرائم التي تكون سببا في صعود "العصابة الأيرلندية" بديلا عن الإيطالية.
سوف يغرقك الفيلم بحق في تفاصيل دقيقة عن هذا العالم المتشابك، لكنه لا يثير الملل أبدا، رغم تكرار بعض أحداثه، خاصة فيما يتعلق بالوشاة من عصابة جيمي، وعقابه لهم بقتلهم الواحد بعد الآخر بدم بارد، لكن هذه التفاصيل تستدعي إلى ذهنك على الفور، بتلك الرهافة في تنفيذها، أفلاما مماثلة في عالمها وأسلوبها لمارتين سكورسيزي أو ديفيد فينشر، بذلك الظلام الذي يخيم على كل شيء، والقتامة في حياة من يتصورون أنهم ناجحون سعداء، فليس السطح اللامع لأسلوب الحياة الأمريكي سوى وهج الشمس ينعكس على بركة من الأوحال الأخلاقية، بالمعنى الاجتماعي للكلمة، حيث هناك قانون أساسي يحكم العلاقات: البقاء للأقوى.
سوف يبدأ كل شيء في الانهيار مع وصول وكيل نيابة جديد، يثيره بقاء جيمي هوايتي متسيدا عالم الجريمة، دون أن يتم القبض عليه أبدا، ومن هنا يسرع تساقط أعوان جيمي، الذين يحكون تفاصيل جرائمه، على أمل أن ينالوا عقوبة مخففة لتحولهم إلى شهود. ويضطر جيمي للاختفاء عن الأنظار لستة عشر عاما كاملة، يقضيها كذئب جائع وحيد، حتى يتم القبض عليه في النهاية، ويحكم عليه بالسجن مدى الحياة، وينتهي الفيلم بلقطات تسجيلية، عليها آثار "خربشة" الزمن، تصور قصاصات متناثرة من حياة جيمي هوايتي الحقيقية، فكأن الفيلم يقول لك: ليس ما رأيته خيالا سينمائيا، بل هو جزء من واقع الحياة في مثل هذا المجتمع.
في الحقيقة أن هوايتي لم يكن هو الذئب الجائع الوحيد في هذا العالم، فإذا كانت حياته الشخصية تتداعى بعد موت ابنه بمرض مفاجئ، وانفصال زوجته عنه، بينما تتصاعد نجوميته كمجرم، فإن الشقيق بيللي يلقى رفضا من زوجته أن يكون شريكا في تلك الشبكة السوداء، تماما كما أن زوجة الضابط جون تواجهه بأن ترقياته وماله جاءت عن طريق التحالف مع المجرمين. إنهم جميعا، حتى الذين يبدون كما لو كانوا قد حققوا النجاح، ذئاب جائعة منفردة، تشعر في أعماقها بالتعاسة، وربما أيضا الجوع إلى حياة تستحق أن تعاش.
سوف يدهشك هذا التناقض الكامل في حياة هؤلاء الذئاب بين المظهر والجوهر، وهوايتي هو أكبر مثال على ذلك التناقض، حين يتحدث عن "ميثاق الشرف". ولعلك تذكر مثلا ثلاثية "الأب الروحي"، ففيها بعض من هذا التناقض. إن هوايتي قاتل بارد، حتى أنه يكاد أن يستمتع بخنق ضحاياه بنفسه، لكنه ينهار عندما تخبره زوجته أنها قررت أن تنزع أجهزة الإبقاء على الحياة عن ابنهما الميت إكلينيكيا. وهو يعلم معاونيه الولاء، ويثير فيهم الخوف من انتقامه إذا شعر أنهم خانوه يوما، ومع ذلك فإنه أصبح زعيما للعصابة الأيرلندية بالوشاية عن المافيا الإيطالية. وهو يغرق في عالم قذر أخلاقيا، لكنه يوبخ أحد معاونيه لاتساخ أظافره وأصابعه. وهو يتعامل بقسوة مفرطة مع خصومه أو من يشك فيهم، لكنه يتسم بالطيبة مع جيرانه. وهو الأب الحنون الذي يبحث عن دفء الحياة الأسرية، لكنه أيضا ذئب جائع وحيد في ظلام المدينة. وهو لا يعرف دينا أو أخلاقا، لكنه يختلي بنفسه في الكنيسة باحثا عن عزاء.
لكن التناقض الأكبر، الذي يشكل جوهر فيلم "القداس الأسود"، هو بين المجرم والضابط، فمن المفترض أن كلا منهما يقف على طرف مناقض من القانون، لكن الحقيقة أن الخط الفاصل بينهما قد ذاب، فالضابط هو نفسه الذي أسهم في صناعة مجرم بهذه الخطورة. ذلك هو الجانب "الأسود" بحق في حياة الليل في المدن الأمريكية، وشغل كثيرا من السينمائيين الأمريكيين: شوارع نيويورك عند سكورسيزي، وشوارع لوس أنجلس المتلألئة بالأضواء في فيلم مايكل مان "ضحية بالصدفة"، وشوارع مينيسوتا الثلجية في فيلم الأخوين كوين "فارجو"، وهو ما يتجلى في فيلم "القداس الأسود" في تلك اللقطات الساكنة المتتالية، للشوارع الخالية لمدينة بوسطون في الليل، وعلى شريط الصوت موسيقى تثير الأسى والحزن.
إنه فيلم عن الذئاب الجائعة المنفردة، حتى وهي وسط زحام الناس، لكن الذئب الأهم جوني ديب ربما يفوز بجائزة الأوسكار عن هذا الدور، وإن كان في الحقيقة يستحق أن يفوز بها.
                                                   


فيلم "طرقات على الباب"... توليفة من العنف والرعب وأشياء أخرى!



تتمتع أفلام الرعب الأمريكية بسحر جماهيري خاص، أثار حيرة الكثيرين من النقاد والباحثين، فما الذي يدفع متفرجا للدخول إلى قاعة عرض مظلمة، يفترض أنه سوف يقضي فيها ساعتين من اللهو البريء، لكي يشعر في النهاية بالخوف والفزع؟ وتراوحت الإجابات تبعا لمجال من يقوم بالبحث، والغريب أنها كلها إجابات صحيحة، فالبعض يقول إن لدى كل إنسان رغبة "مازوكية" عميقة تستعذب تعذيب النفس، وكأنه يقوم بعملية "تطهير" بالمعنى الذي قصده أرسطو، وهذه الأفلام تحققها له، بينما يقول البعض إنها أفلام تسود في مجتمعات تبدو في ظاهرها هادئة مطمئنة، لكن تحت سطحها تكمن مخاوف هائلة عميقة، وهذه الأفلام توقظها.
لكن صناع الأفلام الأمريكيين استغلوا هذا النمط من الأفلام في أغلب الأحيان، ليصنعوا أفلاما تجارية ذات مظهر يبدو مثقفا متفلسفا، وهذا ما حدث في فيلم "طرقات على الباب" Knock Knock، والذي مزج الرعب بالعنف والجنس أيضا، في محاولة لتقديم وجبة شهية – وإن كانت تشبه ما يسمى "طعام النفايات" في الوجبات السريعة – يمكنك أن تستخرج منها بعض المعاني، أو تجد عناصر هنا وهناك من البراعة السينمائية، لكن القليل هو الذي سوف يتبقى في ذهنك بعدها، سوى درس أخلاقي لا أعتقد أنه كان من نوايا صناع الفيلم، لكن التوليفة هي التي قادتهم إلى ذلك.
والمخرج إيلي روث يعشق هذه النوعية من الأفلام، وهو يعرف يقينا أنه يصنع أفلاما تجارية، أو ما يسمى بشكل أكثر دقة "أفلام استغلال الموضوعات الخاصة"، مثل العنف أو الجنس أو العنصرية (الزنوج). وفي معظم هذه الأفلام هيكل عظمي لحبكة واحدة: مكان منعزل لأناس يعيشون حياة هادئة، وفجأة يحدث اقتحام من أناس آخرين هم على العكس تماما، متوحشون غوغائيون أو حتى قتلة. وهذا بالضبط هو ما يحدث في فيلم "طرقات على الباب".
تأتي المشاهد الأولى لتعبر عن تلك الحياة المستقرة لأسرة تبدو من الشريحة العليا للطبقة الوسطى الأمريكية، فالأب إيفان (كيانو ريفز) والأم كارين (إجناسيا ألاماند) يبدوان عاشقين كأنهما ما يزالان في مرحلة توهج الحب الأولى، لكنك سوف تعرف على الفور أنهما أب وأم لطفل وطفلة جميلين، وأن الأم سوف تذهب بالطفلين إلى الشاطئ لقضاء أجازة عيد الأب، بينما – وتلك هي المفارقة – سوف يبقى الأب وحيدا فى المنزل، لأنه ما يزال يعاني من آلام في كتفه، لكن الحقيقة أن الحبكة تختلق ذلك اختلاقا، فكل ما تريده هو أن يبقى الأب في المنزل وحيدا، ليمر بتجربة الرعب العبثية التي ما تزال في رحم الغيب، لينقلب يوم عيده جحيما بالمعنى الحرفي للكلمة.
لكن هذا الجحيم يبدأ مثل نار هادئة دافئة، فبينما هو يكمل بعض أعماله، ويستمع إلى موسيقى يعشقها، ينصت فإذا بطرقات على الباب: "طق طق"، "من بالباب؟"، هكذا يقول، كأنها لعبة يمارسها أطفال، لكنه عندما يفتح الباب يجد فتاتين جميلتين بلل المطر ملابسهما، يقولان أنهما ضلا الطريق إلى غايتهما، ويطلبان منه مساعدتهما، فيدعوهما إلى الدخول لاستخدام الهاتف، لكن ترحيبه يصل أيضا إلى الدعوة لأخذ ملابسهما لتجفيفها. على سطح الدراما هناك قدر من البراءة، يتجلى في بساطة ومرح الفتاتين، وفي معرفتك السابقة إن الزوج يعشق زوجته، لكن تحت السطح يتسلل إلى وجدانك سؤال: أليس هذا الموقف مشحونا ضمنا بإغراء خفي؟ ألا يدرك إيفان أنه يقف على حافة هاوية، سوف ينزلق منها لو تقدم خطوة واحدة؟ لكن الأسئلة هنا لا تجديك نفعا، فالحبكة تريد أن تمضي في طريقها المرسوم، بصرف النظر عن أي منطق واقعي.
سرعان ما سوف تتحرر الفتاتان من تكلف التهذيب، وتعرفان نفسيهما: جينيسيس (لورينزا إيزو، زوجة المخرج إيلي روث، وممثلته في العديد من أفلامه)، وهي تبدو أكبر سنا وخبرة وسيطرة على الأمور، بينما الأخرى التي تبدو صغيرة السن بيل (أنا دي أرماس) تتصرف كأنها مراهقة تلهو دون إدراك. وتقولان – كذبا - إنهما مضيفتان، اعتادتا السفر من مكان إلى مكان، وأنهما لا يقيمان وزنا لعمق العلاقات، فحياتهما لا تسمح لهما إلا بلحظات عابرة من المتعة. وهنا تبدآن في إيقاع إيفان في حبائلهما، فهي ليست إلا ليلة في غياب الزوجة والأسرة، ليقع إيفان في الفخ.
إن كان هناك في الفيلم ما يمكن أن تقول عنه إنه بارع في تنفيذه، فهو بلا شك أن الجزء الأكبر منه ومن الدراما يحدث في هذا المكان المغلق، وبثلاث شخصيات فقط، كما تتجلى البراعة في تصاعد الأحداث شيئا فشيئا من الهدوء الظاهر إلى الفوضى الكاملة. لكن ذلك لا يخفي أيضا قدرا من الافتعال سوف نتحدث عنه لاحقا، ففي الصباح التالي تبدأ الفتاتان في العبث بمحتويات المنزل، وإشاعة الفوضى فيه، ليستيقظ إيفان على بداية الكارثة، فيأمرهما بالرحيل فورا وإلا سوف يبلغ الشرطة، فيردان بأنهما ما تزالان مراهقتين وأن ذلك سوف يعرضه لتهمة اغتصابهما، وهي الحجة التي سوف نعرف في النهاية أنها كذبة، استخدماها لتهديده بما يسمح لهما بمزيد من التدمير لحياته.                                 
إنه التدمير الذي تحطمان فيه التماثيل التي صنعتها الزوجة، وتقتلان مساعد الأسرة الزنجي ويدفنانه في حديقة المنزل، وتعذبان إيفان بشكل جنسي مريض، وتصوران علاقته بهما ويبثانها على الإنترنيت، وتحفران حفرة كبيرة تضعانه فيها ولا تتركان سوى رأسه خارجها، وترحلان كأنهما سوف تبحثان عن ضحية جديدة، بينما تعود الأسرة لتجد هذه الفوضى، لينتهي الفيلم بجملة قد تبدو طريفة لكنها ساذجة، تأتي على لسان الابن حين يقول" "يبدو أن أبي أقام حفلة كبرى"!!
يذكر موقع "قاعدة معلومات السينما العالمية" imdb أن فيلم "طرقات على الباب" إعادة صنع لفيلم من عصر أفلام مقاولات الفيديو، هو "لعبة الموت" (1977)، لكن عندما يتأمل المرء الفيلم لا يجد سببا لصنعه، سوى أنه تنويع آخر على سينما مزج العنف والرعب والجنس. وربما يدعونا الفيلم إلى مقارنته في بعض خطوطه بأفلام أخرى، تتراوح بين الرومانسية الخالصة والعنف المفرط. لقد تحدث مثلا فيلم "هرشة السنة السابعة" من بطولة مارلين مونرو عن زوج مخلص ذهبت أسرته للمصيف، وبقى هو وحيدا، لتسكن في الشقة العلوية امرأة جميلة خفيفة الظل، ليستيقظ داخل الزوج إحساس بالرغبة في الحب من جديد، لكن الفتاة في الحقيقة تتلاعب به في براءة ممزوجة بالإغراء، كانت جديرة بمارلين مونرو. بينما كان فيلم بالغ العنف مثل "البرتقالة الآلية" لستانلي كوبريك يصور هجوم الغوغاء على الطبقة الوسطى، وتدمير حياتها الهشة، التي تخفي تحت سطح الثقافة والحضارة قدرا كبيرا من الهشاشة والخواء.
ليس هناك في "طرقات على الباب" معنى أعمق من ظاهره، وهو لم يهتم أصلا بذلك، كما لا يهتم بتفسير الكثير من الجوانب، التي بدت مثل الثقوب في الدراما. إنك لن تعرف أبدا من تكونان هاتان الفتاتان، من أين جاءتا وإلى أين سوف تذهبان، وكيف لهما أن تعرفا تفاصيل حياة إيفان وعلاقته بطفليه، ولماذا تفعلان أصلا كل ما تقومان به من تدمير، ناهيك عن أنه إذا كان إيفان قد فتح لهما الباب لأول مرة، فكيف تأتى لهما معاودة الدخول إلى المنزل بعد أن طردهما، كما يظل هناك سؤال بدهي، يتعلق بما يسمى "الاقتصاد في الشخصيات"، فما هي ضرورة وجود مساعد الأسرة الزنجي، الذي يمر بالصدفة، ويموت قتيلا بالصدفة؟
كل العناصر في الفيلم مهما بلغ إتقانها ليس لوجودها مبرر سوى أن تكون أداة لإضافة مزيد من الرعب المصطنع، تماما مثل حركة الكاميرا فوق المدينة لتنتهي إلى داخل منزل إيفان، كأنها روح غامضة محلقة مخيفة، دون أن تكون "من وجهة نظر" ما قد تفيد الدراما. وإن كنت تبحث عن تلخيص لمثل هذا الفيلم، فهي نصيحة للمتفرج ألا يفتح باب منزله للغرباء أثناء الليل، وألا يخون زوجته أيا كانت الإغراءات، والأفضل ألا يرد أصلا على أي "طرقات على الباب"!! 
              


Friday, January 08, 2016

أفلام الحرب بين العنف والشعر



من الشائع في أذهاننا أن النمط السينمائي المعروف باسم "الفيلم الحربي" لابد أن يحتوي على مشاهد لمعارك ومواقع حربية، وهو ما يحتاج بالطبع إلى ميزانيات كبيرة وتقنيات عالية. لذلك يبرر سينمائيونا عدم وجود أفلام تسجل لبعض حروبنا بأن هذا فوق إمكاناتهم، ولعل في هذا بعض الحقيقة، لكنه ليس الحقيقة كلها، فاختزال أفلام الحرب إلى مشاهد حربية يعكس مفهوما قاصرا إلى حد ما، إذ يتجاهل الهدف أو الأهداف من صنع ما يسمى أفلام الحرب.
لماذا حقا تقوم صناعة سينمائية بصنع أفلام حربية أو عن الحرب؟ هناك طيف واسع من الأسباب، التي قد تصل إلى حد التناقض أحيانا، وسوف نرى هنا كيف أن من الممكن أن تصنع فيلما يشيد بالحرب، ويخلع على المحاربين صفات البطولة، بينما هناك أفلام أخرى تدينها، باعتبارها تحول البشر إلى وحوش. كما أن هناك أفلاما تحتشد بأصوات طلقات الرصاص والمدافع، وأشلاء الضحايا وأكوام الركام، في الوقت الذي توجد فيه أفلام تدور عن الحرب دون أن تصور معركة حربية واحدة، فهي تركز بدلا من ذلك على الجوانب النفسية والاجتماعية التي تتسبب فيها الحروب.
وربما أتى المفهوم السائد عن الأفلام الحربية من أغلب أفلام هوليوود، خاصة تلك التي تدور حول البطولة الأمريكية (المزعومة إلى حد كبير) في الحرب العالمية الثانية. ومنذ خمسينيات القرن العشرين، وبسبب "الحرب الباردة" بين الكتلتين الغربية والشرقية، عملت هوليوود على صنع أفلام تمجد مآثر الجنود الأمريكيين بينما تقلل من شأن جنود الجبهات الأخرى. ولعل أبناء الجيل الأكبر من متفرجينا يتذكرون أفلاما مثل "مدافع نافارون" أو "دستة أشرار"، التي تبدو في ظاهرها تتحدث عن بطولة "جماعية"، لشخصيات درامية مرسومة جيدا لكي تعكس الصراعات بينها أيضا، وهي في الوقت ذاته تسعى لتحقيق مهمة عسكرية تحوطها المخاطر، لكن التناقضات بين الشخصيات تذوب في النهاية بفضل الضابط الأمريكي "القائد"، الذي يستجيب له الجميع، حتى تنتهي المهمة بالانتصار.
ولا يخفى علينا بالطبع أن مثل هذه الأفلام مصنوعة لأهداف سياسية ومعنوية، حتى لو شوهت الحقيقة قليلا أو كثيرا، فدخول أمريكا الحرب العالمية الثانية جاء متأخرا، بعد أن أدركت أنها ليست بعيدة بما يكفي لكي تترك العالم يتطاحن بينما تكتفي هي بالفرجة من بعيد، خاصة بعد الهجوم الياباني على ميناء "بيرل هاربر" الأمريكي. كما أن هوليودد لم تتحدث مثلا عن ملايين الجنود السوفييت الذين ماتوا لكي يوقفوا زحف القوات الألمانية، أو عن المقاومة الفرنسية للاحتلال الألماني. ففي هذا النوع من الأفلام كانت هوليوود تعمل لهدف "دعائي" خالص.
ولهذه الأفلام الدعائية توليفة واحدة، حيث يوجد قدر هائل من التنميط: أبطال الفيلم الأمريكيون يمثلون الخير، بينما يجسد العدو جانب الشر. إن هذا ما تجده في أفلام عاودت الظهور في فترات لاحقة، مثل "رامبو" أو "سقوط الصقر الأسود"، وفيها جميعا حيلة درامية بارعة، هي جعل المتفرج يرى العالم من وجهة نظر "البطل" وحده، بينما لا يكاد يظهر وجه "العدو" على الإطلاق، الذي يجسد خطرا غامضا يخلو من أي ملامح إنسانية. ولعل أهم الأفلام في هذا السياق هو "إنقاذ الجندي رايان"، الذي برع مخرجه الشهير ستيفن سبيلبيرج في تصوير مشاهد المعارك، لكنه أضاف لها نزعة تسجيلية تجعلك تشعر أنك في قلب المعركة ذاتها، وتذوب في توحدك مع شخصيات الجنود الأمريكيين، فعندما تنفجر قنبلة يغيب شريط الصوت للحظات في الصمت، ليحاكي ما يحدثه الانفجار في الأذن، أو تغرق الكاميرا تحت سطح الماء أحيانا بينما يناضل الجنود للنزول على شاطئ نورماندي.
يمكنك أن تجد عشرات الأمثلة على هذا النوع من الأفلام الحربية الدعائية، لكننا سوف نتوقف هنا قليلا أمام تنويعات مختلفة، لنرى كيف أن هذا النمط الفيلمي يتسع ليشمل العديد من الأشكال والمضامين. إن هذا الطيف يمتد مثلا من النزعة التسجيلية الخالصة في فيلم "أطول يوم في التاريخ"، الذي يخلو من الرسم الدرامي التقليدي للشخصيات أو الصراع، لترى على الشاشة شخصيات الضباط والجنود وإلى جانبهم أسماؤهم، أو ترى تتابع عقارب الساعة عبر الزمن في أحداث يوم من أيام الحرب العالمية الثانية، هو مرة أخرى يوم النزول على شاطئ نورماندي. لكن طيف الأفلام يصل مع "بيرل هاربر" إلى نزعة مغرقة في الرومانسية الميلودرامية، حيث يصبح جوهر الفيلم هو تيمة العلاقة المركبة بين "امرأة ورجلين"، وقصة الحب والتضحية كما في الأفلام العربية التقليدية تماما!!
ولعل أهم الأفلام التي تناولت الحرب لكي تقف موقفا مناهضا لها هو الفيلم الفرنسي المعاصر "خطبة طويلة جدا"، وفيه شابة تبحث عن خطيبها الذي ذهب إلى الحرب، لتتحول "الرحلة" التي تقوم بها إلى قصيدة مأساوية عن ويلات الحرب وعبثيتها. وفي الحقيقة أن هناك في تراث السينما العالمية مجموعة ليست بالقليلة من الأفلام التي تدين الحروب، مثل الفيلم الفرنسي "الوهم الكبير" لأهم مخرجي السينما الفرنسية خلال النصف الأول من القرن العشرين جان رينوار، أو الفيلم العبقري للفنان العظيم شارلي شابلن "الديكتاتور العظيم"، الذي يحول عملا كوميديا راقيا نرى فيه صعلوك شابلن التقليدي، شبيها بالقائد النازي أدولف هتلر (من المفارقات الطريفة بالفعل أن هتلر كان يقلد شابلن في مظهره!!)، لكي يقف الصعلوك في نهاية الفيلم بديلا عن هتلر يخطب في قواته، لتأتي واحدة من أفضل اللحظات السينمائية في فيلم عن الحرب، لكي تتحدث عن السلام بين البشر جميعا.
من التنويعات المهمة الأخرى أفلام يتناقض شكلها مع مضمونها، وهي الحيلة السينمائية التي برع فيها المخرج ستانلي كوبريك، صاحب أكثر الرؤى قتامة عن "المدنية الغربية"، فهو في فيلم "خزانة مدفع مليئة بالطلقات" يصور كيف أن التدريب العسكري يحول الجنود الشباب إلى وحوش، إنهم يفقدون براءتهم ويصبحون آلات للقتل بالمعنى الحرفي للكلمة. بينما يقدم في "دكتور سترينجلاف، أو كيف توقفت عن القلق وأحببت القنبلة" رؤية بالغة السخرية والمرارة تبدأ من هذا العنوان الغريب، حيث يجتمع قادة العالم المتخاصمون في "غرفة الحرب" لكي يحددوا مصير البشرية، لكننا نراهم شخصيات مشوهة تماما، بينما يهرب ضابط مصاب بالعجز الجنسي بطائرته التي تحمل قنبلة نووية، مهددا بدمار شامل، فكأن الحرب في حقيقتها تعكس عجزا عميقا عن التواصل مع الآخرين.
وتصل هذه السوداوية إلى حدها الأقصى في الأفلام التي تتحدث عن قدامى المحاربين، الذين عادوا من الحرب بتشوهات نفسية أحيانا، أو عادوا أحيانا أخرى بحلم عن وطن أفضل سوف يخيب أملهم فيه. وإذا كان فيلم "العودة إلى الوطن" يحكي عن هذه التجربة في أعقاب حرب فييتنام بشكل لا يخلو من رومانسية أسيانة، فإن فيلم المخرج الشهير مارتين سكورسيزي "سائق التاكسي" يحتشد بقدر هائل من المرارة، إن البطل قد عاد من فييتنام ليعمل في ساعات الليل سائقا لسيارة أجرة، فكأنها فرصته لكي يرى العالم السفلي لمدينته التي حلم بالعودة إليها، فإذا بها تجسد عالما قاتما كئيبا، مما يدفعه لأن يقرر أن يأخذ طريق "الانتقام" الفردي ممن يتصورهم أشرارا، وإذا كنت تراه في بعض اللحظات وقد تحول إلى إرهابي، فأنت تدرك أنه قد نصب من نفسه قاضيا وجلادا، لأنه في الحقيقة ضحية لحرب لم تكن عادلة أبدا.
وهكذا يتحول تناول تيمة "الحرب" في السينما أحيانا، وعلى يد فناني السينما المرهفين، إلى تأمل أكبر وأشمل لقضايا إنسانية أعمق، وهو ما يبدو واضحا في فيلم المخرج تيرانس ماليك "الخط الأحمر الرفيع"، الذي يعود فيه إلى عالم الحرب العالمية الثانية، لكن ليس أبدا لكي يتحدث عن البطولة، وإنما عن الصراع الدائم بين الإنسان والطبيعة، وبين الإنسان والإنسان، في مشاهد تتعدد فيها الأصوات التي تسرد الوقائع، كما تتعدد الرؤى، ليصبح الفيلم الحربي هنا قصيدة فلسفية بالمعنى الكامل للكلمة.
لكن يبقى السؤال: أين موقع السينما المصرية من هذه التنويعات؟ وهل ظلت أسيرة لمفهوم ضيق عما نسميه "الفيلم الحربي"؟!
في كل مناسبة من مناسبات أعيادنا القومية، لا يجد التليفزيون إلا عددا محدودا من الأفلام التي تواكب هذه المناسبة أو تلك، حتى أن المتفرج يجد نفسه محاصرا بفيلم شاهده عشرات المرات من قبل. خذ مثلا الاحتفال بحرب أكتوبر، التي يعتبرها المصريون والعرب الحرب التي أكدت قدراتنا على مواجهة العدو الإسرائيلي، ودحض دعواه الزائفة عن أسطورة الجيش الذي لا يُقهر، فسوف تجد نفسك تشاهد في التليفزيون أفلاما من نوعية "بدور" أو "الوفاء العظيم"، وأقل ما يقال عنها أنها أفلام متواضعة، ناهيك عن أن "حرب أكتوبر" فيها لا تعني شيئا حقيقيا، فجوهر الدراما يدور حول قصة غرامية كررتها السينما المصرية مئات المرات، وليست الحرب فيها إلا "أزمة" يمكن أن تبدلها بأخرى، دون أن يترك ذلك أثرا في "الحدوتة"!!
ودائما ما تسمع من صناع الأفلام المصرية تبريرا متكررا، حول ندرة الأفلام التي تدور عن الحرب أو تواضع مستوى هذه الأفلام، وهو تبرير "الإمكانات" المادية التي تجعلهم يعجزون عن تنفيذ مشاهد المعارك، لهذا تراهم يستعينون بلقطات تسجيلية أرشيفية تتكرر من فيلم إلى آخر على نحو لا يخلو من رتابة أو حتى سذاجة، بل المثير أكثر للشفقة أو المرارة أن تلك اللقطات ليست تسجيلية بحق، فلأن صناع سياساتنا لا يؤمنون حقا بدور السينما، لم تكن هناك قوافل سينمائية تصاحب الجنود في المعارك الحقيقية، ولتقارن ذلك بأرشيف سينمائي هائل عن الحرب العالمية الثانية من على كل الجبهات، ورقم يثير الرهبة لعدد المصوريين السينمائيين الذين لقوا حتفهم في المعارك، لأنهم كانوا يصاحبون الجنود كتفا بكتف!!
لكن بعيدا عن مقولة صعوبة تنفيذ المعارك الحربية بموارد سينمائية محدودة، سوف تجد السينما المصرية قد تناولت تيمة الحرب دون اللجوء لهذه المشاهد باهظة التكاليف. وفي بعض الأحيان تتحول هذه التيمة إلى مجرد خلفية مقحمة، مثل فيلم المخرج خيري بشارة "الأقدار الدامية"، والذي هو في جوهره اقتباس عن مسرحية الكاتب الأمريكي يوجين أونيل "الحداد يليق بإلكترا"، فلأن الدراما تدور حول انتقام فتاة من أمها التي خانت أباها وهو في الحرب (تلك هي الأسطورة الإغريقية القديمة عن أجاممنون)، فلن يجد صناع الفيلم حربا سوى حرب فلسطين في عام 1948 (!!)، وهم إذا كانوا قد تمتعوا بذكاء استخدام عناوين صحف تلك الأيام، بديلا عن تصوير معارك فعلية، فإنهم جردوا تلك الحرب من مضمونها تماما، لتصبح – مرة أخرى – مجرد ذريعة درامية للحبكة. وهو التناول السطحي ذاته الذي وقعت فيه أفلام مصرية قديمة مثل "وداع في الفجر" (المقتبس عن "جسر ووترلو")، أو "نادية" الذي عادت فيه عزيزة أمير إلى السينما، واستخدم بدوره حرب فلسطين على نحو بالغ الميلودرامية في قصة مغرقة في العاطفية.
قارن ذلك بما فعله يوسف شاهين في "اليوم السادس"، فبرغم انتقائية الفيلم في أسلوبه، وتشتته في العديد من الأفكار والأشكال السينمائية، فإنه لمس حرب فلسطين على نحو هامشي وإن كان مرهفا، فهناك شخصية رفحي التي قام بها يوسف شاهين نفسه، إنه صاحب دار عرض تقدم أفلاما أمريكية، لكنه عندما يرى اندلاع الحرب يقرر أن يغلق السينما ويذهب للانضمام إلى صفوف المقاتلين، وكأنها أمنية من يوسف شاهين بصنع أفلام تدافع عن المعارك القومية بحق، لولا أنه في الواقع غرق كثيرا في عالمه الذاتي الضيق!! إنه العالم الذاتي الذي استولى على "اسكندرية ليه"، فبرغم ما يبدو أن "بانوراما" للمجتمع المصري خلال السنوات الملتهبة في الأربعينيات، بين الحرب العالمية الثانية وحرب فلسطين، فقد ظلت مجرد خلفية للصراع الداخلي للشخصية الرئيسية التي تمثل يوسف شاهين في فترة شبابه المبكر.
ومن الحق القول أن هناك أفلاما مهمة وإن تكن منسية في تاريخ السينما المصرية، دارت حول الحرب، لكن من المفارقات أنها كادت أن تقتصر على حرب العدوان الثلاثي فقط، مثل فيلم "بورسعيد" الذي أنتجه وقام ببطولته فريد شوقي، وهو الفيلم الذي لم يكن مقدرا صنعه لولا مساندة الزعيم الراحل عبد الناصر. كما أن فيلم "عمالقة البحار" يحكي عن فترة من أهم فترات المد القومي، حين اشترك ضابط البحرية السوري جول جمّال في معارك العدوان الثلاثى واستشهد، كعلامة على أن حروب الأمة العربية هي في الحقيقة معركة واحدة، إن صحت الرؤية وصدق الهدف. ويبقى فيلم "أغنية على الممر" عن حرب 1967، وهو الفيلم الذي يدحض دعوى قصور الإمكانات، فقد تم إنتاج الفيلم من خلال "جماعة السينما الجديدة" التي لم تكن تملك سوى اشتراكات أعضائها، لكن الفيلم يخلق نسيجا متشابكا وحيا من خلال مجموعة من الجنود المصريين المحاصرين، لينتقل الفيلم في الزمان والمكان ليحكي عن عالم كل منهم، وكيف لهم أن يواجهوا الأزمة عندما يدركون وحدة المصير.
هناك أفلام أخرى بدت للوهلة الأولى كأنها بعيدة في الزمن التاريخي، لكنها في الحقيقة كانت تحكي عن الزمن المعاصر، مثل "الصقر" الذي كان إنتاجا مشتركا بين مصر وإيطاليا، وأخرج نسخته المصرية صلاح أبو سيف، وهو فيلم قد يراه البعض ينضوي تحت نمط "السينما البدوية"، لكنه في أعماقه يحكي عن قبائل عربية مشتتة، وضرورة وحدتها في مواجهة عدو يتسلل إلى البلاد تحت زعم التحديث، في إشارة إلى العدو الصهيوني. كما أن فيلما مثل "الناصر صلاح الدين" لا يمكن أن يخطئ المتفرج دلالته، فبرغم أنه يحكي عن الحروب الصليبية، وبطولات صلاح الدين الأيوبي، فهو في جوهره يتحدث عن "هنا والآن"، لأن السياق بين التاريخ والواقع المعاصر سياق متشابه إلى حد كبير.
لكن من الدلالات المثيرة للاهتمام أن أغلب الأفلام التي تماست مع حرب أكتوبر لم تكن تخلو من المرارة، ربما لأن الإحساس العام بهذه الحرب كان أنها سُرقت بسبب الانفتاح العشوائي تارة، وانقلاب ميزان القيم الاجتماعية، أو بسبب الشعور بأنها ضاعت بعدما حدث في "كامب ديفيد" وما تلاها. في "سواق الأوتوبيس" على سبيل المثال مشهد مهم، لأصدقاء قدامى كانوا زملاء الجندية أثناء الحرب، وهو يلتقون عند سفح الأهرام في الليل، ينعون ما وصل إليه حال كل منهم، خاصة وأنت تعلم أن البطل عاجز عن حماية "ورشة" أبيه، التي تمثل له ولنا رحلة كفاح طويلة. أما في "كتيبة الإعدام" يصبح الرمز أكثر مباشرة، فالسرقة هنا حقيقية، من جانب شخص شرير سرق مرتبات الجنود واختفى، بينما اُتهم البطل ليسجن عدة سنين، وهاهو يخرج من السجن ليبحث عن المجرم الحقيقي.
لكن فيلم "المواطن مصري" يشير إلى الجاني منذ اللحظة الأولى، ودون الوقوع في أسر الحبكة البوليسية أو المواقف الميلودرامية: إن العمدة الإقطاعي يسرق الشهيد ذاته، ابن الفلاح العجوز المكافح، لينسبه إلى نفسه، في محاولة لإخفاء معالم الجريمة الكبرى، جريمة سرقة وطن بأكمله. غير أن فيلما مثل "ناصر 56" لا يعمد إلى الدراما التقليدية ذاتها، ليسير في خطوط أقرب للمسحة التسجيلية، ليسجل كل المشاعر والأفكار المرهفة في فترة حرجة من التاريخ المصري، في تلك الشهور القليلة التي سبقت تأميم القناة والعدوان الثلاثي. ولم يكن غريبا أن هذا الفيلم الذي عرض في صيف 1996 حقق إيرادات ضخمة على عكس المتوقع، ولعله كان بداية اكتشاف السينما المصرية لأهمية الموسم الصيفي. لم يكن نجاح فيلم "ناصر 56" راجعا إلى أنه فيلم تجاري، أو حتى أنه دار بشكل تقليدي عن أحد حروبنا المهمة، لكن لأنه لمس ما يجب أن يكون عليه الفيلم الحربي، أن يكون عن البشر وليس عن المدافع، وعن مشاعر وطنية وقومية صادقة طال اشتياق الجمهور إليها، ونرجو ألا يطول هذا الاشتياق.