Tuesday, March 08, 2016

سينما المراهقة، ومراهقة السينما




تدرك صناعات السينما الراسخة أن من المهم لها أن تحدد جمهورها، وهو الجمهور الذي لا يظل ثابتا في كل مرحلة تاريخية أو منطقة سكانية، إذ يتغير من جيل إلى آخر وحتى من حي إلى حي آخر، فجمهور بداية الثلاثينيات في أمريكا كان من العاطلين عن العمل وسط الأزمة الاقتصادية الطاحنة، لذلك صنعت لهم هوليوود أفلام تسلية هروبية، تنتهي دائما نهاية سعيدة تلهيهم عن واقعهم المأساوي. وجمهور أحياء الزنوج ينتظر بالضرورة أفلاما من بطولة نجوم زنوج، وهذا ما حدث مثلا مع صعود نجومية سيدني بواتييه. أما جيل المراهقين الذي وصل إلى النضج في وسط الخمسينيات، فقد شعر بإحساس اللا انتماء لأنه لم يعش آلام الحرب العالمية الثانية، التي لا يتوقف الجيل الأكبر عن الحديث عنها، لذلك ظهرت مجموعة كبيرة من الأفلام التي تتحدث عن مشكلات المراهقين، كان من بين نجومها جيمس دين.
وفي المرحلة الحالية تكاد أفلام المراهقين الأمريكية أن تحتل مركز الصدارة، بسبب تحول السينما إلى نظام "الشاشات المتعددة" في الأسواق التجارية الكبيرة، حيث يقضي المراهقون أوقات فراغهم. وتنوعت أفلامهم حتى أنها شملت كل الأنماط الفيلمية، بدءا من الخيال العلمي وحتى أفلام الرعب. على النقيض، تبدو السينما المصرية بعيدة عن دراسة شرائح الجمهور دراسة جادة، ونجاح فيلم بالصدفة يؤدي إلى استنساخه في أفلام عديدة، مثلما حدث مع موجة ما أطلقوا عليه "سينما المضحكين الجدد" بعد نجاح "اسماعيلية رايح جاي".
لذلك تأخرت السينما المصرية كثيرا في توجهها للمراهقين، وبدت هذه النوعية من الأفلام متناثرة إلى حد كبير، كما كانت أقرب إلى الاصطناع، الذي يتجلى في أن النجوم الكبار هم أنفسهم كانوا يقومون بأدوار المراهقين. تأمل على سبيل المثال فيلم نهاية الأربعينيات "الجيل الجديد"، حيث يلعب حسين صدقي دورا هو في حقيقته تنويع على دوره السابق في "العزيمة"، أما في منتصف الخمسينيات، فقد ظهرت أفلام تبدو من عناوينها كأنها تعالج مشكلات المراهقين، مثل "بنات اليوم" و"شباب اليوم"، وفي الأول كان عبد الحليم حافظ يمثل المراهق العاقل، بينما أحمد رمزي هو الطائش، وفي الثاني لعبت مريم فخر الدين دور المراهقة في حبكة ميلودرامية صارخة، حين تكتشف بمزيد من الألم أنها ليست ابنة العائلة التي تربت وسطها.
وإذا كان فيلم "المراهقات" يعلن في عنوانه عن موضوعه، فإن مضمونه لم يختلف كثيرا عن أفلام الميلودراما العاطفية، مع مسحة من فكرة صراع الأجيال، كما أن بطلته ماجدة كان من المؤكد أنها تخطت تلك المرحلة من العمر. وربما كانت زبيدة ثروت – بفضل براءة ملامحها في بداياتها - هي أول ممثلة تظهر في مرحلة مراهقة حقيقية في فيلم "بنت 17"، الذي يحكي عن أن الحب الحقيقي يهزم العوائق، ويتخطى الأجيال الأكبر التي فقدت براءتها. ولأن السينما (والمجتمع أيضا) كانا مشغولين خلال معظم الستينيات بصعود الطبقة الوسطى، فإنها لم تجد ضرورة لأن تخصص أفلاما عن المراهقين وتتوجه لهم.
فجأة، في النصف الأول من السبعينيات، ومع تحلل الاستقرار الاجتماعي، ظهرت نوعية من الدراما المسرحية والسينمائية تتسم بنوع من التهريج، وتجلى ذلك في فيلم "مدرسة المشاغبين" المأخوذ عن المسرحية المعروفة بالاسم ذاته، وهي بدورها مقتبسة بقدر كبير من الخفة من الفيلم الذي صنع نجومية سيدني بواتييه "إلى أستاذي مع حبي"، ولك أن تتخيل أن يقوم بدور المراهقين نور الشريف ويوسف فخر الدين ومحمد عوض، بينما قامت ميرفت أمين بدور المدرسة. ومن عجائب السينما المصرية أنها وجدت في هذه "الحدوتة" ما يستحق صنع فيلم آخر عنها في بدايات القرن الحادي والعشرين، وهو فيلم "عودة مدرسة المشاغبين"، وأدت دور المدرسة فيه ميمي جمال!!
لكن ذلك العقد أيضا شهد نوعية أكثر رهافة من الأفلام التي تتناول موضوع المراهقين، وجاء ذلك متوافقا مع بداية يسرا في عالم التمثيل، ليظهر فيلمان الأول في بداية العقد هو "بيت من رمال"، والآخر في نهايته هو "عشاق تحت العشرين، وفيهما كليهما حديث عن حق الجيل الجديد في الحب، واختيار شريك حياته. وإذا كان الفيلم الأول قد انتهى نهاية مأساوية، فإن النهاية السعيدة جاءت في الفيلم الثاني عن طريق تجاوز البطلة مرحلة المراهقة، بما يؤهلها للزواج بشكل مستقل عن تسلط عائلتها!
من جانب آخر، كان الممثل محسن محيي الدين قد بدأ في بداية التسعينيات الاستقلال عن يوسف شاهين، ليجرب حظه في عالم التأليف والإخراج أيضا، في فيلمه الوحيد "شباب على كف عفريت"، الذي لم يحقق نجاحا كبيرا وإن كان يستحق هذا النجاح في سياق السينما المعاصرة. إن الحبكة هنا تكاد أن تكون "فيلما هنديا" مكتمل الشروط، إذ يحكي عن ثلاثة أشقاء تفرقت بهم السبل (محسن محيي الدين، نسرين، محمد منير)، وتربى كل منهم بعيدا عن الشقيقين الآخرين، ليجتمعوا في النهاية عندما يسمعون أغنية كان أحدهم يغنيها لهم في صغره، ناهيك عن مزيج الرقص والغناء و"الأكشن" أيضا. وفي معالجة أكثر نضجا يظهر محسن محيي الدين في فيلم آخر هو "اللعب مع الشياطين"، هذه المرة من إخراج أحمد فؤاد، ويحكي عن مجموعة من المراهقين متواضعي الحال، الحالمين بمستقبل أجمل، لكن بعضهم يقع في براثن إغراء كسب المال بطرق غير أخلاقية، لينتهي الفيلم بهم وقد أفاقوا، لتتحول الحبكة إلى فيلم بوليسي، حين يتعاون الأبطال في القبض على المجرمين.
مرة أخرى تختفي أفلام المراهقين، لتعود بعد عقد كامل مع فيلم المخرجة إيناس الدغيدي "مذكرات مراهقة"، الذي يزعم أنه يتناول خيالات فتاة مراهقة، تتجسد أمامنا على الشاشة في شكل استعراضي (!). وعندما تفيق الفتاة من أوهامها، وتواجه خطرا على أحلامها، يكون حل الفيلم لها أن تغادر مصر، باحثة عن "الحرية". وفي تجربة نادرة وسط سياق لا يعرف إلا النجوم، حاول المنتج حسين القلا أن يصنع نجوما من المراهقين، في فيلم "أوقات فراغ"، من بطولة أحمد حاتم وعمرو عابد وكريم قاسم وأحمد حداد، ويحاول الفيلم تصوير تنويعات مختلفة من المشكلات التي يواجهها الجيل الراهن. ونجحت التجربة إلى حد ما، ليعاد صنعها في فيلم "الماجيك"، الذي فشل فشلا ذريعا لأنه لم يكن إلا ظلا باهتا للفيلم الأول، وافتقد حيويته.
هل لم تستطع السينما المصرية إذن أن تقدم سينما ناضجة للمراهقين؟ هناك أفلام نادرة حققت قدرا كبيرا من النجاح الفني، لكن ربما أنها لم تحقق نجاحا تجاريا. ومن هذه الأفلام "احنا التلامذة"، عن جيل من المراهقين يواجه الضياع بسبب غياب الوالدين عن القيام بواجبهم في التربية، لتنتهي المصائر بالفتيان إلى ارتكاب الجرائم والقتل. وفي "أسرار البنات" محاولة للمس وتر حساس في فترة المراهقة، مع المشاعر الجسدية الجديدة، وما قد يواجه المراهقين من آلام نتيجة ذلك. وأخيرا يأتي فيلم "الأبواب المغلقة"، عن المراهق (أحمد عزمي) الذي يشهد تغيرات من حوله لا يملك دفعها، تغيرات تكاد أن تدمر علاقاته الأسرية، وتفضي به إلى أحضان المتطرفين.
وموضوع المراهقة لا يمكن أن ينتهي إلا بذكر فيلمين ساخرين، الأول هو "المراهقان"، الذي يحكي عن المراهقة المتأخرة التي يعيشها البطلان الكهلان يحيى شاهين وعماد حمدي. أما الفيلم الثاني فكان "صغيرة على الحب"، الذي اضطرت فيه البطلة الشابة سعاد حسني إلى أن تتنكر في هيئة فتاة مراهقة، لكي تكسب دورا في عمل فني، لكن ذاتها الحقيقية تعاني لأنها تقع في حب البطل مكتمل الرجولة رشدي أباظة. وهكذا تبدو المعالجة الساخرة لموضوع المراهقة في السينما المصرية أكثر نجاحا من الأفلام التي تزعم الجدية، ولعل ذلك يشير إلى مراهقة هذه السينما، برغم تجاوز عمرها قرنا من الزمن.   

هل هى أزمة السينما، أم أزمة الرأسمالية المصرية؟

يستخدم مصطلح "الأزمة" عادة لوصف حالة عارضة طارئة، فيها معاناة مؤلمة من التراجع والركود، أو حتى الاختناق، لكن ماذا لو استمرت هذه الأزمة طويلا، حتى أنها أصبحت هى القاعدة، والخروج منها هو الاستثناء؟
تلك بالضبط حالة "صناعة" السينما المصرية، وأضع هنا كلمة صناعة بين قوسين، لأن تلك من أهم خصائص الفن السابع، فهو إنتاج لسلعة (هى الفيلم فى هذه الحالة)، وترويج لها، بشرط أن تدر هذه السلعة لصانعيها ربحا يضمن لهم الاستمرار، لكن الشرط الأهم هو أن تلبى السلعة احتياجا ملحا للزبائن، رواد دور العرض السينمائى.
فهل كانت السينما المصرية طوال تاريخها تراعى هذه الشروط؟ فى الحقيقة أنها لم تكن بعيدة عنها، إلا فى شرطها الأخير، وهو تلبية حاجة حقيقية لدى الجمهور، وعندما يتحقق ذلك فإنه يحدث بمحض الصدفة، حين ينجح فيلم من نوعية ما، فينشغل صناع الأفلام بصنع نسخ أخرى من هذه النوعية، دون أن ينجحوا مرة واحدة فى التنبؤ بها، أو فى إدراك أنها قد باتت لدى الجمهور أمرا يثير الملل. وليس ببعيد عنا موضة نقل كوميديا المسرح التجارى إلى السينما فى أواخر التسعينيات، فيما عرف بالمصطلح المبتذل "المضحكون الجدد"، وظلت السينما المصرية سجينة لهذا النوع من الأفلام، حتى بعد أن ابتعد عنها الجمهور وانصرف إلى نوعية أخرى من الأفلام، بمحض الصدفة أيضا.
هذا بالضبط هو حال السينما المصرية كصناعة، وأرجو أن تدلنى على أسماء منتجين سينمائيين استمروا فى السوق (إلا استثناءين أو ثلاثة) منذ ثلاثة عقود، وهى الفترة التى شهدت وجود أصحاب أموال عابرين، جربوا حظهم فى السينما لهدف ما (بعضه لا نستطيع ذكره هنا)، وعندما عاشت السينما أزمتها الطويلة، جمعوا أموالهم وذهبوا إلى سوق جديدة ببضاعة جديدة، دون أن يساورهم أى إحساس بالأسى على صناعة، من أهم خصائصها الاستمرار، سواء فى فترات الانحدار أو الازدهار.
ذلك الرأسمال العابر هو السبب الحقيقى فى أزمة السينما المصرية المزمنة منذ عقود، وهو رأسمال يفتقر إلى أى رؤية رأسمالية حقيقية وصادقة مع نفسها. فمن طبيعة الرأسمالية (المعاصرة خاصة) أن تكون "مرنة" بما يكفى، أو أن "تجدد نفسها" بتعبير الدكتور فؤاد مرسى، ولعل أهم الأمثلة على ذلك هو ما فعلته هوليوود خلال الخمسينيات، حين اندثرت "هوليوود القديمة"، وعانت صناعة السينما الأمريكية من أزمة طاحنة، لأسباب عديدة منها حكم المحكمة العليا بأن توقف الشركات السينمائية الكبرى ممارساتها الاحتكارية، والقبضة الماكارثية التى وضعت عشرات الفنانين السينمائيين فى "قائمة سوداء" لتمنع الشركات من التعامل معهم، لكن التأثير السلبى الأخطر آنذاك جاء من التليفزيون، الذى سحب البساط من تحت أقدام صناعة السينما، ونجح فى أن يسرق جمهورها، الذى اختار أن يبقى فى المنزل للفرجة على البرامج التليفزيونية، بدلا من الذهاب إلى السينما.
وكان السؤال الذى طرحته هوليوود على نفسها: كيف ندفع هذا الجمهور لمغادرة أريكته، والعودة إلى دور العرض مرة أخرى. وكانت الإجابة فى أفلام تتيح "فرجة" لا يستطيع التليفزيون تقديمها فى تلك الأيام، فعاد الاهتمام بتطوير تقنية الألوان بدلا من الأبيض والأسود، والعرض على شاشة عريضة، وظهور موجة جارفة من الأفلام الغنائية الراقصة، بالإضافة إلى أنماط فيلمية "مبهرة" أخرى، مثل أفلام الخيال العلمى. بل ذهبت هوليوود إلى مدى أبعد، عندما فكرت فى أن تعرض أفلامها فيما يشبه مواقف السيارات، فإذا كان "الزبون" لا يريد مغادرة سيارته فسوف نتيح له ذلك، بل سوف نقدم له أيضا المأكولات والمشروبات التى تجعله فى حالة أشبه بالاسترخاء فى منزله على أريكته.
ثم اكتشفت هوليوود فيما بعد أن من الممكن أن تجعل من عدوها – التليفزيون – صديقا، وأصبحت شاشة التليفزيون تمثل فرصة جديدة لعرض الأفلام القديمة، وقد تحقق نجاحا غير مسبوق أيضا، ولعل أشهر الأمثلة على ذلك فيلم "إنها حياة جميلة"، الذى لم يلق نجاحا فى أوان عرضه الأول فى دور العرض فى عام 1946، ليصبح فيما بعد من الأفلام الثابتة التى تعرض فى "الكريسماس" كل عام، على عشرات القنوات التليفزيونية. وشيئا فشيئا أدركت هوليوود أن بإمكانها أيضا إنتاج البرامج التليفزيونية، كما اكتشف التليفزيون أن من المفيد تماما له أن يشارك فى إنتاج الأفلام، ليحصد الأرباح أولا فى دور العرض، ليمتلك بعدها حقوق عرض الفيلم على شاشته. وإنك لو تأملت "تيترات" الأفلام اليوم، لرأيت  أسماء عدد غير قليل من الشبكات التليفزيونية مشتركة فى الإنتاج.
هذا مجرد جانب من جوانب مواجهة هوليوود للأزمة، بالإضافة إلى تفاصيل أخرى قد لا تحتملها هذه المساحة، لكن ذلك يدلك على ضرورة أن تتحلى صناعة السينما بالمرونة، التى تتيح لها إدراكا واعيا بأسباب الأزمة، وربما أن تجعل أيضا من هذه الأسباب طريقا للحل، ناهيك عن القدرة على التنبؤ بالتغيرات قبل أن تحدث، حتى يمكن الاستعداد لها. تلك هى أزمة صناعة السينما المصرية بالتحديد، أنها لا تختلف كثيرا عن الرؤية المتخلفة للرأسمالية لدى قطاع كبير من اقتصادنا، رأسمالية "اخطف واجرِ"، واجمع أموالك واذهب إلى تجارة أخرى!  إنها رأسمالية لا تخلق "صناعة"، بل إنها تشبه ممارسات التجار الصغار فى الأسواق المتنقلة فى القرى الصغيرة!

Monday, March 07, 2016

أفلام بلا سينما!

نحن نصنع أفلاما، لكن ليست لدينا صناعة سينما! تلك هى الحقيقة المريرة، وأبسط دليل عليها أننا نختزل السينما إلى نوع واحد منها، هو الفيلم الروائى الطويل، الذى لابد أن يكون تجاريا، أما الأفلام التجريبية التى ترتاد أشكالا ومضامين جديدة، والسينما التسجيلية، وأفلام التحريك بأنواعها المختلفة، فلا مكان لها، لأنه لم يعد هناك من يرعاها، رغم أننا كنا نملك يوما مركزا للأفلام التجريبية تحت إدارة الفنان السينمائى شادى عبد السلام، وخرج من معطفه مخرجون كبار مثل خيرى بشارة وداود عبد السيد.
تقلص مفهوم صناعة السينما عندنا يوما بعد يوم فيما يشبه فيلما من "كوميديا الأخطاء"، تتوالى فيه السخريات واحدة بعد الأخرى حتى بات مفهوما هزيلا، ولا يكاد وزير الثقافة أن يذكر السينما إلا فى سياقين: الأول هو أن ينصح السبكى بصنع أفلام ذات مضامين جادة (ويبدو أن أثر ذلك تجلى واضحا من تحول الممثل محمد رمضان من دور البلطجى إلى دور الضابط، بنفس القدر من العنف السينمائى)، والثانى هو أن تسترد وزارة الثقافة بعض ممتلكاتها التى أصبحت مع الزمن خاضعة للشركة القابضة للسياحة وأشياء أخرى (دون أن نعرف ماذا سوف نفعل بهذه الممتلكات بعد استردادها).
وأصبحنا عاما بعد عام نتحسر على انحدار السينما المصرية، الذى يتجلى فى تقلص متزايد لعدد الأفلام، وننسى أنها – كصناعة – مرتبطة بعوامل بالغة الأهمية، لعل أهمها هو أن الأسرة المصرية – التى لم تعد تجد نفسها فى الأفلام – لا تملك نسبة من ميزانية إنفاقها على الذهاب إلى السينما، فى ظل تناقص عدد دور العرض، واختفائها من الأحياء والضواحى بالقرب من المتفرجين، وصعوبة المواصلات، والإنفاق الجنونى على الدروس الخصوصية، وما يتبقى للترفيه يذهب الآن إلى الهواتف الذكية وغير الذكية، والاتصالات بكافة أنواعها.
كل ذلك ولم نتحدث بعد عن مشكلة الاحتكار، التى تجعل توزيع الأفلام وعرضها فى يد مجموعة صغيرة، تُجرى اتفاقات ومفاوضات لرفع إيرادات فيلم ما والخسف بإيرادات فيلم آخر. كما لم نتحدث عن صناعات أخرى مرتبطة على نحو وثيق بالأفلام، لكنها غائبة بالنسبة لصناعتنا السينمائية، مثل البيع المجزى للشبكات التليفزيونية، وسوق أقراص الدى فى دى، وإعادة إحياء الأفلام القديمة مع ذكرى إنتاجها، ناهيك عن صنع سلع أخرى مثل دمى الأطفال أو الملابس التى ترتبط بفيلم ناجح، على نحو ما تصنع سينما هوليوود على سبيل المثال.
لا وجود لذلك كله حتى فى المجال الوحيد الذى "تلعب" فيه السينما المصرية، وهو الأفلام الروائية التجارية الطويلة، فما بالك بنوعيات أخرى من الأفلام ليست أقل أهمية بحال؟ ودائما ما يثار عند هذه النقطة جدل حول إذا ما كان ضروريا على "الدولة" أن تتدخل لحل تلك الأزمة، ودائما أيضا ما يلجأ أصحاب فكرة عدم تدخل الدولة إلى رفع شعار "حرية التعبير" و"حرية السوق"، التى تعنى بمعنى أدق فى هذا السياق أن نترك السمك الكبير يأكل السمك الصغير، بينما كل "الدول" تتدخل إذا ما تعرضت صناعة ما للانهيار، سواء بالتشريعات، أو الدعم المالى.
فى كل تواريخ صناعات السينما فى العالم، فترات كان على الدولة التدخل بشكل ما لإنقاذ صناعة السينما، لا فرق فى ذلك مثلا بين فرنسا أو البرازيل أو حتى إسرائيل. فإذا كانت فرنسا تقتطع من حصيلة إيرادات الأفلام التجارية حصة لإنتاج أفلام سينمائيين مغامرين وتجربيين جدد، فإن البرازيل وإسرائيل توصلتا إلى حل بالغ العملية والسهولة، هو المساهمة فى إنتاج أفلام، جاءت ميزانياتها من معونات من مختلف دول العالم، وليس غريبا أن تقرأ على عناوين فيلم إسرائيلى مثلا أسماء عشرات الجهات الى ساهمت فى إنتاجه (بما يعنى أن كل جهة منها دفعت مبلغا معقولا)، ولا تستغرب أيضا أن الجهة المسئولة عن جمع هذه المساهمات هى وزارة التعاون الدولى!!
هل فكرنا يوما فى الاستفادة من تجارب بلدان أخرى، واجهت نفس الأزمة التى نواجهها؟ أم أننا منغلقون على ذواتنا نجتر الأزمة التى تصبح يوما بعد يوم مرضا مزمنا يصعب علاجه؟ إن هذا بالضبط هو ما يجعلك تتساءل إذا ما كان المسئول عن جهة ما يعرف رسالته حقا، خاصة أن بعض المسئولين راقدون فى مراكزهم عبر سنوات طويلة، وما يفترض أنها عصور مختلفة، دون أن ينجزوا شيئا حقيقيا على الإطلاق. فبعض المسئولين عن إنفاق ما يقرب من عشرين مليون جنيه على فيلم بالغ الادعاء مثل "المسافر"، لم يحقق نجاحا فنيا أو تجاريا، هؤلاء المسئولون ما يزالون يحتلون مقاعدهم، وكأن وجودهم برهان على خطأ سياسة الدعم، دون أن يفكر أحد فى أنه لم يكن دعما، بقدر ما كان "سبوبة" تستفيد منها أطراف عديدة، وتخسر منها السينما.
الحقيقة المريرة فى ذلك كله أننا أصبحنا على الأصعدة المختلفة "عبيدا للنصوص"، سواء كان ذلك النص قانونا يجب تغييره لأنه لا يحقق العدل، أو آلية تحمل اسما مراوغا مثل "الدعم" لا تحقق الغرض منها، أو شعارا مثل "حرية التعبير" أو "عدم ضرورة وجود وزارة للثقافة". نحن فى حاجة إلى القانون، والدعم، ووجود وزارة للثقافة تعرف دورها الحقيقى بحيث لا تتحول إلى "هيئة استعلامات". وكل ذلك يحتاج إلى رؤية واضحة، من المسئولين والسينمائيين معا، رؤية تشمل ثورة حقيقية من أجل صناعة سينما، وليس مجرد صنع الأفلام.