Saturday, April 30, 2016

ثقافة الألف واللام



منذ سنوات، قمت بترجمة كتاب عنوانه "تاريخ للسينما الروائية"، لكن المشرف على السلسلة لم يعجبه هذا العنوان، وقام بتغييره إلى "تاريخ السينما الروائية". وربما لا يبدو للوهلة الأولى أن هناك فرقا بين العنوانين، لكن الحقيقة أنه يفصل بينهما ما يكشف ليس فقط عن عقلية الناقد السينمائى فى مصر، وإنما عن عقلية ثقافية كاملة يدور محورها حول "الألف واللام".
قصد مؤلف الكتاب الأصلى ديفيد كوك – وهو ليس وحده فى ذلك كما سوف نشرح لاحقا – أن ما يكتبه ليس إلا "واحدا" فقط من بين كتابات عديدة تناولت تاريخ السينما، بينما رأى المشرف على النشر أن هذا يقلل من قيمة الكتاب، لذلك فهذا هو "التاريخ"، ولا تاريخ غيره. ونحن عادة فى حياتنا الثقافة والسياسية نتحدث بقدر هائل من اليقين، ليس له ما يبرره فى الواقع غالبا، عن أن رأينا هو الرأى الصحيح، وهو النظرة الوحيدة الممكنة تجاه أمر ما، ترى ذلك مثلا فيما تشاهده على شاشات التليفزيون من ضيوف يرتدون غالبا ثيابا لامعة (ولا أدرى إن كانت هى ثيابهم التى يخصصونها للتصوير التليفزيونى، أو أن مسئولى القناة يوزعونها عليهم!)، لكنهم يتحدثون دائما بلهجة تشى بالثقة المفرطة فيما يقولون، سواء فى الاقتصاد أو الاجتماع أو السياسة، وكثيرا ما يبدأون كلامهم بأن لديهم "أمرا مهما للغاية"، لكنك تكتشف أنه ليس مهما "ولا حاجة"!
هذه العقلية السائدة تجعلنا معرضين فى الأغلب للوقوع فى مأزق "السفسطة" التى لا طائل من ورائها، وربما كان الأهم هو أنها تحاول أن تفرض مصطلحات ومفاهيم بعيدة كل البعد ليس عن الواقع فقط، وإنما عن المنهج العلمى فى دراسة الأمور. لقد جاء وقت فى زمن مضى كان ينظر إلى السينما فيه باعتبارها لا ترقى لمصاف الفنون الرفيعة (وما تزال كذلك حتى الآن بالنسبة لنا، حيث أن الضريبة عنها تسمى "ضريبة الملاهى")، لذلك سعى بعض الدارسين فى أنحاء مختلفة من العالم إلى إضفاء صفة الجدية عليها، وكان من بينهم أدولف آرنهايم، وبيلا بالاش، وسيجفريد كراكاور، وكانت لهم كتاباتهم النظرية فى هذا المجال التى خرجت فى هيئة كتب، أسماها جميعهم "نظرية السينما" بالألف واللام، وحتى الفرنسى أندريه بازان الذى كان ناقدا أكثر منه صاحب نظرية، تم جمع بعض مقالاته فى مجلدين يحملان عنوان "ما هى السينما؟".
ولأننا فى الأغلب نعشق حرفى الألف واللام، تعلق الكثيرون منا بهذه النظريات القاطعة المانعة، بل ذهب الأمر إلى أن بعضنا أخذ سطرا من نظرية إلى جانب سطر من نظرية أخرى، دون أن يدرك التناقض الهائل بين النظريتين، لأن ما يهمه هو أن كلا منهما تحمل عنوان "نظرية السينما"، بصيغة التعريف لا بصفة النكرة. لكن النقد السينمائى فى العالم كله أدرك منذ أواخر الستينيات خطر هذه الصيغ، وبدأت فى الظهور كتابات جديدة جادة تحمل جميعا عنوان "نظرية للسينما"، باعتبارها ليست إلا منهجا من بين مناهج عديدة لدراسة السينما وتناولها، وكتب جيرالد ماست مثلا كتابا بعنوان "تاريخ موجز للسينما"، كما اهتم جيمس موناكو بالمنهج أكثر من اهتمامه بالنتائج، وفى كتابه المهم "كيف تقرأ فيلما" عرض لمختلف الرؤى التى يمكن أن توصلك لتذوق "جانب" من جوانب عديدة، سوف تراها إذا غيرت زاوية رؤيتك (مرة أخرى أعرف أن ناشر ترجمتى له سوف يجعله يحمل عنوان "كيف تقرأ الأفلام"، لأن هذا العنوان الأخير أكثر يقينا بما يحمله من ألف ولام!)، بل إن الكثير من الكتب التى تدرس السينما بعمق حقيقى أصبحت تحمل عنوان "مقدمة لـ.."، لأنها تعرف أنها ليست إلا رؤية من بين رؤى عديدة، سوف تظهر ما دامت هناك سينما وأفلام جديدة.
وإحدى المحاور الرئيسية لهذه الاتجاهات الجديدة هو السؤال: هل تستطيع أى نظرية للسينما أن تفرض عليها مواصفات جاهزة لما تصنعه من أفلام؟ وكانت الإجابة: إنك لا تستطيع أن تقول للسينما ما "يجب" عليها أن تفعله، ولكن عليك أن تتركها تصنع ما "يمكنها" أن تفعله، لذلك أصبحت الأفلام الآن تسبق أى نظرية. لكن الواقع عندنا مختلف كثيرا، وأكثر ما يدهشنى حقيقة هو استخدام مصطلحات لا أفهم معناها (وهنا أضرب أمثلة لنقاد كبار وتلاميذهم الصغار)، مثل "السينما الخالصة" و"السينما الحقيقية" و"السينما الأصيلة"، وكلها كما ترى مصطلحات رنانة تعشق الألف واللام، لكنها فى الحقيقة لا تقول شيئا على الإطلاق، بل إنى أذكر قولا ساخرا لأحد النقاد الأمريكيين، بأن "السينما الخالصة" هى شريط السليولويد الخالى تماما من أى صورة أو صوت!
وربما يكون سابقا للأوان أن نحلم بنظريات عربية للسينما (هناك بعض المحاولات غير المكتملة أو المبتسرة)، لكن ألا يحق لنا أن نحلم بكتابة "تواريخ" للسينما المصرية والعربية، فمعظم الكتابات التى زعمت أنها تتناول "تاريخ السينما" فى مصر، تكرر أنها كانت تقليدا باهتا لسينما هوليوود، أو كانت تعلى من شأن أفلام بعينها حتى لو كانت أفلاما ردئية، لأن ذلك هو المكتوب فى "التاريخ"، أو تقلل من شأن أفلام أخرى كانت فى جوهرها بحثا عن صيغة سينمائية مصرية، لأن ذلك هو أيضا ما قرأناه فى "التاريخ" عنها.
نحن فى حاجة للتخلى عن عشق يقين الألف وللام، بما يستتبعه ذلك من إعادة النظر فى أفكار ومقولات ومصطلحات جاهزة. نحن فى حاجة إلى أن نرى الواقع من مختلف زواياه، وليس فقط الزاوية التى فرضوا علينا النظر من خلالها.  

Wednesday, April 27, 2016

سينما المؤلف بين الحقيقة والأسطورة



لا يكاد مصطلح "سينما المؤلف" يثار في النقد السينمائي العربي، حتى يقفز للذهن على الفور يوسف شاهين، برغم مفارقة أنه لم "يؤلف" الكثير من أفلامه، أو بالأحرى لم يكتب سيناريوهاتها، وإن كان قد اشترك في كتابة بعضها، وأفضل أفلامه على الإطلاق "الأرض" عن رواية عبد الرحمن الشرقاوي، وسيناريو العديد من الكتاب الذين لم يكن من بينهم. لماذا إذن تنتشر فكرة أن يوسف شاهين "مؤلف" سينمائي؟
الحقيقة أن هناك خلطا بين مفهومين متشابكين، الأول هو أن يكتب المخرج السيناريو بنفسه، وبرغم ذلك فإن أفلامه لا تنتظمها وحدة واحدة، وهذا هو المخرج "الحِرَفي الذي "يصنع" أفلامه دون أن تعكس اهتمامات معينة تسيطر على أعماله الفنية، ولك في حسن الصيفي أو ناصر حسين مثالين في السينما المصرية، ولهما عشرات الأفلام التي لم تبق في ذاكرة التاريخ. أما المفهوم الثاني فهو المخرج الذي "يتدخل" في كتابة السيناريو، بحيث يمكنك أن ترى فيها جانبا من قلقه الخاص، الذي يريد دائما التأكيد عليه.
لم يكتب ألفريد هيتشكوك مثلا أفلامه، لكنها في أغلبها تنتمي إلى عالمه الخاص، وكثيرا ما تجد عنده بطلا بريئا يتورط دون وعي أو رغبة منه في مشكلة ما، كبيرة كانت أو صغيرة، لا فرق بين "النافذة الخلفية" حيث يجلس صحفي مكسور الساق، مسترقا النظر إلى جيرانه، ليكتشف جريمة قتل فيها زوج زوجته، أو "الرجل الذي عرف أكثر من اللازم"، للبطل السائح الذي يعرف بالصدفة خطة اغتيال كبرى، ويختطف المتآمرون ابنه لكي يمنعوه من إفشاء السر. وقد يحار النقد والنقاد طويلا في تفسير ذلك "الهمّ" عند هيتشكوك، وهل يعكس قلقا شخصيا لا واعيا، أم أنه إشارة إلى عصر التوترات العالمية التي أفرخت حربين طاحنتين وحربا باردة طويلة، لكن أيا كان التفسير فإنها "سينما المؤلف" حتى لو لم يكتب المخرج أفلامه.
ومن المفارقات أن فن السينما كان في بداياته لا يعرف فرقا بين كاتب للسيناريو ومخرج، وأن تلك التفرقة جاءت مع "تقسيم العمل" عندما أصبحت الصناعة أكثر تعقيدا، ومع ذلك فإن هذه الفترة الأولى شهدت "سينما مؤلف" راقية رائقة، ولعل أفضل مثال في هذا السياق هو شارلي شابلن، صاحب شخصية "الصعلوك" الذي لم يمنعه فقره من الحفاظ على كرامته وأخلاقياته، والذي انتقل به بين عشرات الأفلام، تراه في "أضواء المدينة" عاشقا لفتاة ضريرة، يساعدها دون أن تعرفه على استرداد بصرها، وها هي في المشهد الأخير تتعرف عليه عندما تتلامس الأيدي، كما يمكنك أن تراه في "العصر الحديث"، عاملا تطحنه الآلة وتطارده السلطة حيثما رحل، لكنه يظل ينطلق دائما نحو أفق متفائل.
على عكس هذا التفاؤل، تجد تشاؤما يسري في أفلام المخرج ستانلي كوبريك، الذي يرى أنه لا مستقبل هناك أمام الحضارة الغربية التي سارت في طريق مسدود، وهو في "2001 أوديسّا الفضاء" يشير إلى أن الإنسان الذي بدأ رحلته باختراع الآلة سوف ينتهي عبدا لها، كما أنه في "خزانة مدفع مليئة بالطلقات" يرصد كيف تحول النزعة العسكرية الأمريكية البشر إلى أدوات غير عاقلة للقتل. وبالمثل فإن أوليفر ستون يعكس في أغلب أفلامه حالة من الالتباس التي يعيشها المواطن الغربي، فهو في "جي إف كيه" يحلل خليط المعلومات حول اغتيال كينيدي، وكيف أن الحقيقة ضاعت وسط كل هذا التشوش، كما أنه في "أي يوم أحد" يرى أن عالم الرياضة أصبح انعكاسا كاملا لوهم "الحلم الأمريكي" الرأسمالي الذي يطحن الجميع.
لكن من الحق القول أيضا أن صناعة السينما الأمريكية لا تسمح كثيرا بأن يكون للمخرج "رؤية" تنتظم أفلامه، لذلك فإن تلك النزعة لا تظهر إلا في مجال "السينما المستقلة"، حيث يمارس المخرج أدوارا عديدة في أفلام قليلة التكاليف، بلا مخاطرة كبيرة في شباك التذاكر. وعلى العكس تماما من كل التوقعات، عرفت السينما المصرية "سينما المؤلف" دون أن تسميها كذلك، وربما كان السبب هو أن صناعة السينما عندنا ليست من التعقيد بحيث تطلب درجة عالية من تقسيم العمل، كما هو الحال في هوليوود، بل ربما كان الأمر بالنسبة للمنتج أفضل (من ناحية التكاليف!!) أن يقوم المخرج بكتابة السيناريو أيضا.
لذلك يمكنك بقدر من التأمل أن تجد سينما المؤلف في مصر عند مخرجين في مجال الأفلام التجارية، مثل أنور وجدي، الذي كان يترك مهمة كتابة الحوار لغيره من المتخصصين، لكنه كثيرا ما يكتب القصة والسيناريو، مثل "غزل البنات"  و"ياسمين" و"حبيب الروح"، وهو يصنع هذه الأفلام وعينه على شباك التذاكر، ليقدم "توليفة" بالغة الطرافة من الرومانسية والميلودراما والمطاردات والغناء. تماما كما كان حسن الإمام يميل إلى الحبكات الميلودرامية، التي يشتعل فيها الصراع بين الخير والشر، والتسامح والانتقام، والجسد والروح، مثل أفلامه "اليتمتين" و"بائعة الخبز" و"الجسد"، وإنك لو تأملت القصة التي كتبها لفيلم "خللي بالك من زوزو" لوجدت فيها ذلك كله، وإن كان سيناريو وحوار صلاح جاهين قد أضفى عليها روحا بالغة التفاؤل.
على النقيض من حسن الإمام تجد عز الدين ذو الفقار، وهو أيضا لم يكتب سيناريوهات أفلامه وإن كان قد اشترك فيها، وترى عنده دائما روحا رومانسية حزينة متشائمة تسري في أبطال تعذبهم البراءة، في عالم يخلو من هذه البراءة، وحتى عناوين أفلامه تعكس هذه الروح، مثل "سلوا قلبي" أو "وفاء" أو "موعد مع السعادة" أو "موعد مع الحياة"، ومن المؤكد أن القارئ يتذكر تلك القلوب الصافية في "الشموع السوداء" (تأمل العنوان هنا أيضا)، وهي تتحاب برغم كل الفوارق، بينما الشر يخيم بظلاله ويهدد بالكارثة، وليس ما يدل على تلك الروح المتشائمة أكثر من وجود كلب أليف وفي للبطل، بينما الشقيق لا يتورع عن تدبير جريمة قتل!
كذلك صلاح أبو سيف، الذي عمل كثيرا مع نجيب محفوظ كاتبا للسيناريو، واختار في الأغلب قصصا تدور حول النوازع والغرائز البشرية التي تحدد العلاقات الاجتماعية، وتجعل من البشر وحوشا، لا فرق بين "لك يوم ياظالم" أو "شباب امرأة"، وإن كان قد خرج أحيانا من هذا العالم الغرائزي ليدخل إلى التحليل الاقتصادي والاجتماعي في أفلام مثل "الفتوة"، ليرصد آليات صعود طغاة السوق بمساعدة فساد السلطة، أو "بين السماء والأرض" حيث انحشر المجتمع في لحظة تحول تاريخي، وهو أخيرا في "البداية" (هذه المرة مع لينين الرملي كاتبا للسيناريو) يقدم حكاية رمزية عن تكون المجتمعات ونشأة السلطة.
لكن ربما كان الأجدر بمصطلح "سينما المؤلف" بين المخرجين المعاصرين اثنين متميزين، رأفت الميهي وداود عبد السيد. أما الأول فقد اختار ما أسماه "الفنتازيا" وهو إلى السخرية الجامحة أقرب، سخرية يوجهها إلى أي شيء وكل شيء، إلى الفساد السياسي في "الأفوكاتو"، وإلى علاقات الرجل والمرأة في "السادة الرجال"، والأخلاقيات السائدة في "تفاحة"، وأمور وقضايا فلسفية يتعمد غموضها في "ميت فل" (ويسميه بالإنجليزية "لنقتل أبانا")، لكن هذا الجموح المتزايد أدى بسينما رأفت الميهي إلى نوع من الغربة ولا نقول الاغتراب، حتى أنها فقدت حسها الثوري المفترض.
ويأتي داود عبد السيد، لا ليعكس عالما "كليا" في أفكاره وأيديولوجياته، وإنما رغبة أعمق في التعبير السينمائي الصافي على طريقة أنطونيوني وفيسكونتي، حيث لا يمكنك تلخيص العمل في "قصة" أو حبكة، بل لابد لهما من التكامل مع العناصر البصرية. لذلك قد تسيطر السيريالية مثلا على "البحث عن سيد مرزوق"، في ضياع الخط الفاصل بين الحقيقة والحلم، أو قد تطغى روح أفلام العصابات في "أرض الخوف" برغم الإشارات التي تدل على أبعاد فلسفية. وهذا الطموح قد أبعد أفلامه عن الجمهور العريض، وإن كان هو الطموح ذاته الذي حقق لفيلمه "الكيت كات" جماهيرية فائقة ونجاحا نقديا كبيرا، لأنه اعتمد على محاولة الوصول إلى فلسفة الشعب المصرى في بقائه على قيد الحياة، برغم الظروف الطاحنة التي كانت كفيلة بالقضاء عليه. وبرغم اعتماد الفيلم على رواية ابراهيم أصلان بنفس الاسم "الكيت كات"، فإنه يستحق أن يكون مثالا على "سينما المؤلف"، التي لا نعرف عنها الكثير من الحقائق، وإن كنا نردد عنها الكثير من الأساطير.         

Monday, April 25, 2016

سينما الكوميديا السوداء


ضحكات ممتزجة بالدموع                                           


على الخط الفاصل بين التراجيديا والكوميديا، أو بين المأساة والملهاة، يقع نوع من الفن يجمع بينهما، وهو "الكوميديا السوداء"، التي وجدت تجليات عديدة في الوسائط الفنية المختلفة، من الأدب إلى المسرح إلى السينما، وهو نوع فني يحتاج إلى قدر كبير من الرهافة، وإلا تحول إلى نوع من التهريج السقيم، أو السخرية المجانية من كل شيء.
في الكوميديا التقليدية نرى مسحة من السخرية من الشخصيات، على نحو ما نرى مثلا في شخصيات "البخيل" أو "محدث النعمة" أو "المريض بالوهم"، لكن مصائرهم تنتهي دائما في الكوميديا إلى تنوير الشخصية، وتخلصها من صفاتها السلبية، لتعيش بعد ذلك "في التبات والنبات". لا تعرف الكوميديا السوداء مثل هذه النهايات السعيدة، بل إنها تنتهي إلى نهاية قاتمة، لأنها في جذورها تعكس رؤية متشائمة حول المصير الإنساني، أو بكلمات أخرى "مفيش فايدة"!!
لذلك تتسم الضحكات في الكوميديا السوداء بقدر هائل من المرارة، واليأس من إصلاح الأخطاء، وربما أيضا انتصار الشر على الخير. وهي بهذه المرارة قد تطيح بكل الأصنام التقليدية التي يخشى الفن عادة من الاقتراب منها، وتتناول موضوعات لا يمكن اعتبارها "مسلية" أو "مضحكة" بأي حال، مثل الموت، أو القتل، أو الاكتئاب، أو الخوف، أو الهزيمة. وقد يصل بها الحد إلى أن تقف على حافة ما يسمى "الكوميديا المقرفة" أو المثيرة للغثيان، التي تخصص فيها مثلا الأخوان بوبي وبيتر فارلي، وتزعم أنها تثير الضحك من خلال اللغة السوقية، والحديث عن السوائل البشرية، كما في فيلم "هناك شيء حول ماري" من بطولة كاميرون دياز.
لكن النزعة العبثية في الكوميديا السوداء الراقية لا تلجأ إلى مثل هذه الضحكات الرخيصة، بل إنها تسعى بما فيها من قتامة وعبثية إلى إثارة ذهن المتفرج، بما يدفعه إلى طرح الأسئلة حول كل ما اعتبره أمرا مفروغا منه في حياته، وهي تخلط بين الأماكن والأزمنة، بما يعطيها أيضا صبغة سيريالية، تشعر معها أحيانا كأنك في حلم، وفي أحيان أخرى كأنك في كابوس. ولعل أشهر من تخصصوا في هذا النوع من الكوميديا فرقة "مونتي بايثون" (ومعناها "الثعبان الأقرع")، الذين عملوا في كل المجالات مثل المسرح والتليفزيون والسينما، وحتى الكتب أيضا، وتميزت الكوميديا االسوداء عندهم بتخطي كل الحواجز، والسخرية من الذات أحيانا، وأشهر أفلامهم في هذا المجال كان "حياة برايان".
وليس غريبا أن يأتي بعض ممثلي هذا النوع من الكوميديا من عالم "الاستانداب كوميدي"، حيث يقف المؤدي ساعات طويلة أمام جمهور متنوع، ليثير الضحك من أنفسهم. وفي هذا المجال يبرز الممثل والمؤلف الزنجي ريتشارد برايور، الذي شارك ميل بروكس في كتابة فيلم "السروج الملتهبة"، الساخر من أفلام الويسترن وبطولة "الشجيع" الأسطورية الزائفة، لكن أهم أعماله في الفن والحياة معا كان الانتقاد المرير للعنصرية الأمريكية ضد الزنوج، وللتناقضات الاجتماعية الظالمة، ولم يكن يتورع عن استخدام الألفاظ السوقية أحيانا.
بقدر أكبر من الرهافة، تميل معظم أفلام الأخوين كوين إلى الكوميديا السوداء، في محاكاتها الساخرة لأنماط فيلمية تقليدية، فهما في "تربية أريزونا" يحكيان قصة زوجين لصين يحاولان سرقة طفل من رجل ثري رُزق عددا كبيرا من التوائم، وفي "فارجو" قصة بوليسية تدور في أقصى الشمال الأمريكي وسط الثلوج، لكنهما يجعلان الشرطي هنا زوجة حاملا في شهورها الأخيرة. ولعل أرقى الأمثلة على الكوميديا السوداء هو فيلم المخرج ستانلي كوبريك "دكتور سترينجلاف، أو كيف توقفت عن القلق وأحببت القنبلة"، ويصور فيه مخاوف الجانبين الأمريكي والسوفييتي من اندلاع حرب نووية بينهما، لكن عالما مجنونا (بيتر سيلرز) يريد تجريب نظام الدفاع النووي، بينما يوجد أيضا جنرال أمريكي يعاني عجزا جنسيا، ويجد النشوة في ركوب قنبلة والانطلاق بها، بما يعني أن الحرب قد وقعت بالفعل.
من بين العديد من الأفلام الأخرى نذكر مثلا فيلم شارلي شابلن "مسيو فيردو" الذي يخلق الكوميديا من قصة حياة سفاح، أو فيلم هيتشكوك "المشكلة مع هاري"، حيث جثة ترفض أن تُدفن، كذلك الفيلم الذي قدم محاكاة لفيلمه القاتم "غريبان في قطار"، هذه المرة باسم "إرمِ ماما من القطار"، وكان من إخراج داني دي فيتو. تلك الكوميديا القاتمة من الصعب أن توجد في السينما المصرية، لأن الجمهور المصري والعربي لا يعرف سوى الكوميديا الصريحة والميلودراما الفاقعة، لكن توجد بعض الاستثناءات التي برزت في السنوات الأخيرة.
يأتي على رأسها رأفت الميهي، الذي تتردد في أفلامه عبارات يائسة مثل "في مجتمع غير علمي مش ممكن تلاقي حل علمي"، أو "ما حدش فاهم حاجة خالص"، ولعل اللقطة الأخيرة من فيلم "سمك لبن تمرهندي" تلخص هذه الرؤية، لرجل يحمل على كتفيه رأس حمار!! وفي هذا الفيلم حبكة عن شرطي دولي يدعى "ملاك" (يوسف داود)، ويطارد البطلين (محمود عبد العزيز ومعالي زايد) بحجة أنهما متمردان، ويصمم على إجرائهما عملية لغسل الدماغ، وفي المستشفى نشاهد كيف يأكل الأطباء أجساد المرضى بعد شيها!! وفي "الأفوكاتو" محامٍ يدعى حسن سبانخ (عادل إمام)، يكتشف أنه يجب عليه أن يصبح "فهلويا" لكي يستطيع تحقيق نجاحه، فيسعى للدخول إلى السجن حيث يجري صفقاته التي تتلاعب بالقانون.
كما أن أفلام كاتب السيناريو ماهر عواد تتسم بهذه المسحة القاتمة، فهو في "الدرجة الثالثة" يقدم اثنين من مشجعي الدرجة الثالثة (أحمد زكي وسعاد حسني) يطالبان بحق جمهور هذه الدرجة في الكأس التي فاز بها فريقهم، لأنه الجمهور الحقيقي الذي يتحمل الصعاب، ويخرج دائما خاوي الوفاض. لكن أفلامه الأخيرة تبلغ درجة من السخرية تكاد أن تطيح بكل شيء، أو بالمعنى ذاته، فهو في "يا مهلبية يا" يسخر من "كل" النضال الوطني باعتباره "لعب عيال"، كما يجعل مركز المقاومة ناديا ليلا تملكه البطلة الراقصة (ليلى علوي)، حيث تصبح "فلسطين هي النادي الليلي المجاور"!!
إن هذا يؤكد مرة أخرى على ضرورة التناول المرهف للكوميديا السوداء، فقد تنتقل فجأة إلى اللا معنى، والتشكيك في كل شيء بما يجعل الوجود الإنساني ذاته أمرا مشكوكا فيه. إن هذا الخط المرهف الذي وقع من فوقه ماهر عواد هو نفسه الذي ارتبك عليه كاتب السيناريو والمخرج محمد أمين، فهو في فيلم "فيلم ثقافي" يقدم قصة طريفة لثلاثة شبان يبحثون عن مكان يشاهدون فيه فيلما فضائحيا، لكنه يستخدم هذه الحبكة لكي يطوف بكل طبقات وشرائح المجتمع، لكي يؤكد في النهاية على أن الحرمان الذي يعاني منه الشباب يعود إلى أسباب اجتماعية. إنه على النقيض في "ليلة سقوط بغداد" يعزو الغزو الأمريكي للعراق إلى حرمان الشعب العربي من حرية الجنس وتعاطي المخدرات (!!)، ليصبح الفيلم كله سلسلة من "الإفيهات" السوقية التي تخلو تماما من أي بعد سياسي حقيقي، قد يلقي ضوءا على الواقع المرير.
أخيرا هناك مخرج ننساه كثيرا، برغم إسهاماته بالغة الأهمية في عالم تمصير الكوميديا ذات الطابع الشعبي، والسابقة لزمانها، وهو عباس كامل الذي كان يسخر من السينما المصرية ذاتها في أفلامه. وهو في فيلمه الأخير "كان وكان وكان" يكاد أن يقدم مرثية لنفسه. يحكي الفيلم عن بطل (فؤاد المهندس)، أديب وفنان مغمور، يضطر إلى أن يبيع مؤلفاته لأسماء كبيرة مقابل مبالغ زهيدة، وبينما يرتفع نجمهم في سماء الأدب والفن يظل هو مجهولا، حتى يأتي يوم يتصور الجميع أنه قد مات غرقا، فيقيمون له حفلات التأبين، التي يفرح بها ويريد الإعلان عن أنه ما يزال حيا، لكنهم ينصحونه بالبقاء في عداد الموتى، لكي يضمن الشهرة التي لم يحصل عليها قط في حياته!!
 ضحكة مبللة بالدموع، هذه هي الكوميديا السوداء الراقية، التي لا تنجح كثيرا لدى جمهورنا العربي، ربما كما قلنا لأنه يفضل الكوميديا الصريحة، وربما لأن حياتنا الحقيقية ذاتها ملأى بالضحكات المبللة بالدموع!