Wednesday, December 06, 2017

فيلم "الجميلة والوحش"... سحر الحواديت عندما تجسده السينما



من أجمل حكايات عالم "الحواديت" الخيالية يأتي فيلم "الجميلة والوحش" Beauty and the Beast، مرة أخرى من شركة ديزني التي سبق لها أن قدمت نفس الحدوتة في فيلم من أفلام التحريك، لكنها هذه المرة تصنعه بالتمثيل الحي، الممتزج بصور كومبيوترية تليق بتقدم التقنيات في هذا المجال، تصور "الأشياء" المنزلية وهي تنطق وتتحرك، لتزيد الإحساس بجمال الخيال. لكن هذا في الحقيقة ليس أهم ما في فيلم "الجميلة والوحش"، وإنما استخراجه للقيم الإنسانية الرائعة والنبيلة، من أجل تقديمها إلى جمهور السينما من المراهقين بشكل خاص، وإن لم تقتصر متعة المشاهدة عليهم أبدا.
تعود قصة "الجميلة والوحش" إلى الكاتبة الفرنسية من القرن التاسع عشر جان ماريه لوبرينس دوبومون، وربما كانت الرواية في شكلها الأدبي تفتقر إلى بعض المواضعات الروائية التي تطورت في القرن التالي، لكنها تحتوي وبشكل فطري وممتع على الكثير من تيمات وموتيفات الحواديت. والأهم هو مضمونها الراقي، الذي يتحدث على نحو ناعم رقيق عن أن الإنسان لا يجب أن ينخدع بالمظهر، فربما وجدت في أعماق شخص يبدو لك قبيحا شخصية تتمتع بالنبل، وأنت وحدك قادر على أن تُطلق هذه الروح الخيرة الخفية من عقالها، من خلال القوة السحرية للحب.
فلنتأمل معا الخطوط الرئيسية للحدوتة كما رواها الفيلم، الذي أخرجه بيل كوندون، عن سيناريو لكل من ستيفن شوبسكي وإيفان سيبيليوتوبولوس، ويبدأ بمشاهد شديدة البلاغة والاختصار، كما لو كانت ضربات فرشاة سريعة يرسم بها الشخصيات الأساسية، دون أن يفقد القدرة على النفاذ إلى أعماق هذه الشخصيات. نحن في البداية مع أمير شاب (دان ستيفنس)، من الواضح أنه مدلل إلى حد عدم إحساسه بآلام الآخرين، إنه يقيم في قصره الذي يشبه القلعة احتفالا باذخا، لكن فجأة ينفتح باب القصر، وتبدو في الخارج عاصفة هوجاء، تدفع امرأة عجوزا للدخول طالبة أن تجد ملجأ لدى الأمير من تلك العاصفة، فيطردها هازئا، لتتكشف الحقيقة: إنها ساحرة كشفت عن أن الأمير لا يتمتع بروح إنسانية عطوف، فتلقي عليه تعويذة تحيله وحشا دميما، كما تحول خدمه في القصر إلى أشياء: ساعة أو دولابا للملابس أو آلة موسيقية، وتجعل القصر مهجورا ومغطى بالثلوج طوال العام، كما تمحو ذاكرة أهل القرية القريبة عن أميرهم، وتضع لزوال هذه التعويذة شرطا واحدا: سوف تترك وردة تسقط وريقاتها الواحدة بعد الأخرى، ولن يعود الأمير إلى هيئته الأولى إلا إذا وجد من يحبه قبل أن تسقط الوريقة الأخيرة، وإلا فإنه سوف يظل وحشا إلى الأبد.
هذا مشهد تأسيسي واحد، يرسم ملامح أمير لا يبالي بالضعفاء، فنال عقابه بأن تجسدت وحشيته في هيئته، والحب وحده هو الذي سوف ينقذه، ولكي يجد من يخلصه من التعويذة عليه أن يحب لكي يصبح محبوبا. ثم يأتي المشهد التأسيسي الثاني، مع الفتاة الجميلة بيل (إيما واطسون)، والذي يعني اسمها "الجميلة"، إنها تعيش في قرية صغيرة لكنها تبدو غير مقتنعة بأن تقضي حياتها كالقرويات الأخريات ذوات الطموح المحدود، وهي تعشق القراءة، وتعيش في سعادة مع أبيها العجوز موريس (كيفن كلاين)، الذي يتقن صنع وإصلاح الآلات الصغيرة، وسوف نعرف لاحقا أنه أتى بابنته بيل وهي طفلة إلى هذه القرية الصغيرة، هربا من باريس التي اجتاحها الطاعون، ذلك الوباء الذي لفظت بسببه أمها أنفاسها الأخيرة.
وبقدر براءة بيل وجمال روحها، يظهر لها خطيب شاب كان ضابطا سابقا هو جاستون (لوك إيفانز)، الذي يبدو على النقيض منها تماما، متغطرسا نرجسيا، متجردا من التواضع والتعاطف مع الآخرين، وهو ما يدفعها بالطبع إلى رفضه، ليظل يلاحقها بغلظته بل مؤامراته ضدها وأبيها أيضا، يساعده في ذلك تابع ذليل يدعى لوفو (جوش جاد)، الذي يعنى اسمه "العبيط". وهكذا اكتمل رسم الشخصيات الرئيسية في أقل من عشر دقائق، لتبدأ الحبكة تغزل خيوطها المشوقة، التي نعرف مسبقا – وبمنطق الحواديت – أن الجميلة هي التي سوف تنقذ الوحش في النهاية، ولكن بعد أحداث ممتعة، خاصة مع تجسيد الفيلم للعديد منها على نحو بصري مبهر.
في البداية، سوف يمضي الأب موريس في الغابة أثناء عاصفة يطارده فيها الذئاب، فتنتهي به قدماه إلى القصر (القلعة) الذي كان أهل القرية قد نسوا وجوده، بسبب تعويذة الساحرة. ولأن الوحش يغضب من هذا العجوز الذي اقتحم القصر فإنه يقوم بسجنه، بينما تعرف الجميلة بالأمر بعد أن يعود الجواد الذي كان يركبه الأب وحيدا، فتمتطي الجواد وتنطلق إلى القصر، حيث تعرض على الوحش أن يسجنها هي مقابل إطلاق سراح أبيها، الذي يعود إلى القرية على أمل أن يجمع أهلها لإنقاذها.
إن فتاة تتمتع بروح شفافة مثل بيل سوف تصبح صديقة للأشياء التي تمثل خدما وقعوا تحت تأثير التعويذة، وهي تشاركهم الرقص والطعام في مشاهد ساحرة، حتى تأتي "موتيفة" تشترك فيها معظم الحواديت، فهناك غرفة محظور على أحد الدخول إليها، لكن الفضول يدفعها إلى هناك، حيث تجد الوردة التي تركتها الساحرة وقد بدأت وريقاتها في الذبول. لكن اقتحامها الغرفة يثير غضب الوحش، مما يدفعها للهروب من القصر وسط الثلوج، حيث تجد نفسها محاصرة بالذئاب، لكن الوحش يظهر إذ كان يتعقبها خوفا عليها، وينقذها من وحوش الغابة، ولكنه يصاب بجروح بالغة.
إذن لقد بدأ الوحش يهتم بالآخرين، ويلقى الألم نتيجة ذلك، غير أن هذا الأمر سوف يدفع الجميلة بالطبع إلى العودة به إلى القصر، والاعتناء به وبجروحه حتى يشفى، مما يخلق بداخله مشاعر الحب تجاهها، لكن سوف يبقى السؤال: هل سوف تبادله هي أيضا الحب لكي يزول عنه أثر التعويذة السحرية؟ إنها تكتشف أنه أمير مثقف، يفتح أمام أعينها أبواب مكتبته العامرة، التي تشمل كتبا أكثر نضجا مما كان متاحا لها من قبل. كما يعرض لها كتابا سحريا ينقلها إلى حيث تفكر، فإذا بها تعود معه إلى لحظة فراق أمها المريضة، لتدرك السبب في أن أباها حملها إلى هذه القرية المنعزلة خوفا عليها.
وفي الوقت الذي تنعم فيه الجميلة بتلك الأوقات مع الوحش، يقود الخطيب جاستون أهل القرية إلى رفض مساعدة الأب موريس على استعادة الجميلة إلا إذا وافق على زواجه بها، ولأن الأب يرفض فإنه يدبر المؤامرات ضده، إذ يلقي به مرة مقيدا في الغابة لتأكله الذئاب، لكن الناسكة أجاثا (هاتي موراهان)، التي سوف يتضح لاحقا أنها الساحرة، سوف تنقذه، فيتهمه بالجنون، وعندما ترى الجميلة ذلك من خلال مرآة سحرية تعود لمساعدة الأب، لكي يلقي بها جاستون مع أبيها حبيسة في "عربة المجانين"، بينما يقود أهل القرية لقتل الوحش في قلعته.
كالعادة في حكايات الحواديت، تأتي المعركة الأخيرة بين الخير والشر، والمفارقة هنا هي أن الوحش يمثل الخير، بينما جاستون يمثل الشر، تأكيدا على أهمية الجوهر على المظهر. وإذ يلقى جاستون حتفه في المعركة، يكاد الوحش أيضا أن يلفظ أنفاسه الأخيرة بين ذراعي الجميلة، التي تصارحه بحبها له قبل ثوانٍ من سقوط آخر وريقة من الوردة، وتظهر الناسكة الساحرة، لتعيد الأمير إلى هيئته، وقد عادت إليه مشاعره الإنسانية المتعاطفة تجاه الآخرين، وصار محبا محبوبا!
لا يكمن جمال الفيلم فقط في إبهاره البصري، وأغنياته المبهجة، وشخصياته المرسومة برقة ودقة، وبلاغة سرده بعيدا عن أي استطرادات تثير الملل، وإنما الجمال أيضا في الإشارة الضمنية – دون نصائح مباشرة على الإطلاق – إلى القيم الرفيعة. إن "التضحية" هي التي قادت الجميلة في الحبكة إلى لقاء الوحش إنقاذا لأبيها، وهي لا تستطيع أن تتأكد من مشاعرها تجاه الوحش وهي أسيرة لديه، لأن الحب وليد الحرية، كما أن من الممكن تماما للحب أن يستخلص من النفس البشرية أنقى وأنبل ما فيها من مشاعر وعواطف.
وأرجو أن تتأمل تلك القيم التي تتوجه إلى جمهور المرهقين، فالحدوتة في مجملها تكاد أن تكون تلخيصا لما يسمى في علم النفس "طقوس العبور"، أي آلام الانتقال من الطفولة إلى النضج، قد يفقد فيها المرء البراءة، لكنه يكتسب الحكمة والقدرة على التعامل مع الحياة. كما تعطي الحدوتة أملا في "التغيير"، فلابد أن يأتي الربيع بعد الشتاء، وعلى المراهق ألا يساوره القلق أبدا حين يبدو مختلفا عن الآخرين، مثلما بدت الجميلة مختلفة عن فتيات القرية في أحلامها واهتماماتها. إنها القيم النبيلة التي نسعى إليها في الحياة، ونبحث عنها في الفن، وذلك بلا شك هو أحد أسرار فن السينما، الذي يجعل من الخيال واقعا، ومن الواقع خيالا.

Monday, December 04, 2017

فيلم "باريس يمكنها الانتظار".... اكتشاف مذاق ورائحة الحياة



فيلم "باريس يمكنها الانتظار" Paris Can Wait تجربة متفردة بحق في عالم صناعة الأفلام، ربما لسنا معتادين عليه في مشاهداتنا للسينما، والتي تكاد أن تنحصر في عالمنا العربي في الأفلام الأمريكية ذات الطابع المثير، المليء بالحركة وربما العنف أيضا، لكن هذا الفيلم يكاد أن يتسم بطابع أوربي، متأمل متمهل، تبدو فيه تجارب الحياة اليومية، العادية جدا، هي مادة الأحداث، بلا تشويق ولكن بلا ملل أيضا، فليس ما يثير اللفضول فقط هو ما يحدث "خارج" النفس البشرية، لكن ما يحدث "داخلها" لا يقل إثارة للاهتمام.
لكنك لن تستطيع أيضا أن تفهم مغزى فيلم "باريس يمكنها الانتظار" إلا إذا قارنته بتجارب قليلة مماثلة في السينما الأمريكية ذاتها، في الأفلام قليلة التكاليف التي تعتمد على عدد قليل جدا من الممثلين والشخصيات، هم في أغلب الأحوال رجل وامرأة، جاء كل منهما من عالم مختلف، لكن اللقاء العابر بينهما، ودون أي خطة مسبقة، سوف يحمل لإحدى الشخصيتين أو كلتيهما تغييرا جوهريا في حياتها، خاصة أن تلك التجربة من المعايشة لن تستغرق إلا ساعات محدودة، لكنها تساوي عمرا من الزمن.
فلنتعرف أولا على كاتبة الفيلم ومخرجته ومنتجته، إنها إليانور كوبولا، زوجة المخرج الأمريكي الأشهر فرانسيس فورد كوبولا، وأم صوفيا كوبولا الابنة التي تقدم نوعية مختلفة من الأفلام، سوف نتوقف عند أحدها بعد لحظات، وهي أيضا من أقارب الممثل النجم نيكولاس كيدج، الذي فضل لنفسه اسما غير اسم عائلته الشهير، فهي إذن سينمائية حتى أطراف أصابعها، قامت بأدوار إنتاجية عديدة في أفلام زوجها فرانسيس، وصنعت فيلما تسجيليا بالغ الأهمية يحمل اسم "قلوب الظلام: يوم قيامة مخرج"، سجلت فيه تلك الرحلة الإبداعية التي قام بها كوبولا في فيلم "يوم القيامة الآن"، وكاد أن يقف فيها على حافة الجنون، بسبب الصعوبات الهائلة التي واجهها.
لكن فيلم "باريس يمكنها الانتظار" هو فيلم إليانور كوبولا الروائي الأول، وقد أشرفت على الثمانين من عمرها، لذلك يبدو الفيلم في جانب منه كأنه استكشاف سينمائي لحياتها، ففيه ملامح عديدة من واقعها، وربما هي أيضا تسجل فيه كيف مرت بتجربة عابرة في حياتها، أعطتها معنى جديدا للحياة. والحبكة بالغة البساطة: الزوج الأمريكي مايكل (أليك بولدوين) منتج سينمائي يحضر مع زوجته الأمريكية آن (ديان لين) إلى مدينة كان الفرنسية، وبعد انتهاء زيارتهما يكون عليهما السفر إلى باريس بالطائرة، لكن ألما يصيب آن في أذنيها، فيسدي الطيار لهما نصيحة بأن تذهب هي إلى باريس بالسيارة، حتى لا يزيد الألم بسبب الطيران، وهكذا يطلب الزوج مايكل من صديقه الفرنسي جاك (آمو فيار) أن يصحب الزوجة بالسيارة إلى باريس.
في الأوقات العادية لن تستغرق هذه الرحلة إلا ساعات، لكن جاك يريد أن تستمع آن بكل لحظة من السفر، فيتوقف بها في محطات كثيرة، يتحدثان ويتناولان الطعام والنبيذ الفرنسيين، ويريان بعضا من معالم المدن الصغيرة على الطريق، حتى أن الرحلة سوف تستغرق يوما وليلة، تكون آن قد تعرفت فيها على الحياة على الطريقة الفرنسية، وتستيقظ في الصباح في باريس وهي تشعر أنها أصبحت مخلوقا جديدا. ولعلك لن تخطئ ما في الفيلم من دعاية سياحية، أظنها ساعدت كثيرا في الإنتاج وقللت من تكاليفه، لكن الفيلم في جوهره – رغم استغراقه أحيانا في هذه التفاصيل السياحية – يقصد هدفا مختلفا تماما.
وهنا لابد من الإشارة إلى أفلام أخرى، تبدو كأنها تنويعات على "التيمة" ذاتها، ولنبدأ بفيلم الابنة صوفيا كوبولا "ضائع في الترجمة"، ففي إحدى مدينة طوكيو شديدة الازدحام، أمريكيان غريبان: ممثل سينمائي كهل (بيل موراي) جاء إلى اليابان لتصوير إعلان تليفزيوني، والشابة (سكارليت جوهانسون) زوجة أحد مصوري الأفلام، والذي يكون عليه تركها وحيدة في الفندق لساعات وربما أيام لانشغاله بالعمل. إن الرجل والمرأة وحيدان، لا يعرفان اللغة اليابانية مما يزيد اغترابهما، لكن ذلك سوف يكون هو السبب نفسه في اقترابهما ليوم واحد، يطوفان خلاله في المدينة، وإن كان الأهم هو استرداد كل منهما للشعور بدفء الحياة.
في نهاية فيلم "ضائع في الترجمة" لقطة من بعيد للكهل والشابة، يهمس لها بشيء ما ثم يفترقان، وعندما سأل الصحفيون صوفيا كوبولا عما قاله الرجل للمرأة، أجابت: لا أدري، لقد كنت بعيدة عنهما! ليست هذه إجابة طريفة فقط، بل إشارة إلى النهاية المفتوحة، إن اللقاء العابر لم يتحول إلى قصة حب مبتذلة، لكنه أصبح تعبيرا عن الحاجة الملحة للدفء الإنساني. ترى، هل التقى الكهل والشابة مرة أخرى؟ ربما صنعت صوفيا كوبولا بعد فترة فيلما تحكي فيه عن مصيرهما، وهذا بالضبط هو ما فعله مخرج أمريكي يبدو التجريب الدائم في كل الأنماط السينمائية شغله الشاغل، وهو ريتشارد لينكليتر.
منذ أكثر من ثمانية عشر عاما صنع لينكليتر فيلما بالغ البساطة، عن طالب أمريكي (إيثان هوك) في رحلة سياحية وحده إلى أوربا، يلتقي بالصدفة بشابة فرنسية (جولي دلبي) في قطار، ويقضيان ليلة واحدة يطوفان فيها بمعالم مدينة فيينا، ويفترقان عند الفجر، على وعد باللقاء بعد تسعة أعوام في نفس المكان على محطة القطار. كان اسم الفيلم "قبل الشروق"، ليصنع لينكليتر بعد تسعة أعوام أخرى فيلما باسم "قبل الغروب"، يسجل فيه لقاءهما ليوم واحد آخر بعد أن مضت كل تلك الأعوام وتفرقت بهما السبل، وبعد تسعة أعوام ثانية صنع فيلمه الثالث "قبل منتصف الليل" يحكي فيه عن علاقتهما الآن. في كل هذه الأفلام اشترك البطل والبطلة في كتابة السيناريو والحوار، وكأنهما الشخصيتان اللتان يقومان بتجسيدها بالفعل، لذلك كانت تلقائية الحوار وعفوية المصائر دون حبكة مصنوعة مسبقا هما السمة الرئيسية للأفلام.
لقد كان ذلك هو طابع الحوار والأحداث في فيلم إليانور كوبولا "باريس يمكنها الانتظار"، لكن التغير في شخصية المرأة يبدو واضحا كلما مضت في طريق السفر، وتعرفها على الحياة الفرنسية. إن حياتها كزوجة أمريكية لرجل أعمال ثري مشغول عنها تتسم بالرتابة، لكن الرحلة بسيارة عتيقة إلى باريس سوف تحمل لها مفاجآت صغيرة تجعلها سعيدة، وهي تبدأ كمعظم الأمريكيين مغرمين بالتقاط الصور للأشياء، لكنها تنتهي وهي تتذوق هذه الأشياء وتشم عبيرها. وسوف تعرف في الرحلة أن لكل شيء مذاقا ونكهة خاصين به، ويبدو تناول الطعام كأنه طقوس تستمد قيمتها من احترامها، فإذا كان من الطريف وجود مئات الأصناف من الجبن، فإن من الأطرف طريقة تقديم قطعة جبن صغيرة، وكأنك تتعامل مع شيء مقدس!
قد يعاني الفيلم من بعض التكرار في مناطق هنا أو هناك، لكنه لا يفقد إثارته بفضل أداء الممثلة ديان لين، فعلى وجهها تطفو دائما مشاعر الانبهار والاكتشاف. لكن الأهم هو أن الفيلم يعكس إحساسا دفينا في اللاوعي الأمريكي، إن الأمريكيين قد يشعرون بالبارانويا المتمثلة في مشاعر التفوق المادي على العالم، وحسد العالم لهم، لكنهم يقفون مبهورين أمام جدار صخري روماني عمره أكثر من ألفي عام! بل ربما استدعى الفيلم إلى الذاكرة مشهدا طريفا من الحلقات التليفزيونية للأطفال "شارع سمسم"، وفيه تجلس "مس بيجي" مبهورة بحديث المغني والممثل الفرنسي شارل أزنافور لها، إذ تبدو الكلمات الفرنسية وهي تخرج من بين شفتيه وكأنها موسيقى، بينما يكون في الحقيقة يتحدث عن... المجاري!!
يشعر الأمريكيون إذن في قرارة أنفسهم بنوع من الضآلة أمام الأمم ذات التاريخ العريق والثقافة العميقة، لكن هذا ليس هدف الفيلم الرئيسي. في العنوان الفرنسي للفيلم، "صباح الخير يا آن" دلالة أكثر عمقا، فكأن آن استيقظت مع استيقاظ حواسها، المذاق والشم واللمس، والأهم هي المشاعر، ليبقى السؤال معلقا دون إجابة: ترى سوف تجعل هذه التجربة آن أكثر استمتاعا بحياتها المعتادة، أو أنها سوف تدرك فتور هذه الحياة؟                         

فيلم "دانكيرك"... مشهد واحد ببراعة إخراجية فائقة



للمخرج وكاتب السيناريو الأمريكى الشاب كريستوفر نولان شعبية كبيرة بين عشاق السينما في العالم كله، حتى بين قطاع غير قليل من شباب الجمهور في العالم العربي، ولعل تلك الشعبية لا تنبع من رؤية أصيلة للحياة والفن كما هو الحال على سبيل المثال مع ستانلي كوبريك أو تيرانس ماليك، ولكن لقدرته البارعة على التعامل مع الأنماط الفيلمية التقليدية بتناول جديد، فيجمع بين ما يمكن للوهلة الأولى أن يبدو كنقائض، بين نمطية الفيلم وجدة معالجته.
لقد كان ذلك هو حال كريستوفر نولان مع أشهر أفلامه الأولى "تذكارات" (2000)، الذي تم اقتباسه في السينما المصرية بفشل ذريع باسم "فاصل ونعود" (2011)، فالفيلم في جوهره حبكة رجل يبحث عن قاتل زوجته، لكنه فقد ذاكرته في الوقت ذاته، ويستعيد شذرات من هذه الذاكرة مع لقائه بشخصيات أو أشياء بعينها، ليقترب شيئا فشيئا مما يبحث عنه، وهي كما ترى حبكة تقليدية ربما عالجتها السينما العالمية مرارا مع ما يسمى "أفلام الانتقام الفردي"، لكن ذهن نولان تفتق عن أن يقلب الزمن رأسا على عقب، فهو يدور أولا في اللحظة الراهنة ليعود خطوة بعد أخرى إلى الماضي.
لقد أثارت تلك المعالجة اهتمام الجمهور المثقف، ليصبح نولان منذ تلك اللحظة إحدى أيقونات السينما العالمية الجماهيرية، مما فتح أمامه الباب لتقديم معالجات جديدة لتيمات قديمة، لعل أشهرها ثلاثية "فارس الظلام" التي أعاد بها إحياء أسطورة الرجل الخارق "باتمان"، لنراه شخصا يعاني قلقا وجوديا غريبا على عالم الأبطال الخارقين، وها هو نولان يقترب من نمط أفلام الحرب بفيلمه الأخير، وذائع الصيت جماهيريا ونقديا، "دانكيرك" Dunkirk، الذي كتب له السيناريو وأخرجه، عن الحادث الشهير في عام 1940، في ذروة انتصار النازيين مرحليا على قوات الحلفاء، وهي القوات التي وجدت أن مئات الآلاف من جنودها باتوا محاصرين على شاطئ دانكيرك، في شمال فرنسا بالقرب من حدودها مع بلجيكا، لتدور ملحمة من أجل انسحاب هذه القوات أمام حصار النازيين.
للوهلة الأولى تتيح هذه الموقعة صنع فيلم آخر عن "بطولة" جنود الحلفاء، يضاف لعشرات أو ربما مئات الأفلام التى دارت في أجواء الحرب العالمية الثانية، حيث تتصدر المشهد مجموعة من الجنود، تتراوح مواقفهم بين الشجاعة والخوف، ومن خلال الأعمال الجريئة لبعضهم تنجح المجموعة في الهرب من الحصار، لكي تصبح في وعي المتفرج رمزا لمجموعات أخرى، تشكل في النهاية كل الجنود المنسحبين بنجاح من الموقعة. وقد يذكرك ذلك الموضوع بأفلام شهيرة في تاريخ السينما، خاصة فيلم سبيلبيرج "إنقاذ الجندي رايان"، عن رحلة فرقة صغيرة من الجنود الأمريكيين لاستعادة جندي أمريكي مفقود، وسط أطلال وركام نهايات الحرب العالمية الثانية، لكن ربما لأن "دانكيرك"، الموقعة والفيلم، لا يتضمنان أي إشارة إلى أمريكا، التي لم تكن قد أعلنت اشتراكها في الحرب بعد، ربما لهذا السبب أصبح من الممكن أمام كريستوفر نولان أن يقدم معالجة جديدة تماما، بعيدا عن الأهداف الجماهيرية المعتادة في هذا النمط من الأفلام، التي تهدف دائما للحديث عن بطولة الجندي الأمريكي.
نقول إنه لم يكن من بين أهداف نولان أي حديث عن بطولة من أي نوع، بل عن المعاناة التي تفوق الوصف لكل من اشترك في هذه الموقعة. وإنك لن تستطيع بالكاد أن تميز شخصيات فردية أو أن تعرف لها اسما، وإن عرفته فلن يشكل ذلك أهمية كبيرة، ففي مثل هذه المواقف تضيع هوية الإنسان، وتبقى فقط كتلة من البشر يواجهون مصيرا واحدا، وأي جهد مهما بلغت ضآلته أو ضخامته ليس إلا لبنة صغيرة في بناء أكبر، هو هنا إنجاح عملية الانسحاب.
ترى أين إذن يمكن لنولان أن يقدم معالجة جديدة لهذا النمط الجماهيري؟ كما سبق الحديث عن فيلمه "تذكارات"، ونجاحه المبهر، كان "الزمن" هو مفتاح النجاح هنا أيضا. فبدلا من التطور الخطي للزمن، الذي يسير دائما إلى الأمام، اختار ثلاثة خطوط مختلفة من السرد، لكل منها زمنها الخاص، لتتقاطع هذه الخطوط بين لحظة وأخرى، ربما دون منطق فني أحيانا، سوى أن يصنع شبكة متداخلة إلى أقصى حد من الأحداث، وتلك الخطوط الثلاثة هي: الأول على حاجز صد الأمواج على شاطئ دانكيرك، حيث تجمع عشرات أو ربما مئات الآلاف من جنود الحلفاء في انتظار قدوم السفن لإجلائهم، ويستغرق هذا الخط في الزمن الحقيقي أسبوعا كاملا، أما الخط الثاني فهو أحد زوارق المدنيين الصغيرة، التي استجاب أصحابها لطلب المساعدة في الإجلاء، بسبب أن سفن الحلفاء الحربية الكبيرة باتت هدفا سهلا أمام الطائرات والغواصات الألمانية، ويستغرق هذا الخط في الزمن الحقيقي يوما كاملا، وأخيرا يأتي الخط الثالث لطائرات الحلفاء، المتجهة إلى الموقع، لتقديم الحماية الجوية الكافية للإجلاء والإخلاء، وهو خط يستغرق ساعة واحدة فقط، يُفترض بالطبع أنها الساعة الأخيرة من عملية الانسحاب.
يقول نولان إنه أراد أن يصنع فيلما عما دار في هذه الموقعة على الأرض، وفي البحر، وفي السماء، وأن تتقاطع الخطوط والخيوط معا. ولعلك لن تنسى أبدا تلك المعاناة الرهيبة في كل تلك الخطوط، ففي خط "حاجز الأمواج" يبدأ أول المشاهد بآلاف الجنود على الشاطئ، في انتظار السفن، لكنهم يصبحون في هذا المكان الشاسع أقرب إلى الأسرى في مصيدة ضيقة، يتساقط منهم من يقع بالصدفة في مرمى قذائف الألمان، وتستيقظ بداخلهم نوازعهم العدوانية لأن كلا منهم يريد أن ينفذ بجلده، في سياق يبدو فيه إخراج السوائل البشرية موازيا لمحاولة دفن جثث الضحايا تحت رمال الشاطئ، وكلما بدا للبعض أنه اقترب من النجاة اكتشف أنه أصبح أقرب إلى الخطر.
أما خط "البحر"، فيحكي عن رجل في أواسط عمره، يصحب شابين صغيرين في زورقه الصغير في طريقهم إلى دانكيرك، وكيف استطاعوا إنقاذ جندي مرتعد من فوق حطام سفينة، لكن الجندي يصاب بالرعب عندما يعرف أنهم متجهون إلى دانكيرك التي استطاع بالكاد أن يفلت منها، وفي نوبة رعبه يصيب أحد الصبيين في رأسه بجرح دامٍ، سوف يتسبب في فقدانه لبصره ثم موته. وأخيرا هناك خط "الجو"، وهو الخط الوحيد الذي يحمل بعض التشويق السينمائي، فنحن هنا مع طيار من الحلفاء، يتجه بطائرته إلى الموقع متخطيا عشرات المعارك مع الطائرات الألمانية، لكن مقياس الوقود المتبقى في الطائرة قد تحطم، وهو لا يدري إن كان لديه ما يكفي لكي يصل إلى هدفه، لكنه ينجح في المهمة، لينهي نولان الفيلم بلقطتين مبهرتين بحق، إن الطائرة تحلق ببطء فوق المكان دون وقود ودون صوت، تستعرض الشاطئ والرجال كأنها عين من السماء، ثم لقطة من أسفل، للطائرة وهي تحوم كأنها طائر عملاق يحرس المكان.
إن تلك الخطوط المتقاطعة ليست جديدة تماما خاصة على نمط الأفلام الحربية، فقد سبق للمخرج الأمريكي تيرانس ماليك أن قدم في فيلمه "الخط الأحمر الرفيع" معالجة من وجهات نظر ست من الشخصيات خلال الحرب العالمية الثانية، ولن تستطيع أن تخطئ ما بين الفيلمين من تشابه، خاصة ذلك الجو الكابوسي الذي ينفي تماما الإحساس بالبطولة، ويركز على ضعف الكائن الإنساني أمام الشرور الطبيعية أو التي صنعها بنفسه على السواء. لكن يبقى السؤال: هل استفاد الفيلم حقا من هذا البناء السينمائي المعقد؟                         
من ناحية، فإن هذا التعقيد يخدم تشابك الأحداث، وابتعادها في الوقت ذاته عن أي بطولات فردية، لكن من ناحية أخرى بدا الفيلم في التحليل الأخير عبارة عن مشهد واحد، استمر على مدار زمن فيلم روائي كامل، مشهد استعرض فيه نولان بحق كل إمكاناته الإخراجية، خاصة أنه لم يعتمد على المؤثرات المصنوعة بالكومبيوتر، ليفضل
إن ما يبقى في الذاكرة من فيلم "دانكيرك" ليس قليلا، لكنه لا يجعلك تخرج من قاعة العرض وقد تغيرت رؤيتك للحياة، كما ينبغي لعمل فني قوي بحق، ومع ذلك فإنك لن تنسى لقطة النهاية، لآلاف الخوذات الملقاة على الشاطئ، تخبرك أنه كان هنا بشر، فقدوا حياتهم لأن بشرا آخرين اختاروا لهم طريق الموت.

فيلم "الطفل المدير... تفاعل الواقع والخيال



أرجو ألا يكون قد فاتك المشهد الافتتاحي من فيلم التحريك للأطفال "الطفل المدير" The Boss Baby، فهو يشبه مفتاح الشفرة لنص كامل، وبدون فهمه ووضعه طوال الوقت في الاعتبار، سوف تفقد أحد مستويين لمتعة الفرجة من الفيلم. تعال نتأمل معا هذا المشهد، هناك صوت من خارج الكادر لرجل ناضج، يبدو واضحا أنه يحكي عن ذكريات طفولته، التي عاش بعضها في أحراش الكونجو، يصارع غوريلا ضخمة ويحاول التغلب عليها بالحيلة، وفجأة يتحول المشهد إلى حديقة منزل، فيها طفل في السابعة من العمر، يلاعب أباه لعبا خشنا. وينقلب المشهد مرة أخرى، مع صوت الراوي وهو يحكي مغامرات الطفولة، إلى بحر هائج وسمكة عملاقة، يصارعها الطفل ليحمي أباه وأمه، ليتحول المشهد مرة أخرى إلى الطفل يقود دراجة في حديقة منزله، ويصطدم بشجرة لينقذه والداه.
هنا مستويان للسرد، كلاهما من وجهة نظر الراوي، لذلك فهما متداخلان، ومع ذلك فإن أحدهما يدور في الواقع الحقيقي، بينما يتحول هذا الواقع بالنسبة للطفل إلى خيال جامح. لذلك فإن ما سوف تراه طوال الفيلم يبدو كأنه يقع في عالم فانتازي، لكن بعض التأمل سوف يفسر لك مغزاه وحقيقته الواقعيين. وحين تبدأ الأحداث نرى الطفل الصغير تيم (صوت مايلز باكشي، ويؤدي صوته كراوٍ ناضج توبي ماكجواير)، إنه يعيش طفولة سعيدة مع أبيه (جيمي كيميل) وأمه (ليزا كودرو)، ولأنه طفل وحيد فإنه يتلقى عناية كاملة، يترجمها الفيلم إلى تعدد صور الأب والأم اللذين يقومان تجاه الطفل بوظائف متعددة.
لكن القلق يتسلل إلى حياة تيم، عندما يحدثه والداه عن قدوم أخ صغير له في المستقبل القريب، ليجمح خياله مرة أخرى متصورا وجود "مصنع" لتصنيع الأطفال كأنهم بضائع سوف يتم توزيعها على الأسر، تبعا للجنس والعرق، ويبدو المشهد مضحكا وقريبا من المصنع في فيلم شارلي شابلن "العصر الحديث"، لكنه يتيح أيضا مشهدا مبهرا مليئا بالحركة، من ذلك النوع الذي يخلب لب المتفرجين من الأطفال.
ومن بين الأطفال الرضع الذين "ينتجهم" المصنع، هناك البعض منهم يكون مقدرا له منذ الميلاد أن يكون "مديرا" أو "رئيس عمل"، ومن هذا النوع يأتي الأخ الوليد تيد (صوت أليك بولدوين)، يراه بطلنا تيم وهو يدخل الأسرة في بدلة كاملة حاملا حقيبة ككل المديرين، ويتصرف تصرفات غريبة تعكس طبيعته الآمرة، بينما يكون على الأب والأم الطاعة الكاملة، التي تعني أيضا إهمال طلبات الابن الأكبر تيم. وهنا عليك أن تستدعي مفتاح شفرة الفيلم، فبطلنا يترجم ما يحدث له داخل الأسرة إلى صور وقصص خيالية، فليس الأمر سوى أنه ككل الأطفال يعيش صدمة فقدان اهتمام الوالدين، لأنه لم يعد الطفل الوحيد، مما يدفعه إلى رسم صورة مضحكة عن شقيقه الصغير، الوافد الجديد، الذي يعيش دور "المدير".
تأمل الآن كيف أن أفلام الأطفال أصبحت تناقش قضايا ربما نفتقد وجودها في أفلامنا للبالغين، بحيث يوصل الفيلم "رسالة" إلى وجدان المتفرج الطفل، تتسلل إلى لا وعيه وهو يستمتع بالفرجة، وقارن كيف أن مفهوم "الرسالة" يلقى – للأسف الشديد – سخرية من بعض صناع السينما عندنا! ولعل من المهم أيضا أن نشير إلى أن هناك تنافسا قويا في مجال أفلام التحريك للأطفال بين شركة "بيكسار" التي اشترتها ديزني، وشركة "دريم ووركس" المنتجة لفيلم "الطفل المدير". فرغم أن أفلام الشركة الأولى – مثل سلسلة "قصة لعبة" – تتوجه إلى الطفل برسائل تدعو إلى الحياة الجماعية، بينما تتوجه الشركة الثانية بأفلام تدعو للنزعة الفردية، مثل سلسلة أفلام "الغول شِريك"، فإن دريم ووركس مالت في هذا الفيلم إلى الرسائل ذات الطابع الاجتماعي، التي تساهم في نضج وعي الطفل، وإدراكه لحقائق الحياة.
إن إدراك هذه الحقائق في فيلم "الطفل المدير" يعني كيف أن الطفل الأول يستطيع استيعاب قدوم طفل ثانٍ، يشاركه في اهتمام الوالدين، أو لعله يسرق منه هذا الاهتمام. ويتحقق هذا الإدراك أيضا من خلال الخيال، فالطفل الأكبر تيم يكتشف أن أخاه الصغير تيد يملك وعي الكبار وصوتهم أيضا، وقد أرسلته شركة تصنيع الأطفال إلى هذه الأسرة من أجل مهمة محددة، هي بدورها تعكس في خفة ظل جانبا من واقع الحياة في المجتمع الأمريكي في الآونة الأخيرة: لقد باتت الأسر أقل اهتماما بإنجاب الأطفال وتربيتهم، وتوجهت بدلا من ذلك إلى اقتناء الكلاب اللطيفة الصغيرة!!
إن الطفل المدير يرتب خططا مع أطفال الأسر الأخرى، الذين يجتمعون حين يتركهم أهاليهم معا، بما يذكرك بفيلم التحريك الذي شاهدناه منذ شهور قليلة "الحياة السرية للحيوانات الأليفة"، فكأن للأطفال الرضع حياة سرية، يضعون فيها الخطط والمؤامرات من أجل استعادة اهتمام الوالدين بدلا من الكلاب. ومثلما يوجد مصنع لتصنيع الأطفال، هناك مصنع يملكه فرانسيس (صوت ستيف بوشيمي) لتصنيع الكلاب الصغيرة في طرز حديثة لطيفة، وسوف يكتشف بطلانا تيم وتيد أن فرانسيس كان في طفولته طفلا مديرا، لكنه فقد وظيفته فتحول إلى راغب في الانتقام، بأن يروج لاقتناء الكلاب. ولعلك هنا أيضا تستطيع تفسير الحقيقة، بأن فرانسيس كان طفلا وحيدا مدللا، فقد اهتمام والديه، مما ساهم في رسوخ نزعة الانتقام بداخله.  
وبدءا من هذه اللحظة يتحول الفيلم إلى سلسلة من مشاهد المطاردة بين الطفلين من جانب، وفرانسيس وأعوانه من جانب آخر، وهي مشاهد تقدم إبهارا حركيا ولونيا للمتفرج الطفل. لكن لن يحدث ذلك إلا بعد محاولات الطفل الأكبر تيم التخلص من الطفل الأصغر تيد، مما يعرضه لعقاب والديه بحرمانه من النزهة، وهو ما تتم ترجمته أيضا في وعي الطفل إلى خيال، فكأنه حبيس زنزانة وقد قيدت ساقه إلى كرة معدنية ثقيلة، وهو يعد الأيام بالطباشير على الحائط، بل إن دميته المفضلة تكون سجينة معه، مقيدة بالسلاسل إلى الجدار.
يتفق الطفلان أن يقوم الكبير بمساعدة الصغير على هزيمة فرانسيس، بشرط اختفاء الصغير من حياة الأسرة، بحيث يبدو الأمر أمام الوالدين كأن الطفلين قد ارتاحا لبعضهما. لكن فرانسيس يستعين بشقيقه العملاق غليظ الطباع يوجين (صوت كونراد فيرنون) على مقاومة محاولات الطفلين تخريب شركة الكلاب، حتى أن يوجين يتنكر في هيئة جليسة أطفال قاسية لكي يمنعهما من الاستمرا في المحاولات. وأثناء هذه المطاردات، يتقن تيم قيادة الدراجة التي كان يستعين فيها بالعجلات الجانبية لحفظ توازنه، وكأن ذلك إشارة لاكتسابه مهارات جديدة، والأهم هو أنه يستخدم صيغة الجمع مع أخيه: "لقد نجحنا".
في المشهد الأخير نرى سيقان كل من الشقيقين تيم وتيد وقد أصبحا رجلين بالغين، وقد أنجب تيم ابنة صغيرة، تنتظر هي الأخرى قدوم شقيقة صغرى لها، تتبدى في نظرها كأنها "طفلة مديرة"، فكأن القصة سوف تعاد من جديد، لأنها القصة الازلية لغيرة الطفل الأول من الطفل الثاني، الذي يصبح كأنه مدير لأنه يستأثر باهتمام الوالدين، لكي تتحول هذه الغيرة مع الأيام إلى حب.
في الفيلم الذي أخرجه توم ماجارث، عن سيناريو مايكل ماكلرز، لكتاب القصص المصورة من تأليف ورسوم مارلا فريز، هناك لقطات قصيرة بالغة الدلالة، فحين يكون تيم هو الطفل الوحيد لوالديه يقول إن أكثر الأشكال الهندسية ثباتا هو المثلث، وعندما يبدو أن المثلث قد اعتراه الااضطراب بسبب قدوم شخص رابع، يتحول الشكل شيئا فشيئا إلى قلب، وذلك كما يقول الفيلم هو معنى "الأسرة".