Saturday, February 10, 2018

فيلم "كوكو".. الذكرى الجميلة تقهر كل أشكال الموت



ربما هي من بين المرات النادرة التي تقوم فيها شركة "بيكسار" للتحريك، بصنع فيلم عن بشر عاديين، وهي التي اشتهرت بأفلام الدمى والحشرات والوحوش والأبطال الخارقين، في سلسلة "قصة لعبة" و"شركة الوحوش" و"حياة حشرة"، لكنها في فيلمها الأخير "كوكو" ما تزال تحافظ على السباحة في عوالم أسطورية، وما تزال أيضا تقدم وجبة سينمائية رائعة ليست للصغار وحدهم، وإنما الكبار أيضا، وجبة تحتوي على أرقى ما في الحضارة الإنسانية من قيم أخلاقية، بل سياسية أيضا.
يأخذك فيلم "كوكو" إلى عالم الشعب المكسيكي، العاشق للموسيقى من جهة، الدءوب في عمله من جهة أخرى، لكن الفيلم يدور حول طقس ديني شعبي يقام كل عام، محوره أن من رحلوا عن حياتنا الأرضية لم يموتوا حقا، وأنهم يخرجون من قبورهم يوم "عيد الموتى" كل عام، ما دام أهلوهم ما يزالون يتذكرونهم، ويضعون صورهم وسط القرابين والشموع، أما الموت الحقيقي، الفناء، فيحدث عندما يصبح المرء نسيا منسيا، لا يتذكره أحد ولا يصنع له قربانا ويضع صورة.
تأمل في البداية كيف أن فيلما للأطفال يدور حول "الموت"، لكن فيلم "كوكو" يصنع من هذه الفكرة قيمة إنسانية رفيعة، حين يحث المتفرج على قبول رحيل الأعزاء، بشرط عدم نسيانهم، وبذلك فإنهم يظلون معنا بأرواحهم. إنها فكرة قد تكون عصية على الفهم، شديدة التعقيد إذا ما نظرنا إليها من الجانب الفلسفي، لكن فيلم "كوكو" يصوغها على نحو رائق راقٍ، شديد السلاسة والعذوبة والبساطة. بل إن اختيار شخصية "كوكو" – رغم قصر دورها – بطلة للفيلم هو بالتحديد مضمونه، لقد كانت كوكو – في الزمن الماضي للأحداث - ابنة صغيرة لعازف موسيقي، يغني لها أغنيته "تذكريني" وهي ترددها معه، لكن الأب اختفى فجأة وتركها مع أمها وحيدة، وهي الآن – في الزمن المعاصر للأحداث – أصبحت عجوزا طاعنة في السن، فقدت ذاكرتها وإن كانت الأسرة ما تزال ترعاها، لكن هذه الذاكرة تعود عندما تسمع لحن أغنية "تذكريني"، وفي المشهد التالي، ونهاية الفيلم، تكون قد رحلت عن الدنيا، لكن الأسرة تظل تتذكرها وتنتظر قدومها في "عيد الموتى".
كوكو إذن تمثل تلك الخطوة التي تفصل ما بين عالم الدنيا وما بعدها، هي الذاكرة التي نستعيدها في الحياة فيصحو الأجداد من رقادهم، وهي أيضا تذكر الآخرين الدائم لها لكي تكتسب وجودا خالدا حتى بعد الرحيل، لكن تعال بنا نبدأ الحكاية من البداية. ميجيل ريفيرا (صوت أنطوني جونزاليز) صبي في العاشرة من العمر، يحلم أن يكون عازفا موسيقيا، لكن ربة العائلة نينة إيلينا (صوت رينيه فيكتور) تفرض حظرا تاما على عمل أي فرد من أفراد الأسرة بالموسيقى، وهم يعملون جميعا صانعي أحذية، أما السبب فهو أن الجد الأكبر هكتور، الذي كان عازفا، رحل ذات يوم على نحو غامض تاركا أسرته للمجهول، خاصة ابنته الطفلة كوكو، التي أصبحت اليوم عجوزا فاقدة للذاكرة (صوت أنّا أوفيليا مورجيريا).
إن ميجيل مهووس بالموسيقى، ويحاول أن يشترك كعازف في مهرجان عيد الموتى، ويلتقي بعازف متجول يكاد أن يعطيه جيتاره، لولا أن نينة إيلينا تلاحقه وتنهاه وتحطم الجيتار. كما أن ميجيل يحلم أن يكون عازفا شهيرا مثل النجم السينمائي الراحل إرنستو معبود الجماهير. وفي الوقت ذاته فإن هناك سرا خفيا يثير فضول ميجيل، عندما يكتشف أن الأسرة تخفي صورة أحد موتاها، الذي كان يحمل جيتارا يشبه جيتار إرنستو.
يذهب ميجيل في الليل، وسط مهرجان عيد الموتى، ليتسلل إلى مقبرة إرنستو ليأخذ جيتاره، لكنه ما يكاد يلمس الجيتار حتى يصبح خفيا، لا يراه إلا كلبه دانتي، لقد انزلق ميجيل رغما عنه إلى عالم الموتى، ليبدأ رحلة استكشاف مثيرة، يعرف منها الكثير عن أسرار عائلته. إنه يتصور للوهلة الأولى أن إرنستو (صوت بنجامين برات) هو جده الأكبر، كأنه يتمسح بأحد الموهوبين ليؤكد لنفسه موهبته، لكنه يقابل هكتور (صوت جايل جارسيا بيرنال)، الذي يبدو صعلوكا من صعاليك الشوارع، لكن تربطه علاقة ما مع موتى أسرة ميجيل، الذين يرفضون جميعا التعامل معه، خاصة الجدة إيملدا (صوت ألانا أوباك)، التي سوف يتضح أنها ليست سوى زوجة هكتور.  
لكي يعود ميجيل إلى عالم الأحياء لابد له من أن ينال بركة العائلة، والعائلة لا تستطيع أن تمنحه بركتها لأنها لا تستطيع أن تصعد لتأخذ القربان الخاص بها، لأن صورتها في حوزة ميجيل دون أن يعرف العلاقة بين الأمرين، بل إن هكتور بالذات أصبح مهددا بالهلاك الأبدي لأنه ليست له صورة مع أحد أقاربه (إنها الصورة المطوية التي عثر عليها ميجيل في السابق). وهكذا بات ميجيل محاصرا، ليكتشف الحقيقة المرة: إن الصعلوك هكتور، الذي ترفضه العائله، هو جده الأعلى، والد كوكو، الذي كان صديقا لإرنستو، وعندما قرر هكتور التوقف عن الموسيقى والتفرغ لعائلته، وضع إرنستو له السم في الشراب ليموت وحيدا ضائعا وقد تصورت  عائلته أنه قد تخلى عنها، بينما سرق إرنستو ألحان هكتور ونسبها لنفسه، ليصبح من المشاهير.
ينجح ميجيل في النهاية – ببركة العائلة – في العودة إلى عالم الأحياء، وقد عرف من جده الأكبر هكتور حكاية أغنية "تذكريني"، ليغنيها للجدة كوكو، التي تستعيد بها ذاكرتها، وخطابات أبيها لها في طفولتها، كما عاد هكتور ذاته إلى ذاكرة العائلة التي لن تنساه أبدا، مما سوف ينقذه من الهلاك الأبدي. وفي مشهد النهاية نرى ميجيل وهو يحكي لأخته الوليدة حكاية الجدة كوكو، التي سوف تظل بدورها في ذاكرة عائلتها إلى الأبد.
أرجو أن تجلس بعد نهاية الفيلم لتتامل من العناوين الأخيرة كيف أن المئات – بالمعنى الحرفي للكلمة – اشتركوا في صناعة الفيلم، بينما نحن نتصور أن أفلام الأطفال لا تتطلب جهدا مثل ذلك الذي تتطلبه الأفلام الروائية الطويلة، كما أن ذلك يعكس مفهوم "صناعة السينما" بشكل مجسد، فهي صناعة أصبحت تقوم على عشرات التخصصات الكبيرة والصغيرة، وليس فقط مجرد وجود نجم أو نجمة كما هو الحال عندنا. إن ذلك يتبدى – على سبيل المثال – في أن الصور المتحركة، المخلقة على الكومبيوتر، تحتشد بالحركة في كل بوصة منها، وفي كل رمشة جفن وارتعاشة إصبع، حتى أنك تنسى تماما أنك أمام فيلم بالتحريك.
لكن المثير للاهتمام بحق هو أن تقوم شركة أمريكية بصنع فيلم عن الثقافة اللاتينية، بأصوات ممثلين كلهم من اللاتين، لكن الأمر ليس غريبا على أية حال على شركة بيكسار، المعروفة برؤاها التقدمية، التي تقوم في كل أفلامها على الدعوة لعدم العنصرية، ولتفاعل الثقافات المختلفة، فكأنها تساهم في خلق مواطن أمريكي يرى العالم بمنظور أكثر رحابة وسعة أفق. كما أن المشاعر التي تسري في أفلامها تدعو دائما لضرورة النزعة الجماعية، والتخلي عن النزعة الفردية الاستهلاكية، والنظر إلى المجتمعات الأخرى بعين الاعتبار والاحترام.
تأمل على سبيل المثال عالم الدمى في "قصة لعبة"، أو عالم الوحوش في "شركة الوحوش المحدودة"، وهنا حتى عالم الموتى مليء بالمباهج، والنظام، فبينما يقيم الأحياء لهم عيدا وكرنفالا، يقيم الموتى لأنفسهم هذا العيد بكل تجلياته. من جانب آخر فالفيلم لا يخلو من قيمة تساعد المتفرج الطفل على النضوج: إن ميجيل يصر على حلمه أن يكون عازفا موسيقيا رغم كل العقبات، كما تبدو السينما ذاتها في بعض المشاهد هي حاملة الذاكرة، في الأفلام التي اشترك فيها في الماضي معبود الجماهير إرنستو، قبل أن تتكشف حقيقته الزائفة، التي سجلتها السينما أيضا. وفيلم مثل "كوكو" الذي أخرجه لي أونكريتش، عن معالجة اشترك فيها ستة من الكتاب، يمثل أيضا ذاكرة لأطفال اليوم، يتذكرونها بعد أعوام، فكأنه الجسر الذي لا يربط فقط بين عالمي الأحياء والموتى، بل بين الواقع المجسد والخيال المجنح.